تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
من الاية 52 الى الاية 52
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد , والحب , والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله , إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب , وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من "أشراف" العرب , أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ; لأن محمدا [ ص ] يؤوي إليه الفقراء الضعاف , من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ; ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله [ ص ] أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر , لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف , كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم [ ص ] رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). .
روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص , قال:كنا مع النبي [ ص ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ ص ]:اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال:وكنت أنا وابن مسعود , ورجل من هذيل , وبلال , ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله [ ص ] ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). .
ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف , الذين يخصهم رسول الله [ ص ] بمجلسه وبعنايته ; وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله [ ص ] من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ; ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا:
(ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء , فتطردهم فتكون من الظالمين). .
فإن حسابهم على أنفسهم , وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله , لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله , ولا تقوم بقيمة . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله [ ص ] أن يكون من الظالمين !
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله [ ص ] وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ; والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون:كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ? إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ; ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ; والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين ; وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية , مشرقة الآفاق , مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ;
من الاية 53 الى الاية 55
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ; وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !
(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ?). .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء:
(أليس الله بأعلم بالشاكرين)?
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات:
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة , التي لا كفاء لها من شكر العبد , ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
ويمضي السياق يأمر رسول الله [ ص ] وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالاسلام ; والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة ; متمثلا في معفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح:
(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة , ثم تاب من بعده وأصلح , فأنه غفور رحيم). .
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب , والرحمة في الجزاء , حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ; ويأمر رسوله [ ص ] أن يبلغهم ما كتبه ربهم عل نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله , متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب ; فما يذنب الإنسان إلا من جهالة ; وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه ; متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده , مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . .
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات ; وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك ; والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا . .
قال أبو جعفر الطبري:حدثنا هناد بن السري , حدثنا أبو زبيد , عن أشعث , عن كردوس الثعلبي , عن ابن مسعود , قال:مر الملأ من قريش بالنبي [ ص ] وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب , ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا:يا محمد , رضيت بهؤلاء من قومك ? أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ? أنحن نكون تبعا لهؤلاء ? اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! فنزلت هذه الآية: (ولا تطردالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . (وكذلك فتنا بعضهم ببعض)إلى آخر الآية .
وقال:حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي , قال:حدثنا أبي , حدثنا أسباط , عن السدي , عن أبى سعيد الأزدي - وكان قارى ء الأزد - عن أبى الكنود , عن خباب في قول الله تعالى ذكره: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . إلى قوله: فتكون من الظالمين . . قال:جاء الأقرع ابن حابس التميمي , وعيينة بن حصن الفزاري , فوجد النبي [ ص ] قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب , في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا , فإن وفود العرب تأتيك , فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ; فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ; فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ! قال:نعم ! قالوا:فاكتب لنا عليك بذلك كتابا . قال:فدعا بالصحيفة , ودعا عليا ليكتب . قال:ونحن قعود في ناحية , إذ نزل جبريل بهذه الآية:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء , فتطردهم , فتكون من الظالمين). . ثم قال(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ? أليس الله بأعلم بالشاكرين ?). . ثم قال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة). . فألقى رسول الله [ ص ] الصحيفة من يده ; ثم دعانا فأتيناه وهو يقول:" سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة " . . فكنا نقعد معه , فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا). . [ سورة الكهف:28 ] قال:فكان رسول الله [ ص ] يقعد معنا بعد , فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم !
وكان [ ص ] بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام , وقال:" الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام " .
وفي صحيح مسلم:عن عائذ بن عمرو , أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال , ونفر . فقالوا:والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ! قال:فقال أبو بكر:أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ? فأتى النبي [ ص ] فأخبره . فقال:" يا أبا بكر , لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال:يا إخوتاه , أغضبتكم ? قالوا:لا يغفر الله لك يا أخي . .
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص . . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادى ء وقيم ونظريات في "حقوق الإنسان ! " . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقة . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين , فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ; ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ; ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشرالواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ; ما دام أنها قد بلغته ; فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق , والبشرية هي البشرية ; وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب , إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها , وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها !
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قوله:"الملأ" من قريش:"يا محمد , رضيت بهؤلاء من قومك ? أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ? أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ? اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! " . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي , وعيينة بن حصن الفزاري , للسابقين من أصحاب رسول الله [ ص ] بلال , وصهيب , وعمار , وخباب , وأمثالهم من الضعفاء ; وقولهما للنبي [ ص ]:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ; فإن وفود العرب تأتيك , فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ! " . .
. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح ! وقيمها الهزيلة , واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب ! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف ! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء ! . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية ! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية !
هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام ! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة , ولهذه النعرات السخيفة ! . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة . . الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد [ ص ] محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء ; والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله [ ص ] ; في شأن "هؤلاء الأعبد" . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد ; وصاروا أعبدا لله وحده ; فكان من أمرهم ما كان !
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش , وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير , لرسوله [ ص ] -:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ? أليس الله بأعلم بالشاكرين ? وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة:أنه من عمل منكم سوءا بجهالة , ثم تاب من بعده وأصلح , فأنه غفور رحيم). .
ويتمثل في سلوك رسول الله [ ص ] مع "هؤلاء الأعبد" . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله , وأعظم من شرفت بهم الحياة !
ثم يتمثل في نظرة "هؤلاء الأعبد" لمكانهم عند الله ; ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها "سيوف الله" ونظرتهملأبي سفيان "شيخ قريش وسيدهم" بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله [ ص ] وقدمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبى سفيان , حذره صاحبه رسول الله [ ص ] أن يكون قد أغضب "هؤلاء الأعبد" ! فيكون قد أغضب الله - يا الله ! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه ! ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى "الأعبد" ليرضى الله:"يا إخوتاه . أغضبتكم" ? فيقولون:"لا يا أخي . يغفر الله لك" !
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية ? أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس ? أي تبدل في القيم والأوضاع , وفي المشاعر والتصورات , في آن ? والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة , والناس هم الناس , والاقتصاد هو الاقتصاد . . وكل شيء على ما كان , إلا أن وحيا نزل من السماء , على رجل من البشر , فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام , ويحدو للهابطين هنالك عند السفح , فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام !
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة ; وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك , وواشنطن , وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض "الحضارة ! " تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون , وتقوم هنا وهناك عصبيات "وطنية " و"قومية " و"طبقية " لا تقل نتنا عن تلك العصبيات . .
ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل , وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء ; وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين ; وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك "الوقفة الطويلة " التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية ; وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط , إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء "الحضارة المادية " الخاوية من الروح والعقيدة ! . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى ; بعد أن فشلت جميع التجارب , وجميع المذاهب , وجميع الأوضاع , وجميع الأنظمة , وجميع الأفكار ; وجميع التصورات , التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة ; وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة ; وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح ; وبلا اضطهادات ; وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية ; وبلا رعب , وبلا فزع , وبلا تعذيب , وبلا جوع , وبلا فقر , وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ; ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله . .
فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها , وتسكبها في القلوب المستنيرة .
(وكذلك نفصل الآيات , ولتستبين سبيل المجرمين). .
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة . كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف ; وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية ; والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .
(وكذلك نفصل الآيات). .
بمثل هذا المنهج , وبمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا البيان والتفصيل . . تفصل الآيات , التي لا تدع في هذا الحق ريبة ; ولا تدع في هذا الأمر غموضا ; ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق ; فالحق واضح , والأمر بين , بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ; ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع , يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى:
(وكذلك نفصل الآيات). .
الدرس الثالث:استبانة سبيل المجرمين
أما ختام هذه الآية القصيرة:
(ولتستبين سبيل المجرمين). .
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين). . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدغبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائما , وهذا الوضوح كان كاملا , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول [ ص ] ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام , يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته . . ثم اذا هذه الارض , واذا هذه الاقوام , تهجر الاسلام حقيقة , وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبحالجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين" !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم , لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألا تقعدهم عنها لومة لائم , ولا صيحة صائح:انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . .
(وكذلك نفصل الآيات , ولتستبين سبيل المجرمين). .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة , ولا يعوقها غبش , ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق , وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين:
(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين). .
. . وصدق الله العظيم . .
الوحدة الثامنة:56 - 65 الموضوع:مجالات وميادين دالة على حقيقة الألوهية والوحدانية
الأنعام
من الاية 56 الى الاية 56
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
مقدمة الوحدة مجالات حقيقة الألوهية
هذه الموجه عودة إلى "حقيقة الألوهية " بعد بيان "حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول" في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم ; وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين - كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة .
وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى ; نجملها هنا - قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية:
تتجلى في قلب رسول الله [ ص ] وهو يجد في نفسه بينة من ربه , هو منها على يقين , لا يزعزعه تكذيب المكذبين . ومن ثم يخلص نفسه لربه , ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه (قل:إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل:لا أتبع أهواءكم , قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . قل:إني على بينة من ربي وكذبتم به . ما عندي ما تستعجلون به , إن الحكم إلا الله , يقص الحق وهو خير الفاصلين). .
وتتجلى في حلم الله على المكذبين , وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها - كما جرت سنته تعالى - وهو قادر عليه . ولو كان رسول الله [ ص ] يملك هذا الذي يستعجلون به , ما أمسكه عنهم , ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم . فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته , كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيتهقل:لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم , والله أعلم بالظالمين). .
وتتجلى في علم الله بالغيب ; وإحاطة هذاالعلم بكل ما يقع في هذا الوجود ; في صورة لا تكون إلا لله ; ولا يصورها هكذا إلا اللهوعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو , ويعلم ما في البر والبحر , وما تسقط من ورقة إلا يعلمها . ولا حبة في ظلمات الأرض , ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). .
وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم , في النوم والصحو , في الموت والحياة , في الدنيا والآخرة: (وهو الذي يتوفاكم بالليل , ويعلم ما جرحتم بالنهار , ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى , ثم إليه مرجعكم , ثم ينبئكم بما كنتم تعملون . وهو القاهر فوق عباده , ويرسل عليكم حفظة ,حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا , وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق . ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين).
وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم , حين يواجهون الهول ; فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم . . ثم هم مع ذلك يشركون , وينسون أن الله , الذي يدعونه لكشف الضر , قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحدقل:من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية:لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ? قل:الله ينجيكم منها ومن كل كرب , ثم أنتم تشركون . قل:هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم , أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون).
الدرس الأول:56 - 58 الأمر والحكم لله وحدوده صلاحيات الرسول
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . . قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله يقص الحق , وهو خير الفاصلين . قل:لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم , والله أعلم بالظالمين). .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية , التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة , ذلك الإيقاع المتكرر:"قل . . قل . . قل . . " خطابا لرسول الله [ ص ] ليبلغ عن ربه , ما يوحيه إليه ; وما لا يملك غيره ; ولا يتبع غيره ; ولا يستوحي غيره:
(قل:إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل:لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا , وما أنا من المهتدين). .
يأمر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] , أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم , ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه [ ص ] أن يواجه المشركين هذه المواجهة , وأن يفاصلهم هذه المفاصلة , كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يق 1 (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? قل:لا أِشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله [ ص ] أن يوافقهم على دينهم , فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه ! وهو أمر لا يكون أبدا . فالله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ; ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله [ ص ] بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله , فإن التعبير ب(الذين)في قوله تعالى:
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله). .
من الاية 57 الى الاية 57
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
يستوقف النظر . فكلمة الذين تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان , والأصنام , وما إليها لعبر ب"ما" بدل(الذين). . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصولالذين)فغلب العقلاء , ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ; ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة:
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن , ويضعون لهم التقاليد ; ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركا ; ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ; وجعلهم أندادا من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ; فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله , ودعوة أنداد من دون الله !
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له: (قل:إني على بينة من ربي ; وكذبتم به , ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله , يقص الحق , وهو خير الفاصلين). .
وهو أمر من الله - سبحانه - لنبيه [ ص ] أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم - بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ , والدليل الداخلي البين , والإحساس الوجداني العميق , بربه . . ووجوده , ووحدانيته , ووحيه إليه . وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم , وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه:
قالها نوح - عليه السلام -قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي , وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ? أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ?). .
وقالها صالح - عليه السلام -: قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .
وقالها إبراهيم - عليه السلام -: (وحاجه قومه . قال:أتحاجوني في الله وقد هدان ?). .
وقالها يعقوب - عليه السلام - لبنيه(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ?). .
فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ; ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ; فيجدونه - سبحانه - حاضرا فيها ; ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها . وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ; الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه , الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه:
(قل إني على بينة من ربي , وكذبتم به). .
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب , ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله . . وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ; وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ; وإن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ; فالذي يملكه هو الله وحده ; وهو ليس إلها , إنما هو رسول:
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد , والحب , والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله , إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب , وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من "أشراف" العرب , أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ; لأن محمدا [ ص ] يؤوي إليه الفقراء الضعاف , من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ; ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله [ ص ] أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر , لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف , كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم [ ص ] رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). .
روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص , قال:كنا مع النبي [ ص ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ ص ]:اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال:وكنت أنا وابن مسعود , ورجل من هذيل , وبلال , ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله [ ص ] ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). .
ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف , الذين يخصهم رسول الله [ ص ] بمجلسه وبعنايته ; وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله [ ص ] من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ; ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا:
(ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء , فتطردهم فتكون من الظالمين). .
فإن حسابهم على أنفسهم , وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله , لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله , ولا تقوم بقيمة . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله [ ص ] أن يكون من الظالمين !
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله [ ص ] وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ; والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون:كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ? إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ; ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ; والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين ; وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية , مشرقة الآفاق , مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ;
من الاية 53 الى الاية 55
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ; وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !
(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ?). .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء:
(أليس الله بأعلم بالشاكرين)?
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات:
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة , التي لا كفاء لها من شكر العبد , ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
ويمضي السياق يأمر رسول الله [ ص ] وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالاسلام ; والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة ; متمثلا في معفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح:
(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة , ثم تاب من بعده وأصلح , فأنه غفور رحيم). .
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب , والرحمة في الجزاء , حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ; ويأمر رسوله [ ص ] أن يبلغهم ما كتبه ربهم عل نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله , متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب ; فما يذنب الإنسان إلا من جهالة ; وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه ; متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده , مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . .
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات ; وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك ; والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا . .
قال أبو جعفر الطبري:حدثنا هناد بن السري , حدثنا أبو زبيد , عن أشعث , عن كردوس الثعلبي , عن ابن مسعود , قال:مر الملأ من قريش بالنبي [ ص ] وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب , ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا:يا محمد , رضيت بهؤلاء من قومك ? أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ? أنحن نكون تبعا لهؤلاء ? اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! فنزلت هذه الآية: (ولا تطردالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . (وكذلك فتنا بعضهم ببعض)إلى آخر الآية .
وقال:حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي , قال:حدثنا أبي , حدثنا أسباط , عن السدي , عن أبى سعيد الأزدي - وكان قارى ء الأزد - عن أبى الكنود , عن خباب في قول الله تعالى ذكره: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . إلى قوله: فتكون من الظالمين . . قال:جاء الأقرع ابن حابس التميمي , وعيينة بن حصن الفزاري , فوجد النبي [ ص ] قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب , في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا , فإن وفود العرب تأتيك , فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ; فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ; فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ! قال:نعم ! قالوا:فاكتب لنا عليك بذلك كتابا . قال:فدعا بالصحيفة , ودعا عليا ليكتب . قال:ونحن قعود في ناحية , إذ نزل جبريل بهذه الآية:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء , فتطردهم , فتكون من الظالمين). . ثم قال(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ? أليس الله بأعلم بالشاكرين ?). . ثم قال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة). . فألقى رسول الله [ ص ] الصحيفة من يده ; ثم دعانا فأتيناه وهو يقول:" سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة " . . فكنا نقعد معه , فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا). . [ سورة الكهف:28 ] قال:فكان رسول الله [ ص ] يقعد معنا بعد , فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم !
وكان [ ص ] بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام , وقال:" الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام " .
وفي صحيح مسلم:عن عائذ بن عمرو , أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال , ونفر . فقالوا:والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ! قال:فقال أبو بكر:أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ? فأتى النبي [ ص ] فأخبره . فقال:" يا أبا بكر , لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال:يا إخوتاه , أغضبتكم ? قالوا:لا يغفر الله لك يا أخي . .
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص . . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادى ء وقيم ونظريات في "حقوق الإنسان ! " . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقة . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين , فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ; ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ; ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشرالواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ; ما دام أنها قد بلغته ; فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق , والبشرية هي البشرية ; وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب , إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها , وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها !
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قوله:"الملأ" من قريش:"يا محمد , رضيت بهؤلاء من قومك ? أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ? أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ? اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! " . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي , وعيينة بن حصن الفزاري , للسابقين من أصحاب رسول الله [ ص ] بلال , وصهيب , وعمار , وخباب , وأمثالهم من الضعفاء ; وقولهما للنبي [ ص ]:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ; فإن وفود العرب تأتيك , فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ! " . .
. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح ! وقيمها الهزيلة , واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب ! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف ! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء ! . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية ! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية !
هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام ! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة , ولهذه النعرات السخيفة ! . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة . . الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد [ ص ] محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء ; والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله [ ص ] ; في شأن "هؤلاء الأعبد" . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد ; وصاروا أعبدا لله وحده ; فكان من أمرهم ما كان !
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش , وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير , لرسوله [ ص ] -:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء , وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا:أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ? أليس الله بأعلم بالشاكرين ? وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل:سلام عليكم , كتب ربكم على نفسه الرحمة:أنه من عمل منكم سوءا بجهالة , ثم تاب من بعده وأصلح , فأنه غفور رحيم). .
ويتمثل في سلوك رسول الله [ ص ] مع "هؤلاء الأعبد" . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله , وأعظم من شرفت بهم الحياة !
ثم يتمثل في نظرة "هؤلاء الأعبد" لمكانهم عند الله ; ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها "سيوف الله" ونظرتهملأبي سفيان "شيخ قريش وسيدهم" بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله [ ص ] وقدمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبى سفيان , حذره صاحبه رسول الله [ ص ] أن يكون قد أغضب "هؤلاء الأعبد" ! فيكون قد أغضب الله - يا الله ! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه ! ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى "الأعبد" ليرضى الله:"يا إخوتاه . أغضبتكم" ? فيقولون:"لا يا أخي . يغفر الله لك" !
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية ? أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس ? أي تبدل في القيم والأوضاع , وفي المشاعر والتصورات , في آن ? والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة , والناس هم الناس , والاقتصاد هو الاقتصاد . . وكل شيء على ما كان , إلا أن وحيا نزل من السماء , على رجل من البشر , فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام , ويحدو للهابطين هنالك عند السفح , فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام !
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة ; وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك , وواشنطن , وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض "الحضارة ! " تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون , وتقوم هنا وهناك عصبيات "وطنية " و"قومية " و"طبقية " لا تقل نتنا عن تلك العصبيات . .
ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل , وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء ; وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين ; وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك "الوقفة الطويلة " التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية ; وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط , إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء "الحضارة المادية " الخاوية من الروح والعقيدة ! . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى ; بعد أن فشلت جميع التجارب , وجميع المذاهب , وجميع الأوضاع , وجميع الأنظمة , وجميع الأفكار ; وجميع التصورات , التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة ; وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة ; وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح ; وبلا اضطهادات ; وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية ; وبلا رعب , وبلا فزع , وبلا تعذيب , وبلا جوع , وبلا فقر , وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ; ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله . .
فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها , وتسكبها في القلوب المستنيرة .
(وكذلك نفصل الآيات , ولتستبين سبيل المجرمين). .
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة . كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف ; وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية ; والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .
(وكذلك نفصل الآيات). .
بمثل هذا المنهج , وبمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا البيان والتفصيل . . تفصل الآيات , التي لا تدع في هذا الحق ريبة ; ولا تدع في هذا الأمر غموضا ; ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق ; فالحق واضح , والأمر بين , بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ; ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع , يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى:
(وكذلك نفصل الآيات). .
الدرس الثالث:استبانة سبيل المجرمين
أما ختام هذه الآية القصيرة:
(ولتستبين سبيل المجرمين). .
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين). . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدغبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائما , وهذا الوضوح كان كاملا , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول [ ص ] ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام , يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته . . ثم اذا هذه الارض , واذا هذه الاقوام , تهجر الاسلام حقيقة , وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبحالجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين" !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم , لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألا تقعدهم عنها لومة لائم , ولا صيحة صائح:انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . .
(وكذلك نفصل الآيات , ولتستبين سبيل المجرمين). .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة , ولا يعوقها غبش , ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق , وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين:
(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين). .
. . وصدق الله العظيم . .
الوحدة الثامنة:56 - 65 الموضوع:مجالات وميادين دالة على حقيقة الألوهية والوحدانية
الأنعام
من الاية 56 الى الاية 56
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
مقدمة الوحدة مجالات حقيقة الألوهية
هذه الموجه عودة إلى "حقيقة الألوهية " بعد بيان "حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول" في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم ; وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين - كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة .
وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى ; نجملها هنا - قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية:
تتجلى في قلب رسول الله [ ص ] وهو يجد في نفسه بينة من ربه , هو منها على يقين , لا يزعزعه تكذيب المكذبين . ومن ثم يخلص نفسه لربه , ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه (قل:إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل:لا أتبع أهواءكم , قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . قل:إني على بينة من ربي وكذبتم به . ما عندي ما تستعجلون به , إن الحكم إلا الله , يقص الحق وهو خير الفاصلين). .
وتتجلى في حلم الله على المكذبين , وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها - كما جرت سنته تعالى - وهو قادر عليه . ولو كان رسول الله [ ص ] يملك هذا الذي يستعجلون به , ما أمسكه عنهم , ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم . فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته , كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيتهقل:لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم , والله أعلم بالظالمين). .
وتتجلى في علم الله بالغيب ; وإحاطة هذاالعلم بكل ما يقع في هذا الوجود ; في صورة لا تكون إلا لله ; ولا يصورها هكذا إلا اللهوعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو , ويعلم ما في البر والبحر , وما تسقط من ورقة إلا يعلمها . ولا حبة في ظلمات الأرض , ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). .
وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم , في النوم والصحو , في الموت والحياة , في الدنيا والآخرة: (وهو الذي يتوفاكم بالليل , ويعلم ما جرحتم بالنهار , ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى , ثم إليه مرجعكم , ثم ينبئكم بما كنتم تعملون . وهو القاهر فوق عباده , ويرسل عليكم حفظة ,حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا , وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق . ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين).
وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم , حين يواجهون الهول ; فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم . . ثم هم مع ذلك يشركون , وينسون أن الله , الذي يدعونه لكشف الضر , قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحدقل:من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية:لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ? قل:الله ينجيكم منها ومن كل كرب , ثم أنتم تشركون . قل:هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم , أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون).
الدرس الأول:56 - 58 الأمر والحكم لله وحدوده صلاحيات الرسول
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . . قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله يقص الحق , وهو خير الفاصلين . قل:لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم , والله أعلم بالظالمين). .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية , التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة , ذلك الإيقاع المتكرر:"قل . . قل . . قل . . " خطابا لرسول الله [ ص ] ليبلغ عن ربه , ما يوحيه إليه ; وما لا يملك غيره ; ولا يتبع غيره ; ولا يستوحي غيره:
(قل:إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل:لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا , وما أنا من المهتدين). .
يأمر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] , أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم , ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه [ ص ] أن يواجه المشركين هذه المواجهة , وأن يفاصلهم هذه المفاصلة , كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يق 1 (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? قل:لا أِشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله [ ص ] أن يوافقهم على دينهم , فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه ! وهو أمر لا يكون أبدا . فالله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ; ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله [ ص ] بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله , فإن التعبير ب(الذين)في قوله تعالى:
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله). .
من الاية 57 الى الاية 57
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
يستوقف النظر . فكلمة الذين تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان , والأصنام , وما إليها لعبر ب"ما" بدل(الذين). . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصولالذين)فغلب العقلاء , ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ; ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة:
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن , ويضعون لهم التقاليد ; ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركا ; ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ; وجعلهم أندادا من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ; فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله , ودعوة أنداد من دون الله !
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له: (قل:إني على بينة من ربي ; وكذبتم به , ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله , يقص الحق , وهو خير الفاصلين). .
وهو أمر من الله - سبحانه - لنبيه [ ص ] أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم - بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ , والدليل الداخلي البين , والإحساس الوجداني العميق , بربه . . ووجوده , ووحدانيته , ووحيه إليه . وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم , وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه:
قالها نوح - عليه السلام -قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي , وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ? أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ?). .
وقالها صالح - عليه السلام -: قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .
وقالها إبراهيم - عليه السلام -: (وحاجه قومه . قال:أتحاجوني في الله وقد هدان ?). .
وقالها يعقوب - عليه السلام - لبنيه(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ?). .
فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ; ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ; فيجدونه - سبحانه - حاضرا فيها ; ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها . وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ; الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه , الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه:
(قل إني على بينة من ربي , وكذبتم به). .
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب , ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله . . وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ; وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ; وإن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ; فالذي يملكه هو الله وحده ; وهو ليس إلها , إنما هو رسول:
مواضيع مماثلة
» تفسيرسوره الانعام ايه 137==145 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه119-==129 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه119-==129 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى