تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
من الاية 92 الى الاية 92
وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(قل:الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). .
قل:الله أنزله . . ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم , ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد , قدر ما فيه من الاستهانة , قدر ما فيه من الحق والجد ; فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام , يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام !
ويمضي السياق يحكي شيئا عن الكتاب الجديد , الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله . فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات , فليس بدعا من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام:
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه , ولتنذر أم القرى ومن حولها . والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به , وهم على صلاتهم يحافظون). .
إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل , وأن ينزل الله عليهم الكتب . وهذا الكتاب الجديد , الذي ينكرون تنزيله , هو كتاب مبارك . . وصدق الله . . فإنه والله لمبارك . .
مبارك بكل معاني البركة . . إنه مبارك في أصله . باركه الله وهو ينزله من عنده . ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل . . قلب محمد الطاهر الكريم الكبير . . ومبارك في حجمه ومحتواه . فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر ; ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام , في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه ! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر ; وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات , ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير , أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية . وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز - ولا في أضعاف أضعافه - عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات ! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر . . وإنه لمبارك في أثره . وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابا مباشرا عجيبا لطيف المدخل ; ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن ; فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل . ذلك أن به من الله سلطانا . وليس في قول القائلين من سلطان !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب . وما نحن ببالغين لو مضينا شيئا أكثر من شهادة الله له بأنه(مبارك)ففيها فصل الخطاب !
(مصدق الذي بين يديه). .
فهو يصدق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عندالله - في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت:إنه من عندالله - هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة . أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا , في حدود العقيدة الكبرى في الله .
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون:إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله ; أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول ; أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء . . وهم يقصدون الثناء على الإسلام ! . . هؤلاء لا يقرآون القرآن ! ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله - صلوات الله عليهم وسلامه - جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره . . وأنهم جميعا أخبروا الناس بحقيقة الرسول , وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا , ولا يعلم غيبا ,ولا يبسط أو يقبض رزقا . . وأنهم جميعا أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء . . وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول . . وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله . . إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية . التي تزعم أن أصول العقيدة - بما فيها العقائد السماوية - قد تطورت وترقت , بتطور الأقوام وترقيها ! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن ! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير !!!
فأما حكمة إنزال هذا الكتاب , فلكي ينذر به الرسول [ ص ] أهل مكة - أم القرى - وما حولها:
(ولتنذر أم القرى ومن حولها). .
وسميت مكة أم القرى , لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك ; وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا ; ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ; ولم تكن دعوة عامة من قبل ; وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة , ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة !
وليس المقصود , كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين , أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها . فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله , ليزعموا أن محمدا [ ص ] ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها . وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه ; فتوسع في الجزيرة كلها , ثم هم أن يتخطاها . . لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها ! وذلك بعد هجرته إلى المدينة , وقيام دولته بها ! . . وكذبوا . . ففي القرآن المكي , وفي أوائل الدعوة , قال الله سبحانه لرسوله [ ص ] (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين). . . [ الأنبياء:107 ] . . (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرًا). . [ سبأ:28 ] ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء !
(والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به , وهم على صلاتهم يحافظون). .
فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحسابا وجزاء , يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولا يوحي إليه ; ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به ; بل إنهم ليجدون داعيا يدعوهم إلى هذا التصديق . كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم , ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله ; وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة . . فهي طبيعة نفس . . متى صدقت بالآخرة واستيقنتها , صدقت بهذا الكتاب وتنزيله , وحرصت على الصلة بالله وطاعته . . وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته .
الدرس الخامس:93 - 94 مشهد خزي الظالمين أثناء الإحتضار والبعث
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . [ رأي المشركين ] الذين يفترون على الله الكذب , أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت , والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب , ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم , وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا , أو قال:أوحي إلي ولم يوح إليه شيء , ومن قال:سأنزل مثل
من الاية 93 الى الاية 93
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
ما أنزل الله ? ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت , والملائكة باسطو أيديهم:أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون , بما كنتم تقولون على الله غير الحق , وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة , وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم , وضل عنكم ما كنتم تزعمون). .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي ; وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول [ ص ] وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذين قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح , وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله [ ص ] وأنه لما نزلت الآية التي في "المؤمنون"ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)دعاه النبي [ ص ] فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر)عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال: (تبارك الله أحسن الخالقين). فقال:رسول الله [ ص ]:" هكذا أنزلت علي " . . فشك عبدالله حينئذ وقال:لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه , ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ! فارتد عن الإسلام , ولحق بالمشركين . فذلك قوله: (ومن قال:سأنزل مثل ما أنزل الله) . . [ رواه الكلبي عن ابن عباس ] . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين [ أي المشركين ] مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب , وهم يطلبون أرواحهم للخروج ! وهم يتابعونهم بالتأنيب:
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم:أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق , وكنتم عن آياته تستكبرون . .
وجزاء الاستكبار العذاب المهين , وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة , تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق !
ثم في النهاية , ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى , الذي كذبوا عليه , وها هم أولاء بين يديه , يواجههم في موقف الكربة والضيق:
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)!
فما معكم إلا ذواتكم مجردة ; ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفرادا لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفرادا , ينزل أحدكم من بطن أمة فردا عريان أجرد غلبان !
ولقد ند عنكم كل شيء , وتفرق عنكم كل أحد ; وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه ; (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). .
تركتم كل شيء من مال وزينة , وأولاد ومتاع , وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم , ليس معكم شيء منه , ولا تقدرون منه على قليل أو كثير !
(وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء). .
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد , وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم , وتقولون:إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم [ كالذين كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى !)] سواء
من الاية 94 الى الاية 94
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
كانوا ناسا من البشر كهانا أو ذوي سلطان ; أو كانوا تماثيل من الحجر , أو أوثانا , أو جنا أو ملائكة , أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة , ويجعلون له شركا في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .
فأين ? أين ذهب الشركاء والشفعاء ?
(لقد تقطع بينكم). .
تقطع كل شيء . كل ما كان موصولا . كل سبب وكل حبل !
(وضل عنكم ما كنتم تزعمون). .
وغاب عنكم كل ما كنتم تدعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء , وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب !
إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا . وهو يشخص ويتحرك ; ويلقي ظلاله على النفس , ويسكب إيحاءاته في القلب , ظلاله الرعيبة المكروبة , وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .
إنه القرآن . . إنه القرآن . .
الوحدة الثانية عشرة:95 - 111 الأدلة على الوحدانية من الكون والإنسان والتعريف على الله مقدمة الوحدة
نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها . . في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق ; وعن الروعة الباهرة , التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها:
"وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة . . إنها في كل لمحة منها , وفي كل موقف , وفي كل مشهد , تمثل "الروعة الباهرة " . . الروعة التي تبده النفس , وتشده الحس , وتبهر النفس أيضا , وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا !
. . . "وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال , مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة . لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها , حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها , ومتشابكة معها , في المجرى المتصل المتدفق .
"وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة , تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا . . مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد . . وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة , وبالحيوية الدافقة , وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي , وبالتجمع والاحتشاد , ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة " . .
. . . الخ . . . الخ . . .
أن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس , على أتمها وأوفاها . . إن القارى ء يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقا هي ومدلولاتها في التماع ولألاء . وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس , كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها . والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها , ويهدفان إليها !
إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقه لامعة رائعة تجيء من المجهول ! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ . .
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك ! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول . يتناسق معه في قوة الانبثاق , وفي شدة اللألاء .
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة , يتابعها الحس في بهر ! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعا مرة أخرى مع موجة جديدة . . كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل !
وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة . والمشاهد تتوالى - وكدت أقول:تتواثب - من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء . .
والجمال هو السمة البارزة هنا . . الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة . . المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية . والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي , وفي دلالتها . والمدلولات أيضا - على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة - تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية . . فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء !
ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه). . فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر . . للنظر والتملي والاستمتاع الواعي .
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي , حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع . . إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع . . فيتحدث عنه - سبحانه - حديثا لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتهالا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار , وهو اللطيف الخبير). .
وبعد فنحن - في هذا الدرس - أمام كتاب الكون المفتوح , الذي يمر به الغافلون في كل لحظة . فلا يقفون أمام خوارقه وآياته , ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه . . وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود , كأنما نهبط إليه اللحظة , فيقفنا أمام معالمه العجيبة , ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة , ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين !
ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار . . خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد . . لا ندري كيف انبثقت , ولا ندري من أين جاءت - إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله . لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها !
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة . . الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة . . وهي خارقة لا يعدلها شيءمما يطلبه الناس من الخوارق . . وهي تتم في كل يوم وليلة . بل تتم في كل ثانية ولحظة . .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية . . من نفس واحدة . . وأمام تكاثرها بتلك الطريقة .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات . . وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة , والزروع النامية , والثمار اليانعة . وهي حشد من الحيوات والمشاهد , ومجال للتأمل والريادة . لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح .
وها هو ذا الوجود كله , جديدا كأنما نراه أول مرة . حيا يعاطفنا ونعاطفه , متحركا تدب الحركة في أوصاله , عجيبا يشده الحواس والمشاعر . ناطقا بذاته عن خالقه . دالا بآياته على تفرده وقدرته . .
وعندئذ يبدو الشرك بالله - والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض - غريبا غريبا على فطرة هذا الوجود وطبيعته . وشائها شائها في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله . وتسقط حجة الشرك والمشركين , في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب . .
والمنهج القرآني - في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية ; وفي بيانه لموقف العبودية منها ; يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون , وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة , وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه , وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك . . يجعل من هذه الحقائق مؤثرا موحيا . وبرهانا قويا على ضرورة ما يدعو إليه البشر:من العبودية لله وحده , وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده . . وكذلك يجيء في السياق - بعد استعراض صفحة الوجود ; وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان - الدعوة إلى عبادة الله وحده , أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها , في حياة العباد كلها ; وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة , واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها .
وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالىذلكم الله ربكم , لا إله إلا هو , خالق كل شيء فاعبدوه , وهو على كل شيء وكيل). . نموذجا للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة , بإفراد الألوهية لله وحده , مع تقرير أنه - سبحانه - (خالق كل شيء). . (وهو على كل شيء وكيل). .
وفي نهاية الدرس - وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله - يكشف عن تفاهة طلب الخوارق , كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة , التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل ; ولكن لطبع فيها مطموس ! وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود .
الدرس الأول:95 - 96 النبات والكون دال على الوحدانية
(إن الله فالق الحب والنوى , يخرج الحي من الميت , ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله فأنى تؤفكون ?). .
إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد ; فضلا على أن يملك صنعها أحد ! معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية , وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة . والحياة الكامنة في الحبة والنواة , النامية في النبتة والشجرة , سر مكنون , لا يعلم حقيقته إلا الله ; ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها , وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها . .
من الاية 95 الى الاية 96
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول , تدرك الوظيفة والمظهر , وتجهل المصدر والجوهر , والحياة ماضية في طريقها . والمعجزة تقع في كل لحظة !!!
ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت . فقد كان هذا الكون - أو على الأقل كانت هذه الأرض - ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف ? لا ندري ! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت ; فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة - عن طريق الأحياء - إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية ; وتتحول - وأصلها ذرات ميتة - إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة ; إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة !
(يخرج الحي من الميت , ومخرج الميت من الحي). .
ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشى ء الحياة منذ البدء من الموات . ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية . ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة . . في دورة لم يعلم أحد يقينا بعد متى بدأت , ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات !!!
لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة , على غير أساس أنها من خلق الله . . ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا . .(كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة !). . وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة , بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله . . ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا . . ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد , ولا تدل على الإخلاص !
وأقوال بعض "علمائهم" الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله , تصور حقيقة موقف "علمهم" نفسه من هذه القضية . ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين , عازفين عن هذا الدين , لأنه يثبت "الغيب" وهم "علميون ! " لا "غيبيون" ! . .
ونختار لهم هؤلاء العلماء من "أمريكًا !!!
يقول "فرانك أللن" . [ ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا ] في مقال:نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد ? من كتاب:"الله يتجلى في عصر العلم" . . ترجمة الدكتور:الدمرداش عبد المجيد سرحان .
. . "فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق , فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة ?
"إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق . وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب - مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم - ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا , حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر , التي نقول:إنها تحدث بالمصادفة , والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى [ مثل قذف الزهر في لعبة النرد ] . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراساتقادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة , وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة , وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان . . ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
"إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية . وهي تتكون من خمسة عناصر ; هي:الكربون , والأدروجين , والنيتروجين , والأكسجين , والكبريت . . ويبلغ عدد الذرات في الجزيء الواحد 000 40 ذرة . ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصرا , موزعة كلها توزيعا عشوائيا , فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة , لكي تكون جزئيا من جزيئات البروتين , يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء ; ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد .
"وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا , فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد , إلا بنسبة 1 إلى 10 160 , أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة . وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات . . وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات . . ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها - عن طريق المصادفة - بلايين لا تحصى من السنوات , قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين [ 10 243 سنة ] .
"إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية . فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات ? إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى , غير التي تتآلف بها , تصير غير صالحة للحياة . بل تصير في بعض الأحيان سموما , وقد حسب العالم الانجليزي:ج . ب . سيثر . . الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات , فوجد أن عددها يبلغ الملايين [ 10 48 ] وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا .
"ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة , ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب , الذي لا ندري من كنهه شيئا , إنه العقل اللانهائي . وهو الله وحده , الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته , أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة , فبناه وصوره , وأغدق عليه سر الحياة " . .
ويقول إيرفنج وليام [ دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان ] في مقال:"المادية وحدها لا تكفي" من الكتاب نفسه:
"إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد , وهي التي تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة . ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن . . نقول:إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم . فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع ! " .
ويقول:"ألبرت ماكومب ونشتر" [ متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس . أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور . . . ] في مقال:"العلوم تدعم إيماني بالله" من الكتاب نفسه:
" . . . وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة . وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون .
"انظر إلى نبات برسيم ضئيل . وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ? إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار , بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية ; ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية .
"فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة ? إن الله لم يصنعها هكذا وحدها , ولكنه خلق الحياة , وجعلها قادرة على صيانة نفسها , وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل . مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر . . إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء , وأكثرها إظهارا لقدرة الله . . إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد , تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر . ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات:كل عرق , وكل شعيرة , وكل فرع على ساق , وكل جذر أو ورقة , يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا , فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات . . تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات [ ناقلات الوراثة ] .
وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن: (ذلكم الله). .
مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر . . هو الله . . وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده . . بالعبودية والخضوع والاتباع .
(فأنى تؤفكون ?). .
فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون !
إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيرا في القرآن الكريم - كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء - في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية , وآثارها الدالة على وحدة الخالق , لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود , الذي يدين له العباد ; بالاعتقاد في ألوهيته وحده , والطاعة لربوبيته وحده , والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية , والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله , والدينونة لشريعته كذلك وحدها . .
وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية ! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية . إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر - بإعطائهم العقيدة الصحيحة - لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة .
وذلك لا يكون أبدا إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد . وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا , وفي شئون الحياة اليومية لله وحده , وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين , الذين يدعون حق الألوهية , فيزاولون الحاكمية في حياة البشر , ويصبحون آلهة زائفة وأربابا كثيرة ; فتفسد الحياة , حين يستعبد الناس فيها لغير الله !
ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة:
(ذلكم الله فأنى تؤفكون). .
ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم . . والرب هو المربى والموجه والسيد والحاكم . .
ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله . .
(فالق الإصباح , وجعل الليل سكنا , والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم). .
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا , وهو الذي جعل الليل للسكون , وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء , وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة , كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة , ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء , والحركة والسكون , في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ; وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ; وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من(العزيز)ذي السلطان القادر(العليم)ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو , ولما انبثق النبت والشجر , من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة , ودرجة هذه الحياة , ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب . .
والذين يقولون:إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم:إن هذه الضآلة توحي
من الاية 97 الى الاية 98
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو , الذي يسمونه أحيانا "علمًا ! " ويسمونه أحيانا "فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ; ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها , فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا(كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة). . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ? . .
يقول "فرانك أللن" العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة:
"إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها , فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار , وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام , فيكون في ذلك تتابع الفصول , الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا , ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة , ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
"ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا , منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة , ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات , حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب , ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة "العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة , بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق , ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
الدرس الثاني:97 الإستدلال بالفلك على الوحدانية
(وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر . قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). .
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه . تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطا بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم:
(لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). .
متاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم . . كانوا كذلك وما يزالون . . تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة . . وتبقى القاعدة ثابتة:قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر . . سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر . ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة , فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله . ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق . فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله . .
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية , لا في صورة "نظرية " ولكن في صورة "واقعية " . . صورة تتجلى من ورائها يد المبدع , وتقديره , ورحمته , وتدبيره . صورة مؤثرة في العقل والقلب , موحية للبصيرة والوعي , دافعة إلى التدبر والتذكر , وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة . . لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي:
(قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). .
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها . . كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم . . فالاهتداء - كما قلنا - هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية , وفي ظلمات العقل والضمير . . والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي , ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها , هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى ; وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه , وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم . .
الدرس الثالث:98 الإستدلال بالنفس على الوحدانية
(وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة , فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنة والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل , ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان ; وإذا شيات ولغات ; وإذا شعوب وقبائل ; وإذا النماذج التي لا تحصى , والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .
(قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
فالفقة هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة , التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائما من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ "إنسانيتهم" وتجعلهم أكفاء للحياة "الإنسانية " !
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجةإلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الأنات دائما لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها . .
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). . أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرا أو أنثى , هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس , وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .
هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة , فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور , يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا , وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار , وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى ; إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة , ليتم إعداد هذه الذرية لدورها "الإنساني" الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور "الإنساني" الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان !
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب "العلمية " الذين يسخرون من "الغيبية " . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين:"وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" .
الدرس الرابع 99 الإستدلال بعالم النبات على الوحدانية
ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنيات الأرض . تراها الأعين , وتستجليها الحواس , وتتدبرها القلوب . وترى فيها بدائع صنع الله . . والسياق يعرضها - كما هي في صفحة الكون - ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها , وشتى أشكالها , وشتى أنواعها ; ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية , ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة ; كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال:
(وهو الذي أنزل من السماء ماء , فأخرجنا به نبات كل شيء . فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب والزيتون والرمان , مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). .
والماء كثيرا ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات .
(وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء).
من الاية 99 الى الاية 99
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر , ويعرفه الجاهل والعالم . . ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة . فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات [ إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبا , ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع , ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة ] ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة , وذلك بإسقاط [ النتروجين - الأزوت ] من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية , التي تقع في الجو , النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر , ليعيد الخصوبة إلى الأرض . . وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه , فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة ! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة !
(فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه). .
وكل نبت يبدأ أخضر . واللفظ(خضر)أرق ضلا , وأعمق ألفة من لفظ "أخضر" . . هذا النبت الخضر (يخرج منه حبا متراكبًا). . كالسنابل وأمثالها . (ومن النخل من طلعها قنوان دانية). . وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير . وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر . ولفظة(قنوان)ووصفها(دانية)يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف . وظل المشهد كله ظل وديع حبيب . . (وجنات من أعناب). . (والزيتون والرمان). هذا النبات كله بفصائله وسلالاته - (مشتبها وغير متشابه)- (انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه). . انظروا بالحس البصير , والقلب اليقظ . . انظروا إليه في ازدهاره , وازدهائه , عند كمال نضجه . انظروا إليه واستمتعوا بجماله . . لا يقول هنا , كلوا من ثمره إذا أثمر , ولكن يقول: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه)لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع , كما أنه مجال تدبر في آيات الله , وبدائع صنعته في مجالي الحياة .
(إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). .
فالإيمان هو الذي يفتح القلب , وينير البصيرة , وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة , ويصل الكائن الإنساني بالوجود , ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع . . وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة , وبصائر مطموسة , وفطرا منتكسة , تمر بهذا الإبداع كله , وبهذه الآيات كلها , فلا تحس بها ولا تستجيب . . (إنما يستجيب الذين يسمعون), وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون !
الدرس الخامس:100 - 101 نقض دعوى الشرك بالله ونفي الشركاء عنه
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ; وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله , ووحدانيته , وقدرته , وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية , وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي , الناطق ببديع صنع الخلاق . . عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين , فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود . ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول . وسرعات ما يعقب عليها بالاستنكار . والجو كله مهيأ للاستنكار:
(وجعلوا لله شرك
وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(قل:الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). .
قل:الله أنزله . . ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم , ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد , قدر ما فيه من الاستهانة , قدر ما فيه من الحق والجد ; فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام , يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام !
ويمضي السياق يحكي شيئا عن الكتاب الجديد , الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله . فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات , فليس بدعا من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام:
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه , ولتنذر أم القرى ومن حولها . والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به , وهم على صلاتهم يحافظون). .
إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل , وأن ينزل الله عليهم الكتب . وهذا الكتاب الجديد , الذي ينكرون تنزيله , هو كتاب مبارك . . وصدق الله . . فإنه والله لمبارك . .
مبارك بكل معاني البركة . . إنه مبارك في أصله . باركه الله وهو ينزله من عنده . ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل . . قلب محمد الطاهر الكريم الكبير . . ومبارك في حجمه ومحتواه . فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر ; ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام , في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه ! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر ; وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات , ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير , أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية . وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز - ولا في أضعاف أضعافه - عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات ! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر . . وإنه لمبارك في أثره . وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابا مباشرا عجيبا لطيف المدخل ; ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن ; فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل . ذلك أن به من الله سلطانا . وليس في قول القائلين من سلطان !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب . وما نحن ببالغين لو مضينا شيئا أكثر من شهادة الله له بأنه(مبارك)ففيها فصل الخطاب !
(مصدق الذي بين يديه). .
فهو يصدق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عندالله - في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت:إنه من عندالله - هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة . أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا , في حدود العقيدة الكبرى في الله .
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون:إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله ; أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول ; أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء . . وهم يقصدون الثناء على الإسلام ! . . هؤلاء لا يقرآون القرآن ! ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله - صلوات الله عليهم وسلامه - جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره . . وأنهم جميعا أخبروا الناس بحقيقة الرسول , وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا , ولا يعلم غيبا ,ولا يبسط أو يقبض رزقا . . وأنهم جميعا أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء . . وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول . . وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله . . إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية . التي تزعم أن أصول العقيدة - بما فيها العقائد السماوية - قد تطورت وترقت , بتطور الأقوام وترقيها ! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن ! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير !!!
فأما حكمة إنزال هذا الكتاب , فلكي ينذر به الرسول [ ص ] أهل مكة - أم القرى - وما حولها:
(ولتنذر أم القرى ومن حولها). .
وسميت مكة أم القرى , لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك ; وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا ; ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ; ولم تكن دعوة عامة من قبل ; وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة , ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة !
وليس المقصود , كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين , أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها . فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله , ليزعموا أن محمدا [ ص ] ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها . وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه ; فتوسع في الجزيرة كلها , ثم هم أن يتخطاها . . لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها ! وذلك بعد هجرته إلى المدينة , وقيام دولته بها ! . . وكذبوا . . ففي القرآن المكي , وفي أوائل الدعوة , قال الله سبحانه لرسوله [ ص ] (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين). . . [ الأنبياء:107 ] . . (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرًا). . [ سبأ:28 ] ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء !
(والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به , وهم على صلاتهم يحافظون). .
فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحسابا وجزاء , يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولا يوحي إليه ; ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به ; بل إنهم ليجدون داعيا يدعوهم إلى هذا التصديق . كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم , ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله ; وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة . . فهي طبيعة نفس . . متى صدقت بالآخرة واستيقنتها , صدقت بهذا الكتاب وتنزيله , وحرصت على الصلة بالله وطاعته . . وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته .
الدرس الخامس:93 - 94 مشهد خزي الظالمين أثناء الإحتضار والبعث
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . [ رأي المشركين ] الذين يفترون على الله الكذب , أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت , والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب , ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم , وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا , أو قال:أوحي إلي ولم يوح إليه شيء , ومن قال:سأنزل مثل
من الاية 93 الى الاية 93
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
ما أنزل الله ? ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت , والملائكة باسطو أيديهم:أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون , بما كنتم تقولون على الله غير الحق , وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة , وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم , وضل عنكم ما كنتم تزعمون). .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي ; وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول [ ص ] وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذين قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح , وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله [ ص ] وأنه لما نزلت الآية التي في "المؤمنون"ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)دعاه النبي [ ص ] فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر)عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال: (تبارك الله أحسن الخالقين). فقال:رسول الله [ ص ]:" هكذا أنزلت علي " . . فشك عبدالله حينئذ وقال:لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه , ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ! فارتد عن الإسلام , ولحق بالمشركين . فذلك قوله: (ومن قال:سأنزل مثل ما أنزل الله) . . [ رواه الكلبي عن ابن عباس ] . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين [ أي المشركين ] مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب , وهم يطلبون أرواحهم للخروج ! وهم يتابعونهم بالتأنيب:
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم:أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق , وكنتم عن آياته تستكبرون . .
وجزاء الاستكبار العذاب المهين , وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة , تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق !
ثم في النهاية , ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى , الذي كذبوا عليه , وها هم أولاء بين يديه , يواجههم في موقف الكربة والضيق:
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)!
فما معكم إلا ذواتكم مجردة ; ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفرادا لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفرادا , ينزل أحدكم من بطن أمة فردا عريان أجرد غلبان !
ولقد ند عنكم كل شيء , وتفرق عنكم كل أحد ; وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه ; (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). .
تركتم كل شيء من مال وزينة , وأولاد ومتاع , وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم , ليس معكم شيء منه , ولا تقدرون منه على قليل أو كثير !
(وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء). .
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد , وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم , وتقولون:إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم [ كالذين كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى !)] سواء
من الاية 94 الى الاية 94
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
كانوا ناسا من البشر كهانا أو ذوي سلطان ; أو كانوا تماثيل من الحجر , أو أوثانا , أو جنا أو ملائكة , أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة , ويجعلون له شركا في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .
فأين ? أين ذهب الشركاء والشفعاء ?
(لقد تقطع بينكم). .
تقطع كل شيء . كل ما كان موصولا . كل سبب وكل حبل !
(وضل عنكم ما كنتم تزعمون). .
وغاب عنكم كل ما كنتم تدعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء , وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب !
إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا . وهو يشخص ويتحرك ; ويلقي ظلاله على النفس , ويسكب إيحاءاته في القلب , ظلاله الرعيبة المكروبة , وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .
إنه القرآن . . إنه القرآن . .
الوحدة الثانية عشرة:95 - 111 الأدلة على الوحدانية من الكون والإنسان والتعريف على الله مقدمة الوحدة
نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها . . في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق ; وعن الروعة الباهرة , التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها:
"وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة . . إنها في كل لمحة منها , وفي كل موقف , وفي كل مشهد , تمثل "الروعة الباهرة " . . الروعة التي تبده النفس , وتشده الحس , وتبهر النفس أيضا , وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا !
. . . "وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال , مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة . لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها , حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها , ومتشابكة معها , في المجرى المتصل المتدفق .
"وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة , تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا . . مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد . . وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة , وبالحيوية الدافقة , وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي , وبالتجمع والاحتشاد , ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة " . .
. . . الخ . . . الخ . . .
أن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس , على أتمها وأوفاها . . إن القارى ء يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقا هي ومدلولاتها في التماع ولألاء . وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس , كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها . والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها , ويهدفان إليها !
إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقه لامعة رائعة تجيء من المجهول ! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ . .
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك ! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول . يتناسق معه في قوة الانبثاق , وفي شدة اللألاء .
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة , يتابعها الحس في بهر ! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعا مرة أخرى مع موجة جديدة . . كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل !
وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة . والمشاهد تتوالى - وكدت أقول:تتواثب - من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء . .
والجمال هو السمة البارزة هنا . . الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة . . المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية . والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي , وفي دلالتها . والمدلولات أيضا - على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة - تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية . . فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء !
ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه). . فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر . . للنظر والتملي والاستمتاع الواعي .
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي , حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع . . إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع . . فيتحدث عنه - سبحانه - حديثا لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتهالا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار , وهو اللطيف الخبير). .
وبعد فنحن - في هذا الدرس - أمام كتاب الكون المفتوح , الذي يمر به الغافلون في كل لحظة . فلا يقفون أمام خوارقه وآياته , ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه . . وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود , كأنما نهبط إليه اللحظة , فيقفنا أمام معالمه العجيبة , ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة , ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين !
ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار . . خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد . . لا ندري كيف انبثقت , ولا ندري من أين جاءت - إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله . لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها !
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة . . الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة . . وهي خارقة لا يعدلها شيءمما يطلبه الناس من الخوارق . . وهي تتم في كل يوم وليلة . بل تتم في كل ثانية ولحظة . .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية . . من نفس واحدة . . وأمام تكاثرها بتلك الطريقة .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات . . وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة , والزروع النامية , والثمار اليانعة . وهي حشد من الحيوات والمشاهد , ومجال للتأمل والريادة . لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح .
وها هو ذا الوجود كله , جديدا كأنما نراه أول مرة . حيا يعاطفنا ونعاطفه , متحركا تدب الحركة في أوصاله , عجيبا يشده الحواس والمشاعر . ناطقا بذاته عن خالقه . دالا بآياته على تفرده وقدرته . .
وعندئذ يبدو الشرك بالله - والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض - غريبا غريبا على فطرة هذا الوجود وطبيعته . وشائها شائها في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله . وتسقط حجة الشرك والمشركين , في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب . .
والمنهج القرآني - في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية ; وفي بيانه لموقف العبودية منها ; يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون , وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة , وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه , وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك . . يجعل من هذه الحقائق مؤثرا موحيا . وبرهانا قويا على ضرورة ما يدعو إليه البشر:من العبودية لله وحده , وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده . . وكذلك يجيء في السياق - بعد استعراض صفحة الوجود ; وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان - الدعوة إلى عبادة الله وحده , أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها , في حياة العباد كلها ; وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة , واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها .
وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالىذلكم الله ربكم , لا إله إلا هو , خالق كل شيء فاعبدوه , وهو على كل شيء وكيل). . نموذجا للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة , بإفراد الألوهية لله وحده , مع تقرير أنه - سبحانه - (خالق كل شيء). . (وهو على كل شيء وكيل). .
وفي نهاية الدرس - وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله - يكشف عن تفاهة طلب الخوارق , كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة , التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل ; ولكن لطبع فيها مطموس ! وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود .
الدرس الأول:95 - 96 النبات والكون دال على الوحدانية
(إن الله فالق الحب والنوى , يخرج الحي من الميت , ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله فأنى تؤفكون ?). .
إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد ; فضلا على أن يملك صنعها أحد ! معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية , وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة . والحياة الكامنة في الحبة والنواة , النامية في النبتة والشجرة , سر مكنون , لا يعلم حقيقته إلا الله ; ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها , وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها . .
من الاية 95 الى الاية 96
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول , تدرك الوظيفة والمظهر , وتجهل المصدر والجوهر , والحياة ماضية في طريقها . والمعجزة تقع في كل لحظة !!!
ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت . فقد كان هذا الكون - أو على الأقل كانت هذه الأرض - ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف ? لا ندري ! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت ; فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة - عن طريق الأحياء - إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية ; وتتحول - وأصلها ذرات ميتة - إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة ; إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة !
(يخرج الحي من الميت , ومخرج الميت من الحي). .
ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشى ء الحياة منذ البدء من الموات . ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية . ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة . . في دورة لم يعلم أحد يقينا بعد متى بدأت , ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات !!!
لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة , على غير أساس أنها من خلق الله . . ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا . .(كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة !). . وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة , بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله . . ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا . . ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد , ولا تدل على الإخلاص !
وأقوال بعض "علمائهم" الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله , تصور حقيقة موقف "علمهم" نفسه من هذه القضية . ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين , عازفين عن هذا الدين , لأنه يثبت "الغيب" وهم "علميون ! " لا "غيبيون" ! . .
ونختار لهم هؤلاء العلماء من "أمريكًا !!!
يقول "فرانك أللن" . [ ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا ] في مقال:نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد ? من كتاب:"الله يتجلى في عصر العلم" . . ترجمة الدكتور:الدمرداش عبد المجيد سرحان .
. . "فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق , فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة ?
"إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق . وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب - مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم - ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا , حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر , التي نقول:إنها تحدث بالمصادفة , والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى [ مثل قذف الزهر في لعبة النرد ] . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراساتقادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة , وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة , وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان . . ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
"إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية . وهي تتكون من خمسة عناصر ; هي:الكربون , والأدروجين , والنيتروجين , والأكسجين , والكبريت . . ويبلغ عدد الذرات في الجزيء الواحد 000 40 ذرة . ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصرا , موزعة كلها توزيعا عشوائيا , فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة , لكي تكون جزئيا من جزيئات البروتين , يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء ; ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد .
"وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا , فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد , إلا بنسبة 1 إلى 10 160 , أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة . وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات . . وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات . . ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها - عن طريق المصادفة - بلايين لا تحصى من السنوات , قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين [ 10 243 سنة ] .
"إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية . فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات ? إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى , غير التي تتآلف بها , تصير غير صالحة للحياة . بل تصير في بعض الأحيان سموما , وقد حسب العالم الانجليزي:ج . ب . سيثر . . الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات , فوجد أن عددها يبلغ الملايين [ 10 48 ] وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا .
"ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة , ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب , الذي لا ندري من كنهه شيئا , إنه العقل اللانهائي . وهو الله وحده , الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته , أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة , فبناه وصوره , وأغدق عليه سر الحياة " . .
ويقول إيرفنج وليام [ دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان ] في مقال:"المادية وحدها لا تكفي" من الكتاب نفسه:
"إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد , وهي التي تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة . ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن . . نقول:إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم . فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع ! " .
ويقول:"ألبرت ماكومب ونشتر" [ متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس . أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور . . . ] في مقال:"العلوم تدعم إيماني بالله" من الكتاب نفسه:
" . . . وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة . وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون .
"انظر إلى نبات برسيم ضئيل . وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ? إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار , بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية ; ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية .
"فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة ? إن الله لم يصنعها هكذا وحدها , ولكنه خلق الحياة , وجعلها قادرة على صيانة نفسها , وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل . مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر . . إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء , وأكثرها إظهارا لقدرة الله . . إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد , تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر . ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات:كل عرق , وكل شعيرة , وكل فرع على ساق , وكل جذر أو ورقة , يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا , فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات . . تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات [ ناقلات الوراثة ] .
وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن: (ذلكم الله). .
مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر . . هو الله . . وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده . . بالعبودية والخضوع والاتباع .
(فأنى تؤفكون ?). .
فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون !
إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيرا في القرآن الكريم - كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء - في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية , وآثارها الدالة على وحدة الخالق , لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود , الذي يدين له العباد ; بالاعتقاد في ألوهيته وحده , والطاعة لربوبيته وحده , والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية , والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله , والدينونة لشريعته كذلك وحدها . .
وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية ! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية . إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر - بإعطائهم العقيدة الصحيحة - لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة .
وذلك لا يكون أبدا إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد . وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا , وفي شئون الحياة اليومية لله وحده , وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين , الذين يدعون حق الألوهية , فيزاولون الحاكمية في حياة البشر , ويصبحون آلهة زائفة وأربابا كثيرة ; فتفسد الحياة , حين يستعبد الناس فيها لغير الله !
ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة:
(ذلكم الله فأنى تؤفكون). .
ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم . . والرب هو المربى والموجه والسيد والحاكم . .
ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله . .
(فالق الإصباح , وجعل الليل سكنا , والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم). .
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا , وهو الذي جعل الليل للسكون , وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء , وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة , كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة , ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء , والحركة والسكون , في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ; وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ; وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من(العزيز)ذي السلطان القادر(العليم)ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو , ولما انبثق النبت والشجر , من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة , ودرجة هذه الحياة , ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب . .
والذين يقولون:إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم:إن هذه الضآلة توحي
من الاية 97 الى الاية 98
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو , الذي يسمونه أحيانا "علمًا ! " ويسمونه أحيانا "فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ; ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها , فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا(كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة). . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ? . .
يقول "فرانك أللن" العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة:
"إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها , فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار , وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام , فيكون في ذلك تتابع الفصول , الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا , ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة , ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
"ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا , منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة , ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات , حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب , ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة "العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة , بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق , ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
الدرس الثاني:97 الإستدلال بالفلك على الوحدانية
(وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر . قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). .
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه . تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطا بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم:
(لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). .
متاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم . . كانوا كذلك وما يزالون . . تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة . . وتبقى القاعدة ثابتة:قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر . . سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر . ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة , فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله . ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق . فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله . .
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية , لا في صورة "نظرية " ولكن في صورة "واقعية " . . صورة تتجلى من ورائها يد المبدع , وتقديره , ورحمته , وتدبيره . صورة مؤثرة في العقل والقلب , موحية للبصيرة والوعي , دافعة إلى التدبر والتذكر , وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة . . لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي:
(قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). .
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها . . كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم . . فالاهتداء - كما قلنا - هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية , وفي ظلمات العقل والضمير . . والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي , ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها , هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى ; وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه , وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم . .
الدرس الثالث:98 الإستدلال بالنفس على الوحدانية
(وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة , فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنة والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل , ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان ; وإذا شيات ولغات ; وإذا شعوب وقبائل ; وإذا النماذج التي لا تحصى , والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .
(قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
فالفقة هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة , التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائما من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ "إنسانيتهم" وتجعلهم أكفاء للحياة "الإنسانية " !
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجةإلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الأنات دائما لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها . .
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). . أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرا أو أنثى , هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس , وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .
هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة , فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور , يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا , وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار , وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى ; إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة , ليتم إعداد هذه الذرية لدورها "الإنساني" الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور "الإنساني" الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان !
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). .
أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب "العلمية " الذين يسخرون من "الغيبية " . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين:"وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" .
الدرس الرابع 99 الإستدلال بعالم النبات على الوحدانية
ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنيات الأرض . تراها الأعين , وتستجليها الحواس , وتتدبرها القلوب . وترى فيها بدائع صنع الله . . والسياق يعرضها - كما هي في صفحة الكون - ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها , وشتى أشكالها , وشتى أنواعها ; ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية , ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة ; كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال:
(وهو الذي أنزل من السماء ماء , فأخرجنا به نبات كل شيء . فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب والزيتون والرمان , مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). .
والماء كثيرا ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات .
(وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء).
من الاية 99 الى الاية 99
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر , ويعرفه الجاهل والعالم . . ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة . فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات [ إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبا , ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع , ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة ] ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة , وذلك بإسقاط [ النتروجين - الأزوت ] من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية , التي تقع في الجو , النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر , ليعيد الخصوبة إلى الأرض . . وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه , فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة ! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة !
(فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه). .
وكل نبت يبدأ أخضر . واللفظ(خضر)أرق ضلا , وأعمق ألفة من لفظ "أخضر" . . هذا النبت الخضر (يخرج منه حبا متراكبًا). . كالسنابل وأمثالها . (ومن النخل من طلعها قنوان دانية). . وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير . وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر . ولفظة(قنوان)ووصفها(دانية)يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف . وظل المشهد كله ظل وديع حبيب . . (وجنات من أعناب). . (والزيتون والرمان). هذا النبات كله بفصائله وسلالاته - (مشتبها وغير متشابه)- (انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه). . انظروا بالحس البصير , والقلب اليقظ . . انظروا إليه في ازدهاره , وازدهائه , عند كمال نضجه . انظروا إليه واستمتعوا بجماله . . لا يقول هنا , كلوا من ثمره إذا أثمر , ولكن يقول: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه)لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع , كما أنه مجال تدبر في آيات الله , وبدائع صنعته في مجالي الحياة .
(إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). .
فالإيمان هو الذي يفتح القلب , وينير البصيرة , وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة , ويصل الكائن الإنساني بالوجود , ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع . . وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة , وبصائر مطموسة , وفطرا منتكسة , تمر بهذا الإبداع كله , وبهذه الآيات كلها , فلا تحس بها ولا تستجيب . . (إنما يستجيب الذين يسمعون), وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون !
الدرس الخامس:100 - 101 نقض دعوى الشرك بالله ونفي الشركاء عنه
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ; وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله , ووحدانيته , وقدرته , وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية , وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي , الناطق ببديع صنع الخلاق . . عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين , فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود . ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول . وسرعات ما يعقب عليها بالاستنكار . والجو كله مهيأ للاستنكار:
(وجعلوا لله شرك
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الانعام ايه 11==21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه58==65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 43==51 الشيخ سيدقطب
» تفسير سورة الانعام ايه78==91 الشيخ سيدقطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه58==65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 43==51 الشيخ سيدقطب
» تفسير سورة الانعام ايه78==91 الشيخ سيدقطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى