تفسير سورة النساء ايه29==34 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النساء ايه29==34 الشيخ سيد قطب
من الاية 29 الى الاية 30
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (30)
الدرس الرابع:29 - 31 النهي عن أكل المال بالباطل
والفقرة الثانية في هذا الدرس , تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم , لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب ; لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ; ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام , لتصفية هذا النظام , وتخصيص الميراث بالأقارب ; ومنع عقود الولاء الجديدة:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم , إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارًا . وكان ذلك على الله يسيرًا . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ; وندخلكم مدخلا كريمًا . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض , للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن , وأسالوا الله من فضله , إن الله كان بكل شيء عليمًا . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ; والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
إنها حلقة في سلسلة التربية , وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان ; أو متداخلان ; أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية ; كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية ; والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر ; كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع , وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع ; وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معًا - إلى ربط القلب بالله , وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية , ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس ; وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة , ومس النار ! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير , والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض , والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء . وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا , وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن , وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليمًا . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء , والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوبًا بأن الله كان على كل شيء شهيدًا . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع , وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان , وتكوينه النفسي , ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .
( أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيمًا . ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا , وكان ذلك على الله يسيرًا ) .
النداء للذين آمنوا , والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ; واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء: يا أيها الذين آمنوا . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها , لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله , أو نهى عنها , ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها , وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ; فإن كان قد نزل قبله , فقد كان تمهيدًا للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده , فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري:
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). .
وهو استثناء منقطع . . تأويله:ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني , يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى , التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا: (إنما البيع مثل الربا). . ورد الله عليهم في الآية نفسها: (وأحل الله البيع وحرم الربا). . فقد كان المرابون يغالطون , وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون:إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا !
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا , وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ; والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ; تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ; ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معًا . وهي خدمة للطرفين , وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ; ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ; وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز , المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال ; وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري , الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ; وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ; كما حكم عليه الإسلام !
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة , هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعًا كما يقول النحويون !
(ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما). .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ; فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ; إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها , حين ينهاهم عنها !
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة:بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع:كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين ! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة , إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها , وتتردى في هاوية الدمار !
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة , المردية للنفوس ; وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ; ومن تدارك ضعفهم الإنساني , الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله , إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات !
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة , تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل , معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة ; بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول ; فالجماعة كلها متضامنة في التبعة ; ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة , التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
(ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما , فسوف نصليه نارا , وكان ذلك على الله يسيرا).
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها ; ويقيم من النفس حارسا حذرا يقظا على تلبية التوجيه , وتنفيذ التشريع ; ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيبا لأنها كلها مسؤولة ; وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا , وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها . . (وكان ذلك على الله يسيرا)فما يمنع منه مانع , ولا يحول دونه حائل , ولا يتخلف , متى وجدت أسبابه , عن الوقوع !
وفي مقابل اجتناب "الكبائر" - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته , وغفرانه , وتجاوزه عما عدا الكبائر ; مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم , وتطمينًا لقلوبهم ; وعونًا لهم على التحاجز عن النار ; باجتناب الفواحش الكبار:
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه , نكفر عنكم سيئاتكم , وندخلكم مدخلا كريما).
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة , والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود , والأوامر والنواهي , التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ; وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف , وهذه التكاليف , لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ; ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ; ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ; ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
من الاية 31 الى الاية 31
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31)
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ; وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه , وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف , وتعطف على القصور ; وتقبل التوبة , وتصفح عن التقصير ; وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين , في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ; لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ; ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيهاوالذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . وعدهم من "المتقين" .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله , متى اجتنبت الكبائر ; وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ; مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ; فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة , والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم "الكبائر" من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة , وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف , وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ; وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس:
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية , عن ابن عون ; عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر , فقالوا:نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها , لا يعمل بها ; فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال:متى قدمت ? فقال:منذ كذا وكذا . قال:أبإذن قدمت ? قال:فلا أدري كيف رد عليه . فقال:أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر , فقالوا:إنا نرى أشياء في كتاب الله , أمر أن يعمل بها , فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال:فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون:أظنه قال:في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ; فقال أنشدك الله , وبحق الإسلام عليك , أقرأت القرآن كله ! قال:نعم . قال:فهل أحصيته في نفسك ? فقال:اللهم لا - ولو قال:نعم , لخصمه ! قال:فهل أحصيته في بصرك ? فهل أحصيته في لفظك ? هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال:ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ? قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
من الاية 32 الى الاية 32
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
سيئاتكم). . . الآية . ثم قال:هل علم أهل المدينة ? أو قال:هل علم أحد بما قدمتم ? قالوا:لا . قال:لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ; وقد قوم القرآن حسه ; وأعطاه الميزان الدقيق . . "وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات , وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
الدرس الخامس:32 - 33 تنظيم الصلات بين الرجال والنساء
وفي سياق الحديث عن الأموال , وتداولها في الجماعة , تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات . وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام . الذي سبق تفصيله في أوائل السورة:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . . للرجال نصيب مما اكتسبوا , وللنساء نصيب مما اكتسبن . . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون . والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض . . من أي أنواع التفضيل , في الوظيفة والمكانة , وفي الاستعدادات والمواهب , وفي المال والمتاع . . وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة . . والتوجه بالطلب إلى الله , وسؤاله من فضله مباشرة ; بدلا من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت ; وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ; ومن حنق كذلك ونقمة , أو من شعور بالضياع والحرمان , والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور . . وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله ; وسوء ظن بعدالة التوزيع . . حيث تكون القاصمة , التي تذهب بطمأنينة النفس , وتورث القلق والنكد ; وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة , وفي اتجاهات كذلك خبيثة . بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله , هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء , الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى , ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب ! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء ; ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب , بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال !
النص عام في هذا التوجيه العام . ولكن موضعه هنا من السياق , وبعض الروايات عن سبب النزول , قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتًا معينًا , وتفضيلا معينا هو الذي نزل هذا النص يعالجه . . هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء . . كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك . . وهذا الجانب - على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل ; وإشاعة هذا الرضا - من ثم - في البيوت وفي المجتمع المسلم كله ; إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام . . هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب . . ولهذا روت التفاسير المأثورة , هذا المعنى وذاك:
قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان , عن أبى نجيح , عن مجاهد , قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله ,تغزو الرجال ولا نغزو , ولنا نصف الميراث . . فأنزل الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض).
ورواه ابن أبي حاتم , وابن جرير , وابن مردويه , والحاكم في مستدركه . من حديث الثوري , عن أبي نجيح , عن مجاهد . قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله . لا نقاتل فنستشهد , ولا نقطع الميراث . . فنزلت الآية . . ثم أنزل الله: (أني لا أضيع عمل عامل منكم , من ذكر أو أنثى). . الآية .
وقال السدي في الآية:إن رجالاً قالوا:إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء , كما لنا في السهام سهمان ! وقالت النساء:إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء , فإننا لا نستطيع أن نقاتل , ولو كتب علينا القتال لقاتلنا ! فأبى الله ذلك , ولكن قال لهم:سلوني من فضلي . قال ليس بعرض الدنيا . . وروى مثل ذلك عن قتادة . . كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية:
قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس في الآية , قال:" ولا يتمنى الرجل فيقول:ليت لي مال فلان وأهله . فنهى الله عن ذلك . ولكن يسأل من فضله" . . وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا . .
ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط ; كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء , لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة , تمشيًا مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه , وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد . . إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه . .
ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره . لا لحساب الرجال , ولا لحساب النساء ! ولكن لحساب "الإنسان" ولحساب "المجتمع المسلم" ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه . وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .
إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف ; وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء . والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة ; وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة ; لتنوط بكل منهما وظائف معينة . . لا لحسابه الخاص . ولا لحساب جنس منهما بذاته . ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم , وتنتظم , وتستوفي خصائصها , وتحقق غايتها - من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة - عن طريق هذا التنوع بين الجنسين , والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف . . وعن طريق تنوع الخصائص , وتنوع الوظائف , ينشأ تنوع التكاليف , وتنوع الأنصبة , وتنوع المراكز . . لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى . . المسماة بالحياة . .
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء , ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة , لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات , ولا كذلك للجدل الحديث , الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام . ويطغى أحيانًا على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام !
إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين , تسجل فيه المواقف والانتصارات . . ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص "المرأة " وثلبها , وإلصاق كل شائنة بها . . سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل . . فالمسألة ليست معركة على الإطلاق ! إنما هي تنويع وتوزيع . وتكامل . وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله .
يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية ; التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها ; وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة . أو مصالح طبقات غالبة فيها , أوبيوت , أو أفراد . . ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله , وبوظيفة الجنسين في الحياة , أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها . أو في توزيع الميراث , أو حقوق التصرف في المال - كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة !
فأما في المنهج الإسلامي فلا . . لا ظل للمعركة . ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا . ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل ; ومحاولة النيل من أحدهما , وثلبه , وتتبع نقائصه ! . . ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص , لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف , ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز . . فكل ذلك عبث من ناحية وسوء قهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية !
وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه . . وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح , الذي يتجه بكليته إلى الآخرة ; وهو يقوم بشئون هذه الدنيا . . وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه . وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديمًا . . وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالا ونساء في هذه الأيام . .
إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها ; ولم يمنعها منه - حين تكون هناك حاجة إليها , لا يسدها الرجال - وقد شهدت المغازي الإسلامية آحادًا من النساء - مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد - وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة ; ولم يكن هو القاعدة . . وعلى أية حال , فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال .
إن الجهاد لم يكتب على المرأة , لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون . وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها , العضوي والنفسي ; ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء . وهي - في هذا الحقل - أقدر وأنفع . . هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل ; وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر ; بل هي - وعلى وجه التحديد - كل خلية منذ تلقيح البويضة , وتقرير أن تكون أنثى أو ذكرًا من لدن الخالق - سبحانة - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية , والظواهر النفسية الكبرى . . وهي أنفع - بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل - فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث ; تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ . والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال - أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال ! فرجل واحد - في النظام الإسلامي - وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته - يمكن أن يجعل نساء أربعًا ينتجن , ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان . ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد , لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال . وليس ذلك إلا بابًا واحدًا من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد . . . ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه , واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين , لا يتسع لها المجال هنا , لأنها تحتاج إلى بحث خاص . . وأما الأجر والثواب , فقد طمأن الله الرجال والنساءعليه , فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق . .
والأمر في الميراث كذالك . . ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثارًا للرجل في قاعدةفللذكر مثل حظ الأثنين). . ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في اوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما . . فالغنم بالغرم , قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي . . فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقًا . والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه , وهي معفاة من هذا التكليف , ولو كان لها مال خاص - وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل !! - والرجل عليه في الديات والأرش [ التعويض عن الجراحات ] متكافلا مع الأسرة , والمرأة منها معفاة . والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة - الأقرب فالأقرب - والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام . . حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة , أو عند الطلاق , يتحملها الرجل , ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء . . فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث . ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث . ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب ; وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة , لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين ; الذي لا يقوم بمال , ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام !
وهكذا نجد معالم التوازن الشامل , والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم , الذي شرعه الحكيم العليم . .
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية:
(للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). .
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية - كغيرها من الجاهليات القديمة - تحيف عليه ; ولا تعترف به للمرأة - إلا في حالات نادرة - ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه . إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة , كالمتاع !
وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة - التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر - تتحيفه , فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور . وبعضها يجعل إذن الولي ضروريًا لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال ; ويجعل إذن الزواج ضروريًا لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص ! وذلك بعد ثوارت المرأة وحركاتها الكثيرة ; وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله , وفي نظام الأسرة , وفي الجو الأخلاقي العام .
فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء ; وبدون طلب منها , وبدون ثورة , وبدون جمعيات نسوية , وبدون عضوية برلمان !! منحها هذا الحق تمشيًا مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة ; وإلى تكريم شقي النفس الواحدة ; وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة ; وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء .
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام .
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب "حقوق الإنسان" لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه:
"وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون , وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلكالمرأة المتزوجة وغير المتزوجة . فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي , في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية , ولا أهليتها في التعاقد ولا حقها في التملك . بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها , وبكامل حقوقها المدينة ; وبأهليتها في تحميل الالتزامات , وإجراء مختلف العقود , من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية ; وما إلى ذلك ; ومحتفظة بحقها في التملك تملكًا مستقلا عن غيرها . فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة , وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته . ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا من مالها - قل ذلك أو كثر - قال تعالى: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج , وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ? وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض , وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ? . . وقال: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا). . وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئًا من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها , وعن طيب نفس منها . وفي هذا يقول الله تعالىوآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا , فكلوه هنيئًا مريئًا)ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها , إلا إذا أذنت له بذلك , أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها , وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته , وتوكل غيره إذا شاءت .
"وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها - بعد - أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة . فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب - بل لا تزال إلى الوقت الحاضر - أشبه شيء بحالة الرق المدني . فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية , كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي . إذ تقرر أن:"المرأة المتزوجة - حتى ولو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها - لا يجوز لها أن تهب , ولا أن تنقل ملكيتها , ولا أن ترهن , ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض , بدون اشتراك زوجها في العقد , أو موافقته عليه موافقة كتابية ! " . . وأورد نصها الفرنسي . .
"ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات , فيما بعد , فإن كثيرًا من آثارها لا يزال ملازمًا لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر . . وتوكيدًا لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية , ويقضي عرفها , أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها , فلا تعود تسمى فلانة بنت فلان ; بل تحمل اسم زوجها وأسرته ; فتدعى "مدام فلان" أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته , بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها . . وفقدان اسم المرأة , وحملها لاسم زوجها , كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة , واندماجها في شخصية الزوج .
"ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغريبات - حتى في هذا النظام الجائر - ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة ; فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها ; أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته , بدلا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها , كما هو النظام الإسلامي , وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء ! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة , هن المطالبات بحقوق النساء , ومساواتهن بالرجال ; ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن ; ورفع به شأنهن , وسواهن فيه بالرجال" [ ص 651 , 652 ] من هذا الجزء
من الاية 33 الى الاية 33
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة ; وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث . هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة . بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه:
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ; والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا , وللنساء نصيبًا مما اكتسبن . . وبين - فيما سلف - أنصبة الذكور والإناث في الميراث . . ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه . يرثونه مما آل اليه من الوالدين والأقربين . . فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل . يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ; ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين . . وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي ; وأنها لا تقف عند جيل ; ولا تتركز في بيت ولا فرد . . إنما هو التوارث المستمر , والتداول المستمر , وحركة التوزيع الدائبة ; وما يتبعها من تعديل في المالكين , وتعديل في المقادير , بين الحين والحين . .
ثم عطف على العقود , التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي تجعل الإرث يذهب أحيانًا إلى غير الأقرباء وهي عقود الموالاة . . وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعًا من هذه العقود:
الأول عقد ولاء العتق , وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق - بعد عتقه - بمنزلة العضو في أسرة مولاه [ مولى العتق ] فيدفع عنه المولى الدية , إذا ارتكب جناية توجب الدية - كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب - ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة . .
والثاني عقد الموالاة . وهو النظام الذي يبيح لغير العربي - إذا لم يكن له وارث من أقاربه - أن يرتبط بعقد مع عربي هو [ مولى الموالاة ] . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه . يدفع عنه المولى الدية - إذا ارتكب جناية توجب الدية - ويرثه إذا مات .
والنوع الثالث , هو الذي عقده النبي [ ص ] أول العهد بالمدينة , بين المهاجرين والأنصار . فكان المهاجر يرث الأنصاري , مع أهله - كواحد منهم - أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة . .
والنوع الرابع . . كان في الجاهلية , يعاقد الرجل الرجل , ويقول:"وترثني وأرثك" . .
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود ; وبخاصة النوعين الثالث والرابع . بتقرير أن الميراث سببه القرابة . والقرابة وحدها . ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها . فأمضاها على ألا يجدد سواها . وقال الله سبحانه:
(والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم).
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه:
إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
وقال رسول الله [ ص ]:
"لا حلف في الإسلام . وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " [ رواه أحمد ومسلم ] .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية , في علاجه لها - بدون أثر رجعي - فهكذا صنع في الربا حين أبطله . أبطله منذ نزول النص , وترك لهم ما سلف منه ; ولم يأمر برد
من الاية 34 الى الاية 34
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34)
الفوائد الربوية . وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص , ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد . فأما هنا فقد احترم تلك العقود ; على ألا ينشأ منها جديد . لما يتعلق بها - فوق الجانب المالي - من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة . فترك هذه العقود القائمة تنفذ ; وشدد في الوفاء بها ; وقطع الطريق على الجديد منها ; قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج !
وفي هذا التصرف يبدو التيسير , كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول , في علاج الأمور في المجتمع . حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يومًا بعد يوم ; ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع .
الدرس السادس:34 - 35 تنظيم مؤسسة الأسرة
والموضوع الأخير في هذا الدرس , هو تنظيم مؤسسة الأسرة ; وضبط الأمور فيها ; وتوزيع الاختصاصات , وتحديد الواجبات ; وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة ; والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات ; واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير , جهد المستطاع:
الرجال قوامون على النساء , بما فضل الله بعضهم على بعض , وبما أنفقوا من أموالهم , فالصالحات قانتات , حافظات للغيب بما حفظ الله . واللاتي تخافون نشوزهن , فعظوهن , واهجروهن في المضاجع , واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليًا كبيرًا . وإن خفتم شقاق بينهما , فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها , إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا . .
ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية , وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة , ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها , وأهدافه منها . . بيان مجمل بقدر الإمكان , إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص:
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته "الزوجية " شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجودومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). .
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها). .
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد , أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس , وهدوءًا للعصب , وطمأنينة للروح , وراحة للجسد . . ثم سترًا وإحصانًا وصينانة . . ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة , مع ترقيها المستمر , في رعاية المحضن الساكن الهادى ء المطمئن المستور المصون:
( من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . .
(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). .
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم , وقدموا لأنفسكم , واتقوا الله). .
( أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة). .
(والذين آمنوا , واتبعتهم ذريتهم بإيمان , ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء). .
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله , ومن تكريمه للإنسان , كان ذلك التكريم للمرأة , وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله , وفي حقوق التملك والإرث , وفي استقلال الشخصية المدنية . . التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس .
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة , لإنشاء مؤسسة الأسرة . ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا:في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها , وثانيًا:في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي . . . كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة . . وقد احتوت هذه السورة جانبًا من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء ; تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع . . واحتوت سورة البقرة جانبًا آخر , هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني . واحتوت سور أخرى من القرآن , وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين . . ومواضع أخرى متفرقة في السور , جوانب أخرى تؤلف دستورًا كاملًا شاملًا دقيقًا لنظام هذه المؤسسة الإنسانية ; وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها , على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة !
ونرجو أن يكون قارى ء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه ; عن طفولة الطفل الإنساني , وطولها , وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولًا حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش ; وأهم من هذا أن تؤهله , بالتربية , إلى وظيفته الاجتماعية ; والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني , وتركه خيرًا مما تسلمه , حين جاء إليه ! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة ; ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها , والغاية منها ; واهتمامه بصيانتها , وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد . .
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها ; ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها . . إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة ; ومنحها استقلال الشخصية واحترامها ; والحقوق التي أنشأها لها إنشاء - لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية - نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس , الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح:
إن هذا النص - في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها , بردهم جميعًا إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات - يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل ; ويذكر من أسباب هذه القوامة:تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة , وما تتطلبه من خصائص ودربة , و . . تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة . وبناء على إعطاء القوامة للرجل , يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ ; وحمايتها من النزوات العارضة ; وطريقة علاج هذه النزوات - حين تعرض - في حدود مرسومة - وأخيرًا يبين الإجراءات - الخارجية - التي تتخذ عندما تفشلالاجراءات الداخلية , ويلوح شبح الخطر على المؤسسة , التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب , ولكن تضم الفراخ الخضر , الناشئة في المحضن . المعرضة للبوار والدمار . فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة , ومن حكمة , بقدر ما نستطيع:
(الرجال قوامون على النساء . بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية . الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق . والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني , وهو أكرم عناصر هذا الكون , في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا , والأرخص سعرًا:كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . وما إليها . . لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها ; ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا , ودربوا عليه عمليًا , فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة . .
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة , التي تنشئ أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة , والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات , كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها , المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزه المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله . وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه , وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة , ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة !
وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى . . زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا . وليست هينة ولا يسيرة , بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى ! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية . وتوفير الحماية كذلك للأنثى ; كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ; ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد ! وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلا . . ولا يظلم ربك أحدًا . .
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة والعطف , وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه , بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية ! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج ; ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك , لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى - مهما يكن فيها من المشقة والتضحية ! صنع الله الذي أتقن كل شيء .
وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . .بل يقول كبار العلماء المختصين:إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى , التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين , بكل خصائصه الأساسية !
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشومنة والصلابة , وبطء الانفعال والاستجابة ; واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام ; وإعمال الفكر , والبطء في الاستجابة بوجه عام ! . . وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة , وأفضل في مجالها . . كما أن تكل
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (30)
الدرس الرابع:29 - 31 النهي عن أكل المال بالباطل
والفقرة الثانية في هذا الدرس , تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم , لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب ; لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ; ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام , لتصفية هذا النظام , وتخصيص الميراث بالأقارب ; ومنع عقود الولاء الجديدة:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم , إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارًا . وكان ذلك على الله يسيرًا . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ; وندخلكم مدخلا كريمًا . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض , للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن , وأسالوا الله من فضله , إن الله كان بكل شيء عليمًا . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ; والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
إنها حلقة في سلسلة التربية , وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان ; أو متداخلان ; أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية ; كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية ; والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر ; كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع , وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع ; وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معًا - إلى ربط القلب بالله , وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية , ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس ; وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة , ومس النار ! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير , والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض , والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء . وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا , وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن , وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليمًا . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء , والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوبًا بأن الله كان على كل شيء شهيدًا . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع , وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان , وتكوينه النفسي , ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .
( أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيمًا . ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا , وكان ذلك على الله يسيرًا ) .
النداء للذين آمنوا , والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ; واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء: يا أيها الذين آمنوا . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها , لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله , أو نهى عنها , ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها , وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ; فإن كان قد نزل قبله , فقد كان تمهيدًا للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده , فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري:
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). .
وهو استثناء منقطع . . تأويله:ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني , يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى , التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا: (إنما البيع مثل الربا). . ورد الله عليهم في الآية نفسها: (وأحل الله البيع وحرم الربا). . فقد كان المرابون يغالطون , وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون:إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا !
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا , وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ; والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ; تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ; ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معًا . وهي خدمة للطرفين , وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ; ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ; وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز , المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال ; وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري , الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ; وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ; كما حكم عليه الإسلام !
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة , هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعًا كما يقول النحويون !
(ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما). .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ; فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ; إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها , حين ينهاهم عنها !
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة:بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع:كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين ! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة , إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها , وتتردى في هاوية الدمار !
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة , المردية للنفوس ; وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ; ومن تدارك ضعفهم الإنساني , الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله , إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات !
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة , تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل , معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة ; بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول ; فالجماعة كلها متضامنة في التبعة ; ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة , التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
(ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما , فسوف نصليه نارا , وكان ذلك على الله يسيرا).
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها ; ويقيم من النفس حارسا حذرا يقظا على تلبية التوجيه , وتنفيذ التشريع ; ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيبا لأنها كلها مسؤولة ; وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا , وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها . . (وكان ذلك على الله يسيرا)فما يمنع منه مانع , ولا يحول دونه حائل , ولا يتخلف , متى وجدت أسبابه , عن الوقوع !
وفي مقابل اجتناب "الكبائر" - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته , وغفرانه , وتجاوزه عما عدا الكبائر ; مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم , وتطمينًا لقلوبهم ; وعونًا لهم على التحاجز عن النار ; باجتناب الفواحش الكبار:
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه , نكفر عنكم سيئاتكم , وندخلكم مدخلا كريما).
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة , والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود , والأوامر والنواهي , التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ; وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف , وهذه التكاليف , لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ; ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ; ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ; ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
من الاية 31 الى الاية 31
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31)
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ; وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه , وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف , وتعطف على القصور ; وتقبل التوبة , وتصفح عن التقصير ; وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين , في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ; لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ; ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيهاوالذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . وعدهم من "المتقين" .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله , متى اجتنبت الكبائر ; وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ; مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ; فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة , والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم "الكبائر" من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة , وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف , وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ; وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس:
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية , عن ابن عون ; عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر , فقالوا:نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها , لا يعمل بها ; فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال:متى قدمت ? فقال:منذ كذا وكذا . قال:أبإذن قدمت ? قال:فلا أدري كيف رد عليه . فقال:أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر , فقالوا:إنا نرى أشياء في كتاب الله , أمر أن يعمل بها , فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال:فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون:أظنه قال:في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ; فقال أنشدك الله , وبحق الإسلام عليك , أقرأت القرآن كله ! قال:نعم . قال:فهل أحصيته في نفسك ? فقال:اللهم لا - ولو قال:نعم , لخصمه ! قال:فهل أحصيته في بصرك ? فهل أحصيته في لفظك ? هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال:ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ? قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
من الاية 32 الى الاية 32
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
سيئاتكم). . . الآية . ثم قال:هل علم أهل المدينة ? أو قال:هل علم أحد بما قدمتم ? قالوا:لا . قال:لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ; وقد قوم القرآن حسه ; وأعطاه الميزان الدقيق . . "وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات , وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
الدرس الخامس:32 - 33 تنظيم الصلات بين الرجال والنساء
وفي سياق الحديث عن الأموال , وتداولها في الجماعة , تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات . وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام . الذي سبق تفصيله في أوائل السورة:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . . للرجال نصيب مما اكتسبوا , وللنساء نصيب مما اكتسبن . . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون . والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض . . من أي أنواع التفضيل , في الوظيفة والمكانة , وفي الاستعدادات والمواهب , وفي المال والمتاع . . وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة . . والتوجه بالطلب إلى الله , وسؤاله من فضله مباشرة ; بدلا من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت ; وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ; ومن حنق كذلك ونقمة , أو من شعور بالضياع والحرمان , والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور . . وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله ; وسوء ظن بعدالة التوزيع . . حيث تكون القاصمة , التي تذهب بطمأنينة النفس , وتورث القلق والنكد ; وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة , وفي اتجاهات كذلك خبيثة . بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله , هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء , الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى , ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب ! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء ; ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب , بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال !
النص عام في هذا التوجيه العام . ولكن موضعه هنا من السياق , وبعض الروايات عن سبب النزول , قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتًا معينًا , وتفضيلا معينا هو الذي نزل هذا النص يعالجه . . هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء . . كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك . . وهذا الجانب - على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل ; وإشاعة هذا الرضا - من ثم - في البيوت وفي المجتمع المسلم كله ; إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام . . هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب . . ولهذا روت التفاسير المأثورة , هذا المعنى وذاك:
قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان , عن أبى نجيح , عن مجاهد , قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله ,تغزو الرجال ولا نغزو , ولنا نصف الميراث . . فأنزل الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض).
ورواه ابن أبي حاتم , وابن جرير , وابن مردويه , والحاكم في مستدركه . من حديث الثوري , عن أبي نجيح , عن مجاهد . قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله . لا نقاتل فنستشهد , ولا نقطع الميراث . . فنزلت الآية . . ثم أنزل الله: (أني لا أضيع عمل عامل منكم , من ذكر أو أنثى). . الآية .
وقال السدي في الآية:إن رجالاً قالوا:إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء , كما لنا في السهام سهمان ! وقالت النساء:إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء , فإننا لا نستطيع أن نقاتل , ولو كتب علينا القتال لقاتلنا ! فأبى الله ذلك , ولكن قال لهم:سلوني من فضلي . قال ليس بعرض الدنيا . . وروى مثل ذلك عن قتادة . . كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية:
قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس في الآية , قال:" ولا يتمنى الرجل فيقول:ليت لي مال فلان وأهله . فنهى الله عن ذلك . ولكن يسأل من فضله" . . وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا . .
ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط ; كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء , لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة , تمشيًا مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه , وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد . . إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه . .
ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره . لا لحساب الرجال , ولا لحساب النساء ! ولكن لحساب "الإنسان" ولحساب "المجتمع المسلم" ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه . وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .
إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف ; وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء . والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة ; وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة ; لتنوط بكل منهما وظائف معينة . . لا لحسابه الخاص . ولا لحساب جنس منهما بذاته . ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم , وتنتظم , وتستوفي خصائصها , وتحقق غايتها - من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة - عن طريق هذا التنوع بين الجنسين , والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف . . وعن طريق تنوع الخصائص , وتنوع الوظائف , ينشأ تنوع التكاليف , وتنوع الأنصبة , وتنوع المراكز . . لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى . . المسماة بالحياة . .
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء , ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة , لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات , ولا كذلك للجدل الحديث , الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام . ويطغى أحيانًا على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام !
إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين , تسجل فيه المواقف والانتصارات . . ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص "المرأة " وثلبها , وإلصاق كل شائنة بها . . سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل . . فالمسألة ليست معركة على الإطلاق ! إنما هي تنويع وتوزيع . وتكامل . وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله .
يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية ; التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها ; وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة . أو مصالح طبقات غالبة فيها , أوبيوت , أو أفراد . . ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله , وبوظيفة الجنسين في الحياة , أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها . أو في توزيع الميراث , أو حقوق التصرف في المال - كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة !
فأما في المنهج الإسلامي فلا . . لا ظل للمعركة . ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا . ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل ; ومحاولة النيل من أحدهما , وثلبه , وتتبع نقائصه ! . . ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص , لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف , ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز . . فكل ذلك عبث من ناحية وسوء قهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية !
وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه . . وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح , الذي يتجه بكليته إلى الآخرة ; وهو يقوم بشئون هذه الدنيا . . وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه . وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديمًا . . وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالا ونساء في هذه الأيام . .
إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها ; ولم يمنعها منه - حين تكون هناك حاجة إليها , لا يسدها الرجال - وقد شهدت المغازي الإسلامية آحادًا من النساء - مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد - وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة ; ولم يكن هو القاعدة . . وعلى أية حال , فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال .
إن الجهاد لم يكتب على المرأة , لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون . وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها , العضوي والنفسي ; ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء . وهي - في هذا الحقل - أقدر وأنفع . . هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل ; وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر ; بل هي - وعلى وجه التحديد - كل خلية منذ تلقيح البويضة , وتقرير أن تكون أنثى أو ذكرًا من لدن الخالق - سبحانة - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية , والظواهر النفسية الكبرى . . وهي أنفع - بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل - فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث ; تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ . والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال - أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال ! فرجل واحد - في النظام الإسلامي - وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته - يمكن أن يجعل نساء أربعًا ينتجن , ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان . ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد , لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال . وليس ذلك إلا بابًا واحدًا من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد . . . ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه , واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين , لا يتسع لها المجال هنا , لأنها تحتاج إلى بحث خاص . . وأما الأجر والثواب , فقد طمأن الله الرجال والنساءعليه , فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق . .
والأمر في الميراث كذالك . . ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثارًا للرجل في قاعدةفللذكر مثل حظ الأثنين). . ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في اوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما . . فالغنم بالغرم , قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي . . فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقًا . والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه , وهي معفاة من هذا التكليف , ولو كان لها مال خاص - وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل !! - والرجل عليه في الديات والأرش [ التعويض عن الجراحات ] متكافلا مع الأسرة , والمرأة منها معفاة . والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة - الأقرب فالأقرب - والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام . . حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة , أو عند الطلاق , يتحملها الرجل , ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء . . فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث . ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث . ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب ; وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة , لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين ; الذي لا يقوم بمال , ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام !
وهكذا نجد معالم التوازن الشامل , والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم , الذي شرعه الحكيم العليم . .
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية:
(للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). .
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية - كغيرها من الجاهليات القديمة - تحيف عليه ; ولا تعترف به للمرأة - إلا في حالات نادرة - ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه . إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة , كالمتاع !
وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة - التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر - تتحيفه , فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور . وبعضها يجعل إذن الولي ضروريًا لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال ; ويجعل إذن الزواج ضروريًا لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص ! وذلك بعد ثوارت المرأة وحركاتها الكثيرة ; وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله , وفي نظام الأسرة , وفي الجو الأخلاقي العام .
فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء ; وبدون طلب منها , وبدون ثورة , وبدون جمعيات نسوية , وبدون عضوية برلمان !! منحها هذا الحق تمشيًا مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة ; وإلى تكريم شقي النفس الواحدة ; وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة ; وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء .
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام .
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب "حقوق الإنسان" لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه:
"وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون , وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلكالمرأة المتزوجة وغير المتزوجة . فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي , في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية , ولا أهليتها في التعاقد ولا حقها في التملك . بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها , وبكامل حقوقها المدينة ; وبأهليتها في تحميل الالتزامات , وإجراء مختلف العقود , من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية ; وما إلى ذلك ; ومحتفظة بحقها في التملك تملكًا مستقلا عن غيرها . فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة , وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته . ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا من مالها - قل ذلك أو كثر - قال تعالى: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج , وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ? وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض , وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ? . . وقال: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا). . وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئًا من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها , وعن طيب نفس منها . وفي هذا يقول الله تعالىوآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا , فكلوه هنيئًا مريئًا)ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها , إلا إذا أذنت له بذلك , أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها , وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته , وتوكل غيره إذا شاءت .
"وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها - بعد - أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة . فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب - بل لا تزال إلى الوقت الحاضر - أشبه شيء بحالة الرق المدني . فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية , كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي . إذ تقرر أن:"المرأة المتزوجة - حتى ولو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها - لا يجوز لها أن تهب , ولا أن تنقل ملكيتها , ولا أن ترهن , ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض , بدون اشتراك زوجها في العقد , أو موافقته عليه موافقة كتابية ! " . . وأورد نصها الفرنسي . .
"ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات , فيما بعد , فإن كثيرًا من آثارها لا يزال ملازمًا لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر . . وتوكيدًا لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية , ويقضي عرفها , أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها , فلا تعود تسمى فلانة بنت فلان ; بل تحمل اسم زوجها وأسرته ; فتدعى "مدام فلان" أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته , بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها . . وفقدان اسم المرأة , وحملها لاسم زوجها , كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة , واندماجها في شخصية الزوج .
"ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغريبات - حتى في هذا النظام الجائر - ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة ; فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها ; أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته , بدلا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها , كما هو النظام الإسلامي , وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء ! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة , هن المطالبات بحقوق النساء , ومساواتهن بالرجال ; ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن ; ورفع به شأنهن , وسواهن فيه بالرجال" [ ص 651 , 652 ] من هذا الجزء
من الاية 33 الى الاية 33
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة ; وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث . هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة . بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه:
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ; والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا , وللنساء نصيبًا مما اكتسبن . . وبين - فيما سلف - أنصبة الذكور والإناث في الميراث . . ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه . يرثونه مما آل اليه من الوالدين والأقربين . . فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل . يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ; ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين . . وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي ; وأنها لا تقف عند جيل ; ولا تتركز في بيت ولا فرد . . إنما هو التوارث المستمر , والتداول المستمر , وحركة التوزيع الدائبة ; وما يتبعها من تعديل في المالكين , وتعديل في المقادير , بين الحين والحين . .
ثم عطف على العقود , التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي تجعل الإرث يذهب أحيانًا إلى غير الأقرباء وهي عقود الموالاة . . وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعًا من هذه العقود:
الأول عقد ولاء العتق , وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق - بعد عتقه - بمنزلة العضو في أسرة مولاه [ مولى العتق ] فيدفع عنه المولى الدية , إذا ارتكب جناية توجب الدية - كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب - ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة . .
والثاني عقد الموالاة . وهو النظام الذي يبيح لغير العربي - إذا لم يكن له وارث من أقاربه - أن يرتبط بعقد مع عربي هو [ مولى الموالاة ] . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه . يدفع عنه المولى الدية - إذا ارتكب جناية توجب الدية - ويرثه إذا مات .
والنوع الثالث , هو الذي عقده النبي [ ص ] أول العهد بالمدينة , بين المهاجرين والأنصار . فكان المهاجر يرث الأنصاري , مع أهله - كواحد منهم - أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة . .
والنوع الرابع . . كان في الجاهلية , يعاقد الرجل الرجل , ويقول:"وترثني وأرثك" . .
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود ; وبخاصة النوعين الثالث والرابع . بتقرير أن الميراث سببه القرابة . والقرابة وحدها . ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها . فأمضاها على ألا يجدد سواها . وقال الله سبحانه:
(والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم).
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه:
إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
وقال رسول الله [ ص ]:
"لا حلف في الإسلام . وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " [ رواه أحمد ومسلم ] .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية , في علاجه لها - بدون أثر رجعي - فهكذا صنع في الربا حين أبطله . أبطله منذ نزول النص , وترك لهم ما سلف منه ; ولم يأمر برد
من الاية 34 الى الاية 34
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34)
الفوائد الربوية . وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص , ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد . فأما هنا فقد احترم تلك العقود ; على ألا ينشأ منها جديد . لما يتعلق بها - فوق الجانب المالي - من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة . فترك هذه العقود القائمة تنفذ ; وشدد في الوفاء بها ; وقطع الطريق على الجديد منها ; قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج !
وفي هذا التصرف يبدو التيسير , كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول , في علاج الأمور في المجتمع . حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يومًا بعد يوم ; ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع .
الدرس السادس:34 - 35 تنظيم مؤسسة الأسرة
والموضوع الأخير في هذا الدرس , هو تنظيم مؤسسة الأسرة ; وضبط الأمور فيها ; وتوزيع الاختصاصات , وتحديد الواجبات ; وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة ; والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات ; واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير , جهد المستطاع:
الرجال قوامون على النساء , بما فضل الله بعضهم على بعض , وبما أنفقوا من أموالهم , فالصالحات قانتات , حافظات للغيب بما حفظ الله . واللاتي تخافون نشوزهن , فعظوهن , واهجروهن في المضاجع , واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليًا كبيرًا . وإن خفتم شقاق بينهما , فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها , إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا . .
ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية , وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة , ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها , وأهدافه منها . . بيان مجمل بقدر الإمكان , إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص:
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته "الزوجية " شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجودومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). .
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها). .
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد , أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس , وهدوءًا للعصب , وطمأنينة للروح , وراحة للجسد . . ثم سترًا وإحصانًا وصينانة . . ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة , مع ترقيها المستمر , في رعاية المحضن الساكن الهادى ء المطمئن المستور المصون:
( من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . .
(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). .
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم , وقدموا لأنفسكم , واتقوا الله). .
( أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة). .
(والذين آمنوا , واتبعتهم ذريتهم بإيمان , ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء). .
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله , ومن تكريمه للإنسان , كان ذلك التكريم للمرأة , وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله , وفي حقوق التملك والإرث , وفي استقلال الشخصية المدنية . . التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس .
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة , لإنشاء مؤسسة الأسرة . ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا:في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها , وثانيًا:في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي . . . كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة . . وقد احتوت هذه السورة جانبًا من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء ; تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع . . واحتوت سورة البقرة جانبًا آخر , هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني . واحتوت سور أخرى من القرآن , وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين . . ومواضع أخرى متفرقة في السور , جوانب أخرى تؤلف دستورًا كاملًا شاملًا دقيقًا لنظام هذه المؤسسة الإنسانية ; وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها , على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة !
ونرجو أن يكون قارى ء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه ; عن طفولة الطفل الإنساني , وطولها , وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولًا حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش ; وأهم من هذا أن تؤهله , بالتربية , إلى وظيفته الاجتماعية ; والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني , وتركه خيرًا مما تسلمه , حين جاء إليه ! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة ; ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها , والغاية منها ; واهتمامه بصيانتها , وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد . .
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها ; ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها . . إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة ; ومنحها استقلال الشخصية واحترامها ; والحقوق التي أنشأها لها إنشاء - لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية - نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس , الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح:
إن هذا النص - في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها , بردهم جميعًا إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات - يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل ; ويذكر من أسباب هذه القوامة:تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة , وما تتطلبه من خصائص ودربة , و . . تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة . وبناء على إعطاء القوامة للرجل , يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ ; وحمايتها من النزوات العارضة ; وطريقة علاج هذه النزوات - حين تعرض - في حدود مرسومة - وأخيرًا يبين الإجراءات - الخارجية - التي تتخذ عندما تفشلالاجراءات الداخلية , ويلوح شبح الخطر على المؤسسة , التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب , ولكن تضم الفراخ الخضر , الناشئة في المحضن . المعرضة للبوار والدمار . فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة , ومن حكمة , بقدر ما نستطيع:
(الرجال قوامون على النساء . بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية . الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق . والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني , وهو أكرم عناصر هذا الكون , في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا , والأرخص سعرًا:كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . وما إليها . . لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها ; ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا , ودربوا عليه عمليًا , فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة . .
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة , التي تنشئ أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة , والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات , كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها , المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزه المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله . وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه , وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة , ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة !
وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى . . زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا . وليست هينة ولا يسيرة , بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى ! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية . وتوفير الحماية كذلك للأنثى ; كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ; ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد ! وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلا . . ولا يظلم ربك أحدًا . .
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة والعطف , وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه , بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية ! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج ; ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك , لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى - مهما يكن فيها من المشقة والتضحية ! صنع الله الذي أتقن كل شيء .
وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . .بل يقول كبار العلماء المختصين:إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى , التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين , بكل خصائصه الأساسية !
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشومنة والصلابة , وبطء الانفعال والاستجابة ; واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام ; وإعمال الفكر , والبطء في الاستجابة بوجه عام ! . . وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة , وأفضل في مجالها . . كما أن تكل
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النساء ايه 69==82 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 87==96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 87==96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى