تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
من الاية 9 الى الاية 11
إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)
الدرس الثالث:9 - 11 الإهتداء بالقرآن والإنسان العجول
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل , وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ; بل ضلوا فهلكوا . . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما). .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم , فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة , وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء , وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). . (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما)فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر , ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي ?
من الاية 12 الى الاية 16
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
الدرس الرابع:12 - 17 فردية التبعة والحساب يوم القيامة وسنة الله في الإهلاك
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ; والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ; والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب , وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد , ومن قواعد العمل والجزاء ; والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود , يربط بها نشاط البشر وأعمالهم , وجهدهم وجزاءهم , وكسبهم وحسابهم , فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى , محكومة بالنواميس ذاتها , قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف , دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ; مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار:
وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم , ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ; وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى , وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ; ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك , وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا . .
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار , يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال , وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل , ونظام لا يتحول فليس شيء من هذا كله جزافا .
(وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب , وكل شيء فصلناه تفصيلا). .
والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة , ولا يدركه التعطل مرة واحدة , ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار ? يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ; وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .
ذلك المحو لليل والبروز للنهار (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب). . فالليل للراحةوالسكون والجمام , والنهار للسعي والكسب والقيام , ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين , ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات .
(وكل شيء فصلناه تفصيلا)فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل , وهي عليه شاهد ودليل .
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله , أي ما يقسم له من العمل , وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ; على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا , لا يملك إخفاؤه , أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور , فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ; وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب , الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار , ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيباقرأ كتابك . كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ; إن اهتدى فلها , وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى , وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله , ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود , وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم , إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا , مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار:
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة , فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة , حتى تترهل نفوسهم وتأسن , وترتع في الفسق والمجانة , وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات , وتلغ في الأعراض والحرمات , وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا , ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها , وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي , وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها , فتهلك وتطوى صفحتها .
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك , فكثر فيها المترفون ,
من الاية 17 الى الاية 19
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19)
فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم , سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها , فعم فيها الفسق , فتحللت وترهلت , فحقت عليها سنة الله , وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين , ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا , ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك , وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف , وسننا لا تتبدل , وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق , لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته , دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها , وسارت في طريق الانحلال , وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب , ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق , ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح , قرنا بعد قرن , كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير , والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا).
الدرس الخامس:18 - 21 بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها , فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها , فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء , ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق . فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها , ويستمتعون فيها كالأنعام , ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات . ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا).
مذموما بما ارتكب , مدحورا بما انتهى إليه من عذاب .
(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها , فيؤدي تكاليفها , وينهض بتبعاتها , ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني , ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة , إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك إنسان نفسه , فلا يكون عبدا لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا , فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم , وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
من الاية 20 الى الاية 21
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله , الذي خلقه فسواه , وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
على أن هؤلاءوهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله . سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها . وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه , فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا).
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم , ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة ?
(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).
فمن شاء التفاوت الحق , ومن شاء التفاضل الضخم , فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة , والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
الوحدة الثانية:22 - 39 الموضوع:طائفة من التوجيهات والآداب الأخلاقية والإجتماعية
من الاية 22 الى الاية 22
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22)
مقدمة الوحدة في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء , والهدى والضلال , والكسب والحساب . . إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار . وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله , كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج , في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة .
وفي الدرس الماضي ورد (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)وورد: (وكل شيء فصلناه تفصيلا). ففي هذا الدرس يعرض شيئا من أوامر هذا القرآن ونواهيه , مما يهدي للتي هي أقوم , ويفصل شيئا مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة .
يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك , وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده . ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف:بر الوالدين , وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , في غير إسراف ولا تبذير . وتحريم قتل الذرية , وتحريم الزنا , وتحريم القتل . ورعاية مال اليتيم , والوفاء بالعهد , وتوفية الكيل والميزان , والتثبت من الحق , والنهي عن الخيلاء والكبر . . . وينتهي بالتحذير من الشرك . فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه , مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة .
الدرس الأول:22 - 25 النهي عن الشرك والأمر ببر الوالدين مقرونا مع عبادة الله
(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا).
إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته , والأمر عام , ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به , صادر إلى شخصه . فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته , والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن "يقعد"(مذموما)بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها ,(مخذولا)لا ناصر له , ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه . ولفظ(فتقعد)يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد , ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا , وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان , لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع , فهو لفظ مقصود في هذا المكان .
من الاية 23 الى الاية 23
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة(قضى)تخلع على الأمر معنى التوكيد , إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه)فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة , وأقيم الأساس , جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية , ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد , توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة , هي رابطة الأسرة , ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله , إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:
(وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما:أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما , واخفض لهما جناح الذل من الرحمة , وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
بهذه العبارات الندية , والصور الموحية , يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء , توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف , وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات , ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ; كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله , ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد , بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ; وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما). . والكبر له جلاله , وضعف الكبر له إيحاؤه ; وكلمة(عندك)تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما)وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق , وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . (وقل لهما قولا كريما)وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)وهنا يشف التعبير ويلطف , ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا , ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)
الدرس الثالث:9 - 11 الإهتداء بالقرآن والإنسان العجول
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل , وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ; بل ضلوا فهلكوا . . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما). .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم , فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة , وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء , وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). . (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما)فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر , ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي ?
من الاية 12 الى الاية 16
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
الدرس الرابع:12 - 17 فردية التبعة والحساب يوم القيامة وسنة الله في الإهلاك
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ; والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ; والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب , وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد , ومن قواعد العمل والجزاء ; والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود , يربط بها نشاط البشر وأعمالهم , وجهدهم وجزاءهم , وكسبهم وحسابهم , فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى , محكومة بالنواميس ذاتها , قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف , دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ; مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار:
وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم , ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ; وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى , وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ; ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك , وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا . .
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار , يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال , وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل , ونظام لا يتحول فليس شيء من هذا كله جزافا .
(وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب , وكل شيء فصلناه تفصيلا). .
والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة , ولا يدركه التعطل مرة واحدة , ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار ? يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ; وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .
ذلك المحو لليل والبروز للنهار (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب). . فالليل للراحةوالسكون والجمام , والنهار للسعي والكسب والقيام , ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين , ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات .
(وكل شيء فصلناه تفصيلا)فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل , وهي عليه شاهد ودليل .
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله , أي ما يقسم له من العمل , وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ; على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا , لا يملك إخفاؤه , أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور , فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ; وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب , الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار , ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيباقرأ كتابك . كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ; إن اهتدى فلها , وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى , وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله , ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود , وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم , إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا , مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار:
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة , فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة , حتى تترهل نفوسهم وتأسن , وترتع في الفسق والمجانة , وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات , وتلغ في الأعراض والحرمات , وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا , ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها , وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي , وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها , فتهلك وتطوى صفحتها .
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك , فكثر فيها المترفون ,
من الاية 17 الى الاية 19
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19)
فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم , سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها , فعم فيها الفسق , فتحللت وترهلت , فحقت عليها سنة الله , وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين , ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا , ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك , وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف , وسننا لا تتبدل , وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق , لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته , دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها , وسارت في طريق الانحلال , وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب , ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق , ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح , قرنا بعد قرن , كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير , والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا).
الدرس الخامس:18 - 21 بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها , فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها , فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء , ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق . فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها , ويستمتعون فيها كالأنعام , ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات . ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا).
مذموما بما ارتكب , مدحورا بما انتهى إليه من عذاب .
(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها , فيؤدي تكاليفها , وينهض بتبعاتها , ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني , ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة , إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك إنسان نفسه , فلا يكون عبدا لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا , فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم , وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
من الاية 20 الى الاية 21
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله , الذي خلقه فسواه , وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
على أن هؤلاءوهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله . سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها . وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه , فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا).
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم , ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة ?
(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).
فمن شاء التفاوت الحق , ومن شاء التفاضل الضخم , فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة , والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
الوحدة الثانية:22 - 39 الموضوع:طائفة من التوجيهات والآداب الأخلاقية والإجتماعية
من الاية 22 الى الاية 22
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22)
مقدمة الوحدة في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء , والهدى والضلال , والكسب والحساب . . إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار . وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله , كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج , في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة .
وفي الدرس الماضي ورد (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)وورد: (وكل شيء فصلناه تفصيلا). ففي هذا الدرس يعرض شيئا من أوامر هذا القرآن ونواهيه , مما يهدي للتي هي أقوم , ويفصل شيئا مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة .
يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك , وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده . ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف:بر الوالدين , وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , في غير إسراف ولا تبذير . وتحريم قتل الذرية , وتحريم الزنا , وتحريم القتل . ورعاية مال اليتيم , والوفاء بالعهد , وتوفية الكيل والميزان , والتثبت من الحق , والنهي عن الخيلاء والكبر . . . وينتهي بالتحذير من الشرك . فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه , مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة .
الدرس الأول:22 - 25 النهي عن الشرك والأمر ببر الوالدين مقرونا مع عبادة الله
(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا).
إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته , والأمر عام , ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به , صادر إلى شخصه . فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته , والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن "يقعد"(مذموما)بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها ,(مخذولا)لا ناصر له , ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه . ولفظ(فتقعد)يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد , ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا , وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان , لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع , فهو لفظ مقصود في هذا المكان .
من الاية 23 الى الاية 23
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة(قضى)تخلع على الأمر معنى التوكيد , إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه)فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة , وأقيم الأساس , جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية , ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد , توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة , هي رابطة الأسرة , ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله , إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:
(وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما:أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما , واخفض لهما جناح الذل من الرحمة , وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
بهذه العبارات الندية , والصور الموحية , يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء , توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف , وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات , ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ; كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله , ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد , بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ; وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما). . والكبر له جلاله , وضعف الكبر له إيحاؤه ; وكلمة(عندك)تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما)وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق , وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . (وقل لهما قولا كريما)وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)وهنا يشف التعبير ويلطف , ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا , ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه 18\\\\28
» تفسير سورة الاسراء ايه 76\\\\87
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه 18\\\\28
» تفسير سورة الاسراء ايه 76\\\\87
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى