تفسير سورة سورةالانعام ايه66==77 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة سورةالانعام ايه66==77 الشيخ سيد قطب
من الاية 66 الى الاية 68
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
الدرس الأول:66 - 67 مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل (وكذب به قومك - وهو الحق - قل:لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). .
والخطاب لرسول الله [ ص ] يعطيه , ويعطي المؤمنين من ورائه , الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر , إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم !
ثم يأمر الله تعالى نبيه [ ص ] أن يبرأ من قومه , وينفض منهم يده , وأن يعلنهم بهذه المفاصلة , ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ; وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ , ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق , فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ; وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون !
(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ; الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح , الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم , الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر ; وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله - في مواجهة التكذيب من قومهم , والجفوة من عشيرتهم , والغربة في أهلهم , والأذى والشدة والتعب والأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب !
الدرس الثاني:68 - 70 الأمر بمقاطعة الخائضين في آيات الله
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ , وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه [ ص ] مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ; ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ; ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ; بالقول أو بالفعل ; حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه ; أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه . فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم , ثم تذكر , قام من فوره وفارق مجلسهم:
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين). .
ولقد كان هذا الأمر للرسول [ ص ] ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول [ ص ] يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي [ ص ] في مجالس المشركين ; متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير , والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون , المقصود بهم هنا القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . .
من الاية 69 الى الاية 69
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة , فكان للنبي [ ص ] شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترى ء أحد على الخوض في آيات الله !
ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين , كما قررها من قبل بين الرسول [ ص ] وبين المشركين . ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير:
(وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء , ولكن ذكرى لعلهم يتقون). .
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين . فهما أمتان مختلفتان - وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله , ولا في اعتبار الإسلام . . إنما المتقون أمة , والظالمون [ أي المشركون ] أمة , وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم . ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم , وينضموا إليهم . . وإلا فلا مشاركة في شيء , إذا لم تكن مشاركة في عقيدة !
هذا دين الله وقوله . . ولمن شاء أن يقول غيره . ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول ! ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ; وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة:
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا , وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع , وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا , لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .
ونقف من الآية أمام عدة أمور:
أولها:أن الرسول [ ص ] وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة , وخلقا وسلوكا , وشريعة وقانونا , إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا . . والذي يتحدث عن مبادى ء هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن "الغيب" - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن "الزكاة " وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادى ء هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية , أو الإقطاعية , أو "البرجوازية " الزائلة ! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها "أغلال ! " . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية . . السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون:إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . . أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا , فلهم شراب من حميم وعذاب أليم لما كانوا يكفرون . .
وثانيها:أن الرسول [ ص ] وينسحب الامر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا , وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم , ولا شفيع يشفع لهم ; كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول:
من الاية 70 الى الاية 70
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
(وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع , وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها). .
فكل نفس على حدة تبسل [ أي ترتهن وتؤخذ ] بما كسبت , حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة !
فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا ; وحق عليهم ما سبق في الآية ; وكتب عليهم هذا المصير:
(أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا , لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .
لقد أخذوا بما فعلوا ; وهذا جزاؤهم:شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون ; وعذاب أليم بسبب كفرهم , الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .
وثالثها:قول الله تعالى في المشركين: (الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا). .
فهل هو دينهم ? . .
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام , ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام ? إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعا . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .
ولهذه الأضافة دلالتها في قوله:
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا). .
فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه , من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة . فمن اتخذه لعبا ولهوا , , فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون ? إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من احد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه , مهما تسموا بأسماء المسلمين ! فلنكن من أمر ديننا على يقين !
ورابعها:حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله ; أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه:الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية:
"في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل , على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم , لهم أن يخالطوا الفاسقين , ويصوبوا آراءهم تقية . . "
ونحن نقول:إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقيةفهو المحظور . لأنه - في ظاهرة - إقرار للباطل , وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس , ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال:
"قال ابن خويز منداد:من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمنا كان أو كافرا - قال:وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو , ودخول كنائسهم والبيع , ومجالسة الكفار وأهل البدع ; وألا تعتقد مودتهم , ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي:اسمع مني كلمة , فأعرض عنه , وقال:ولا نصف كلمة ! . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض:من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله , وأخرج الإسلام من قلبه , ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ; ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة , وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:قال رسول الله [ ص ] " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . .
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ; ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع ; ولكنه كفر كافر , أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى - وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان ! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .
الوحدة العاشرة:71 - 73 حيرة متبع الشياطين ومن حقائق العقيدة هذه الوحدة بآياتها الثلاثة درس واحد
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ; وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ; وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله ; وحيرته في التيه بلا اتجاه ; وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق , في الأمر والخلق ; وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - (يوم ينفخ في الصور)ويبعث من في القبور ; ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده , وأن إليه المصير:
قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا , ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله , كالذي استهوته الشياطين في الأرض , حيران , له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل:إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه . .
(قل). . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ; الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده , وأن الرسول [ ص ] إنما هو منذر ومبلغ ; والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ; وأن الرسول [ ص ] إنما هو مأمور به من ربه .
(قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ? . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه , وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما , حجرا أو شجرا , روحا أم ملكا , شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون , ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله , وعبادة غير الله , والاستعانة بغير الله , والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي [ ص ] من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون , وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي [ ص ] والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ; وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ; بعيدا عن الموروثات الراسبة , وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده , واتخاذه وحده إلها , والدينونه له وحده بلا شريك: 1 (قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا ? . .
فهو ارتداد على الأعقاب ; ورجوع إلى الوراء ; بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير:
(كالذي استهوته الشياطين في الأرض) (. . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى:ائتنًا). .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد , ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد , والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال , فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس: (الذي استهوته الشياطين في الأرض)- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه , فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! -
من الاية 71 الى الاية 72
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
ولكن هناك , من الجانب الآخر , أصحاب له مهتدون , يدعونه إلى الهدى , وينادونه(ائتنا)- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء(حيران)لا يدري أين يتجه , ولا أي الفريقين يجيب !
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك , حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية , يتمثل فيها هذا الموقف , ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة , تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة , وماذا يعني هذا التعبير !
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي , يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم:
(قل:إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين , وأن أقيموا الصلاة واتقوه). .
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب , فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية , والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار , تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم:
(قل:إن هدى الله هو الهدى). .
هو وحدة الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه , كلما تركت هذا الهدى , أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها , وأنظمتها وأوضاعها , وشرائعها وقوانينها , وقيمها وموازينها , بغير(علم)ولا(هدى)ولا (كتاب منير). .
إن "الإنسان" موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه , للانتفاع بها في الخلافة في الأرض , وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون , ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب , ومنها غيب عقله هو وروحه , بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف , والتي تدفعها للعمل هكذا , وبهذا الانتظام , وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا "الإنسان" إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق , وموازين وقيم , وأنظمة وأوضاع , وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا "الإنسان" إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه , أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث (فماذا بعد الحق إلا الضلال ?).
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو "حتمي" في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي "الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله , ومن خبر الله ,لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله , لا يحتاج أن ينقب , فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي , ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده , وعبادته وحده , ومخافته وتقواه: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين , وأن أقيموا الصلاة واتقوه). .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى ; وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له , فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ?
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله , وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة , للنواميس التي وضعها الله لها ; وهي لا تملك الخروج عليها , والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها , ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلاأن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه , وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي , لاستقام أمره , وتناسق تكوينه وسلوكه , وجسمه وروحه , ودنياه وآخرته . .
وفي إعلان الرسول [ ص ] والمسلمين معه , أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا , إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية:
(وأن أقيموا الصلاة واتقوه).
فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين , وسلطانه وتربيته وتقويمه . ثم تجيء العبادات الشعائرية ; وتجيء الرياضات النفسية . . لتقوم على قاعدة الاستسلام . . فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء .
وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة:حقيقة الحشر . وحقيقة الخلق . وحقيقة السلطان . وحقيقة العلم بالغيب والشهادة . وحقيقة الحكمة والخبرة . . من خصائص الألوهية , التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة:
(وهو الذي إليه تحشرون . وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق . ويوم يقول:كن فيكون . قوله الحق , وله الملك يوم ينفخ في الصور , عالم الغيب والشهادة , وهو الحكيم الخبير). .
(وهو الذي إليه تحشرون). .
إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب . . فهو الذي إليه تحشر الخلائق . . فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر - الحتمي - ما ينجيهم ; وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين ; قبل أن يقفوا أمامه
من الاية 73 الى الاية 73
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
مسؤولين . . وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة - حقيقة الحشر - موحيا بالاستسلام في المبدأ , ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير !
(وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق). .
وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر . . فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض - والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف - ولقد خلق السماوات والأرض(بالحق). فالحق قوام هذا الخلق . . وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون - وبخاصة الأفلاطونية والمثالية - من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة ! - فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات , فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون , وفي مآلاته كذلك . فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته , فيؤلف قوة هائلة , لا يقف لها الباطل , الذي لا جذور له في بنية الكون , وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . وكالزبد يذهب جفاء , إذ لا أصالة له في بناء الكون . . كالحق . . وهذه حقيقة ضخمة , ومؤثر كذلك عميق . .
إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه - هو شخصيا وفي حدود ذاته - إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود . [ وفي الآية الأخرى: (ذلك بأن الله هو الحق)] فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه . . إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل , لا يرى في الباطل - مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر - إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود ; لا جذور لها ولا مدد ; تنفثى ء من قريب , وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود .
كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة . وقد يستسلم ويثوب ! (ويوم يقول:كن فيكون). .
فهو السلطان القادر , وهي المشيئة الطليقة , في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل . . وعرض هذه الحقيقة - فضلا على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين - هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق . . الذي يقول:كن فيكون . (قوله الحق). .
سواء في القول الذي يكون به الخلق: (كن فيكون). أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده . أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون . أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل . وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء .
قوله الحق في هذا كله . . فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه . ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة . في أي اتجاه .
(وله الملك يوم ينفخ في الصور). .
ففي هذا اليوم يوم الحشر . . يوم ينفخ في الصور [ هو القرن المجوف كالبوق ] وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر ; بكيفية غيبية لا يعلمها البشر , فهي من غيب الله الذي احتفظ به . والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته , ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له , والروايات المأثورة ; تقول:هو بوق من نور ينفخ فيه ملك , فيسمع من في القبور , حيث يهبون للنشور - وهذه هي النفخة الثانية - أما الأولى فيصعق لهامن في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمرونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله - ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون). . وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا - عن يقين - أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه . . وهو من ثم غيب من غيب الله . . نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره , ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه , ولا يقين . إنما هي الظنون !
في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز - حتى للمنكرين - ويظهر - حتى للمطموسين - أن الملك لله وحده , وأنه لا سلطان إلا سلطانه , ولا إرادة إلا إرادته . . فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور .
(عالم الغيب والشهادة). .
الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب , كما يعلم هذا الكون المشهود . والذي لا تخفي عليه خافية من أمر العباد , ولا يند عنه شأن من شؤونهم . . فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه . وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها , وتتخذ مؤثرا موحيا في مواجهة المكذبين والمعارضين .
(وهو الحكيم الخبير):-
يصرف أمور الكون الذي خلقه , وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة . . فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه , ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته . ويفيئوا إلى هداه وحده . ويخرجوا من التيه , ومن الحيرة , إلى ظلال الحكمة والخبرة , وإلى كنف الهدى والبصيرة . .
وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثرا موحيا للعقول والقلوب . .
الوحدة الحاديه عشرة:74 - 94 الموضوع:عرض حقائق العقيدة من خلال القصص والحياة هذا الدرس بطوله لحمة واحدة ; يتناول موضوعا متصل الفقرات . . إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة - وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , وما بينهما من ارتباطات - ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة . . يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه . . مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة ; ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات ; وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . .
والدرس - في جملته - يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح - عليه السلام , إلى محمد [ ص ] وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية - كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين - إبراهيم عليه السلام - ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة , وهي تبحث عن إلهها الحق , الذي تجده في أعماقها , بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها . إلى أن يخلص لها تصور حق , يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق . ويقوم على ما تحده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس ! ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق , واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منهوحاجه قومه . قال:أتحاجوني في الله وقد هدان ? ولا أخاف ما تشركون به , إلا أن يشاء ربي شيئا , وسع ربي كل شيء علما , أفلا تتذكرون ? وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ? فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ?).
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول ; يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور ; حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له , يتناثر على جانبي الموكب الجليل , الماضي في طريقه الموصول . وحيث يلتحم آخره مع أوله ; فيؤلف الأمة الواحدة , يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها , دون اعتبار لزمان أو مكان ; ودون اعتبار لجنس أو قوم , ودون اعتبار لنسب أو لون . . فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم .
إنه مشهد رائع كذلك ; يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيمذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده , ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل:لا أسألكم عليه أجرا , إن هو إلا ذكرى للعالمين). .
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا , ولم ينزل على بشر كتابا . . إنهم لم يقدروا الله حق قدره . فما قدر الله حق قدره من يقول:إنه - سبحانه - تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور . فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته , وعلمه وحكمته وعدله ورحمته . . إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا , وأن ينزل على بعض الرسل كتبا , ليحاولوا جميعا هداية البشرية إلى بارئها , واستنقاد فطرتها من الركام الذي يرين عليها , ويغلق منافذها , ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها . . ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى . وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا . .
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله , وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله , وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله . . وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية , وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة .
وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت , والملائكة باسطوا أيديهم:أخرجوا أنفسكم , اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة , وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم , وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم , وضل عنكم ما كنتم تزعمون ! . .
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب ; يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب . جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب . .
الدرس الأول:74 - 79 إبراهيم يقيم الحجة على قومه حول الوحدانية وينقض ألوهية غير الله (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر:أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض , وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي , هذا أكبر , فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين . .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق , الذي تجده في ضميرها , ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا , ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى , والامتلاء الجياش , بهذه الحقيقة , وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ; ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر:أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين). .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد , والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء , والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر , أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ; وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين , فتنكره وتستنكره ,
من الاية 74 الى الاية 75
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
وتجهر بكلمة الحق وتصدع , حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة:
(أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين). .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين , كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة , وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون , والدلائل الموحية بالهدى في الوجود:
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض , وليكون من الموقنين). .
بمثل هذه الفطرة السليمة , وهذه البصيرة المفتوحة ; وعلى هذا النحو من الخلوص للحق , ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون , ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود , ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة , إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه , بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة ! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي ! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع ; والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها , فيبينه لهم في رسالات الرسل , ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم , وهي مناط الحساب والجزاء , عدلا منه ورحمة , وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم ! خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لا أحب الآفلين). .
إنها صورة لنفس إبراهيم , وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام . وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله , وتزحم عالمه . . صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: (فلما جن عليه الليل). . كأنما الليل يحتويه وحده , وكأنما يعزله عن الناس حوله , ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته , ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره:
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا , قال:هذا ربي). .
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهة الحق - الذي يجده
من الاية 76 الى الاية 77
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام , فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة !
وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم . وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا . . ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل , ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله , ويزحم عليه عالمه:
(قال:هذا ربي). .
فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا ! . . ولكن لا ! إنه يكذب ظنه: (فلما أفل قال:لا أحب الآفلين). .
إنه يغيب . . يغيب عن هذه الخلائق . فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها . . إذا كان الرب يغيب ?!
لا , إنه ليس ربا , فالرب لا يغيب !
إنه منطق الفطرة البديهي القريب . . لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية , إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم . لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق . .
(لا أحب الآفلين). .
فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب ; والآصرة هي آصرة القلب . . وفطرة إبراهيم "لا تحب" الآفلين , ولا تتخذ منهم إلها . إن الإله الذي تحبه الفطرة . . لا يغيب . . !
(فلما رأى القمر بازغا قال:هذا ربي . فلما أفل قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين). .
إن التجربة تتكرر . وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ; ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه ! فهو الليلة في نظره جديد:
(قال:هذا ربي). .
بنوره الذي ينسكب في الوجود ; وتفرده في السماء بنوره الحبيب . . ولكنه يغيب ! . . والرب - كما يعرفة إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب !
هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته . ربه الذي يحبه , ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه . . ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته . إن لم يمد إليه يده . ويكشف له عن طريقه:
(قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين). .
(فلما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين).
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة . . الشمس . . والشمس تطلع كل يوم وتغيب . ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد . إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ; ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
(قال:هذا ربي . هذا أكبر).
ولكنها كذلك تغيب . .
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
الدرس الأول:66 - 67 مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل (وكذب به قومك - وهو الحق - قل:لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). .
والخطاب لرسول الله [ ص ] يعطيه , ويعطي المؤمنين من ورائه , الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر , إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم !
ثم يأمر الله تعالى نبيه [ ص ] أن يبرأ من قومه , وينفض منهم يده , وأن يعلنهم بهذه المفاصلة , ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ; وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ , ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق , فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ; وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون !
(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ; الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح , الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم , الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر ; وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله - في مواجهة التكذيب من قومهم , والجفوة من عشيرتهم , والغربة في أهلهم , والأذى والشدة والتعب والأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب !
الدرس الثاني:68 - 70 الأمر بمقاطعة الخائضين في آيات الله
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ , وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه [ ص ] مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ; ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ; ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ; بالقول أو بالفعل ; حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه ; أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه . فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم , ثم تذكر , قام من فوره وفارق مجلسهم:
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين). .
ولقد كان هذا الأمر للرسول [ ص ] ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول [ ص ] يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي [ ص ] في مجالس المشركين ; متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير , والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون , المقصود بهم هنا القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . .
من الاية 69 الى الاية 69
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة , فكان للنبي [ ص ] شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترى ء أحد على الخوض في آيات الله !
ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين , كما قررها من قبل بين الرسول [ ص ] وبين المشركين . ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير:
(وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء , ولكن ذكرى لعلهم يتقون). .
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين . فهما أمتان مختلفتان - وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله , ولا في اعتبار الإسلام . . إنما المتقون أمة , والظالمون [ أي المشركون ] أمة , وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم . ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم , وينضموا إليهم . . وإلا فلا مشاركة في شيء , إذا لم تكن مشاركة في عقيدة !
هذا دين الله وقوله . . ولمن شاء أن يقول غيره . ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول ! ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ; وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة:
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا , وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع , وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا , لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .
ونقف من الآية أمام عدة أمور:
أولها:أن الرسول [ ص ] وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة , وخلقا وسلوكا , وشريعة وقانونا , إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا . . والذي يتحدث عن مبادى ء هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن "الغيب" - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن "الزكاة " وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادى ء هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية , أو الإقطاعية , أو "البرجوازية " الزائلة ! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها "أغلال ! " . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية . . السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون:إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . . أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا , فلهم شراب من حميم وعذاب أليم لما كانوا يكفرون . .
وثانيها:أن الرسول [ ص ] وينسحب الامر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا , وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم , ولا شفيع يشفع لهم ; كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول:
من الاية 70 الى الاية 70
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
(وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع , وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها). .
فكل نفس على حدة تبسل [ أي ترتهن وتؤخذ ] بما كسبت , حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة !
فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا ; وحق عليهم ما سبق في الآية ; وكتب عليهم هذا المصير:
(أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا , لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون). .
لقد أخذوا بما فعلوا ; وهذا جزاؤهم:شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون ; وعذاب أليم بسبب كفرهم , الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .
وثالثها:قول الله تعالى في المشركين: (الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا). .
فهل هو دينهم ? . .
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام , ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام ? إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعا . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .
ولهذه الأضافة دلالتها في قوله:
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا). .
فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه , من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة . فمن اتخذه لعبا ولهوا , , فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون ? إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من احد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه , مهما تسموا بأسماء المسلمين ! فلنكن من أمر ديننا على يقين !
ورابعها:حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله ; أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه:الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية:
"في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل , على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم , لهم أن يخالطوا الفاسقين , ويصوبوا آراءهم تقية . . "
ونحن نقول:إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقيةفهو المحظور . لأنه - في ظاهرة - إقرار للباطل , وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس , ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال:
"قال ابن خويز منداد:من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمنا كان أو كافرا - قال:وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو , ودخول كنائسهم والبيع , ومجالسة الكفار وأهل البدع ; وألا تعتقد مودتهم , ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي:اسمع مني كلمة , فأعرض عنه , وقال:ولا نصف كلمة ! . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض:من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله , وأخرج الإسلام من قلبه , ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ; ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة , وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:قال رسول الله [ ص ] " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . .
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ; ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع ; ولكنه كفر كافر , أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى - وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان ! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .
الوحدة العاشرة:71 - 73 حيرة متبع الشياطين ومن حقائق العقيدة هذه الوحدة بآياتها الثلاثة درس واحد
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ; وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ; وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله ; وحيرته في التيه بلا اتجاه ; وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق , في الأمر والخلق ; وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - (يوم ينفخ في الصور)ويبعث من في القبور ; ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده , وأن إليه المصير:
قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا , ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله , كالذي استهوته الشياطين في الأرض , حيران , له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل:إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه . .
(قل). . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ; الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده , وأن الرسول [ ص ] إنما هو منذر ومبلغ ; والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ; وأن الرسول [ ص ] إنما هو مأمور به من ربه .
(قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ? . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه , وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما , حجرا أو شجرا , روحا أم ملكا , شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون , ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله , وعبادة غير الله , والاستعانة بغير الله , والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي [ ص ] من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون , وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي [ ص ] والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ; وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ; بعيدا عن الموروثات الراسبة , وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده , واتخاذه وحده إلها , والدينونه له وحده بلا شريك: 1 (قل:أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا ? . .
فهو ارتداد على الأعقاب ; ورجوع إلى الوراء ; بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير:
(كالذي استهوته الشياطين في الأرض) (. . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى:ائتنًا). .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد , ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد , والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال , فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس: (الذي استهوته الشياطين في الأرض)- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه , فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! -
من الاية 71 الى الاية 72
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
ولكن هناك , من الجانب الآخر , أصحاب له مهتدون , يدعونه إلى الهدى , وينادونه(ائتنا)- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء(حيران)لا يدري أين يتجه , ولا أي الفريقين يجيب !
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك , حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية , يتمثل فيها هذا الموقف , ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة , تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة , وماذا يعني هذا التعبير !
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي , يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم:
(قل:إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين , وأن أقيموا الصلاة واتقوه). .
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب , فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية , والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار , تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم:
(قل:إن هدى الله هو الهدى). .
هو وحدة الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه , كلما تركت هذا الهدى , أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها , وأنظمتها وأوضاعها , وشرائعها وقوانينها , وقيمها وموازينها , بغير(علم)ولا(هدى)ولا (كتاب منير). .
إن "الإنسان" موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه , للانتفاع بها في الخلافة في الأرض , وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون , ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب , ومنها غيب عقله هو وروحه , بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف , والتي تدفعها للعمل هكذا , وبهذا الانتظام , وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا "الإنسان" إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق , وموازين وقيم , وأنظمة وأوضاع , وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا "الإنسان" إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه , أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث (فماذا بعد الحق إلا الضلال ?).
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو "حتمي" في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي "الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله , ومن خبر الله ,لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله , لا يحتاج أن ينقب , فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي , ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده , وعبادته وحده , ومخافته وتقواه: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين , وأن أقيموا الصلاة واتقوه). .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى ; وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له , فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ?
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله , وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة , للنواميس التي وضعها الله لها ; وهي لا تملك الخروج عليها , والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها , ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلاأن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه , وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي , لاستقام أمره , وتناسق تكوينه وسلوكه , وجسمه وروحه , ودنياه وآخرته . .
وفي إعلان الرسول [ ص ] والمسلمين معه , أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا , إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية:
(وأن أقيموا الصلاة واتقوه).
فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين , وسلطانه وتربيته وتقويمه . ثم تجيء العبادات الشعائرية ; وتجيء الرياضات النفسية . . لتقوم على قاعدة الاستسلام . . فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء .
وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة:حقيقة الحشر . وحقيقة الخلق . وحقيقة السلطان . وحقيقة العلم بالغيب والشهادة . وحقيقة الحكمة والخبرة . . من خصائص الألوهية , التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة:
(وهو الذي إليه تحشرون . وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق . ويوم يقول:كن فيكون . قوله الحق , وله الملك يوم ينفخ في الصور , عالم الغيب والشهادة , وهو الحكيم الخبير). .
(وهو الذي إليه تحشرون). .
إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب . . فهو الذي إليه تحشر الخلائق . . فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر - الحتمي - ما ينجيهم ; وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين ; قبل أن يقفوا أمامه
من الاية 73 الى الاية 73
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
مسؤولين . . وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة - حقيقة الحشر - موحيا بالاستسلام في المبدأ , ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير !
(وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق). .
وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر . . فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض - والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف - ولقد خلق السماوات والأرض(بالحق). فالحق قوام هذا الخلق . . وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون - وبخاصة الأفلاطونية والمثالية - من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة ! - فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات , فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون , وفي مآلاته كذلك . فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته , فيؤلف قوة هائلة , لا يقف لها الباطل , الذي لا جذور له في بنية الكون , وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . وكالزبد يذهب جفاء , إذ لا أصالة له في بناء الكون . . كالحق . . وهذه حقيقة ضخمة , ومؤثر كذلك عميق . .
إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه - هو شخصيا وفي حدود ذاته - إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود . [ وفي الآية الأخرى: (ذلك بأن الله هو الحق)] فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه . . إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل , لا يرى في الباطل - مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر - إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود ; لا جذور لها ولا مدد ; تنفثى ء من قريب , وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود .
كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة . وقد يستسلم ويثوب ! (ويوم يقول:كن فيكون). .
فهو السلطان القادر , وهي المشيئة الطليقة , في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل . . وعرض هذه الحقيقة - فضلا على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين - هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق . . الذي يقول:كن فيكون . (قوله الحق). .
سواء في القول الذي يكون به الخلق: (كن فيكون). أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده . أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون . أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل . وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء .
قوله الحق في هذا كله . . فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه . ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة . في أي اتجاه .
(وله الملك يوم ينفخ في الصور). .
ففي هذا اليوم يوم الحشر . . يوم ينفخ في الصور [ هو القرن المجوف كالبوق ] وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر ; بكيفية غيبية لا يعلمها البشر , فهي من غيب الله الذي احتفظ به . والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته , ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له , والروايات المأثورة ; تقول:هو بوق من نور ينفخ فيه ملك , فيسمع من في القبور , حيث يهبون للنشور - وهذه هي النفخة الثانية - أما الأولى فيصعق لهامن في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمرونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله - ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون). . وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا - عن يقين - أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه . . وهو من ثم غيب من غيب الله . . نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره , ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه , ولا يقين . إنما هي الظنون !
في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز - حتى للمنكرين - ويظهر - حتى للمطموسين - أن الملك لله وحده , وأنه لا سلطان إلا سلطانه , ولا إرادة إلا إرادته . . فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور .
(عالم الغيب والشهادة). .
الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب , كما يعلم هذا الكون المشهود . والذي لا تخفي عليه خافية من أمر العباد , ولا يند عنه شأن من شؤونهم . . فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه . وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها , وتتخذ مؤثرا موحيا في مواجهة المكذبين والمعارضين .
(وهو الحكيم الخبير):-
يصرف أمور الكون الذي خلقه , وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة . . فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه , ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته . ويفيئوا إلى هداه وحده . ويخرجوا من التيه , ومن الحيرة , إلى ظلال الحكمة والخبرة , وإلى كنف الهدى والبصيرة . .
وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثرا موحيا للعقول والقلوب . .
الوحدة الحاديه عشرة:74 - 94 الموضوع:عرض حقائق العقيدة من خلال القصص والحياة هذا الدرس بطوله لحمة واحدة ; يتناول موضوعا متصل الفقرات . . إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة - وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , وما بينهما من ارتباطات - ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة . . يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه . . مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة ; ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات ; وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . .
والدرس - في جملته - يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح - عليه السلام , إلى محمد [ ص ] وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية - كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين - إبراهيم عليه السلام - ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة , وهي تبحث عن إلهها الحق , الذي تجده في أعماقها , بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها . إلى أن يخلص لها تصور حق , يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق . ويقوم على ما تحده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس ! ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق , واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منهوحاجه قومه . قال:أتحاجوني في الله وقد هدان ? ولا أخاف ما تشركون به , إلا أن يشاء ربي شيئا , وسع ربي كل شيء علما , أفلا تتذكرون ? وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ? فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ?).
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول ; يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور ; حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له , يتناثر على جانبي الموكب الجليل , الماضي في طريقه الموصول . وحيث يلتحم آخره مع أوله ; فيؤلف الأمة الواحدة , يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها , دون اعتبار لزمان أو مكان ; ودون اعتبار لجنس أو قوم , ودون اعتبار لنسب أو لون . . فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم .
إنه مشهد رائع كذلك ; يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيمذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده , ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل:لا أسألكم عليه أجرا , إن هو إلا ذكرى للعالمين). .
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا , ولم ينزل على بشر كتابا . . إنهم لم يقدروا الله حق قدره . فما قدر الله حق قدره من يقول:إنه - سبحانه - تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور . فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته , وعلمه وحكمته وعدله ورحمته . . إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا , وأن ينزل على بعض الرسل كتبا , ليحاولوا جميعا هداية البشرية إلى بارئها , واستنقاد فطرتها من الركام الذي يرين عليها , ويغلق منافذها , ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها . . ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى . وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا . .
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله , وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله , وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله . . وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية , وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة .
وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت , والملائكة باسطوا أيديهم:أخرجوا أنفسكم , اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة , وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم , وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم , وضل عنكم ما كنتم تزعمون ! . .
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب ; يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب . جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب . .
الدرس الأول:74 - 79 إبراهيم يقيم الحجة على قومه حول الوحدانية وينقض ألوهية غير الله (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر:أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض , وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي , هذا أكبر , فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين . .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق , الذي تجده في ضميرها , ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا , ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى , والامتلاء الجياش , بهذه الحقيقة , وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ; ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر:أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين). .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد , والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء , والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر , أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ; وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين , فتنكره وتستنكره ,
من الاية 74 الى الاية 75
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
وتجهر بكلمة الحق وتصدع , حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة:
(أتتخذ أصناما آلهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين). .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين , كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة , وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون , والدلائل الموحية بالهدى في الوجود:
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض , وليكون من الموقنين). .
بمثل هذه الفطرة السليمة , وهذه البصيرة المفتوحة ; وعلى هذا النحو من الخلوص للحق , ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون , ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود , ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة , إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه , بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة ! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي ! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع ; والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها , فيبينه لهم في رسالات الرسل , ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم , وهي مناط الحساب والجزاء , عدلا منه ورحمة , وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم ! خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال:هذا ربي , فلما أفل قال:لا أحب الآفلين). .
إنها صورة لنفس إبراهيم , وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام . وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله , وتزحم عالمه . . صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: (فلما جن عليه الليل). . كأنما الليل يحتويه وحده , وكأنما يعزله عن الناس حوله , ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته , ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره:
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا , قال:هذا ربي). .
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهة الحق - الذي يجده
من الاية 76 الى الاية 77
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام , فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة !
وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم . وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا . . ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل , ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله , ويزحم عليه عالمه:
(قال:هذا ربي). .
فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا ! . . ولكن لا ! إنه يكذب ظنه: (فلما أفل قال:لا أحب الآفلين). .
إنه يغيب . . يغيب عن هذه الخلائق . فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها . . إذا كان الرب يغيب ?!
لا , إنه ليس ربا , فالرب لا يغيب !
إنه منطق الفطرة البديهي القريب . . لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية , إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم . لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق . .
(لا أحب الآفلين). .
فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب ; والآصرة هي آصرة القلب . . وفطرة إبراهيم "لا تحب" الآفلين , ولا تتخذ منهم إلها . إن الإله الذي تحبه الفطرة . . لا يغيب . . !
(فلما رأى القمر بازغا قال:هذا ربي . فلما أفل قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين). .
إن التجربة تتكرر . وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ; ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه ! فهو الليلة في نظره جديد:
(قال:هذا ربي). .
بنوره الذي ينسكب في الوجود ; وتفرده في السماء بنوره الحبيب . . ولكنه يغيب ! . . والرب - كما يعرفة إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب !
هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته . ربه الذي يحبه , ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه . . ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته . إن لم يمد إليه يده . ويكشف له عن طريقه:
(قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين). .
(فلما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين).
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة . . الشمس . . والشمس تطلع كل يوم وتغيب . ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد . إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ; ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
(قال:هذا ربي . هذا أكبر).
ولكنها كذلك تغيب . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يس ايه رقم 1 الى ايه 46 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة نوح ايه رقم 1 الى 25 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ق ايه 1 الى 35 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يس ايه رقم 1 الى ايه 46 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة نوح ايه رقم 1 الى 25 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ق ايه 1 الى 35 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى