منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة الفرقان ايه 41 الى ايه66 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الإثنين مايو 28, 2012 1:06 am

من الاية 41 الى الاية 41

وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41)

من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش . وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين . ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل . ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا:نعم أنت عندنا غير متهم .

ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون: (أهذا الذي بعث الله رسولا ?)وهي قولة ساخرة مستنكرة . . أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية , وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء ? كلا . إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم . وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية , وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع .

ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة , ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين:

روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم - موسم الحج - فقال لهم:يا معشر قريش:إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا , فأجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا:فأنت يا أبا عبد شمس , فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال:بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا:نقول كاهن . قال لا والله ما هو بكاهن . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا:فنقول:إنه مجنون قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا:فنقول شاعر قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه , فما هو بالشعر . قالوا:فنقول ساحر . قال ما هو بساحر , لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا:فما تقول يا أبا عبد شمس ? قال:والله إن لقوله طلاوة , وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل , وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:ساحر جاء يقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجه , وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم , لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا لهم أمره .

فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله [ ص ] ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته . فما كان اتخاذهم إياه هزوا , وقولهم ساخرين: (أهذا الذي بعث الله رسولا ?)بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم , إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير , التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية , استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية ! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان .

وبينما كانوا يظهرون الهزء والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن

من الاية 42 الى الاية 43

إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)

حجته ومن القرآن الذي جاء به , فيقولون:

(إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها). .

فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتم وعبادتهم - على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم - لولا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم ! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة . وهم يسمون الهداية إضلالا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم . ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد [ ص ] وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته , إصرارا وعنادا . ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب:

(وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا). .

فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال . ولكن حين لا ينفع العلم , حين يرون العذاب . سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر , أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب .

ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم , فهو لم يقصر في الدعوة , ولم يقصر في الحجة , ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول , إنما العلة فيهم أنفسهم . فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه , ولا يرجعون إلى حجة أو برهان . وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه:

(أرأيت من اتخذ إلهه هواه . أفأنت تكون عليه وكيلا ?). .

وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة , حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة , والموازين المضبوطة , وتخضع لهواها , وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها , فلا تخضع لميزان , ولا تعترف بحد , ولا تقتنع بمنطق , متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع .

والله - سبحانه - يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناسSadأرأيت ?)ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه , ولا وزن للحجة , ولا قيمة للحقيقة ; ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته . فهو غير قابل للهدى , وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره , ولا أن يحفل بشأنه: (أفأنت تكون عليه وكيلا ?). .

ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم , ويحكمون شهواتهم , ويتنكرون للحجة والحقيقة , تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها . يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل . ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل و أحط:

(أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام . بل هم أضل سبيلا).

وفي التعبير تحرز وإنصاف , إذ يذكر(أكثرهم)ولا يعمم , لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى , أو تقف عند الحقيقة تتدبرها . فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا , والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول , فهي كالأنعام . وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك , والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع , ووقوف عند الحجة والاقتناع . بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة , لأن البهيمة تهتدى بما أودعها الله من استعداد , فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا . بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص , ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة:

من الاية 44 الى الاية 44

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). .

وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله [ ص ] ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من إطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة .

وهكذا ينتهي الشوط الثاني في السورة .

الوحدة الثانية:45 - 62 الموضوع:آيات كونية دالة على الوحدانية

في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول [ ص ] ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه , يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره . وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة , ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين . .

والقرآن يوجه القلوب والعقول دائما إلى مشاهد هذا الكون ; ويربط بينها وبين العقول والقلوب . ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح , يتلقى الأصداء والأضواء , وينفعل بها ويستجيب , ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه , المنثورة في أرجائه , المعروضة في صفحاته , ويرى فيها يد الصانع المدبر , ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه , وكل ما يلمسه حسه , وكل ما يلتقطه سمعه , ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر , والاتصال بالله , عن طريق الاتصال بما صنعت يداه .

وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب , مستيقظ الحس والروح , موصول الفكر والخاطر ; فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة , وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معا . وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرا من رقعة هذه الأرض ; وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة , مرتبط بناموس واحد , متجه إلى خالق واحد ; وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله ; ويد الله في كل ما حوله , وكل ما تقع عليه عينه , وكل ما تلمسه يداه .

إن شعورا من التقوى , وشعورا من الأنس , وشعورا من الثقة لتمتزج في حسه , وتفيض على روحه , وتعمر عالمه , فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله . وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق .

وفي هذا الدرس ينتقل السياق من مشهد الظل اللطيف , ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف . إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات , والنهار وما فيه من حركة وانبعاث . إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات . إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان . ومن ماء السماء إلى ماء النطفة , وإذا هو بشر يصرف الحياة . إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام . إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير . إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان .

وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها , ويذكر بقدرته وتدبيره , ويعجب معه إشراك المشركين , وعبادتهم مالا ينفعهم ولا يضرهم , وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه , وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران . فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله , ومشاهد الكون الذي خلقه الله .

فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارى ء المصور إليه في طول الحياة .

الدرس الأول:45 - 46 حركة الظل وفعل الله به

(ألم تر إلى ربك كيف مد الظل - ولو شاء لجعله ساكنا - ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا). .

إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان . وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن , وتمسح على القرح والألم , وتهدهد القلب المتعب المكدود . .

من الاية 45 الى الاية 47

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47)

أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء ? وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة , وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد , في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين ; ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء ?! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله [ ص ] كان هو البلسم المريح , والظل الظليل , والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان . وإن الظل - وبخاصة في هجير الصحراء المحرق - لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال .

والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق , وتقبضه في لطف: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ?). .(ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا). .

والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار . وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس , فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله ; والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها , وتميز مساحته وامتداده وارتداده . ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظه لطيفة شفيفة , وهي تتتبع صنع البارى ء اللطيف القدير . . وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب , وهي تطول وتطول , وتمتد وتمتد . ثم في لحظة . لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا . لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال . أين تراها ذهبت ? لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها . لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي . ظل الليل والظلام !

إنها يد القدرة القوية اللطيفة . التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال .

(ولو شاء لجعله ساكنا). . فبناء الكون المنظور على هذا النسق , وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة . ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه . لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض . ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع . فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل , ويمنحها خواصها التي نراها .

وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم , ونمر بها غافلين , هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا , وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا , وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة , وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب .

الدرس الثاني:مشهد الليل والنهار

ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر , والنوم الساكن , والنهار وما فيه من حركة ونشور:

(وهو الذي جعل لكم الليل لباسا , والنوم سباتا , وجعل النهار نشورا). .

والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس . وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام . والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور . فهو سبات . ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة , وتدب الحياة في النهار . فهو نشور من ذلك الموت الصغير , الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من

من الاية 48 الى الاية 51

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51)

دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال . وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله , الذي لا يغفل لحظة ولا ينام .

الدرس الثالث:48 - 49 مشهد الرياح والأمطار

ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء:

وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته , وأنزلنا من السماء ماء طهورا , لنحيي به بلدة ميتا , ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا . .

والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة , وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض . ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه , ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكا صحيحا كاملا . وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه , وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب , ويستبشرون بها ; ويحسون فيها رحمة الله - إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان .

والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)وهو بصدد ما في الماء من حياة .(لنحيي به بلدة ميتا , ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا)فيلقي على الحياة ظلا خاصا . ظل الطهارة . فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشى ء الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام .

الدرس الرابع:50 - 52 مهمة القرآن وجهاد الكفار به

وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح ; وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح:

ولقد صرفناه بينهم ليذكروا , فأبى أكثر الناس إلا كفورا , ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا . .

(ولقد صرفناه بينهم ليذكروا). . فعرضناه عليهم في صور شتى , وأساليب متعددة , ولفتات متنوعة ; وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم , وأرواحهم وأذهانهم . ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم , وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم . .(ليذكروا). . فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر . والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم , أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها . . (فأبى أكثر الناس إلا كفورا).

ومهمة الرسول [ ص ] إذن ضخمة شاقة , وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى , وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة . .

(ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا). .

فتوزع المشقة , وتخف المهمة ولكن الله اختار لها عبدا واحدا , هو خاتم الرسل , وكلفه إنذار القرى

من الاية 52 الى الاية 52

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52)

جميعا , لتتوحد الرسالة الأخيرة , فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة , وأعطاه القرآن ليجاهدهم به:

(فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا). .

وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان , والتأثير العميق , والجاذبية التي لا تقاوم , ما كان يهز قلوبهم هزا , ويزلزل أرواحهم زلزالا شديدا , فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا .

ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). . وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن ; وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين , والسورة والسورتين , يتلوهما محمد ابن عبد الله [ ص ] فتنقاد إليه النفوس , وتهوى إليه الأفئدة .

ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة , وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن . فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر , وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير , الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير !

قال ابن إسحاق:حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث:أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة . . خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي من الليل في بيبته . فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه , وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فتلاوموا , وقال بعضهم لبعض:لا تعودوا , فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ! ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ! ثم انصرفوا . . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود ! فتعاهدوا على ذلك , ثم تفرقوا .

" فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه . ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال:يا أبا ثعلبة , والله لقد سمعت أشياء أعرفها , وأعرف ما يراد بها ; وسمعت أشياء ما عرفت معناها , ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا والذي حلفت به .

" قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل , فدخل عليه بيته , فقال:يا أبا الحكم , ما رأيك فيما سمعت من محمد ? فقال:ماذا سمعت ?! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا , حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه !!

" قال:فقام عنه الأخنس وتركه " .

فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم , لولا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم , لو اطلع عليهم الناس , وهم مأخوذون شبه مسحورين !

وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط , لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل , فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار , وأن يصد عنه تدفق التيار . وأن فيه من مشاهد القيامة , ومن القصص , ومن مشاهد الكون الناطقة , ومن مصارع الغابرين , ومن قوة التشخيص والتمثيل , لما يهز القلوب هزا لا تملك معه قرارا .

من الاية 53 الى الاية 53

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53)

وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان , وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد !!

فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين , وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن . فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر , ولا يثبت لها جدال أو محال .

الدرس الخامس:53 البحار والأنهار والمياه

وبعد هذه اللفتة يعود إلى مشاهد الكون , فيعقب على مشهد الرياح المبشرة والماء الطهور , بمشهد البحار العذبة والملحة وما بينهما من حجاز:

(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات , وهذا ملح أجاج ; وجعل بينهما برزخا , وحجرا محجورا). .

وهو الذي ترك البحرين , الفرات العذب والملح المر , يجريان ويلتقيان , فلا يختلطان ولا يمتزجان ; إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله . فمجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر , ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح , ولا يقع العكس إلا شذوذا . وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر - وهو أضخم وأغزر - على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات . ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد . إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام .

وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض , ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما .

يقول صاحب كتاب:الإنسان لا يقوم وحده [ العلم يدعو إلى الإيمان ]:

"يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفا من الأميال , ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر . والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن . بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر . ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام , وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية .

"والمريخ له قمر . قمر صغير . لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال . ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا , بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا , فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها . وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة , وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب , وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم .

"وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت , فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف . وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال ? " .

ولكن اليد التي تدبر هذا الكون مرجت البحرين وجعلت بينهما برزخا وحاجزا من طبيعتهما ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم , هذا الجري المقدر المنسق المرسوم .

من الاية 54 الى الاية 56

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (55)

الدرس السادس:التزاوج والتناسل البشري

ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة:

(وهو الذي خلق من الماء بشرا , فجعله نسبا وصهرا , وكان ربك قديرا). .

فمن هذا الماء يتخلق الجنين:ذكرا فهو نسب , وأنثى فهو صهر , بما أنها موضع للصهر .

وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء . فمن خلية واحدة [ من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل ] تتحد ببويضة المرأة في الرحم , ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب . . الإنسان . . أعجب الكائنات الحية على الإطلاق !

ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة , لا يدرك البشر سرها , ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها . فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى , وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات . . ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا , وهذه إلى أن تكون امرأة , في نهاية المطاف ! (وكان ربك قديرا). . وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب !

ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان , لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة , التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله , وللأبوين وأسرتيهما القريبتين , لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة .

وهذه لمحات من كتاب:"الإنسان لا يقوم وحده" عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة:

"كل خلية ذكرا أو أنثى . تحتوى على كروموزومات وجينات [ وحدات الوراثة ] والكروموزومة تكون النوية [ نواة صغيرة ] المعتمة التي تحتوى الجينة . والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان . والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين . وتبلغ الجينات [ وحدات الوراثة ] من الدقة أنها - وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعا , التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها - لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد , لكان حجمها أقل من حجم "الكستبان" !

"وهذه الجينات الميكرسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات . "والكستبان" الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم . ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها .

"وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة [ البروتوبلازم ] إلى الشبه الجنسي , إنما يقص تاريخا مسجلا , قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم .

. . . "لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات , في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية . وهي تحفظ التصميم , وسجل السلف , والخواص التي لكل شيء حي . وهي تتحكمتفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات . تماما كما تقرر الشكل , والقشر , والشعر , والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان" .

وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة , التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة . (وكان ربك قديرا). .

الدرس السابع:55 - 57 دعوة الرسول ومهمته وتوكله على ربه

وفي مثل هذا الجو . جو الخلق والتقدير . وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة . المزودة بتلك الخصائص , التي تجعل من خلية ذكرا بمميزاته كلها ووراثاته , وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها . . في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئا مستغربا مستنكرا تشمئز منه الفطرة . . وهنا يعرض عباداتهم من دون الله .

(ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم . وكان الكافر على ربه ظهيرا). .

(وكان الكافر على ربه ظهيرا). . كل كافر - ومشركو مكة من ضمنهم ! - إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه . فكيف ذلك , وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حربا ولا ضدا على الله ? إنه حرب على دينه . وحرب على منهجه الذي أراده للحياة . إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها , فيصوره حربا على ربه ومولاه !

فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله [ ص ] ورسالته , فلا على الرسول منه , فإنما الحرب مع الله , وهو به كفيل . ثم يطمئن الله عبده , ويخفف العبء عن عاتقة , ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار , وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين . والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله . فليتوكل على ربه . والله أعلم بذنوب عباده !

(وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا . قل:ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا . وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده , وكفى به بذنوب عباده خبيرا). .

وبهذا يحدد واجب الرسول [ ص ] وهو التبشير والإنذار . ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة . وذلك لحكمة يعلمها الله . نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة , وتعيش في نفوسهم , وتترجم في حياتهم , وتتمثل في سلوكهم , لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه . ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشا عن الإسلام , وتغلق قلوبهم دونه ; والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح , ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله .

على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار . إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة , ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة ; فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء: (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا). .

(قل:ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا). .

فليس للرسول [ ص ] من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام . ليست هناك إتاوة , ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم . وهو يدخل في الجماعة المسلمة

من الاية 57 الى الاية 60

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)

بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه . وهذه ميزة الإسلام . ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته , ولا وسيط يقبض ثمن وساطته ; ليس هنالك "رسم دخول" ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال ! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان ; ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان . . ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول [ ص ] هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه ! (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا). . هذا وحده هو أجره . . يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه , فهو يبتغي رضاه , ويتحرى طريقه , ويتجه إلى مولاه .

(وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده). .

وكل ما عدا الله ميت , لأنه صائر إلى موت , فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت . والتوكل على ميت , تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر , هو ارتكان إلى ركن ينهار , وإلى ظل يزول . إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول . . (وسبح بحمده)ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب . . ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء: وكفى به بذنوب عباده خبيرا .

وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض , واستعلاءه على العرش:

الذي خلق السماوات والأرص وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش , الرحمن , فاسأل به خبيرا . .

وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا . فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي , ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض . وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظةSadكن)فتتم الكينونة(فيكون). ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو - إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي . أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ(ثم)لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة . رتبة الاستواء والاستعلاء .

ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمةSadالرحمن). . ومع الرحمة الخبرة: (فاسأل به خبيرا)الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء . فإذا سألت الله , فإنما تسأل خبيرا , لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

الدرس الثامن:60 - 62 رفض الكفار السجود للرحمن وتنزيه الله

ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين , يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار:

(وإذا قيل لهم:اسجدوا للرحمن:قالوا:وما الرحمن ? أنسجد لما تأمرنا ? وزادهم نفورا)!

وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول ; تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول [ ص ] فهم لا يوقرون ربهم , فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية , فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا ? وهم ينفرون من اسم الله الكريم , ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم(الرحمن)ويسألون عنه بما , زيادة في الاستهتار . (قالوا:وما الرحمن ?). ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا:ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة . يعنون به مسيلمة الكذاب !

من الاية 61 الى الاية 62

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62)

ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد الله سبحانه وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته , وعظمة خلقه , وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم .

(تبارك الذي جعل في السماء بروجا . وجعل فيها سراجا , وقمرا منيرا . وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر , أو أراد شكورا). .

والبروج - على الأرجح - منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة . والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين: (وما الرحمن)? فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة ; وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها(سراجا)لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها . وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادى ء اللطيف .

ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما . وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس , وفيهما الكفاية: (لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا). ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس , ويخلف أحدهما أخاه , ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات . بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة .

جاء في كتاب:"الإنسان لا يقوم وحده" [ العلم يدعو إلى الإيمان ] .

"تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة , أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة . والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة . ولم لا ? عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات . و في هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار . وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض !

. فتبارك الذي خلق السماوات والأرض , وخلق كل شيء فقدره تقديرا . وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا .(وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . .

الوحدة الرابعة:63 - 77 الموضوع:أهم صفات عباد الرحمن

من الاية 63 الى الاية 66

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66)

مقدمة الوحدة

هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه "عباد الرحمن" بصفاتهم المميزة , ومقوماتهم الخاصة ; وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال . بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية . وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل , والعزاء المريح لحملة الهدى فيما لا قوه من جحود وصلاة وإعراض ! .

وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم "الرحمن" فهاهم أولاء عباد الرحمن , الذين يعرفون الرحمن , ويستحقون أن ينسبوا إليه , وأن يكونوا عباده . ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم . ها هم أولاء مثلا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام , وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم . وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض , ويوجه إليهم عنايته ; فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم , لولا أن هؤلاء فيهم , ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء .

الدرس الأول:63 عباد الرحمن مشيهم وكلامهم

(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما). .

ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن:أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة , ليس فيها تكلف ولا تصنع , وليس فيها خيلاء ولا تنفج , ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية , وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة , تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها , فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة , وفيها جد وقوة . وليس معنى: (يمشون على الأرض هونا)أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس , متداعي الأركان , متهاوي البنيان ; كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله [ ص ] كان إذا مشى تكفأ تكفيا , وكان أسرع الناس مشية , وأحسنها وأسكنها , قال أبو هريرة:ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله [ ص ] كأن الشمس تجري في وجهه , وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله [ ص ] كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله [ ص ] إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب , وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .

وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة , لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء , ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك , ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما)لا عن ضعف ولكن عن ترفع ; ولا عن عجز إنما عن استعلاء , وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع .

الدرس الثاني:64 - 66 عباد الرحمن ليلهم وتهجدهم ودعائهم

هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله , والشعور بجلاله , والخوف من عذابه .

(والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما . والذين يقولون:ربنا اصرف عنا عذاب جهنم . إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما). .

والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن , في جنح الليل والناس نيام . فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما , يتوجهون لربهم وحده , ويقومون له وحده , ويسجدون له وحده . هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ , بما هو أروح منه وأمتع , مشغولون بالتوجه إلى ربهم , وتعليق أرواحهم وجوارحهم به , ينام الناس وهم قائمون ساجدون ; ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن , ذي الجلال والإكرام .

وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى , والخوف من عذاب جهنم . يقولون: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما). . وما رأوا جهنم , ولكنهم آمنوا بوجودها , وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم . فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق , وثمرة التصديق .

وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم . لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم , ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار , إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته , فيصرف عنهم عذاب جهنم .

والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد , متصدية لكل بشر , فاتحة فاها , تهم أن تلتهم , باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد ! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما , يخافونها ويخشونها , ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها , وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها !

ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: (إن عذابها كان غراما):أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ; فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا . . (إهنا ساءت مستقرا ومقاما)وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم . وأين الاستقرار وهي النار ? وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار !

الدرس الثالث:67 إقتصاد عباد الرحمن في الإنفاق

وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن:

(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا , وكان بين ذلك قواما). .

وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ; ويتجه إليها في التربية والتشريع , يقيم بناءه كله على التوازن والإعتدال .

كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى