تفسيرسوره الانعام ايه 137==145 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسيرسوره الانعام ايه 137==145 الشيخ سيد قطب
من الاية 137 الى الاية 137
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبساً غامضاً لا يقفون منه على تصور واضح . . فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ; ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها , وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا , وفق أهوائهم ومصالحهم ! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك , فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع . لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها -بكل ثقلها وعمقها , تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها , وتنشى ثقلاً ساحقاً لا تقف له جماهير الناس . ما لم تعتصم منه بدين واضح ; وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت .
وهذه التصورات المبهمة الغامضة ; وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها , ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق . . لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة . فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة . . هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم , ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً , وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة , وتأكل حياتهم واهتماماتهم , ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم . ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها . . أزياء الصباح , وأزياء بعد الظهر , وأزياء المساء . . الأزياء القصيرة , والأزياء الضيقة , والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف . . . إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ . . من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه ? تقف وراءه بيوت الأزياء . وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! . . ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف , إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها , ويؤصلونها بنظريات وثقافات ; ويطلقونها تضغط على الناس في صورة [ عرف اجتماعي ] . فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم , وأوضاع مجتمع , وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس , لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه !
إنه فعل الشياطين . . شياطين الإنس والجن . . وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها , وتتحد جذورها ومنابعها , وتتماثل قوائمها وقواعدها . .
وإننا لنبخس القرآن قدره , إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت ! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم . .
ومع ضخامة الكيد , وثقل الواقع , فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية , ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر . . إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه . وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم . ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلاً ; بمشيئة الله وقدره , تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده . ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه . ولكنه شاء للابتلاء . فلا على النبي [ ص ] ولا على المؤمنين . فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون:
(ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون). .
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا:إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم . إنما يفترون على الله , فيزعمون أنه هو شرعها لهم . . ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم ! كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة . . إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين ;
من الاية 138 الى الاية 139
وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية . إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب ! يقولون:إنهم يحترمون الدين ! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين ! . . إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين ! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام , فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية . وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب !
ثم يجيء "المتحمسون" لهذا الدين ; فيفرغون جهدهم في استنكار جزيئات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية , لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة , المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة . وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام . ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقاً , ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة !
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها . وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة , التي تلبس مسوح الدين ! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن !
(وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر , لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون). .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:" وهذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين . إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم , من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك " .
والحجر:الحرام . . فهؤلاء المعتدون على سلطان الله , الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة الله , قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام , فعزلوها لآلهتهم - كما تقدم - وقالوا:هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها . لا يطعمها إلا من شاء الله ! - بزعمهم ! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء ! وعمدوا إلى أنعام قيل:إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فجعلوا ظهورها حراما على الركوب . كما عمدوا إلى أنعام فقالوا:هذه لا يذكر اسم الله عليها عند ركوبها ولا عند حلبها , ولا عند ذبحها . . إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها ! كل ذلك (افتراء على الله)!
قال أبو جعفر بن جرير:" وأما قوله (افتراء على الله )فإنه يقول:فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا , وقالوا ما قالوا من ذلك , كذباً على الله , وتخرصاً بالباطل عليه , لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك , على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه , إلى أن الله هو الذي حرمه , فنفى الله ذلك عن نفسه , وأكذبهم . وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون " .
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية , التي تتكرر في معظم الجاهليات , وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود ! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله البتة , أن يجهروا بأن "الدين" مجرد "عقيدة " وليس نظاماً اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا , يهيمن على الحياة !
وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً , الحاكمية فيه للبشر لا لله , ثمتزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية . . أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق ! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله . بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك ! . . لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض , ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجاً يؤثر في بقية المنطقة . لقد انخلعت من الدين , فأصبحت أجنبية عن الجميع , الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم . . ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية , التي تستهدف نفس الهدف , أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية . فتضع على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة , سواء بالدعاية المباشرة ; أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم ! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين . .
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة , وبكل تضامنها وتجمعها , وبكل تجاربها وخبرتها , تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها , بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي ! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها [ علمانية ] تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً !
ويجهد المستشرقون [ وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني ] في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً . . ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدوداً . . وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض . . ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية ! ومن تبديل الدين باسم الدين ! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا . ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة ; وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية . . الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام , من الكيد للإسلام !
. . (سيجزيهم بما كانوا يفترون). .
(وقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم , إنه حكيم عليم). .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات , النابعة من انحرافات الشرك والوثنية , ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال ; مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج , محرمة على الإناث , إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل , إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام .
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد ; لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله:
(سيجزيهم وصفهم). .
(إنه حكيم عليم). .
من الاية 140 الى الاية 140
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140)
يعلم حقائق الأحوال , ويتصرف فيها بحكمة , لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
وإن الإنسان ليعجب , وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات , وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه , تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم , فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها , والسير فيها بلا ضابط , سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح ; يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ; ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ; ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ; ويطلق "الإنسان" من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين , وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة , وتصورا واضحا ميسرا مريحا , ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة , وانطلاقا من العبودية للعبيد , وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء !
ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم ; وتتردى في حمأة الجاهلية ; وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد:
(قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين). .
خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره ; وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد ; حين أسلموها لحاكمية العبيد ! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة , خسروا الخسارة المؤكدة , وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه:
(قد ضلوا وما كانوا مهتدين).
الدرس الثاني:141 - 142 نعمة الله في الحيوانات والمزروعات
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها , والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا). . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ; ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام , متاعا للناس ونعمة ; ذرأها لهم ليشكروا له ; ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم , فهو الغني ذو الرحمة ; إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً , فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ? وما بالهم يجعلون لله نصيبا , ولأولئك نصيبا , ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين - في النصيب الذي جعلوه لله ?!
إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده , لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !
(وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات , والنخل والزرع مختلفا أكله , والزيتون والرمان , متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر , وآتوا حقه يوم حصاده , ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن
من الاية 141 الى الاية 142
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142)
الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله , ولا تتبعوا خطوات الشيطان , إنه لكم عدو مبين).
إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ; ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان , منوع الصنوف متشابها وغير متشابه , وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها(حمولة)عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها(فرشا)صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ; ونوّعها هذا التنويع ; وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ?
إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس , ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ; هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال:
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار , ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية , كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .
وعندما يذكر الزروع والثمار يقول:
(كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا , إنه لا يحب المسرفين). .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة:إن الآية مكية , لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده , لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .
وقوله تعالى:
(ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). .
ينصرف إلى العطاء , كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا , فقال الله سبحانه: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). .
وعندما يذكر الأنعام يقول:
كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا , ولا تتبعوا خطوات الشيطان , إنه لكم عدو مبين . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه , والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ? ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ?!
من الاية 143 الى الاية 144
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
الدرس الثالث:143 - 144 تكذيب الجاهلين في تشريعاتهم وتحريمهم
ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية , ليلقي عليها الضوء , ويستعرضها واحدا واحدا , وجزئية جزئية ; فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه ; والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه , حين يكشف له في النور ; وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير:
ثمانية أزواج:من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . قل:آلذكرين حرم أم الأنثيين ? أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ? نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . قل:آلذكرين حرم أم الأنثيين ? أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ? أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل ; والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم , هي ثمانية أزواج - وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عندما يكون مع رفيقه - زوج من الضأن وزوج من المعز . فأي منها حرمه الله على أي من الناس ? أم إنه حرم أجنتها في البطون ?
(نبئوني بعلم إن كنتم صادقين). .
فهذه الشئون لا يفتى فيها بالظن , ولا يقضى فيها بالحدس , ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم .
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل ; وذكر وأنثى من البقر . فأيها كذلك حرم ? أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس ? ومن أين هذا التحريم:
(أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ?). .
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم . فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن , لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون .
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد . . وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه . لذلك يعاجلهم بالتحذير والتهديد:
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها , ثم يقول:شريعة الله ! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم , إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن . . أولئك لن يهديهم الله ; فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى . وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . . والله لا يهدي القوم الظالمين . .
الدرس الرابع:145 - 147 نماذج من التشريع الإلهي في المحرمات
والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم , أو بوحي شياطينهم وشركائهم , بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم , إنما الذي خلقها لهم هو الله , الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق , وفيما أعطى من الأموال للعباد . .
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي , لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية , الذي إذا حرم الشيء فهو حرام , وإذا أحله فهو حلال ; بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة , وأحله للمسلمين , فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله !
من الاية 145 الى الاية 145
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145)
(قل:لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه , إلا أن يكون ميتة , أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل:ربكم ذو رحمة واسعة , ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين). .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:
" يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد [ ص ] قل , يا محمد , لهؤلاء الذين جعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً , ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها , والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم , ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله ; وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم:أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم , فأنبئونا به , أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له , فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه ? فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك , ولا يمكنكم دعواه , لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم . فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله , مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون(ميتة), قد ماتت بغير تذكية , أو (دماً مسفوحاً), وهو المنصبّ , أو إلا أن يكون لحم خنزير (فإنه رجس). . (أو فسقا)" يقول:أو إلا أن يكون فسقاً , يعني بذلك:أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق , نهى الله عنه وحرمه , ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .
"وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به , أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله , وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله ; وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله" . .
وقال في تأويل قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم):
. . . "أن معناه:فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير , أو ما أهل لغير الله به , غير باغ في أكله إياه تلذذاً , لا لضرورة حالة من الجوع ; ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله , وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . (فإن الله غفور)فيما فعل من ذلك , فساتر عليه , بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبة عليه .(رحيم)بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه" .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات ; والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقد عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلات الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبساً غامضاً لا يقفون منه على تصور واضح . . فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ; ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها , وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا , وفق أهوائهم ومصالحهم ! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك , فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع . لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها -بكل ثقلها وعمقها , تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها , وتنشى ثقلاً ساحقاً لا تقف له جماهير الناس . ما لم تعتصم منه بدين واضح ; وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت .
وهذه التصورات المبهمة الغامضة ; وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها , ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق . . لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة . فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة . . هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم , ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً , وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة , وتأكل حياتهم واهتماماتهم , ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم . ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها . . أزياء الصباح , وأزياء بعد الظهر , وأزياء المساء . . الأزياء القصيرة , والأزياء الضيقة , والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف . . . إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ . . من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه ? تقف وراءه بيوت الأزياء . وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! . . ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف , إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها , ويؤصلونها بنظريات وثقافات ; ويطلقونها تضغط على الناس في صورة [ عرف اجتماعي ] . فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم , وأوضاع مجتمع , وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس , لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه !
إنه فعل الشياطين . . شياطين الإنس والجن . . وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها , وتتحد جذورها ومنابعها , وتتماثل قوائمها وقواعدها . .
وإننا لنبخس القرآن قدره , إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت ! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم . .
ومع ضخامة الكيد , وثقل الواقع , فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية , ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر . . إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه . وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم . ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلاً ; بمشيئة الله وقدره , تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده . ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه . ولكنه شاء للابتلاء . فلا على النبي [ ص ] ولا على المؤمنين . فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون:
(ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون). .
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا:إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم . إنما يفترون على الله , فيزعمون أنه هو شرعها لهم . . ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم ! كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة . . إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين ;
من الاية 138 الى الاية 139
وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية . إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب ! يقولون:إنهم يحترمون الدين ! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين ! . . إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين ! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام , فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية . وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب !
ثم يجيء "المتحمسون" لهذا الدين ; فيفرغون جهدهم في استنكار جزيئات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية , لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة , المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة . وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام . ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقاً , ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة !
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها . وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة , التي تلبس مسوح الدين ! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن !
(وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر , لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون). .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:" وهذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين . إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم , من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك " .
والحجر:الحرام . . فهؤلاء المعتدون على سلطان الله , الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة الله , قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام , فعزلوها لآلهتهم - كما تقدم - وقالوا:هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها . لا يطعمها إلا من شاء الله ! - بزعمهم ! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء ! وعمدوا إلى أنعام قيل:إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فجعلوا ظهورها حراما على الركوب . كما عمدوا إلى أنعام فقالوا:هذه لا يذكر اسم الله عليها عند ركوبها ولا عند حلبها , ولا عند ذبحها . . إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها ! كل ذلك (افتراء على الله)!
قال أبو جعفر بن جرير:" وأما قوله (افتراء على الله )فإنه يقول:فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا , وقالوا ما قالوا من ذلك , كذباً على الله , وتخرصاً بالباطل عليه , لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك , على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه , إلى أن الله هو الذي حرمه , فنفى الله ذلك عن نفسه , وأكذبهم . وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون " .
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية , التي تتكرر في معظم الجاهليات , وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود ! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله البتة , أن يجهروا بأن "الدين" مجرد "عقيدة " وليس نظاماً اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا , يهيمن على الحياة !
وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً , الحاكمية فيه للبشر لا لله , ثمتزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية . . أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق ! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله . بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك ! . . لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض , ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجاً يؤثر في بقية المنطقة . لقد انخلعت من الدين , فأصبحت أجنبية عن الجميع , الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم . . ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية , التي تستهدف نفس الهدف , أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية . فتضع على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة , سواء بالدعاية المباشرة ; أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم ! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين . .
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة , وبكل تضامنها وتجمعها , وبكل تجاربها وخبرتها , تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها , بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي ! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها [ علمانية ] تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً !
ويجهد المستشرقون [ وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني ] في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً . . ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدوداً . . وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض . . ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية ! ومن تبديل الدين باسم الدين ! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا . ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة ; وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية . . الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام , من الكيد للإسلام !
. . (سيجزيهم بما كانوا يفترون). .
(وقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم , إنه حكيم عليم). .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات , النابعة من انحرافات الشرك والوثنية , ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال ; مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج , محرمة على الإناث , إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل , إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام .
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد ; لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله:
(سيجزيهم وصفهم). .
(إنه حكيم عليم). .
من الاية 140 الى الاية 140
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140)
يعلم حقائق الأحوال , ويتصرف فيها بحكمة , لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
وإن الإنسان ليعجب , وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات , وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه , تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم , فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها , والسير فيها بلا ضابط , سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح ; يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ; ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ; ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ; ويطلق "الإنسان" من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين , وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة , وتصورا واضحا ميسرا مريحا , ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة , وانطلاقا من العبودية للعبيد , وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء !
ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم ; وتتردى في حمأة الجاهلية ; وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد:
(قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين). .
خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره ; وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد ; حين أسلموها لحاكمية العبيد ! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة , خسروا الخسارة المؤكدة , وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه:
(قد ضلوا وما كانوا مهتدين).
الدرس الثاني:141 - 142 نعمة الله في الحيوانات والمزروعات
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها , والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا). . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ; ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام , متاعا للناس ونعمة ; ذرأها لهم ليشكروا له ; ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم , فهو الغني ذو الرحمة ; إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً , فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ? وما بالهم يجعلون لله نصيبا , ولأولئك نصيبا , ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين - في النصيب الذي جعلوه لله ?!
إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده , لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !
(وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات , والنخل والزرع مختلفا أكله , والزيتون والرمان , متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر , وآتوا حقه يوم حصاده , ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن
من الاية 141 الى الاية 142
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142)
الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله , ولا تتبعوا خطوات الشيطان , إنه لكم عدو مبين).
إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ; ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان , منوع الصنوف متشابها وغير متشابه , وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها(حمولة)عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها(فرشا)صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ; ونوّعها هذا التنويع ; وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ?
إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس , ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ; هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال:
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار , ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية , كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .
وعندما يذكر الزروع والثمار يقول:
(كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا , إنه لا يحب المسرفين). .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة:إن الآية مكية , لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده , لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .
وقوله تعالى:
(ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). .
ينصرف إلى العطاء , كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا , فقال الله سبحانه: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). .
وعندما يذكر الأنعام يقول:
كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا , ولا تتبعوا خطوات الشيطان , إنه لكم عدو مبين . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه , والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ? ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ?!
من الاية 143 الى الاية 144
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
الدرس الثالث:143 - 144 تكذيب الجاهلين في تشريعاتهم وتحريمهم
ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية , ليلقي عليها الضوء , ويستعرضها واحدا واحدا , وجزئية جزئية ; فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه ; والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه , حين يكشف له في النور ; وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير:
ثمانية أزواج:من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . قل:آلذكرين حرم أم الأنثيين ? أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ? نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . قل:آلذكرين حرم أم الأنثيين ? أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ? أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل ; والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم , هي ثمانية أزواج - وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عندما يكون مع رفيقه - زوج من الضأن وزوج من المعز . فأي منها حرمه الله على أي من الناس ? أم إنه حرم أجنتها في البطون ?
(نبئوني بعلم إن كنتم صادقين). .
فهذه الشئون لا يفتى فيها بالظن , ولا يقضى فيها بالحدس , ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم .
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل ; وذكر وأنثى من البقر . فأيها كذلك حرم ? أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس ? ومن أين هذا التحريم:
(أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ?). .
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم . فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن , لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون .
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد . . وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه . لذلك يعاجلهم بالتحذير والتهديد:
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها , ثم يقول:شريعة الله ! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم , إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن . . أولئك لن يهديهم الله ; فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى . وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . . والله لا يهدي القوم الظالمين . .
الدرس الرابع:145 - 147 نماذج من التشريع الإلهي في المحرمات
والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم , أو بوحي شياطينهم وشركائهم , بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم , إنما الذي خلقها لهم هو الله , الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق , وفيما أعطى من الأموال للعباد . .
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي , لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية , الذي إذا حرم الشيء فهو حرام , وإذا أحله فهو حلال ; بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة , وأحله للمسلمين , فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله !
من الاية 145 الى الاية 145
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145)
(قل:لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه , إلا أن يكون ميتة , أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل:ربكم ذو رحمة واسعة , ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين). .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:
" يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد [ ص ] قل , يا محمد , لهؤلاء الذين جعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً , ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها , والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم , ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله ; وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم:أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم , فأنبئونا به , أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له , فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه ? فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك , ولا يمكنكم دعواه , لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم . فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله , مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون(ميتة), قد ماتت بغير تذكية , أو (دماً مسفوحاً), وهو المنصبّ , أو إلا أن يكون لحم خنزير (فإنه رجس). . (أو فسقا)" يقول:أو إلا أن يكون فسقاً , يعني بذلك:أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق , نهى الله عنه وحرمه , ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .
"وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به , أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله , وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله ; وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله" . .
وقال في تأويل قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم):
. . . "أن معناه:فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير , أو ما أهل لغير الله به , غير باغ في أكله إياه تلذذاً , لا لضرورة حالة من الجوع ; ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله , وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . (فإن الله غفور)فيما فعل من ذلك , فساتر عليه , بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبة عليه .(رحيم)بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه" .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات ; والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقد عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلات الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .
مواضيع مماثلة
» تفسيرسوره الانعام ايه119-==129 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى