تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1 الى اي8 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 1
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
مقدمة سورة الإسراء
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية , وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ; وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ; وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ; إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به , وطبيعة هذا القرآن , وما يهدي إليه , واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل , وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي , والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس , فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل (وكل شيء فصلناه تفصيلا).
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . .)وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح (إنه كان عبدا شكورا). . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا , تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآنويقولون:سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا). . وتختم السورة بالآية (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا , ولم يكن لهشريك في الملك , ولم يكن له ولي من الذل , وكبره تكبيرا).
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا , يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)مع الكشف عن حكمة الإسراء (لنريه من آياتنا). . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل , من نكبة وهلاك وتشريد مرتين , بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة (وإن عدتم عدنا). . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم , بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال , وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد , ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه , ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله , وعن البعث واستبعادهم لوقوعه , وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر , ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون , فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ; كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس , وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان , وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته , ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل , ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين , بينما الإنسان قليل العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية , ويطلبون نزول الملائكة , ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب , يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة , لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة , ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله , وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض , فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته , وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
الدرس الأول:1 حادثة الإسراء
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى , وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ; وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه , فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل:أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس:الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته , وقص القصة على أم هانى ء وقال:" مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد , فتشبثت أم هانى ء بثوبه , فقال:" مالك ? " قالت:أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال:" وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل , فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل:يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم , فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ; وارتد ناس ممن كان آمن به ; وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال:أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال:فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا:فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال:نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد , فجلى له , فطفق ينظر إليه وينعته لهم , فقالوا:أما النعت فقد أصاب . فقالوا:أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ; وقال:تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم:هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر:وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق , كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه , وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم , وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ; ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة , حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد , أو عالم بعيد ; والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول:إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به , والحق الذي وقع له , جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا , واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس , ولا يتملقون به القوم , ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان , إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته , مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق , إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة , المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله , لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). .
تبدأ السورة بتسبيح الله , أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف , وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية: (أسرى بعبده)لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ; وذلك كي لا تنسى هذه الصفة , ولا يلتبس مقام العبودية , بمقام الألوهية , كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام , بسبب ما لابس مولده ووفاته , وبسبب الآيات التي أعطيت له , فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة , من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى:السير ليلا . فكلمة(أسرى)تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن , ويخيم جوه الساجي على النفس , وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير , تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام , إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله , واشتمال رسالته على هذه المقدسات , وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ; وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ; وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه (الذي باركنا حوله)وصف يرسم البركة حافة بالمسجد , فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل:باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا)والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله , تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ; وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري , والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس , الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه , وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . (إنه هو السميع البصير). . يسمع ويرى كل ما لطف ودق , وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله: (لنريه من آياتنا)إلى صيغة الوصف لله: (إنه هو السميع البصير)وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
الدرس الثاني:2 - 8 نوح وموسى وإفسادات لبني إسرائيل
هذا الإسراء آية من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجها منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم , وأمددناكم بأموال وبنين , وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم , وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم , وإن عدتم عدنا , وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ; ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها , وفاقا
من الاية 2 الى الاية 5
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5)
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى - التوراة - وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر - نوح - العبد الشكور , وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة , ولم يحمل معه إلا المؤمنون:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا). .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: (هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا)فلا يعتمدوا إلا على الله وحده , ولا ليتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى , وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح , وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين , مع نوح العبد الشكور , وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر , هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل , أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض , تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا). .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم , حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ; لا أنه قضاء قهري عليهم , تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء)إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن , وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد , ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين , وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:
(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا).
فهذه هي الأولى:يعلون في الأرض المقدسة , ويصبح لهم فيها قوة وسلطان , فيفسدون فيها . فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد , وأولي بطش وقوة , يستبيحون الديار , ويروحون فيها ويغدون باستهتار , ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب (وكان وعدا مفعولا)لا يخلف ولا يكذب .
من الاية 6 الى الاية 8
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل ; فرجعوا إلى ربهم , وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم . وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم , فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض , أدال الله للمغلوبين من الغالبين , ومكن للمستضعفين من المستكبرينثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا). .
ثم تتكرر القصة من جديد !
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء:
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ; والتي تجعل عمل الإنسان كله له , بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل , منه تنتج , وبه تتكيف ; وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه , إن شاء أحسن إليها , وإن شاء أساء , لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة:
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا). .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض , اكتفاء بذكره من قبل: (لتفسدن في الأرض مرتين)ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه , أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار (وليتبروا ما علوا تتبيرا). . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء , والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد , فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة , ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض , ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل , لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود .
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول , بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة: (عسى ربكم أن يرحمكم)إن أفدتم منه عبرة .
فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى فساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: (وإن عدتم عدنا). .
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين , حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب , تصديقا لوعد الله القاطع , وفاقا لسنته التي لا تتخلف . . وإن غدا لناظره قريب !
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
(وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ; وتتسع لهم فلا يند عنها أحد
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
مقدمة سورة الإسراء
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية , وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ; وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ; وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ; إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به , وطبيعة هذا القرآن , وما يهدي إليه , واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل , وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي , والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس , فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل (وكل شيء فصلناه تفصيلا).
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . .)وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح (إنه كان عبدا شكورا). . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا , تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآنويقولون:سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا). . وتختم السورة بالآية (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا , ولم يكن لهشريك في الملك , ولم يكن له ولي من الذل , وكبره تكبيرا).
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا , يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)مع الكشف عن حكمة الإسراء (لنريه من آياتنا). . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل , من نكبة وهلاك وتشريد مرتين , بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة (وإن عدتم عدنا). . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم , بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال , وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد , ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه , ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله , وعن البعث واستبعادهم لوقوعه , وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر , ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون , فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ; كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس , وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان , وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته , ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل , ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين , بينما الإنسان قليل العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية , ويطلبون نزول الملائكة , ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب , يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة , لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة , ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله , وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض , فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته , وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
الدرس الأول:1 حادثة الإسراء
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى , وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ; وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه , فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل:أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس:الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته , وقص القصة على أم هانى ء وقال:" مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد , فتشبثت أم هانى ء بثوبه , فقال:" مالك ? " قالت:أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال:" وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل , فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل:يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم , فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ; وارتد ناس ممن كان آمن به ; وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال:أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال:فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا:فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال:نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد , فجلى له , فطفق ينظر إليه وينعته لهم , فقالوا:أما النعت فقد أصاب . فقالوا:أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ; وقال:تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم:هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر:وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق , كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه , وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم , وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ; ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة , حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد , أو عالم بعيد ; والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول:إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به , والحق الذي وقع له , جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا , واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس , ولا يتملقون به القوم , ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان , إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته , مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق , إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة , المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله , لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). .
تبدأ السورة بتسبيح الله , أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف , وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية: (أسرى بعبده)لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ; وذلك كي لا تنسى هذه الصفة , ولا يلتبس مقام العبودية , بمقام الألوهية , كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام , بسبب ما لابس مولده ووفاته , وبسبب الآيات التي أعطيت له , فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة , من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى:السير ليلا . فكلمة(أسرى)تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن , ويخيم جوه الساجي على النفس , وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير , تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام , إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله , واشتمال رسالته على هذه المقدسات , وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ; وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ; وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه (الذي باركنا حوله)وصف يرسم البركة حافة بالمسجد , فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل:باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا)والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله , تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ; وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري , والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس , الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه , وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . (إنه هو السميع البصير). . يسمع ويرى كل ما لطف ودق , وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله: (لنريه من آياتنا)إلى صيغة الوصف لله: (إنه هو السميع البصير)وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
الدرس الثاني:2 - 8 نوح وموسى وإفسادات لبني إسرائيل
هذا الإسراء آية من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجها منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم , وأمددناكم بأموال وبنين , وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم , وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم , وإن عدتم عدنا , وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ; ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها , وفاقا
من الاية 2 الى الاية 5
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5)
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى - التوراة - وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر - نوح - العبد الشكور , وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة , ولم يحمل معه إلا المؤمنون:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا). .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: (هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا)فلا يعتمدوا إلا على الله وحده , ولا ليتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى , وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح , وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين , مع نوح العبد الشكور , وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر , هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل , أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض , تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا). .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم , حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ; لا أنه قضاء قهري عليهم , تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء)إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن , وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد , ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين , وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:
(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا).
فهذه هي الأولى:يعلون في الأرض المقدسة , ويصبح لهم فيها قوة وسلطان , فيفسدون فيها . فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد , وأولي بطش وقوة , يستبيحون الديار , ويروحون فيها ويغدون باستهتار , ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب (وكان وعدا مفعولا)لا يخلف ولا يكذب .
من الاية 6 الى الاية 8
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل ; فرجعوا إلى ربهم , وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم . وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم , فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض , أدال الله للمغلوبين من الغالبين , ومكن للمستضعفين من المستكبرينثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا). .
ثم تتكرر القصة من جديد !
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء:
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ; والتي تجعل عمل الإنسان كله له , بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل , منه تنتج , وبه تتكيف ; وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه , إن شاء أحسن إليها , وإن شاء أساء , لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة:
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا). .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض , اكتفاء بذكره من قبل: (لتفسدن في الأرض مرتين)ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه , أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار (وليتبروا ما علوا تتبيرا). . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء , والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد , فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة , ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض , ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل , لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود .
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول , بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة: (عسى ربكم أن يرحمكم)إن أفدتم منه عبرة .
فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى فساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: (وإن عدتم عدنا). .
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين , حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب , تصديقا لوعد الله القاطع , وفاقا لسنته التي لا تتخلف . . وإن غدا لناظره قريب !
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
(وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ; وتتسع لهم فلا يند عنها أحد
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاسراء ايه 9 الى اي 23 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1\\\\\8
» تفسير سورة الاسراء ايه 50\\59
» تفسير سورة الاسراء اي 44 الى ايه 65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه66 الى ايه 81 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاسراء ايه رقم 1\\\\\8
» تفسير سورة الاسراء ايه 50\\59
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى