منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب Empty تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء أبريل 11, 2012 10:07 pm

من الاية 22 الى الاية 24

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24)

وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم - عن طريق الكهان والشيوخ - شرائع وقيما وتقاليد , لم يأذن بها الله . . وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله ! وفي هذا المشهد - مشهد الحشر والمواجهة - يواجه المشركين - كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك - بسؤالهم عن الشركاء - كل أصناف الشركاء - أين هم ? فإنه لا يبدو لهم أثر ; ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب:

(ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ?). .

والمشهد شاخص , والحشر واقع , والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم . . الأليم: (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ?). .

وهنا يفعل الهول فعله . . هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا . . هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة - كما هو منعدم في الواقع والحقيقة - وجود الشركاء ; فيشعرون أنه لم يكن شرك , ولم يكن شركاء . . لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع . . هنا "يفتنون فيذهب الخبث , ويسقط الركام - من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد -:

(ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا:والله ربنا ما كنا مشركين). .

إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنه , أو التي تبلورت فيها الفتنة , هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده ; وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا . . ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل . . فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة . . لقد فات الأوان . . فاليوم للجزاء لا للعمل . . واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان . .

لذلك يقرر الله سبحانه , معجبا رسوله [ ص ] من أمر القوم , أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء , حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة . وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه , فاعترفوا بالحق بعد ما غاب عنهم الافتراء:

(انظر كيف كذبوا على أنفسهم , وضل عنهم ما كانوا يفترون). .

فالكذب منهم كان على أنفسهم ; فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكا , وافتروا على الله هذا الافتراء . وقد ظل عنهم ما كانوا يفترون وغاب , في يوم الحشر والحساب !

هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته:أنهم ما كانوا مشركين . وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك . فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله , وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله - كما تقول بعض التفاسير - فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثا . . إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب ; وأنمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك . ثم تعجيب الله - سبحانه - من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا ; والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة !

. . والله أعلم بمراده على كل حال . . إنما هو احتمال . .

الدرس الثالث:25 - 28 محاربة الكفار للحق وخزيهم في الآخرة وكذبهم في تمني العودة للدنيا

ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ; ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم
من الاية 25 الى الاية 25

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)

وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك , مطموسي الفطرة , معاندين مكابرين , يجادلون رسول الله [ ص ] وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد , ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين ; وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة , وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا مكروبا ; وهم موقوفون على النار محبوسون عليها , وهي تواجههم بهول المصير الرعيب ; وهم يتهافتون متخاذلين ; ويتهاوون متحسرين ; يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف , الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير:

ومنهم من يستمع إليك , وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا , وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها , حتى إذا جاؤوك يجادلونك , يقول الذين كفروا:إن هذا إلا أساطير الأولين . وهم ينهون عنه وينأون عنه , وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا:يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ! بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل , ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه , وإنهم لكاذبون . . إنهما صفحتان متقابلتان:صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض ; وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمها السياق القرآني , ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي ; ويخاطب بهما الفطر الجاسية ; ويهز بها هذه الفطر هزا , لعل الركام الذي ران عليها يتساقط , ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح , ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان .

(ومنهم من يستمع إليك , وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا , وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها). .

والأكنة:الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه ; والوقر:الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .

وهذه النماذج البشرية التي تستمع ; ولكنها لا تفقه , كأن ليس لها قلوب تدرك ; وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل , في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان !

وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاؤوك يجادلونك . يقول الذين كفروا:إن هذا إلا أساطير الأولين . .

فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم !

فما الذي أصاب القوم يا ترى ? ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول ? يقول الله - سبحانه -:

(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها). .

وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه ; وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له , مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .

غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). .

ويقولSadونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها , قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها). . فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى ; وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتوجهوا إلى الهدى ليهديهم الله ; ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم , فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء ; فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا ; وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد , وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا , وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم , وعلى قضائه فيهم , إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق , وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفههاSadوقال الذين أشركوا:لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا , ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ? ولقد بعثنا في كل أمة رسولا:أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت , فمنهم من هدى الله , ومنهم من حقت عليه الضلالة , فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم ; وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .

والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر , والجبر والاختيار , وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية , تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات , إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة ; التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله ; وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها , والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه ; وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا , فتكون . . وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء !

والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان , في هذا القرآن , الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق ; وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب , وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها , لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا ; بل عطلوا فطرتهم وحوافزها ; فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا ; وصاروا حين يجيئون إلى الرسول [ ص ] لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب ; ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق ; ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب:

حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا:إن هذا إلا أساطير الأولين . .

والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .

وهم كانوا يعلمون جيدا أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون ; ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب ; ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصا عن الرسل وأقوامهم ; وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب , قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله: (إن هذا إلا أساطير الأولين)!
من الاية 26 الى الاية 27

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن , وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر , وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين , يجلس مجلسا قريبا من رسول الله [ ص ] وهو يتلو القرآن . فيقول للناس:إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين , فعندي أحسن منها ! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير , ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم !

ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة:

(وهم ينهون عنه , وينأون عنه , وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون). .

لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون ! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي , والباطل الواهن المتداعي , أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن ; كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق , وأبي سفيان بن حرب , وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .

وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ; ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه -: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)!

وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة , في الدنيا والآخرة ?

إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .

ومن شاء ان يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى:

(ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا:يا ليتنا نرد , ولا نكذب بآيات ربنا , ونكون من المؤمنين)!

إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض !

(ولو ترى إذ وقفوا على النار). .

لو ترى ذلك المشهد ! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي ! ولا يملكون الجدل والمغالطة !

لو ترى لرأيت ما يهول ! ولرأيتهم يقولون:
من الاية 28 الى الاية 29

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

(يا ليتنا نرد , ولا نكذب بآيات ربنا , ونكون من المؤمنين). .

يعلمون الآن أنها كانت (آيات ربنا)! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا . وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات , وعندئذ سيكونون من المؤمنين !

ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون !

على أنهم إنما يجهلون جبلتهم . فهي جبلة لا تؤمن . وقولهم هذا عن أنفسهم:إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين , إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل ! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه , إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون , وأنهم ناجون , وأنهم مفلحون .

(بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وإنهم لكاذبون). .

إن الله يعلم طبيعتهم ; ويعلم إصرارهم على باطلهم ; ويعلم أن رجفة الموقف الرعيب على النار هي التي أنطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود . . (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون). .

ويدعهم السياق في هذا المشهد البائس , وهذا الرد يصفع وجوهم بالمهانة والتكذيب !

الدرس الرابع:29 - 32 حقيقة الحياة في التصور الإسلامي

يدعهم ليفتح صفحتين جديدتين متقابلتين كذلك ; ويرسم لهما مشهدين متقابلين:أحدهما في الدنيا وهم يجزمون بأن لا بعث ولا نشور , ولا حساب ولا جزاء . وثانيهما في الآخرة وهم موقوفون على ربهم يسألهم عما هم فيه: (أليس هذا بالحق ?). . السؤال الذي يزلزل ويذيب . . فيجيبون إجابة المهين الذليل: (بلى ! وربنا). . فيجبهون عندئذ بالجزاء الأليم بما كانوا يكفرون . . ثم يمضي السياق يرسم مشهدهم والساعة تأخذهم بغتة , بعدما كذبوا بلقاء الله , فتنتابهم الحسرة ; وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ! وفي النهاية يقرر حقيقة وزن الدنيا والآخرة في ميزان الله الصحيح:

(وقالوا:إن هي إلا حياتنا الدنيا , وما نحن بمبعوثين . ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال:أليس هذا بالحق ? قالوا:بلى وربنا . قال:فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا:يا حسرتنا على ما فرطنا فيها , وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون , وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو , وللدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون ?)

وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية , التي جاء بها الإسلام ; والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية . والتي لا يقوم هذا الدين - عقيدة وتصورا , وخلقا وسلوكا , وشريعة ونظاما - إلا عليها . . وبها . .

إن هذا الدين الذي أكمله الله , وأتم به نعمته على المؤمنين به , ورضيه لهم دينا - كما قال لهم في كتابه الكريم - هو منهج للحياة كامل في حقيقته , متكامل متناسق في تكوينه . . "يتكامل" ويتناسق فيه تصوره الاعتقادي مع قيمه الخلقية , مع شرائعه التنظيمية . . وتقوم كلها على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية فيه وحقيقة الحياة الآخرة .

فالحياة - في التصور الإسلامي - ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد ; وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس ; كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا .

إن الحياة - في التصور الإسلامي - تمتد طولا في الزمان , وتمتد عرضا في الآفاق , وتمتد عمقا في العوالم , وتمتد تنوعا في الحقيقة . . عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها .

إن الحياة - في التصور الإسلامي - تمتد في الزمان , فتشمل هذه الفترة المشهوده - فترة الحياة الدنيا - وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله ; والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار !

وتمتد في المكان , فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر ; دارا أخرى:جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ; ونارا تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين !

وتمتد في العوالم , فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقة كلها إلا الله ; ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله . وجود يبدأ من لحظة الموت , وينتهي في الدار الآخرة . وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله . وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله .

وتمتد الحياة في حقيقتها ; فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا , إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى . . في الجنة وفي النار سواء . . وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا . . ولا تساوي الدنيا - بالقياس إليها - جناح بعوضة !

والشخصية الإنسانية - في التصور الإسلامي - يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان , وفي هذه الآفاق من المكان , وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات . . ويتسع تصورها للوجود كله ; وتصورها للوجود الإنساني ; ويتعمق تذوقها للحياة ; وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها , بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات . . بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة , يتضاءل تصورهم للوجود الكوني , وتصورهم للوجود الإنساني ; وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا !

ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم , ويبدأ الاختلاف في النظم . . ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق ; وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه:تصورا واعتقادا , وخلقا وسلوكا وشريعة ونظاما . .

إن إنسانا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات , غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق , ويصارع الآخرين عليه , بلا انتظار لعوض عما يفوته , ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به . . إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس !

إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشى ء سعة في النفس وكبرا في الاهتمامات ورفعة في المشاعر ! ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك , غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم ! فاذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه , طبيعة هذا التصور , والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة , وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته ; استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله , وأنه مناط العوض والجزاء ; وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه - متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي - وصلحت الأوضاع والأنظمة , التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف , وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها ; ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة , فيخسرون الدنيا والآخرة !

والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون:إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا ; وإلى إهمال هذه الحياة ; وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها ; وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة . . الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة ! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة - كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة - وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم . . فالدنيا - في التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة . والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة , ورفع الشر والفساد عنها , ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها , ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعا . . كل أولئك هو زاد الآخرة ; وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة , ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل , وما أصابهم من الأذى . .

فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن , أو تفسد وتختل , أو يشيع فيها الظلم والطغيان , أو تتخلف في الصلاح والعمران . . وهم يرجون الآخرة , وينتظرون فيها الجزاء من الله ?

إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ; ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا - مع ادعائهم الإسلام - فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ; ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف ! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ; ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة . فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة , وهو يعي حقيقة هذا الدين , ثم يعيش في هذه الحياة سلبيا , أو متخلفا , أو راضيا بالشر والفساد والطغيان .

إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا , وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى . ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة . ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها . ويكافح الشر والفساد والظلم محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة . . إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة ; وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا ; وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى . .

وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقية الحياة الآخرة ; وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع ; وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى ; وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم .

من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة . ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الأخرة . .

وكان العرب في جاهليتهم - وبسبب من هذه الجاهلية - لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا ; ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر:ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة . . مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته . . شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة . . "العلمية " كما يصر أهلها على تسميتها !

(وقالوا:إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين). .

وكان الله - سبحانه - يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة . . هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور , التي تلصق الإنسان بالأرض , وتلصق تصوره بالمحسوس منها
من الاية 30 الى الاية 30

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

كالبهيمة . . وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان , التي تطلق السعار في النفس , والتكالب على المتاع المحدود , والعبودية لهذا المتاع الصغير , كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح , ولا هدنة , ولا أمل في عوض , إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة , التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة ! . . وهذه الأنظمة والأوضاع , التي تنشأ في الأرض منظورا فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان ; بلا عدل ولا رحمة , ولا قسط ولا ميزان . . إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضا , وتصارع الطبقات بعضها بعضا , وتصارع الأجناس بعضها بعضا . . وينطلق الكل في الغابة انطلاقا لا يرتفع كثيرا على انطلاق الوحوش والغيلان ! كما نشهد اليوم في عالم "الحضارة " . . في كل مكان . .

كان الله - سبحانه - يعلم هذا كله ; ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية , وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية . . أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة . . من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . .

ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة . . أولا لأنها حقيقة . والله يقص الحق . وثانيا لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان:تصورا واعتقادا , وخلقا وسلوكا , وشريعة ونظاما .

ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق . . الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتز لها وترجف ; فتفتح نوافذها , وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها , وتتحرك وتحيا , وتتأهب للتلقي والاستجابة . . ذلك كله فضلا على أنها تمثل الحقيقة:

(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم . قال:أليس هذا بالحق ? قالوا:بلى وربنا . قال:فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .

هذا مصير الذين قالوا: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين). . وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين ; وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه , لا يبرحون الموقف . وكأنما أخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب:

(قال:أليس هذا بالحق ?). .

وهو سؤال يخزي ويذيب ! (قالوا:بلى وربنا). .

الآن . وهم موقوفون على ربهم . في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون ! وفي اختصار يناسب جلال الموقف , ورهبة المشهد , وهول المصير , يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير:قال: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .

وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي ! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم , وأخلدت إلى الأرض , وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل ! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب ; الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة ; الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة ! بذلك التصور الهابط الهزيل !
من الاية 31 الى الاية 31

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (31)

ويستكمل السياق المشهد الذي ختمه هناك بهذا القضاء العلوي تنسيقا له مع الجلال والروعة والهول . . يستكمله بتقرير حقيقته:

(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله . حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا:يا حسرتنا على ما فرطنا فيها !). .

فهي الخسارة المحققة المطلقة . . خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى . . وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا . . والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حسابا:

(حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا:يا حسرتنا على ما فرطنا فيها !). .

ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال:

(وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم). .

بل الدواب أحسن حالا . فهي تحمل أوزارا من الأثقال . ولكن هؤلاء يحملون أوزارا من الآثام ! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح . وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم . مشيعين بالتأثيم:

(ألا ساء ما يزرون !). .

وفي ظلال هذا المشهد الناطق بالخسارة والضياع , بعد ذلك المشهد الناطق بالهول والرهبة . . يجيء الإيقاع الأخير في هذا القطع ; بحقيقة وزن الدنيا ووزن الآخرة في ميزان الله ; وقيمة هذه الدنيا وقيمة الآخرة في هذا الميزان الصحيح:

(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو , وللدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون ?). .

هذه هي القيمة المطلقة الأخيرة في ميزان الله للحياة الدنيا وللدار الآخرة . . وما يمكن أن يكون وزن ساعة من نهار , على هذا الكوكب الصغير , إلا على هذا النحو , حين توازن بذلك الأبد الأبيد في ذلك الملك العريض . وما يمكن أن تكون قيمة نشاط ساعة في هذه العبادة إلا لعبا ولهوا حين تقاس إلى الجد الرزين في ذلك العالم الآخر العظيم . .

هذا تقييم مطلق . . ولكنه في التصور الإسلامي لا ينشى ء - كما قلنا - إهمالا للحياة الدنيا ولا سلبية فيها ولا انعزالا عنها . . وليس ما وقع من هذا الإهمال والسلبية والانعزال وبخاصة في بعض حركات "التصوف" "والزهد" بنابع من التصور الإسلامي أصلا . إنما هو عدوى من التصورات الكنسية الرهبانية ; ومن التصورات الفارسية . ومن بعض التصورات الإشراقية الإغريقية المعروفة بعد انتقالها للمجتمع الإسلامي !

والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة , لم تكن سلبية ولا انعزالية . . فهذا جيل الصحابة كله ; الذين قهروا الشيطان في نفوسهم , كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض ; حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات . . هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله , هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة , وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة , وطاقة فائضة , في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة .

إنما أفادهم هذا التقييم الرباني للحياة الدنيا وللدار الآخرة , أنهم لم يصبحوا عبيدا للدنيا . لقد ركبوها ولم تركبهم ! وعبدوها فذللوها لله ولسلطانه ولم تستعبدهم ! ولقد قاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح , ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله , ويرجون الدار الآخرة فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا , ثم سبقوهم كذلك في الآخرة !
من الاية 32 الى الاية 32

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32)

والآخرة غيب . فالأيمان بها سعة في التصور . وارتقاء في العقل . والعمل لها خير للمتقين يعرفه الذين يعقلون:

(وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون). .

والذين ينكرون الآخرة اليوم لأنها "غيب" إنما هم الجهال الذين يدعون العلم . . فالعلم علم الناس - [ كما سنذكر فيما بعد ] لم يعد لديه اليوم حقيقة واحدة مستيقنة له إلا حقيقة الغيب وحقيقة المجهول !!!

الوحدة الخامسة:33 - 39 الموضوع:مواساة الرسول وبيان طريق الدعوة مقدمة الوحدة من سورة الأنعام

في هذه الموجة من موجات السياق المتدفق في السورة ; يتجه الحديث إلى رسول الله [ ص ] يطيب الله - سبحانه - خاطره في أوله , مما يلاقيه من تكذيب قومه له , وهو الصادق الأمين , فإنهم لا يظنون به الكذب , إنما هم مصرون على الجحود بآيات الله وعدم الاعتراف بها وعدم الإيمان , لأمر آخر غير ظنهم به الكذب ! كما يواسيه بما وقع لإخوانه الرسل قبله من التكذيب والأذى , وما وقع منهم من الصبر والاحتمال , ثم ما انتهى إليه أمرهم من نصر الله لهم . وفق سنته التي لا تتبدل . . حتى إذا انتهى من المواساة والتسرية والتطمين , التفت إلى النبي [ ص ] يقرر له الحقيقية الكبرى في شأن هذه الدعوة . . إنها تجري بقدر الله وفق سنته , وليس للداعية فيها إلا التبليغ والبيان . . إن الله هو الذي يتصرف في الأمر كله , فليس على الداعية إلا أن يمضي وفق هذا الأمر , لا يستعجل خطوة ولا يقترح على الله شيئا . حتى ولو كان هو
من الاية 33 الى الاية 34

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

النبي الرسول ! ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين - ولا الناس عامة - في منهج الدعوة , ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه . . والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون , أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون , والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة .

وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم , والله قادر على أن ينزل آية . ولكنه سبحانه لا يريد - لحكمة يراها - فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية ! . . إن الله - سبحانه - هو خالق الخلائق جميعا , وعنده أسرار خلقهم , وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم . وهو يترك المكذبين من البشر صما وبكما في الظلمات , ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع . .

الدرس الأول:33 - 36 مواساة الرسول على ما يلاقيه من قومه وبيان طريق الدعوة

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). .

إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد [ ص ] فلقد عرفوه صادقا أمينا , ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة , كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته , وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر , ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله . .

ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق , ويرفضون الدخول في الدين الجديد ! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي [ ص ] ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم . . وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله , والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه . .

والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة:

قال ابن اسحاق:حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري:أنه حدث , أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي , حليف بني زهرة , خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه . وكل لا يعلم بمكان صاحبة . فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الصبح تفرقوا , فجمعهم الطريق , فتلاوموا , وقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له . حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود . فتعاهدوا على ذلك . . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه , ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:يا أبا ثعلبة , والله لقد سمعت أشياء أعرفها , وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل , فدخل عليه في بيته , فقال:يا أبا الحكم , ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . . أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا , حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء , فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولانصدقه ! قال:فقام عنه الأخنس وتركه . .

وروى ابن جرير - من طريق أسباط عن السدي - في قولهSadقد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك , ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). . لما كان يوم بدر , قال الأخنس بن شريق لبني زهرة:يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم , فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته , فإن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم , وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته . قفوا حتى ألقى أبا الحكم , فإن غلب محمد رجعتم سالمين , وإن غلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئا - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل , فخلا به , فقال:يا أبا الحكم أخبرني عن محمد:أصادق هو أم كاذب ? فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ! فقال أبو جهل:ويحك ! والله إن محمدا لصادق , وما كذب محمد قط , ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة , فماذا يكون لسائر قريش ? فذلك قوله: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). .

ونلاحظ:أن السورة مكية , وهذه الآية مكية لا شك في ذلك ; بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر . . ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحيانا عن آية ما:"فذلك قوله:كذا . . " ويقرنون إليها حادثا ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ; ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث , بغض النظر عما إذا كان سابقا أو لاحقا . . فإننا لا نستغرب هذه الرواية . .

وقال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله [ ص ] جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش , ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها , فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه , ورأوا أصحاب رسول الله [ ص ] يزيدون ويكثرون - فقالوا:بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله [ ص ] فقال:يا ابن أخي . . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة , والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم , فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله [ ص ]:"قل:يا أبا الوليد أسمع" قال:يا ابن أخي , إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا , وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع امرا دونك , وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء , وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة , ورسول الله [ ص ] يستمع منه - قال:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال:بسم الله الرحمن الرحيم(حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . .)ثم مضى رسول الله [ ص ] فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره , معتمدا عليهما , يستمع منه , حتى انتهى رسول الله [ ص ] إلى السجدة منها فسجد . ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت , فأنت وذاك " . . فقام عتبة إلى أصحابة . فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليدبغير الوجه الذي ذهب به ! فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر , ولا بالشعر , ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ , فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال:هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم !

وقد روى البغوي في تفسيره حديثا - بإسناده - عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله [ ص ] مضى في قراءته إلى قولهSadفإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). . فأمسك عتبة على فيه , وناشده الرحم , ورجع إلى أهله , ولم يخرج إلى قريش , واحتبس عنهم . . . إلى آخره . . . ثم لما حدثوه في هذا قال:فأمسكت بفيه , وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب . .

وقال ابن اسحاق:إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم:يا معشر قريش , إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا , فاجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا:فأنت يا أبا عبد شمس فقل , وأقم لنا رأيا نقل به . قال:بل أنتم فقولوا:أسمع . قالوا:نقول:كاهن ! قال:لا والله ما هو بكاهن , لقد رأينا الكهان , فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ! قالوا:فنقول:مجنون ! قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ! قالوا:فنقول:شاعر ! قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه , فما هو بالشعر ! قالوا:فنقول:ساحر ! قال:ما هو بساحر , لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم ! قالوا:فما نقول يا أبا عبد الشمس ? قال:والله إن لقوله لحلاوة ,

وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة , وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:هو ساحر , جاء بقول هو سحر , يفرق به بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجته , وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا له أمره !

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى , حدثنا محمد بن ثورة , عن معمر , عن عبادة بن منصور , عن عكرمة:أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي [ ص ] فقرأ عليه القرآن , فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام . فأتاه فقال له:أي عم ! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ! قال:لم ? قال:يعطونكه , فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ! [ يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازا ! ] قال:قد علمت قريش أني أكثرها مالا ! قال:فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال , وأنك كاره له ! قال:فماذا أقول فيه ? فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني , ولا أعلم برجزه ولا بقصيده , ولا بأشعار الجن ! والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا . والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليحطم ما تحته , وإنه ليعلو وما يعلى . قال:والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال:فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال:إن هذا إلا سحر يؤثر . يؤثره عن غيره .فنزلتSadذرني ومن خلقت وحيدا . .)حتى بلغSadعليها تسعة عشر).

وفي رواية أخرى أن قريشا قالت:لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها ! فقال أبو جهل:أنا أكفيكموه ! ثم دخل عليه . . وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .

فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله [ ص ] يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات , وما وراءها من السبب الرئيسي , وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب , الذي يزاولونه , وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ; وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة . وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم:

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك , ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). .

والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .

ويستطرد من تطييب خاطر الرسول [ ص ] وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى