تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
من الاية 66 الى الاية 69
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)
ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته . والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش , وينجيهم من الضر والكرب , ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون:
(ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله , إنه كان بكم رحيما . وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه , فلما نجاكم إلى البر أعرضتم , وكان الإنسان كفورا). .
والسياق يعرض هذا المشهد , مشهد الفلك في البحر , نموذجا للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية , ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم , تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن .
إنه مشهد يحس به من كابده , ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار !
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله (إنه كان بكم رحيما)فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله , فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه: (ضل من تدعون إلا إياه). .
ولكن الإنسان هو الإنسان , فما إن تنجلي الغمرة , وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة , فينسى الله , وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات , وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا)إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر , ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه , لا في البحر ولا في البر ; لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح:
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا , ثم لا تجدوا لكم وكيلا ? أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى , فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم , ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ?).
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة . إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر . فكيف يأمنون ? كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان , أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ? أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار , فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ?
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة , تقصف الصواري وتحطم السفين , فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم , فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم ?
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا . ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن ياخذهم بها الله !
من الاية 70 الى الاية 72
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
الدرس الرابع:70 تكريم الله لبني البشر
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه . كرمه بخلقته على تلك الهيئة , بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة , فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان !
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته ; والتي استأهل بها الخلافة في الأرض , يغير فيها ويبدل , وينتج فيها وينشيء , ويركب فيها ويحلل , ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة .
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك . .
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود , وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شانه تكريم هذا الإنسان !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض . . القرآن . .
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر , ورزقناهم من الطيبات , وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). .
(وحملناهم في البر والبحر)والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات , ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية , وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر . ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها , ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها . وكله من فضل الله .
(ورزقناهم من الطيبات). . والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها . فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به , ولكنه سرعان ما يعود فينسى . . هذه الشمس . هذا الهواء . هذا الماء . هذه الصحة . هذه القدرة على الحركة . هذه الحواس . هذا العقل . . . هذه المطاعم والمشارب والمشاهد . . . هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه , وفيه من الطيبات ما لا يحصيه .
(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). . فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض . وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله . . .
الدرس الخامس:7172 والثواب والعقاب في الاخرة
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه , محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته , أو الرسول الذي اقتدت به , أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه , ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل , أعمى ضالا يتخبط , لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به , ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا , لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ; يؤثر في القلوب !
الوحدة الخامسة:73 - 111 الموضوع:الموقف من القرآن والرسول مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة . شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه . والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن .
وهو يبدأ بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه , وما هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم , لما سبق في علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم . ولو أخرجوا الرسول لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام .
ومن ثم يؤمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطانا نصيرا , ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل . فهذا الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان .
ثم بيان لوظيفة القرآن فهو شفاء ورحمة لمن يؤمنون به , وهو عذاب ونقمة على من يكذبون , فهم في عذاب منه في الدنيا ويلقون العذاب بسببه في الآخرة .
وبمناسبة الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئا من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب . فهو في النعمة متبطر معرض , وهو في النقمة يؤوس قنوط . ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه .
كذلك يقرر أن علم الإنسان قليل ضئيل . وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح . والروح غيب من غيب الله , ليس في مقدور البشر إدراكه . . والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله . وهو من فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب , ولكنها رحمة الله وفضله على رسوله .
ثم يذكر أن هذا القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا , والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب . . هذا القرآن لم يغن كفار قريش , فراحوا يطلبون إلى الرسول [ ص ] خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض , أو أن يكون له بيت من زخرف ; كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه , أو يرسل عليهم قطعا من السماء تهلكهم . وزادوا عنتا وكفرا فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا !
وهنا يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت , وجزاء تكذيبهم بالآخرة , واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاما ورفاتا .
ويسخر من اقتراحاتهم المتعنتة , وهم لو كانوا خزنة رحمة الله , لأدركهم الشح البشري فأمسكوا خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد ! وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون !
وبمناسبة طلبهم الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب سنته في إهلاك المكذبين .
فأما هذا القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة . وقد جاء متفرقا حسب حاجة الأمة التي جاء لتربيتها وإعدادها . والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما فيه من حق ويذعنون له ويخشعون , ويؤمنون به ويسلمون
من الاية 73 الى الاية 75
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)
وتنتهي السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى عبادة الله وحده , وإلى تسبيحه وحمده , كما بدأت بالتسبيح والتنزيه . .
الدرس الأول:73 - 77 تثبيت الله لرسوله أمام محاولات الكفار
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات , ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها , وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه , ليفتري عليه غيره , وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها , ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق , وعصمته من الفتنة , ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين , وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات , دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله , هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا , فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية , إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة , فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير , وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل , لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر , والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل , لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه , وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم , وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة , وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ; هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة , فلن تنقلب الهزيمة نصرا !
من الاية 76 الى الاية 78
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)
لذلك امتن الله على رسوله [ ص ] أن ثبته على ما أوحى الله , وعصمه من فتنة المشركين له , ووقاه الركون إليهم - ولو قليلا - ورحمه من عاقبة هذا الركون , وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا , وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [ ص ] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا , لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول [ ص ] عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا)فهذه هي سنة الله النافذةسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا , ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول , لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة , لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون , إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل , لحكمة علوية , لم يرسل الرسول بالخوارق , ولم يقدر أن يخرجوه عنوة , بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
الدرس الثاني:78 - 81 توجيه إلى الصلوات والزاد للثبات
بعد ذلك يوجه الله رسوله [ ص ] إلى الاتصال به , واستمداد العون منه , والمضي في طريقه , يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل , وقرآن الفجر , إن قرآن الفجر كان مشهودا ; ومن الليل فتهجد به نافلة لك , عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا , وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . وقل:جاء الحق وزهق الباطل , إن الباطل كان زهوقا . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين , ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). .
ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب . والأمر هنا للرسول [ ص ] خاصة . أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول [ ص ] وتواترت بها سنته العملية . وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء , والغسق بأول الليل , وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر , وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء - من دلوك الشمس إلى الغسق - ثم الفجر . وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به , وأنه نافلة له . ونحن نميل إلى الرأي الأول . وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول [ ص ] وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية .
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل). . أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه ; واقرأ قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا). . ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل . وإدبار الليل وإقبال النهار . ولهما وقعهما العميق في النفس , فإن مقدم الليل وزحف الظلام , كمطلع النور وانكشاف الظلمة . . كلاهما يخشع فيه القلب , وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة . وللقرآن - كما للصلاة - إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته , ونسماته الرخية , وهدوئه السارب , وتفتحه بالنور , ونبضه بالحركة , وتنفسه بالحياة .
من الاية 79 الى الاية 81
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك). . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في(به)عائد على القرآن , لأنه روح الصلاة وقوامها .
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به , وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول [ ص ] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به , وهو المصطفى المختار , فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .
(وقل:رب أدخلني مدخل صدق . وأخرجني مخرج صدق , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا).
وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به . ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه . دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج , كناية عن صدق الرحلة كلها . بدئها وختامها . أولها وآخرها وما بين الأول والآخر . وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره . وللصدق كذلك ظلاله:ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص . (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)قوة وهيبة استعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة (من لدنك)تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه .
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله . ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله . لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلي الله . والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه , فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون , ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه , فهي من أمر الله , وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
(وقل:جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). .
بهذا السلطان المستمد من الله , أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته , وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت , ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
(إن الباطل كان زهوقا). . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش , لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ; ومن ثم يحاول أن يموه على العين , وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا , ولكنه هش سريع العطب , كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ; بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
(إن الباطل كان زهوقا). . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته , إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ; فإذا تخلخلت تلك العوامل , ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء , لأنه من عند الله الذي جعل(الحق)من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
(إن الباطل كان زهوقا). . ومن ورائه الشيطان , ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق , وسلطان
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)
ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته . والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش , وينجيهم من الضر والكرب , ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون:
(ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله , إنه كان بكم رحيما . وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه , فلما نجاكم إلى البر أعرضتم , وكان الإنسان كفورا). .
والسياق يعرض هذا المشهد , مشهد الفلك في البحر , نموذجا للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية , ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم , تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن .
إنه مشهد يحس به من كابده , ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار !
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله (إنه كان بكم رحيما)فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله , فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه: (ضل من تدعون إلا إياه). .
ولكن الإنسان هو الإنسان , فما إن تنجلي الغمرة , وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة , فينسى الله , وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات , وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا)إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر , ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه , لا في البحر ولا في البر ; لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح:
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا , ثم لا تجدوا لكم وكيلا ? أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى , فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم , ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ?).
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة . إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر . فكيف يأمنون ? كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان , أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ? أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار , فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ?
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة , تقصف الصواري وتحطم السفين , فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم , فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم ?
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا . ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن ياخذهم بها الله !
من الاية 70 الى الاية 72
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
الدرس الرابع:70 تكريم الله لبني البشر
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه . كرمه بخلقته على تلك الهيئة , بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة , فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان !
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته ; والتي استأهل بها الخلافة في الأرض , يغير فيها ويبدل , وينتج فيها وينشيء , ويركب فيها ويحلل , ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة .
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك . .
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود , وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شانه تكريم هذا الإنسان !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض . . القرآن . .
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر , ورزقناهم من الطيبات , وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). .
(وحملناهم في البر والبحر)والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات , ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية , وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر . ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها , ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها . وكله من فضل الله .
(ورزقناهم من الطيبات). . والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها . فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به , ولكنه سرعان ما يعود فينسى . . هذه الشمس . هذا الهواء . هذا الماء . هذه الصحة . هذه القدرة على الحركة . هذه الحواس . هذا العقل . . . هذه المطاعم والمشارب والمشاهد . . . هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه , وفيه من الطيبات ما لا يحصيه .
(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). . فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض . وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله . . .
الدرس الخامس:7172 والثواب والعقاب في الاخرة
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه , محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته , أو الرسول الذي اقتدت به , أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه , ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل , أعمى ضالا يتخبط , لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به , ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا , لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ; يؤثر في القلوب !
الوحدة الخامسة:73 - 111 الموضوع:الموقف من القرآن والرسول مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة . شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه . والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن .
وهو يبدأ بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه , وما هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم , لما سبق في علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم . ولو أخرجوا الرسول لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام .
ومن ثم يؤمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطانا نصيرا , ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل . فهذا الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان .
ثم بيان لوظيفة القرآن فهو شفاء ورحمة لمن يؤمنون به , وهو عذاب ونقمة على من يكذبون , فهم في عذاب منه في الدنيا ويلقون العذاب بسببه في الآخرة .
وبمناسبة الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئا من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب . فهو في النعمة متبطر معرض , وهو في النقمة يؤوس قنوط . ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه .
كذلك يقرر أن علم الإنسان قليل ضئيل . وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح . والروح غيب من غيب الله , ليس في مقدور البشر إدراكه . . والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله . وهو من فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب , ولكنها رحمة الله وفضله على رسوله .
ثم يذكر أن هذا القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا , والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب . . هذا القرآن لم يغن كفار قريش , فراحوا يطلبون إلى الرسول [ ص ] خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض , أو أن يكون له بيت من زخرف ; كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه , أو يرسل عليهم قطعا من السماء تهلكهم . وزادوا عنتا وكفرا فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا !
وهنا يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت , وجزاء تكذيبهم بالآخرة , واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاما ورفاتا .
ويسخر من اقتراحاتهم المتعنتة , وهم لو كانوا خزنة رحمة الله , لأدركهم الشح البشري فأمسكوا خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد ! وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون !
وبمناسبة طلبهم الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب سنته في إهلاك المكذبين .
فأما هذا القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة . وقد جاء متفرقا حسب حاجة الأمة التي جاء لتربيتها وإعدادها . والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما فيه من حق ويذعنون له ويخشعون , ويؤمنون به ويسلمون
من الاية 73 الى الاية 75
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)
وتنتهي السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى عبادة الله وحده , وإلى تسبيحه وحمده , كما بدأت بالتسبيح والتنزيه . .
الدرس الأول:73 - 77 تثبيت الله لرسوله أمام محاولات الكفار
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات , ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها , وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه , ليفتري عليه غيره , وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها , ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق , وعصمته من الفتنة , ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين , وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات , دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله , هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا , فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية , إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة , فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير , وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل , لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر , والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل , لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه , وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم , وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة , وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ; هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة , فلن تنقلب الهزيمة نصرا !
من الاية 76 الى الاية 78
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)
لذلك امتن الله على رسوله [ ص ] أن ثبته على ما أوحى الله , وعصمه من فتنة المشركين له , ووقاه الركون إليهم - ولو قليلا - ورحمه من عاقبة هذا الركون , وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا , وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [ ص ] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا , لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول [ ص ] عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا)فهذه هي سنة الله النافذةسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا , ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول , لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة , لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون , إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل , لحكمة علوية , لم يرسل الرسول بالخوارق , ولم يقدر أن يخرجوه عنوة , بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
الدرس الثاني:78 - 81 توجيه إلى الصلوات والزاد للثبات
بعد ذلك يوجه الله رسوله [ ص ] إلى الاتصال به , واستمداد العون منه , والمضي في طريقه , يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل , وقرآن الفجر , إن قرآن الفجر كان مشهودا ; ومن الليل فتهجد به نافلة لك , عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا , وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . وقل:جاء الحق وزهق الباطل , إن الباطل كان زهوقا . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين , ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). .
ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب . والأمر هنا للرسول [ ص ] خاصة . أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول [ ص ] وتواترت بها سنته العملية . وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء , والغسق بأول الليل , وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر , وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء - من دلوك الشمس إلى الغسق - ثم الفجر . وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به , وأنه نافلة له . ونحن نميل إلى الرأي الأول . وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول [ ص ] وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية .
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل). . أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه ; واقرأ قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا). . ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل . وإدبار الليل وإقبال النهار . ولهما وقعهما العميق في النفس , فإن مقدم الليل وزحف الظلام , كمطلع النور وانكشاف الظلمة . . كلاهما يخشع فيه القلب , وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة . وللقرآن - كما للصلاة - إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته , ونسماته الرخية , وهدوئه السارب , وتفتحه بالنور , ونبضه بالحركة , وتنفسه بالحياة .
من الاية 79 الى الاية 81
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك). . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في(به)عائد على القرآن , لأنه روح الصلاة وقوامها .
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به , وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول [ ص ] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به , وهو المصطفى المختار , فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .
(وقل:رب أدخلني مدخل صدق . وأخرجني مخرج صدق , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا).
وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به . ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه . دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج , كناية عن صدق الرحلة كلها . بدئها وختامها . أولها وآخرها وما بين الأول والآخر . وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره . وللصدق كذلك ظلاله:ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص . (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)قوة وهيبة استعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة (من لدنك)تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه .
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله . ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله . لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلي الله . والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه , فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون , ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه , فهي من أمر الله , وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
(وقل:جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). .
بهذا السلطان المستمد من الله , أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته , وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت , ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
(إن الباطل كان زهوقا). . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش , لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ; ومن ثم يحاول أن يموه على العين , وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا , ولكنه هش سريع العطب , كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ; بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
(إن الباطل كان زهوقا). . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته , إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ; فإذا تخلخلت تلك العوامل , ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء , لأنه من عند الله الذي جعل(الحق)من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
(إن الباطل كان زهوقا). . ومن ورائه الشيطان , ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق , وسلطان
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة سورةالانعام ايه66==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة سورةالانعام ايه66==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى