تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
من الاية 44 الى الاية 45
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45)
ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه , وكلما همت يده أن تلمس شيئا , وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله , وينبض بالحياة .
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)يسبح بطريقته ولغته (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين , ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم , ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية , وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتتوجه بها إلى خالق النواميس , ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح , ويتوجه بالتسبيح , فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى , وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون , الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود , النابضة في كل متحرك وساكن , وفي كل شيء في هذا الوجود .
(إنه كان حليما غفورا). . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله , بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله , ومن ينسب له البنات , ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إنه كان حليما غفورا).
الدرس الثاني:45 الحجب المانعة من تدبر الكفار للقرآن وشبهاتهم حوله
ولقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن , ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له , ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به ; فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا , حجابا خفيا , وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن , وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به , إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال , فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي بالليل في بيته ; فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه , وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا , فقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعتهم الطريق ; فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم
من الاية 46 الى الاية 48
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48)
خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال:يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا , والذي حلفت به . قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ; فقال:يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها , وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها , فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب , فإذا هم لا ينتفعون به , ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن , ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ; ثم يغلبهم التأثر به فيعودون , ثم يتناجون من جديد , حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا). .
نفورا من كلمة التوحيد , التي تهدد وضعهم الاجتماعي , القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية , وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت , وما في الإسلام من تماسك , وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به , على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها !
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ; والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ; فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد:
(إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ; فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ; لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر , يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله , وهذا التميز في حديثه , وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه , إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا:إنه من عند الله , فما يمكن أن يقول هذا إنسان , ولا خلق آخر من خلق الله .
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور , إنما أنت رسول , فضلوا ولم يهتدوا , وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه . لا إلى الهدى , ولا إلى تعليل موقفهم المريب !
الدرس الثالث:49 - 52 ذم وتهديد الكفار لتكذيبهم بالبعث والآخرة
ذلك قولهم عن القرآن , وعن الرسول [ ص ] وهو يتلو عليهم القرآن . كذلك كذبوا بالبعث , وكفروا بالآخرة
من الاية 49 الى الاية 51
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51)
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم . فسيقولون:من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة . فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون:متى هو ? قل:عسى أن يكون قريبا , يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول [ ص ] والمشركين , واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل . مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت , وطبيعة البعث والحشر . ولقد عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات . ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا الوضوح وبتلك البساطة ; فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على الأجسام:
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا)?
ذلك أنهم لم يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلا ثم كانوا , وأن النشأة الآخرة ليست أعسر من النشأة الأولى . وأنه لا شيء أمام القدرة الإلهية أعسر من شيء , وأداة الخلق واحدة في كل شيء: (كن فيكون)فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلا وأن يكون صعبا في نظر الناس , متى توجهت الإرادة الإلهية إليه .
وكان الرد على ذلك التعجب:
(قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم). .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ; والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم:
كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي . وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع , فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر , وفي هذا إيماء من بعيد إلى ما في تصورهم من جمود وتحجر !
(فسيقولون:من يعيدنا)?
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما , أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? (قل:الذي فطركم أول مرة). .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون:
(فسينغضون إليك رؤوسهم)ينغضونها علوا أو سفلا , استنكارا و استهزاء:
(ويقولون:متى هو ?):استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
(قل:عسى أن يكون قريبا). .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده , وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له , وقد قاموا يلبون دعوة الداعي , وألسنتهم تلهج بحمد
من الاية 52 الى الاية 55
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55)
الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب !
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله , فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا:الحمد لله . الحمد لله !
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا).
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين , فإذا هي قصيرة قصيرة , لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس , إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول , ومتاع قليل .
ثم يلتفت السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور , المستهزئين بوعد الله وقول الرسول , المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين . . يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين ليوجههم الرسول [ ص ] أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى:
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم , إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه . . بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيى ء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب , تندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .
(إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا). .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته .
الدرس الخامس:54 - 55 الناس في قبضة الله والتفضيل لأنبياء الله
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده , فإذا المصير كله بيد الله وحده , إن شاء رحم , وإن شاء عذب , وهم متروكون لقضاء الله , وما الرسول عليهم بوكيل , إن هو إلا رسول:
(ربكم أعلم بكم , إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم , وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض). .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن , وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي ? وما قدرها ? وما درجتها .
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض:
(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). .
فيراجع في موضعه هناك:
(وآتينا داود زبورا). . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه , ومن مظاهر التفضيل أيضا . إذ كانت
من الاية 56 الى الاية 57
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)
الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .
الدرس السادس:56 - 57 نفي الأبناء والشركاء عن الله وتوحيد الله
وينتهي هذا الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء , واستطرد إلى تفرد الله سبحانه بالاتجاه إليه , وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد . . ينتهي بتحدي الذين يزعمون الشركاء , أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن يعذبهم , أو تحويل العذاب إلى سواهم:
(قل:ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا). . فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله وحده , المتصرف في أقدار عباده .
ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس . . إن هم إلا خلق من خلق الله , يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه , ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه:
(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب , ويرجون رحمته ويخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا). .
وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده , وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده . وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فالله يقول لهم جميعا:إن هؤلاء الذين تدعونهم , أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشى عذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف - فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله , كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله , يبتغون رضاه .
وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها . وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه .
الوحدة الرابعة:58 - 72 الموضوع:قصة آدم والرسالات ونعمة الله على الناس مقدمة الوحدة
انتهى الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد , إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم ; وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم .
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعا - كما قدره الله في علمه وقضائه - وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة , أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب . فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين:الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب .
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل - قبل رسالة محمد [ ص ] - هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة , لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك . والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية , وما كانت الخوارق إلا تخويفا للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها .
وقد كف الله الناس عن الرسول [ ص ] وعصمه منهم فلا يصلون إليه . وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس , ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل , وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن - شجرة الزقوم - التي رآها في أصل الجحيم , فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا . وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانا .
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم , وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه . . فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان , وتبعدهم عن تدبر الآيات .
امن الاية 58 الى الاية 60
وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60)
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم , ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود , فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة . فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه . فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا . والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء ! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه , ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون . ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ; يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم , فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه .
الدرس الأول:58 - 60 موت المخلوقين قبل قيام الساعة وحكمة المعجزات ومعجزة الإسراء
(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا). .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة , فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ; أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا).
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة . ويخاطب الفكر والقلب , ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس , وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود , الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذارا أو تخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق . لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها . ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل , وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
(وإذ قلنا لك:إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس , والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء , كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة "فتنة للناس" وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر , وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
من الاية 61 الى الاية 62
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62)
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما:هاتوا لنا تمرا وزبدا , وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول:تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده , فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال , يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب , وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا , وأنفع للإسلام من كثير سبقوه . .
الدرس الثاني:61 - 65 قصة آدم مع إبليس
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول [ ص ] واطلع فيها على ما اطلع من عوالم , والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين . . يجيء مشهد إبليس الملعون , يهدد ويتوعد بإغواء الضالين:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس . قال:أأسجد لمن خلقت طينا ? قال:أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك , وأجلب عليهم بخيلك ورجلك , وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم . وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين , فيعرض هذا المشهد هنا , ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية , ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها , عن إصرار سابق قديم !
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال:أأسجد لمن خلقت طينا ?)
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين !
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية , فيقول في تبجح:
(أرأيتك هذا الذي كرمت علي)أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
(لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية , ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام , يحاول محاولته مع بني الإنسان:
من الاية 63 الى الاية 65
قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
(قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا). .
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة , يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك (فمن تبعك منهم)مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية , معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان , غافلا عن آيات الله في الكون , وآيات الله المصاحبة للرسالات , (فإن جهنم جزاؤكم)أنت وتابعوك (جزاء موفورا).
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك).
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة , والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة , تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة , أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل , وأحاطت بهم الرجال !
(وشاركهم في الأموال والأولاد). .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية , إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام , أو يتصرف فيه بغير حق , أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها , ومنها الوعود المغرية المخادعة: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة , ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك . ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم , لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك !
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
فمتى اتصل القلب بالله , واتجه إليه بالعبادة . متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت . . فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله , وهذا الروح المشرق بنور الإيمان . . (وكفى بربك وكيلا)يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان .
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده , ويستذل عبيده , ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن , فما له عليهم من سلطان .
الدرس الثالث:66 - 69 نعم الله في ركوب البحر وتهديد الكفار بالغرق
ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى ; ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان , ويستمعون إليه
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45)
ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه , وكلما همت يده أن تلمس شيئا , وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله , وينبض بالحياة .
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)يسبح بطريقته ولغته (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين , ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم , ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية , وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتتوجه بها إلى خالق النواميس , ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح , ويتوجه بالتسبيح , فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى , وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون , الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود , النابضة في كل متحرك وساكن , وفي كل شيء في هذا الوجود .
(إنه كان حليما غفورا). . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله , بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله , ومن ينسب له البنات , ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إنه كان حليما غفورا).
الدرس الثاني:45 الحجب المانعة من تدبر الكفار للقرآن وشبهاتهم حوله
ولقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن , ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له , ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به ; فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا , حجابا خفيا , وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن , وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به , إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال , فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي بالليل في بيته ; فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه , وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا , فقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعتهم الطريق ; فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم
من الاية 46 الى الاية 48
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48)
خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال:يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا , والذي حلفت به . قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ; فقال:يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها , وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها , فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب , فإذا هم لا ينتفعون به , ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن , ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ; ثم يغلبهم التأثر به فيعودون , ثم يتناجون من جديد , حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا). .
نفورا من كلمة التوحيد , التي تهدد وضعهم الاجتماعي , القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية , وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت , وما في الإسلام من تماسك , وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به , على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها !
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ; والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ; فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد:
(إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ; فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ; لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر , يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله , وهذا التميز في حديثه , وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه , إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا:إنه من عند الله , فما يمكن أن يقول هذا إنسان , ولا خلق آخر من خلق الله .
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور , إنما أنت رسول , فضلوا ولم يهتدوا , وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه . لا إلى الهدى , ولا إلى تعليل موقفهم المريب !
الدرس الثالث:49 - 52 ذم وتهديد الكفار لتكذيبهم بالبعث والآخرة
ذلك قولهم عن القرآن , وعن الرسول [ ص ] وهو يتلو عليهم القرآن . كذلك كذبوا بالبعث , وكفروا بالآخرة
من الاية 49 الى الاية 51
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51)
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم . فسيقولون:من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة . فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون:متى هو ? قل:عسى أن يكون قريبا , يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول [ ص ] والمشركين , واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل . مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت , وطبيعة البعث والحشر . ولقد عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات . ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا الوضوح وبتلك البساطة ; فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على الأجسام:
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا)?
ذلك أنهم لم يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلا ثم كانوا , وأن النشأة الآخرة ليست أعسر من النشأة الأولى . وأنه لا شيء أمام القدرة الإلهية أعسر من شيء , وأداة الخلق واحدة في كل شيء: (كن فيكون)فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلا وأن يكون صعبا في نظر الناس , متى توجهت الإرادة الإلهية إليه .
وكان الرد على ذلك التعجب:
(قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم). .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ; والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم:
كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي . وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع , فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر , وفي هذا إيماء من بعيد إلى ما في تصورهم من جمود وتحجر !
(فسيقولون:من يعيدنا)?
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما , أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? (قل:الذي فطركم أول مرة). .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون:
(فسينغضون إليك رؤوسهم)ينغضونها علوا أو سفلا , استنكارا و استهزاء:
(ويقولون:متى هو ?):استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
(قل:عسى أن يكون قريبا). .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده , وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له , وقد قاموا يلبون دعوة الداعي , وألسنتهم تلهج بحمد
من الاية 52 الى الاية 55
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55)
الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب !
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله , فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا:الحمد لله . الحمد لله !
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا).
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين , فإذا هي قصيرة قصيرة , لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس , إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول , ومتاع قليل .
ثم يلتفت السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور , المستهزئين بوعد الله وقول الرسول , المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين . . يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين ليوجههم الرسول [ ص ] أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى:
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم , إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه . . بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيى ء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب , تندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .
(إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا). .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته .
الدرس الخامس:54 - 55 الناس في قبضة الله والتفضيل لأنبياء الله
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده , فإذا المصير كله بيد الله وحده , إن شاء رحم , وإن شاء عذب , وهم متروكون لقضاء الله , وما الرسول عليهم بوكيل , إن هو إلا رسول:
(ربكم أعلم بكم , إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم , وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض). .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن , وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي ? وما قدرها ? وما درجتها .
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض:
(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). .
فيراجع في موضعه هناك:
(وآتينا داود زبورا). . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه , ومن مظاهر التفضيل أيضا . إذ كانت
من الاية 56 الى الاية 57
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)
الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .
الدرس السادس:56 - 57 نفي الأبناء والشركاء عن الله وتوحيد الله
وينتهي هذا الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء , واستطرد إلى تفرد الله سبحانه بالاتجاه إليه , وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد . . ينتهي بتحدي الذين يزعمون الشركاء , أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن يعذبهم , أو تحويل العذاب إلى سواهم:
(قل:ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا). . فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله وحده , المتصرف في أقدار عباده .
ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس . . إن هم إلا خلق من خلق الله , يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه , ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه:
(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب , ويرجون رحمته ويخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا). .
وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده , وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده . وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فالله يقول لهم جميعا:إن هؤلاء الذين تدعونهم , أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشى عذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف - فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله , كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله , يبتغون رضاه .
وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها . وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه .
الوحدة الرابعة:58 - 72 الموضوع:قصة آدم والرسالات ونعمة الله على الناس مقدمة الوحدة
انتهى الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد , إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم ; وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم .
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعا - كما قدره الله في علمه وقضائه - وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة , أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب . فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين:الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب .
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل - قبل رسالة محمد [ ص ] - هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة , لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك . والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية , وما كانت الخوارق إلا تخويفا للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها .
وقد كف الله الناس عن الرسول [ ص ] وعصمه منهم فلا يصلون إليه . وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس , ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل , وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن - شجرة الزقوم - التي رآها في أصل الجحيم , فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا . وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانا .
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم , وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه . . فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان , وتبعدهم عن تدبر الآيات .
امن الاية 58 الى الاية 60
وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60)
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم , ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود , فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة . فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه . فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا . والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء ! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه , ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون . ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ; يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم , فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه .
الدرس الأول:58 - 60 موت المخلوقين قبل قيام الساعة وحكمة المعجزات ومعجزة الإسراء
(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا). .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة , فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ; أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا).
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة . ويخاطب الفكر والقلب , ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس , وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود , الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذارا أو تخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق . لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها . ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل , وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
(وإذ قلنا لك:إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس , والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء , كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة "فتنة للناس" وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر , وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
من الاية 61 الى الاية 62
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62)
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما:هاتوا لنا تمرا وزبدا , وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول:تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده , فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال , يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب , وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا , وأنفع للإسلام من كثير سبقوه . .
الدرس الثاني:61 - 65 قصة آدم مع إبليس
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول [ ص ] واطلع فيها على ما اطلع من عوالم , والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين . . يجيء مشهد إبليس الملعون , يهدد ويتوعد بإغواء الضالين:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس . قال:أأسجد لمن خلقت طينا ? قال:أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك , وأجلب عليهم بخيلك ورجلك , وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم . وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين , فيعرض هذا المشهد هنا , ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية , ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها , عن إصرار سابق قديم !
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال:أأسجد لمن خلقت طينا ?)
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين !
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية , فيقول في تبجح:
(أرأيتك هذا الذي كرمت علي)أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
(لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية , ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام , يحاول محاولته مع بني الإنسان:
من الاية 63 الى الاية 65
قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
(قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا). .
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة , يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك (فمن تبعك منهم)مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية , معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان , غافلا عن آيات الله في الكون , وآيات الله المصاحبة للرسالات , (فإن جهنم جزاؤكم)أنت وتابعوك (جزاء موفورا).
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك).
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة , والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة , تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة , أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل , وأحاطت بهم الرجال !
(وشاركهم في الأموال والأولاد). .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية , إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام , أو يتصرف فيه بغير حق , أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها , ومنها الوعود المغرية المخادعة: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة , ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك . ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم , لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك !
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
فمتى اتصل القلب بالله , واتجه إليه بالعبادة . متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت . . فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله , وهذا الروح المشرق بنور الإيمان . . (وكفى بربك وكيلا)يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان .
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده , ويستذل عبيده , ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن , فما له عليهم من سلطان .
الدرس الثالث:66 - 69 نعم الله في ركوب البحر وتهديد الكفار بالغرق
ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى ; ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان , ويستمعون إليه
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1\\\\\8
» تفسير سورة الاسراء ايه 50\\59
» تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1\\\\\8
» تفسير سورة الاسراء ايه 50\\59
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى