تفسيرسوره الانعام ايه119-==129 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسيرسوره الانعام ايه119-==129 الشيخ سيد قطب
من الاية 119 الى الاية 120
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120)
ثم يسألهم:وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه , وقد جعله الله لهم حلالا ? وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطراراً ? فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته ; وفي الأكل منه أو تركه ?
(وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ?). .
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة , حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله ; ويحلون ذبائح حرمها الله - ويزعمون أن هذا هو شرع الله ! - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله , فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع , ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم , ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد:
(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم . . إن ربك هو أعلم بالمعتدين). .
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله - ظاهره وخافيه - ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم ; وحملهم على شرائع ليست من عند الله , وافتراء أنها شريعة الله ! ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه:
(وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون). .
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم ; أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام ; أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها , يزعمون أن الله ذبحها ! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم , ولا يأكلون مما ذبح الله ?! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات ! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات:
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . .). .
وأمام هذا التقرير الأخير نقف , لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين . .
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله , ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية . . أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله , إلى الشرك بالله .
وفي هذا يقول ابن كثير:
"وقوله تعالى: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون). . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه , إلى قول غيره , فقدمتم عليه غيره . . فهذا هو الشرك . . كقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله). . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال:يا رسول الله ما عبدوهم . فقال:" بلى ! إنهم أحلوا لهم الحرام , وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم , فذلك عبادتهم إياهم " .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . .)
الآية قوله:[ استنصحوا الرجال , ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا
من الاية 121 الى الاية 122
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)
إلهاً واحداً)أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام , وما حلله فهو الحلال , وما شرعه اتبع , وما حكم به نفذ ] . .
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير . . وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه , ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من اطاع بشراً في شريعة من عند نفسه , ولو في جزئية صغيرة , فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام الى الشرك أيضاً . . مهما بقي بعد ذلك يقول:أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه . بينما هو يتلقى من غير الله , ويطيع غير الله .
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله , فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ; ولم يقبل منها شرعاً ولا حكماً . . . إلا في حدود الإكراه . .
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق . .)فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال:
"استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها , وإن كان الذابح مسلماً" . .
"وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة اقوال:
"فمنهم من قال:لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة . وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً . وهو مروي عن ابن عمر , ونافع مولاه , وعامر الشعبي , ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك , ورواية عن أحمد بن حنبل , نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين . وهو اختيار أبي ثور , وداود الظاهري . واختار ذلك ابو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين , واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية , وبقوله في آية الصيد: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه). . ثم قد أكد ذلك بقوله: (وإنه لفسق)والضمير قيل:عائد على الأكل , وقيل:عائد على الذبح لغير الله . وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد , كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة:إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك . وهما في الصحيحين . وحديث رافع بن خديج:ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه . وهو في الصحيحين أيضاً . . .
"والمذهب الثاني في المسألة:أنه لا يشترط التسمية , بل هي مستحبة , فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر . وهذا مذهب الإمام الشافعي , رحمه الله , وجميع أصحابه . ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك , ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه . وحكي عن ابن عباس , وأبي هريرة , وعطاء بن أبي رباح . والله أعلم . وحمل الشافعي الآية الكريمة: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى: (أو فسقا أهل لغير الله به). وقال ابن جريج عن عطاء: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). . قال:ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان , وينهى عن ذبائح المجوس . . وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي . . .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي , حدثنا يحيى بن المغيرة , أنبأنا جرير , عن عطاء , عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)قال:هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواهأبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات . قال:قال رسول الله [ ص ]:" ذبيحة المسلم حلال , ذكر اسم الله أو لم يذكر . إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " . . وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال:" إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل . فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
"المذهب الثالث:إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر , وإن تركها عمدا لم تحل . . هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل , وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه . وإسحاق بن راهويه . وهو محكي عن علي , وابن عباس , وسعيد بن المسيب , وعطاء , وطاووس , والحسن البصري , وأبي مالك , وعبد الرحمن بن أبي ليلى , وجعفر بن محمد , وربيعة بن ابي عبد الرحمن . . . "
"قال ابن جرير:وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية:هل نسخ من حكمها شيء أم لا ? فقال بعضهم:لم ينسخ منها شيء , وهي محكمة فيما عينت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح , عن الحسين بن واقد , عن عكرمة والحسن البصري , قالا:قال اللهفكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)وقال: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)فنسخ , واستثنى من ذلك فقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم)وقال ابن أبي حاتم:قرأ علي العباس بن الوليد بن يزيد , حدثنا محمد بن شعيب , أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال:أنزل الله في القرآن: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال: (اليوم أحل لكم الطيبات , وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)فنسخها بذلك , وأحل طعام أهل الكتاب . ثم قال ابن جرير:والصواب:أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه . . وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق من السلف النسخ هنا , فإنما أراد التخصيص , والله سبحانه وتعالى أعلم" . . . انتهى .
الدرس الثالث:122 - 125 طبيعة الإسلام وطبيعة الكفر
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر , وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجاً مكروب الأنفاس ! . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ; ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير:
أو من كان ميتاً فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها , وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا:لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام , ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء , كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك .إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ; ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة , نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ; وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء , وتصور كل شيء , وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية , التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال , واستمداد , واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية , وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ? إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود , فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله , والصلة في الله , لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج , وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب , الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فتتكشف له حقائق هذا الدين , ومنهجه في العمل والحركة , تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو "تصميما" واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة , وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ; فتتكشف له حقائق الوجود , وحقائق الحياة , وحقائق الناس , وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة , أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله , كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها , وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
(أو من كان ميتا فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?).
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها , ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز , وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء , ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال , وتلتقط الشارد , وتطمئن الخائف , وتحرر المستعبد , وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ; الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة , وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات , لا مخرج له منها ? إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ?
(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون). .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة , تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ; ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود , ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً , ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور , يسمع في الظلمة للوسوسة ; ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
وبنفس الطريقة , ولنفس الأسباب , وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . . ليتم الابتلاء ; وينفذ القدر ; وتتحقق الحكمة ; ويمضي كل فيما هو ميسر له , وينال كل جزاءه في نهاية المطاف:
(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها , وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون).
من الاية 123 الى الاية 123
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية - وهي المدينة الكبيرة والعاصمة - نفر من أكابر المجرمين فيها , يقفون موقف العداء من دين الله . ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس , ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس , ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب , ويرد هذا كله إلى الله وحده . . رب الناس . . ملك الناس . . إله الناس . .
إنها سنة من أصل الفطرة . . أن يرسل الله رسله بالحق . . بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية . فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى , ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى , وفي نشر الباطل والضلال , واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي . .
إنها سنة جارية . ومعركة محتومة . لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله - وهي رد الحاكمية كلها لله - وبين أطماع المجرمين في القرى . بل بين وجودهم أصلاً . .
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها , فهو لا يملك أن يتقيها , ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها . . والله سبحانه يطمئن أولياءه . . إن كيد أكابر المجرمين - مهما ضخم واستطال - لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف . إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها , وهو حسبهم , وهو يرد على الكائدين كيدهم:
(وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون).
فليطمئن المؤمنون !
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ; خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد , فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له , وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع , وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع , وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك:لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله:
وإذا جاءتهم آية قالوا:لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله .
وقد قال الوليد بن المغيرة:لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك , لأني أكبر منك سنا , وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل:والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً , إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !
وواضح أن الكبر النفسي , وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع , ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم , ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير:
(الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون). .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض , والدنيا بالآخرة , ويتمثل فيه الحق الكلي ,
من الاية 124 الى الاية 124
وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124)
في قلب بشر , وفي واقع ناس , وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة , لا خلوص النية والعمل وحده , ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته , ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين , ويقال لصاحبها:أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ; أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى , طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً , ويهب لها نفسه , وينسى فيها ذاته , ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب , إلا رحمة من ربك). . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل , ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
لذلك يجيبهم الرد الحاسم:
(الله أعلم حيث يجعل رسالته). .
وقد جعلها سبحانه حيث علم , واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم , وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم , حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله , وبالعذاب الشديد المهين:
(سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون). .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع , والاستكبار عن الحق , والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد , والعداء للرسل , والأذى للمؤمنين .
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الايمان في داخل القلوب والنفوس:
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
من يقدر الله له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - (يشرح صدره للإسلام); فيتسع له ; ويستقبله في يسر ورغبة , ويتفاعل معه , ويطمئن إليه ; ويستروح به ويستريح له .
ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه - (يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء). . فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله , (كأنما يصعد في السماء). . وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية , من ضيق النفس , وكربة الصدر , والرهق المضني في التصعد إلى السماء ! وبناء اللفظ ذاته(يصعد)- كما هو في قراءة حفص - فيه هذا العسر والقبض والجهد . وجرسه يخيل هذا كله , فيتناسق المشهد الشاخص , مع الحالة الواقعة , مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب:
من الاية 125 الى الاية 125
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)
(كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
. . كذلك . . بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى , ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
ومن معاني الرجس:العذاب . ومن معانيه كذلك:الارتكاس - وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه ! وهو الظل المقصود !
على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالىفمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر ; وما يصيبهم من الهدى والضلال , وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب . . إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني ! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي , وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها , موسومة بطابع المنطق الذهني .
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني . وكذلك يقتضي التعامل مع "الواقع الفعلي" لا مع "القضايا الذهنية " . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع ; وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله . في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله .
فإذا قيل:إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية . وإذا قيل:إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك ! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل , وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي . بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم . .
ولكن تصور الحقيقة "الفعلية " كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني . وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها . . إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها . . وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية .
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية . . إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له . . هو من صنع الله قطعاً . . فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه . والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسراً . . هو من صنع الله قطعا . . لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك . . وكلاهما من إرادة الله بالعبد . . ولكنها ليست إرادة القهر . إنما هي الإرادة التي انشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلي هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة . وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال .
من الاية 126 الى الاية 127
وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127)
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية . وحين يتم التعامل مع هذه القضايا , بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة , والتجربة الواقعية في التعامل معها , فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة . . وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي . . وفي غيره كذلك !
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة . .
الدرس الرابع:126-127 صراط الله المستقيم الموصل إلى دار السلام
ثم نعود إلى السياق القرآني:
إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها ; فترتبط هذه بتلك , حزمة واحدة في السياق , وحزمة واحدة في الشعور , وحزمة واحدة في بناء هذا الدين . فقضية الذبائح هي قضية التشريع . وقضية التشريع هي قضية الحاكمية . وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان . . ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب .
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير . . فهذه وتلك صراط الله المستقيم . والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم . والاستقامة عليهما معاً . . العقيدة والشريعة . . هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام , وولاية الله لعباده الذاكرين:
(وهذا صراط ربك مستقيما . قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون). .
هذا هو الصراط . . صراط ربك . . بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة ; المبشرة بالنهاية . . هذه هي سنته في الهدى والضلال ; وتلك هي شريعته في الحل والحرمة . كلاهما سواء في ميزان الله , وكلاهما لحمة في سياق قرآنه .
وقد فصل الله آياته وبينها . ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل . فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل . وقلب منشرح مبسوط مفتوح . وقلب حي يستقبل ويستجيب .
والذين يتذكرون , لهم دار السلام عند ربهم . . دار الطمأنينة والأمان . . مضمونة عند ربهم لا تضيع . . وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم . . ذلك بما كانوا يعملون . . فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء .
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة . حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة . ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة . . إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين . .
الوحدة الخامسة:128 - 135 الموضوع:مصير شياطين الإنس والجن وتهديدهم بعذاب الله
من الاية 128 الى الاية 128
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128)
هذا المقطع بجملته ليس منفصلاً عن الدرس السابق . إنما هو امتداد له . من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها . . فهو من ناحية استطراد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن - بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله - وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع . وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية ; ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا - بعد النذارة والبشارة - وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم , وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله . وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح - قبلها - ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد ; وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون ; فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعا ; وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين . وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء . لا فرق بينها في ميزان الله , كما يقيمه في كتابه الكريم .
الدرس الأول:128 - 130 خزي شياطين الإنس والجن يوم القيامة
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام ; فتبقى قلوبهم ذاكرة لاتغفل ; وأنهم ماضون إلى دار السلام , منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته . . فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد - على طريقة القرآن الغالبة في عرض "مشاهد القيامة " - يعرض شياطين الإنس والجن , الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالاً ; ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي ; ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام . . يعرضهم في مشهد شاخص حي , حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب , فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن .
(ويوم يحشرهم جميعا:يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض , وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! قال:النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيمعليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس , ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? قالوا:شهدنا على أنفسنا ! وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على انفسهم أنهم كانوا كافرين). .
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل , يوم يحشرهم جميعا . . ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة . وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة . فتقدير الكلام , (ويوم يحشرهم جميعا)- فيقول - (يا معشر الجن والإنس . . .)ولكن حذف كلمة - يقول - ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ; ويحيل السياق من مستقبل ينتظر , إلى واقع ينظر ! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب . . .
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض:
(يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس !). .
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس , المستمعين لإيحائكم , المطيعين لوسوستكم , المتبعين لخطواتكم . . وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس ! إنما يقصد به تسجيل الجريمة - جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض ! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود ! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء . . ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون:
(وقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض , وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا !). .
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع ; كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع . . لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار , ومن المكابرة والاستهتار , ومن الإثم ظاهره وباطنه ! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان ! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال . . كانت تستهويهم وتعبث بهم ; وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس ! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا , وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون ! ومن ثم يقولون:
(ربنا استمتع بعضنا ببعض !). .
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة , حتى حان الأجل , الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه ; وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع:
(وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا)!
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل , بالجزاء العادل:
(قال:النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله -)
فالنار مثابة ومأوى . والمثوى للإقامة . وهي إقامة الدوام . . (إلا ما شاء الله)لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي . فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور . والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد . ولا في مقرراتها هي .
(إن ربك حكيم عليم).
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120)
ثم يسألهم:وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه , وقد جعله الله لهم حلالا ? وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطراراً ? فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته ; وفي الأكل منه أو تركه ?
(وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ?). .
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة , حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله ; ويحلون ذبائح حرمها الله - ويزعمون أن هذا هو شرع الله ! - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله , فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع , ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم , ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد:
(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم . . إن ربك هو أعلم بالمعتدين). .
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله - ظاهره وخافيه - ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم ; وحملهم على شرائع ليست من عند الله , وافتراء أنها شريعة الله ! ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه:
(وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون). .
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم ; أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام ; أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها , يزعمون أن الله ذبحها ! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم , ولا يأكلون مما ذبح الله ?! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات ! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات:
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . .). .
وأمام هذا التقرير الأخير نقف , لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين . .
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله , ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية . . أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله , إلى الشرك بالله .
وفي هذا يقول ابن كثير:
"وقوله تعالى: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون). . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه , إلى قول غيره , فقدمتم عليه غيره . . فهذا هو الشرك . . كقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله). . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال:يا رسول الله ما عبدوهم . فقال:" بلى ! إنهم أحلوا لهم الحرام , وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم , فذلك عبادتهم إياهم " .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . .)
الآية قوله:[ استنصحوا الرجال , ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا
من الاية 121 الى الاية 122
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)
إلهاً واحداً)أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام , وما حلله فهو الحلال , وما شرعه اتبع , وما حكم به نفذ ] . .
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير . . وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه , ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من اطاع بشراً في شريعة من عند نفسه , ولو في جزئية صغيرة , فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام الى الشرك أيضاً . . مهما بقي بعد ذلك يقول:أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه . بينما هو يتلقى من غير الله , ويطيع غير الله .
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله , فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ; ولم يقبل منها شرعاً ولا حكماً . . . إلا في حدود الإكراه . .
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق . .)فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال:
"استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها , وإن كان الذابح مسلماً" . .
"وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة اقوال:
"فمنهم من قال:لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة . وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً . وهو مروي عن ابن عمر , ونافع مولاه , وعامر الشعبي , ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك , ورواية عن أحمد بن حنبل , نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين . وهو اختيار أبي ثور , وداود الظاهري . واختار ذلك ابو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين , واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية , وبقوله في آية الصيد: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه). . ثم قد أكد ذلك بقوله: (وإنه لفسق)والضمير قيل:عائد على الأكل , وقيل:عائد على الذبح لغير الله . وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد , كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة:إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك . وهما في الصحيحين . وحديث رافع بن خديج:ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه . وهو في الصحيحين أيضاً . . .
"والمذهب الثاني في المسألة:أنه لا يشترط التسمية , بل هي مستحبة , فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر . وهذا مذهب الإمام الشافعي , رحمه الله , وجميع أصحابه . ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك , ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه . وحكي عن ابن عباس , وأبي هريرة , وعطاء بن أبي رباح . والله أعلم . وحمل الشافعي الآية الكريمة: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى: (أو فسقا أهل لغير الله به). وقال ابن جريج عن عطاء: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). . قال:ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان , وينهى عن ذبائح المجوس . . وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي . . .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي , حدثنا يحيى بن المغيرة , أنبأنا جرير , عن عطاء , عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)قال:هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواهأبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات . قال:قال رسول الله [ ص ]:" ذبيحة المسلم حلال , ذكر اسم الله أو لم يذكر . إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " . . وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال:" إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل . فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
"المذهب الثالث:إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر , وإن تركها عمدا لم تحل . . هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل , وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه . وإسحاق بن راهويه . وهو محكي عن علي , وابن عباس , وسعيد بن المسيب , وعطاء , وطاووس , والحسن البصري , وأبي مالك , وعبد الرحمن بن أبي ليلى , وجعفر بن محمد , وربيعة بن ابي عبد الرحمن . . . "
"قال ابن جرير:وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية:هل نسخ من حكمها شيء أم لا ? فقال بعضهم:لم ينسخ منها شيء , وهي محكمة فيما عينت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح , عن الحسين بن واقد , عن عكرمة والحسن البصري , قالا:قال اللهفكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)وقال: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)فنسخ , واستثنى من ذلك فقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم)وقال ابن أبي حاتم:قرأ علي العباس بن الوليد بن يزيد , حدثنا محمد بن شعيب , أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال:أنزل الله في القرآن: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال: (اليوم أحل لكم الطيبات , وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)فنسخها بذلك , وأحل طعام أهل الكتاب . ثم قال ابن جرير:والصواب:أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه . . وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق من السلف النسخ هنا , فإنما أراد التخصيص , والله سبحانه وتعالى أعلم" . . . انتهى .
الدرس الثالث:122 - 125 طبيعة الإسلام وطبيعة الكفر
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر , وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجاً مكروب الأنفاس ! . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ; ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير:
أو من كان ميتاً فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها , وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا:لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام , ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء , كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك .إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ; ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة , نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ; وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء , وتصور كل شيء , وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية , التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال , واستمداد , واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية , وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ? إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود , فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله , والصلة في الله , لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج , وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب , الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فتتكشف له حقائق هذا الدين , ومنهجه في العمل والحركة , تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو "تصميما" واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة , وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ; فتتكشف له حقائق الوجود , وحقائق الحياة , وحقائق الناس , وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة , أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله , كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها , وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
(أو من كان ميتا فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?).
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها , ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز , وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء , ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال , وتلتقط الشارد , وتطمئن الخائف , وتحرر المستعبد , وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ; الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة , وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات , لا مخرج له منها ? إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ?
(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون). .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة , تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ; ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود , ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً , ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور , يسمع في الظلمة للوسوسة ; ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
وبنفس الطريقة , ولنفس الأسباب , وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . . ليتم الابتلاء ; وينفذ القدر ; وتتحقق الحكمة ; ويمضي كل فيما هو ميسر له , وينال كل جزاءه في نهاية المطاف:
(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها , وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون).
من الاية 123 الى الاية 123
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية - وهي المدينة الكبيرة والعاصمة - نفر من أكابر المجرمين فيها , يقفون موقف العداء من دين الله . ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس , ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس , ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب , ويرد هذا كله إلى الله وحده . . رب الناس . . ملك الناس . . إله الناس . .
إنها سنة من أصل الفطرة . . أن يرسل الله رسله بالحق . . بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية . فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى , ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى , وفي نشر الباطل والضلال , واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي . .
إنها سنة جارية . ومعركة محتومة . لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله - وهي رد الحاكمية كلها لله - وبين أطماع المجرمين في القرى . بل بين وجودهم أصلاً . .
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها , فهو لا يملك أن يتقيها , ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها . . والله سبحانه يطمئن أولياءه . . إن كيد أكابر المجرمين - مهما ضخم واستطال - لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف . إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها , وهو حسبهم , وهو يرد على الكائدين كيدهم:
(وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون).
فليطمئن المؤمنون !
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ; خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد , فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له , وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع , وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع , وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك:لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله:
وإذا جاءتهم آية قالوا:لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله .
وقد قال الوليد بن المغيرة:لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك , لأني أكبر منك سنا , وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل:والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً , إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !
وواضح أن الكبر النفسي , وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع , ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم , ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير:
(الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون). .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض , والدنيا بالآخرة , ويتمثل فيه الحق الكلي ,
من الاية 124 الى الاية 124
وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124)
في قلب بشر , وفي واقع ناس , وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة , لا خلوص النية والعمل وحده , ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته , ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين , ويقال لصاحبها:أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ; أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى , طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً , ويهب لها نفسه , وينسى فيها ذاته , ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب , إلا رحمة من ربك). . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل , ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
لذلك يجيبهم الرد الحاسم:
(الله أعلم حيث يجعل رسالته). .
وقد جعلها سبحانه حيث علم , واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم , وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم , حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله , وبالعذاب الشديد المهين:
(سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون). .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع , والاستكبار عن الحق , والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد , والعداء للرسل , والأذى للمؤمنين .
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الايمان في داخل القلوب والنفوس:
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
من يقدر الله له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - (يشرح صدره للإسلام); فيتسع له ; ويستقبله في يسر ورغبة , ويتفاعل معه , ويطمئن إليه ; ويستروح به ويستريح له .
ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه - (يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء). . فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله , (كأنما يصعد في السماء). . وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية , من ضيق النفس , وكربة الصدر , والرهق المضني في التصعد إلى السماء ! وبناء اللفظ ذاته(يصعد)- كما هو في قراءة حفص - فيه هذا العسر والقبض والجهد . وجرسه يخيل هذا كله , فيتناسق المشهد الشاخص , مع الحالة الواقعة , مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب:
من الاية 125 الى الاية 125
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)
(كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
. . كذلك . . بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى , ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
ومن معاني الرجس:العذاب . ومن معانيه كذلك:الارتكاس - وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه ! وهو الظل المقصود !
على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالىفمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). .
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر ; وما يصيبهم من الهدى والضلال , وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب . . إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني ! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي , وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها , موسومة بطابع المنطق الذهني .
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني . وكذلك يقتضي التعامل مع "الواقع الفعلي" لا مع "القضايا الذهنية " . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع ; وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله . في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله .
فإذا قيل:إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية . وإذا قيل:إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك ! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل , وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي . بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم . .
ولكن تصور الحقيقة "الفعلية " كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني . وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها . . إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها . . وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية .
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية . . إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له . . هو من صنع الله قطعاً . . فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه . والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسراً . . هو من صنع الله قطعا . . لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك . . وكلاهما من إرادة الله بالعبد . . ولكنها ليست إرادة القهر . إنما هي الإرادة التي انشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلي هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة . وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال .
من الاية 126 الى الاية 127
وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127)
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية . وحين يتم التعامل مع هذه القضايا , بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة , والتجربة الواقعية في التعامل معها , فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة . . وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي . . وفي غيره كذلك !
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة . .
الدرس الرابع:126-127 صراط الله المستقيم الموصل إلى دار السلام
ثم نعود إلى السياق القرآني:
إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها ; فترتبط هذه بتلك , حزمة واحدة في السياق , وحزمة واحدة في الشعور , وحزمة واحدة في بناء هذا الدين . فقضية الذبائح هي قضية التشريع . وقضية التشريع هي قضية الحاكمية . وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان . . ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب .
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير . . فهذه وتلك صراط الله المستقيم . والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم . والاستقامة عليهما معاً . . العقيدة والشريعة . . هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام , وولاية الله لعباده الذاكرين:
(وهذا صراط ربك مستقيما . قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون). .
هذا هو الصراط . . صراط ربك . . بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة ; المبشرة بالنهاية . . هذه هي سنته في الهدى والضلال ; وتلك هي شريعته في الحل والحرمة . كلاهما سواء في ميزان الله , وكلاهما لحمة في سياق قرآنه .
وقد فصل الله آياته وبينها . ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل . فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل . وقلب منشرح مبسوط مفتوح . وقلب حي يستقبل ويستجيب .
والذين يتذكرون , لهم دار السلام عند ربهم . . دار الطمأنينة والأمان . . مضمونة عند ربهم لا تضيع . . وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم . . ذلك بما كانوا يعملون . . فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء .
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة . حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة . ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة . . إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين . .
الوحدة الخامسة:128 - 135 الموضوع:مصير شياطين الإنس والجن وتهديدهم بعذاب الله
من الاية 128 الى الاية 128
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128)
هذا المقطع بجملته ليس منفصلاً عن الدرس السابق . إنما هو امتداد له . من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها . . فهو من ناحية استطراد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن - بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله - وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع . وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية ; ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا - بعد النذارة والبشارة - وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم , وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله . وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح - قبلها - ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد ; وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون ; فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعا ; وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين . وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء . لا فرق بينها في ميزان الله , كما يقيمه في كتابه الكريم .
الدرس الأول:128 - 130 خزي شياطين الإنس والجن يوم القيامة
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام ; فتبقى قلوبهم ذاكرة لاتغفل ; وأنهم ماضون إلى دار السلام , منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته . . فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد - على طريقة القرآن الغالبة في عرض "مشاهد القيامة " - يعرض شياطين الإنس والجن , الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالاً ; ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي ; ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام . . يعرضهم في مشهد شاخص حي , حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب , فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن .
(ويوم يحشرهم جميعا:يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض , وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! قال:النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيمعليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس , ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? قالوا:شهدنا على أنفسنا ! وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على انفسهم أنهم كانوا كافرين). .
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل , يوم يحشرهم جميعا . . ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة . وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة . فتقدير الكلام , (ويوم يحشرهم جميعا)- فيقول - (يا معشر الجن والإنس . . .)ولكن حذف كلمة - يقول - ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ; ويحيل السياق من مستقبل ينتظر , إلى واقع ينظر ! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب . . .
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض:
(يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس !). .
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس , المستمعين لإيحائكم , المطيعين لوسوستكم , المتبعين لخطواتكم . . وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس ! إنما يقصد به تسجيل الجريمة - جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض ! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود ! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء . . ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون:
(وقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض , وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا !). .
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع ; كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع . . لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار , ومن المكابرة والاستهتار , ومن الإثم ظاهره وباطنه ! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان ! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال . . كانت تستهويهم وتعبث بهم ; وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس ! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا , وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون ! ومن ثم يقولون:
(ربنا استمتع بعضنا ببعض !). .
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة , حتى حان الأجل , الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه ; وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع:
(وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا)!
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل , بالجزاء العادل:
(قال:النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله -)
فالنار مثابة ومأوى . والمثوى للإقامة . وهي إقامة الدوام . . (إلا ما شاء الله)لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي . فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور . والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد . ولا في مقرراتها هي .
(إن ربك حكيم عليم).
مواضيع مماثلة
» تفسيرسوره الانعام ايه 137==145 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسيرسوره الانعام ايه52==57 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 92==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى