تفسير سورة النساء ايه 69==82 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النساء ايه 69==82 الشيخ سيد قطب
من الاية 69 الى الاية 70
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً (70)
للناس , على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم:انظروا كم هو ميسر هذا الدين ! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير , يبحثون عن "منافذ" لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ; ويجعلون هذه المنافذ هي الدين !
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمة . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي , حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة:العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . . ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها:إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر !
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ; وينبت الزيتون والرمان , وينبت التفاح والبرقوق , وينبت العنب والتين . . . وينضج كله ; مختلفة طعومه ورتبه . . ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . . إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .
الدرس الخامس:69 - 70 الصالحون مع الصالحين في الجنة
وفي نهاية هذه الجولة , ونهاية هذا الدرس , يعود السياق إلى الترغيب ; واستجاشة القلوب ; والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب . . متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
ومن يطع الله والرسول , فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وحسن أولئك رفيقا ! ذلك الفضل من الله , وكفى بالله عليمًا . .
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب , فيه ذرة من خير ; وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة , في جوار الله الكريم . . وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي . . إنما هي من فضل الله . فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها . . إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم .
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله [ ص ] وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة ; وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه . . وهو [ ص ] بين ظهرانيهم . فتنزل هذه الآية:فتندي هذا الوجد ; وتبل هذه اللهفة . . الوجد النبيل . واللهفة الشفيفة:
قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد , حدثنا يعقوب السقمي , عن جعفر بن أبى المغيرة , عن سعيد بن جبير . قال:جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله [ ص ] وهو محزون . فقال له النبى [ ص ]:" يا فلان . ما لي أراك محزونا ? " فقال:يا نبي الله . شيء فكرت فيه . فقال:" ما هو ? " قال:نحن نغدو عليك ونروح . ننظر إلى وجهك , ونجالسك . وغدا ترفع مع النبيين , فلا نصل إليك . . فلم يرد عليه النبي [ ص ] شيئًا . فأتاه جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين). . الآية , فبعث النبي [ ص ] فبشره .
وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعا - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:"جاء رجل إلى النبي [ ص ] فقال:يا رسول الله . إنك أحب إلي من نفسي , وأحب إلى من أهلي , وأحب إلي من ولدي . وإني لأكون في البيت , فأذكرك , فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتيوموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين , وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي [ ص ] حتى نزلتومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا). .
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد , عن الأوزاعي , عن يحيى بن كثير , عن أبى سلمة بن عبد الرحمن , عن ربيعة بن كعب الأسلمي , أنه قال:كنت أبيت عند رسول الله [ ص ] فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي:" سل " . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال:" أو غير ذلك " . قلت:هو ذاك . قال:" فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله [ ص ] سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم , فقال:" المرء مع من أحب " . . قال أنس:فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث . .
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم . . أمر الصحبة في الآخرة . . وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا ! وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم . . وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور . . .
الوحدة السابعة:71 - 86 الموضوع:توجيهات تربوية جهادية
مقدمة الوحدة - منهج القرآن في التعامل مع الضعف البشري
نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس , نزلت في وقت مبكر . . ربما كان ذلك بعد غزوة أحد , وقبل الخندق . فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا . توحي بوجود جماعات مالمعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد . ونرى منهج القرآن في التربية - وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع - ونرى طرفا من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج , حتى انتهى بهذه المجموعة - المختلفة الدرجات , المتخلفة السمات , الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية - إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع , الذي نشهده في أواخر أيام الرسول [ ص ] بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك !
وهذا يفيدنا . . يفيدنا كثيرا . .
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية , وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة . متمثلة في خير الجماعات . . الجماعة التي رباها رسول الله [ ص ] بالمنهج القرآني . .
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية ; وكيف كان يأخذ هذه النفوس ; وكيف كان يتلطف لها ; وكيف كان ينسق الصف , الذي يحتوي على نماذج شتى من مستويات شتى . حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع . . على الطبيعة . . !
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية ; على واقع النفس البشرية , ممثلة في تلك الجماعة المختارة . . كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف , فنترك العلاج والمحاولة ! وكي لا تبقى الجماعة الأولى - على كل فضلها - مجرد حلم طائر في خيالنا , لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها . من السفح الهابط , في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة !
وكل هذه ذخيرة , حين نخرج بها - من الحياة في ظلال القرآن - نكون قد جنينا خيرا كثيرا إن شاء الله . . إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
"أ" من يبطى ء نفسه عن الجهاد في سبيل الله , ومن يبطى ء غيره . ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم , على حين أصابت المسلمين مصيبة ! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون , لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة ! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة !
"ب" وكان فيه من المهاجرين أنفسهم - وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة , مكفوفون عن القتال - من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة ; ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل , ولم يكتب عليهم القتال الآن !
"ج" ومن كان يرجع الحسنة - حين تصيبه - إلى الله ; ويرجع السيئة - حين تصيبه - إلى النبي [ ص ] لا لشدة إيمانه بالله طبعا ; ولكن لتجريح القيادة والتطير بها !
"د" ومن كان يقول:طاعة , في حضرة الرسول [ ص ] فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول !
"ه" ومن كان يتناول الشائعات , فيذيع بها في الصف ; محدثا بها ما يحدثه من البلبة , قبل أن يتثبت منها , من القيادة التي يتبعها !
"و" ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه . ويظن أن بعضها من عند النبي [ ص ] لا مما أوحي له به !
"ز" ومن كان يدافع عن بعض المنافقين - كما سيأتي في مطلع الدرس التالي - حتى لتنقسم الجماعة المسلمةفي أمرهم فئتين . . مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي [ من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون ] . .
وقد يكون هؤلاء جميعا مجموعة واحدة من المنافقين ; أو مجموعتين:المنافقين . وضعاف الإيمان , الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية - ولو كان بعضهم من المهاجرين . . ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم - وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود , وفي مكة من المشركين , وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين . . من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف ; تحتاج إلى تربية طويلة , وإلى جهاد طويل !
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد , ومن هذه التربية . وعلاجا لكل خبيئة في النفس أو في الصف . في دقة , وفي عمق , وفي صبر كذلك , يتمثل في صبر النبي [ ص ] قائد هذا الصف , الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
"أ" نرى الأمر بالحذر , فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى , للسرايا أو المهام الجهادية . بل يخرجون "ثبات" أي سرايا أو فصائل . . أو يخرجون جميعا في جيش متكامل . لأن الأرض حولهم ملغمة ! والعداوات حولهم شتى , والكمين قد يكون كامنا بينهم من المنافقين , أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين !
"ب" ونرى تصويرا منفرا للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة ; وحب المنفعة القريبة ; والتلون من حال إلى حال , حسب اختلاف الأحوال ! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال , فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع .
"ج" ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله , بالأجر العظيم , وإحدى الحسنيين: (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا). .
"د" ونرى تصوير القرآن لشرف القصد , وارتفاع الهدف , ونبل الغاية , في القتال الذي يدفعهم إليه . . (في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرًا). .
"ه" كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند ; إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيهاالذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله , والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا). .
"و" ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة , التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف . وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية . . مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: (قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلًا). . ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه ; مهما يتخذ المرء من الاحتياط , ومهما ينكل عن الجهاد: (أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). . ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا:هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? ما أصابك من حسنة فمن الله , وما أصابك من سيئة فمن نفسك . .
"ز" ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - ورسوله [ ص ] وأن طاعته من
من الاية 71 الى الاية 71
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71)
طاعته . ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده ; ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه , الدالة على وحدة مصدره: (من يطع الرسول فقد أطاع الله). .(أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا).
"ح" ثم نراه - بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء - يوجههم إلى الطريق الأسلم , المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم). .
"ط" ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق , وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا). .
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة ; والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول , المنوع الأساليب . . حين نسمع الله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] بأن يجاهد - ولو كان وحيدا - وأن يحرض المؤمنين على القتال . فيكون مسئولا عن نفسه فحسب:والله يتولى المعركةفقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين , عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلًا). . وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب , واستثارة الهمم ; بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر , والثقة ببأس الله وقوته . .
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة . وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية , والضعف البشري - حتى ولو لم يكن صادرا عن نفاق أو انحراف - وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة , ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم . وهذه غاية أبعد وأطول أمدا . فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة , لا يغنيها هذا , إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة . . ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات . . وهي تواجه المعارك الكبيرة . والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية:
الدرس الأول:71 - 73 توجيهات جهادية والحذر من المثبطين
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم . فانفروا ثبات , أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي , إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم , فأفوز فوزا عظيما). .
إنها الوصية للذين آمنوا:الوصية من القيادة العليا , التي ترسم لهم المنهج , وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب , وهو يراجع القرآن الكريم ; فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعا - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم "استراتيجية المعركة " . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار , وليجدوا فيكم غلظة). فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: (خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا)وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى "التاكتيك" . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآياتفإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) . . . الآيات.
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب ; ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين ! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية ;ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم , أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج , وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم , ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر:منهجا للحياة الشخصية , وللشعائر والعبادات , والأخلاق والآداب , مستمدا من كتاب الله . ومنهجا للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية , مستمدا من كتاب أحد آخر ; أو من تفكير بشري على الإطلاق ! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجة أحكاما تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة , وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا أيمان أصلا ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام , لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان , ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها:شهادة أن لا إله إلا الله , التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله , وأن لا مشرع إلا الله .
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبا من الخطة التنفيذية للمعركة ; المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم). .
خذو حذركم من عدوكم جميعا . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين , الذين سيرد ذكرهم في الآية: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا). .
ثبات . جميع ثبة:أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة , أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الإعداء , المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك , ممثلين في المنافقين , وفي اليهود , في قلب المدينة .
وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا . .
انفروا جماعات نظامية . أو انفروا جميعا . ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم . لا من العدو الخارجي وحده ; ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين ; سواء كانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم ; وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين !
ولفظة(ليبطئن)مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر ; وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها , حتى يأتي على آخرها , وهو يشدها شدا ; وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها . وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن , الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة .
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: (وإن منكم لمن ليبطئن), بأن هؤلاء المبطئين - وهم معدودون من المسلمين -(منكم)يزاولون عملية التبطئة كاملة , ويصرون عليها إصرارا , ويجتهدون فيها اجتهادا . . وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة ! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة , وشدة أثرها في الصف المسلم ; وشدة ما يلقاه منها !
ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم , وعلى دخيلة نفوسهم ; ويرسم حقيقتهم المنفرة , على
من الاية 72 الى الاية 73
وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
طريقة القرآن التصويرية العجيبة:
فها هم أولاء , بكل بواعثهم , وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم . . ها هم أولاء مكشوفين للأعين , كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر , يكشف النوايا والسرائر ; ويكشف البواعث والدوافع .
ها هم أولاء - كما كانوا على عهد الرسول [ ص ] وكما يكونون في كل زمان وكل مكان . ها هم أولاء . ضعافا منافقين ملتوين ; صغار الاهتمامات أيضا:لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر , ولا أفقا أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة . فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد . وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة !
إنهم يبطئون ويتلكأون , ولا يصارحون , ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال ! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة . . فإن أصابت المجاهدين محنة , وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين - في بعض الأحايين - فرح المتخلفون ; وحسبوا أن فرارهم من الجهاد , ونجاتهم من الابتلاء نعمة:
فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا . .
إنهم لا يخجلون - وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة - أن ينسبوها لله . الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا ! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبدا . فنعمة الله لا تنال بالمخالفة . ولو كان ظاهرها نجاة !
إنها نعمة ! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله . عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله . ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة . نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطى ء الأقدام في هذه الأرض . . كالنمال . . نعمة عند من لا يحسون أن البلاء - في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله - هو فضل واختيار من الله , يختص به من يشاء من عباده ; ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري , ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة , يملكونها ولا تملكهم . وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة . . في منازل الشهداء . .
إن الناس كلهم يموتون ! ولكن الشهداء - في سبيل الله - هم وحدهم الذين "يستشهدون" . . وهذا فضل من الله عظيم .
فأما إذا كانت الأخرى . . فانتصر المجاهدون ; الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله . . ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة . . ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة ! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة !(ولئن أصابكم فضل من الله , ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا).
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب , هي التي يقولون عنها: (فوزا عظيمًا)والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة ; بل مطلوب منه أن يرجوه من الله . والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية . . ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور , الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسما مستنكرا منفرا . .
من الاية 74 الى الاية 74
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية . ولكنه إذا ندب للجهاد خرج - غير متثاقل - خرج يسأل الله إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة . . وكلاهما فضل من الله ; وكلهما فوز عظيم . فيقسم له الله الشهادة , فإذا هو راض بما قسم الله ; أو فرح بمقام الشهادة عند الله . ويقسم له الله الغنيمة والإياب , فيشكر الله على فضله , ويفرح بنصر الله . لا لمجرد النجاة !
وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه ; وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق(منهم)وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين , ليأخذوا منهم حذرهم ; كما يأخذون حذرهم من أعدائهم !
ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان , يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان , في كل زمان ومكان , في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن !
ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبدا . وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء . فلا ييئس من نفسه . ولكن يأخذ حذره ويمضي . ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد , أن يكمل النقص , ويعالج الضعف , وينسق الخطى والمشاعر والحركات !
الدرس الثاني:74 حث على القتال وترغيب فيه
ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين ! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى . . الآخرة . . وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة . ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين , وإحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة:
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله , فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ; ولا للاستيلاء على السكان . . لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات , والأسواق للمنتجات ; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة , ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج , وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله , بقصد إعلاء كلمة الله , وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله , بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب ; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ; في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ; ومن يغلب في سبيل الله أيضا:
ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
من الاية 75 الى الاية 75
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75)
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم , في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل , وما ترجوه من الغنيمة كذلك ! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ? وأين غنيمة المال من فضل الله ? وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ?!
الدرس الثالث:75 التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن
ثم يلتفت السياق إلى المسلمين . يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين ; إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها . يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس , وحساسية القلوب ; تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ; الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم ; وهم يتطلعون إلى الخلاص , ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجا من دار الظلم والعدوان . . يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد , وشرف الغاية , ونبل الهدف , في هذا القتال , الذي يدعوهم أن ينفروا إليه , غير متثاقلين ولا مبطئين . وذلك في أسلوب تحضيضي ; يستنكر البطء والقعود:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله , والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان . الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا ?). .
وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله ; واستنفاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ? هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم , وكرامة المؤمن , ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق ? هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة ; لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم , والفتنة في دينهم . والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض , لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني , الذي تتبعه كرامة النفس والعرض , وحق المال والأرض !
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف , مشهد مؤثر مثير . لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد . وهو وحده يكفي . لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات . . وهو أسلوب عميق الوقع , بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس .
ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن:إن (هذه القرية الظالم أهلها)التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب , يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها , هي "مكة " وطن المهاجرين , الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها . ويدعو المسلمون المستضعفين هذه الدعوة الحادة للخروج منه !
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه ; وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم , وعذبوا في عقيدتهم . . بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم "دار حرب" . . دار حرب , هم لا يدافعون عنها , وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها . . إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته . ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه ; وأرضه التي يدفع عنها هي
من الاية 76 الى الاية 77
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
دار الإسلام التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة . . وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي , تنضح به الجاهليات , ولا يعرفه الإسلام .
الدرس الرابع:76 التصور الحقيقي لفرض الجهاد
ثم لمسة نفسية أخرى , لاستنهاض الهمم , واستجاشة العزائم , وإنارة الطريق , وتحديد القيم والغايات والأهداف , التي يعمل لها كل فريق:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفا). .
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف , وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين ; تحت رايتين متميزتين:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله). .
(والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). .
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; لتحقيق منهجه , وإقرار شريعته , وإقامة العدل "بين الناس" باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم , وشتى مناهجهم , وشتى شرائعهم , وشتى طرائقهم , وشتى قيمهم , وشتى موازينهم . . فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ; ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة , مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله , ليس لأنفسهم منها نصيب , ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم , ولا لجنسهم , ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده , ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ; يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ; ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ; ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله , الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .
كذلك يخوضون المعركة , وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما , الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . .إن كيد الشيطان كان ضعيفا . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين , وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب , ورأى بعينيه النصر ; فهو واثق من الأجر العظيم .
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه , انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد
من الاية 78 الى الاية 82
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (79) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)
في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال ; فهي كثيرة مشهورة . . ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب , في أقصر فترة عرفت في التاريخ ; فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة , على المعسكرات المعادية . . ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين , وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ; ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين ; فأمسوا مهزومين !
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته . فلم يكن الأمر هينا . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهدا موصولا , لمعالجة شح النفس , وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . . وفي الدرس بقية من هذا العلاج , وذلك الجهد الموصول .
الدرس الخامس:مقدمة الدرس تحقيق الفئة المقصودة بالآيات
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين , الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال , للحكمة التي يعلمها الله ; والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال , بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة , وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن - "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! " ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا :هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول [ ص ]: هذه من عندك . وممن يقولون:طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول [ ص ] بيت طائفة منهم غير الذي تقول). وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء , في الأسلوب القرآني ; الذي يصور حالة النفس , كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة , والأجل والقدر , والخير والشر , والنفع والضرر , والكسب والخسارة , والموازين والقيم ; ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
(ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ? قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا , وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ; من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) .
(ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً (70)
للناس , على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم:انظروا كم هو ميسر هذا الدين ! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير , يبحثون عن "منافذ" لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ; ويجعلون هذه المنافذ هي الدين !
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمة . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي , حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة:العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . . ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها:إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر !
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ; وينبت الزيتون والرمان , وينبت التفاح والبرقوق , وينبت العنب والتين . . . وينضج كله ; مختلفة طعومه ورتبه . . ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . . إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .
الدرس الخامس:69 - 70 الصالحون مع الصالحين في الجنة
وفي نهاية هذه الجولة , ونهاية هذا الدرس , يعود السياق إلى الترغيب ; واستجاشة القلوب ; والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب . . متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
ومن يطع الله والرسول , فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وحسن أولئك رفيقا ! ذلك الفضل من الله , وكفى بالله عليمًا . .
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب , فيه ذرة من خير ; وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة , في جوار الله الكريم . . وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي . . إنما هي من فضل الله . فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها . . إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم .
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله [ ص ] وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة ; وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه . . وهو [ ص ] بين ظهرانيهم . فتنزل هذه الآية:فتندي هذا الوجد ; وتبل هذه اللهفة . . الوجد النبيل . واللهفة الشفيفة:
قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد , حدثنا يعقوب السقمي , عن جعفر بن أبى المغيرة , عن سعيد بن جبير . قال:جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله [ ص ] وهو محزون . فقال له النبى [ ص ]:" يا فلان . ما لي أراك محزونا ? " فقال:يا نبي الله . شيء فكرت فيه . فقال:" ما هو ? " قال:نحن نغدو عليك ونروح . ننظر إلى وجهك , ونجالسك . وغدا ترفع مع النبيين , فلا نصل إليك . . فلم يرد عليه النبي [ ص ] شيئًا . فأتاه جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين). . الآية , فبعث النبي [ ص ] فبشره .
وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعا - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:"جاء رجل إلى النبي [ ص ] فقال:يا رسول الله . إنك أحب إلي من نفسي , وأحب إلى من أهلي , وأحب إلي من ولدي . وإني لأكون في البيت , فأذكرك , فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتيوموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين , وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي [ ص ] حتى نزلتومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا). .
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد , عن الأوزاعي , عن يحيى بن كثير , عن أبى سلمة بن عبد الرحمن , عن ربيعة بن كعب الأسلمي , أنه قال:كنت أبيت عند رسول الله [ ص ] فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي:" سل " . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال:" أو غير ذلك " . قلت:هو ذاك . قال:" فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله [ ص ] سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم , فقال:" المرء مع من أحب " . . قال أنس:فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث . .
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم . . أمر الصحبة في الآخرة . . وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا ! وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم . . وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور . . .
الوحدة السابعة:71 - 86 الموضوع:توجيهات تربوية جهادية
مقدمة الوحدة - منهج القرآن في التعامل مع الضعف البشري
نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس , نزلت في وقت مبكر . . ربما كان ذلك بعد غزوة أحد , وقبل الخندق . فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا . توحي بوجود جماعات مالمعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد . ونرى منهج القرآن في التربية - وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع - ونرى طرفا من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج , حتى انتهى بهذه المجموعة - المختلفة الدرجات , المتخلفة السمات , الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية - إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع , الذي نشهده في أواخر أيام الرسول [ ص ] بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك !
وهذا يفيدنا . . يفيدنا كثيرا . .
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية , وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة . متمثلة في خير الجماعات . . الجماعة التي رباها رسول الله [ ص ] بالمنهج القرآني . .
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية ; وكيف كان يأخذ هذه النفوس ; وكيف كان يتلطف لها ; وكيف كان ينسق الصف , الذي يحتوي على نماذج شتى من مستويات شتى . حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع . . على الطبيعة . . !
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية ; على واقع النفس البشرية , ممثلة في تلك الجماعة المختارة . . كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف , فنترك العلاج والمحاولة ! وكي لا تبقى الجماعة الأولى - على كل فضلها - مجرد حلم طائر في خيالنا , لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها . من السفح الهابط , في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة !
وكل هذه ذخيرة , حين نخرج بها - من الحياة في ظلال القرآن - نكون قد جنينا خيرا كثيرا إن شاء الله . . إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
"أ" من يبطى ء نفسه عن الجهاد في سبيل الله , ومن يبطى ء غيره . ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم , على حين أصابت المسلمين مصيبة ! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون , لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة ! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة !
"ب" وكان فيه من المهاجرين أنفسهم - وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة , مكفوفون عن القتال - من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة ; ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل , ولم يكتب عليهم القتال الآن !
"ج" ومن كان يرجع الحسنة - حين تصيبه - إلى الله ; ويرجع السيئة - حين تصيبه - إلى النبي [ ص ] لا لشدة إيمانه بالله طبعا ; ولكن لتجريح القيادة والتطير بها !
"د" ومن كان يقول:طاعة , في حضرة الرسول [ ص ] فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول !
"ه" ومن كان يتناول الشائعات , فيذيع بها في الصف ; محدثا بها ما يحدثه من البلبة , قبل أن يتثبت منها , من القيادة التي يتبعها !
"و" ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه . ويظن أن بعضها من عند النبي [ ص ] لا مما أوحي له به !
"ز" ومن كان يدافع عن بعض المنافقين - كما سيأتي في مطلع الدرس التالي - حتى لتنقسم الجماعة المسلمةفي أمرهم فئتين . . مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي [ من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون ] . .
وقد يكون هؤلاء جميعا مجموعة واحدة من المنافقين ; أو مجموعتين:المنافقين . وضعاف الإيمان , الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية - ولو كان بعضهم من المهاجرين . . ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم - وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود , وفي مكة من المشركين , وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين . . من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف ; تحتاج إلى تربية طويلة , وإلى جهاد طويل !
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد , ومن هذه التربية . وعلاجا لكل خبيئة في النفس أو في الصف . في دقة , وفي عمق , وفي صبر كذلك , يتمثل في صبر النبي [ ص ] قائد هذا الصف , الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
"أ" نرى الأمر بالحذر , فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى , للسرايا أو المهام الجهادية . بل يخرجون "ثبات" أي سرايا أو فصائل . . أو يخرجون جميعا في جيش متكامل . لأن الأرض حولهم ملغمة ! والعداوات حولهم شتى , والكمين قد يكون كامنا بينهم من المنافقين , أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين !
"ب" ونرى تصويرا منفرا للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة ; وحب المنفعة القريبة ; والتلون من حال إلى حال , حسب اختلاف الأحوال ! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال , فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع .
"ج" ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله , بالأجر العظيم , وإحدى الحسنيين: (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا). .
"د" ونرى تصوير القرآن لشرف القصد , وارتفاع الهدف , ونبل الغاية , في القتال الذي يدفعهم إليه . . (في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرًا). .
"ه" كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند ; إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيهاالذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله , والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا). .
"و" ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة , التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف . وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية . . مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: (قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلًا). . ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه ; مهما يتخذ المرء من الاحتياط , ومهما ينكل عن الجهاد: (أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). . ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا:هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? ما أصابك من حسنة فمن الله , وما أصابك من سيئة فمن نفسك . .
"ز" ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - ورسوله [ ص ] وأن طاعته من
من الاية 71 الى الاية 71
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71)
طاعته . ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده ; ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه , الدالة على وحدة مصدره: (من يطع الرسول فقد أطاع الله). .(أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا).
"ح" ثم نراه - بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء - يوجههم إلى الطريق الأسلم , المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم). .
"ط" ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق , وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا). .
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة ; والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول , المنوع الأساليب . . حين نسمع الله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] بأن يجاهد - ولو كان وحيدا - وأن يحرض المؤمنين على القتال . فيكون مسئولا عن نفسه فحسب:والله يتولى المعركةفقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين , عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلًا). . وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب , واستثارة الهمم ; بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر , والثقة ببأس الله وقوته . .
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة . وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية , والضعف البشري - حتى ولو لم يكن صادرا عن نفاق أو انحراف - وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة , ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم . وهذه غاية أبعد وأطول أمدا . فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة , لا يغنيها هذا , إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة . . ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات . . وهي تواجه المعارك الكبيرة . والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية:
الدرس الأول:71 - 73 توجيهات جهادية والحذر من المثبطين
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم . فانفروا ثبات , أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي , إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم , فأفوز فوزا عظيما). .
إنها الوصية للذين آمنوا:الوصية من القيادة العليا , التي ترسم لهم المنهج , وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب , وهو يراجع القرآن الكريم ; فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعا - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم "استراتيجية المعركة " . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار , وليجدوا فيكم غلظة). فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: (خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا)وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى "التاكتيك" . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآياتفإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) . . . الآيات.
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب ; ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين ! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية ;ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم , أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج , وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم , ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر:منهجا للحياة الشخصية , وللشعائر والعبادات , والأخلاق والآداب , مستمدا من كتاب الله . ومنهجا للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية , مستمدا من كتاب أحد آخر ; أو من تفكير بشري على الإطلاق ! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجة أحكاما تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة , وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا أيمان أصلا ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام , لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان , ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها:شهادة أن لا إله إلا الله , التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله , وأن لا مشرع إلا الله .
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبا من الخطة التنفيذية للمعركة ; المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم). .
خذو حذركم من عدوكم جميعا . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين , الذين سيرد ذكرهم في الآية: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا). .
ثبات . جميع ثبة:أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة , أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الإعداء , المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك , ممثلين في المنافقين , وفي اليهود , في قلب المدينة .
وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا . .
انفروا جماعات نظامية . أو انفروا جميعا . ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم . لا من العدو الخارجي وحده ; ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين ; سواء كانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم ; وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين !
ولفظة(ليبطئن)مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر ; وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها , حتى يأتي على آخرها , وهو يشدها شدا ; وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها . وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن , الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة .
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: (وإن منكم لمن ليبطئن), بأن هؤلاء المبطئين - وهم معدودون من المسلمين -(منكم)يزاولون عملية التبطئة كاملة , ويصرون عليها إصرارا , ويجتهدون فيها اجتهادا . . وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة ! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة , وشدة أثرها في الصف المسلم ; وشدة ما يلقاه منها !
ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم , وعلى دخيلة نفوسهم ; ويرسم حقيقتهم المنفرة , على
من الاية 72 الى الاية 73
وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
طريقة القرآن التصويرية العجيبة:
فها هم أولاء , بكل بواعثهم , وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم . . ها هم أولاء مكشوفين للأعين , كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر , يكشف النوايا والسرائر ; ويكشف البواعث والدوافع .
ها هم أولاء - كما كانوا على عهد الرسول [ ص ] وكما يكونون في كل زمان وكل مكان . ها هم أولاء . ضعافا منافقين ملتوين ; صغار الاهتمامات أيضا:لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر , ولا أفقا أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة . فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد . وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة !
إنهم يبطئون ويتلكأون , ولا يصارحون , ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال ! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة . . فإن أصابت المجاهدين محنة , وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين - في بعض الأحايين - فرح المتخلفون ; وحسبوا أن فرارهم من الجهاد , ونجاتهم من الابتلاء نعمة:
فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا . .
إنهم لا يخجلون - وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة - أن ينسبوها لله . الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا ! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبدا . فنعمة الله لا تنال بالمخالفة . ولو كان ظاهرها نجاة !
إنها نعمة ! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله . عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله . ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة . نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطى ء الأقدام في هذه الأرض . . كالنمال . . نعمة عند من لا يحسون أن البلاء - في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله - هو فضل واختيار من الله , يختص به من يشاء من عباده ; ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري , ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة , يملكونها ولا تملكهم . وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة . . في منازل الشهداء . .
إن الناس كلهم يموتون ! ولكن الشهداء - في سبيل الله - هم وحدهم الذين "يستشهدون" . . وهذا فضل من الله عظيم .
فأما إذا كانت الأخرى . . فانتصر المجاهدون ; الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله . . ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة . . ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة ! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة !(ولئن أصابكم فضل من الله , ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا).
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب , هي التي يقولون عنها: (فوزا عظيمًا)والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة ; بل مطلوب منه أن يرجوه من الله . والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية . . ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور , الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسما مستنكرا منفرا . .
من الاية 74 الى الاية 74
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية . ولكنه إذا ندب للجهاد خرج - غير متثاقل - خرج يسأل الله إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة . . وكلاهما فضل من الله ; وكلهما فوز عظيم . فيقسم له الله الشهادة , فإذا هو راض بما قسم الله ; أو فرح بمقام الشهادة عند الله . ويقسم له الله الغنيمة والإياب , فيشكر الله على فضله , ويفرح بنصر الله . لا لمجرد النجاة !
وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه ; وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق(منهم)وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين , ليأخذوا منهم حذرهم ; كما يأخذون حذرهم من أعدائهم !
ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان , يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان , في كل زمان ومكان , في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن !
ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبدا . وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء . فلا ييئس من نفسه . ولكن يأخذ حذره ويمضي . ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد , أن يكمل النقص , ويعالج الضعف , وينسق الخطى والمشاعر والحركات !
الدرس الثاني:74 حث على القتال وترغيب فيه
ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين ! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى . . الآخرة . . وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة . ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين , وإحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة:
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله , فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ; ولا للاستيلاء على السكان . . لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات , والأسواق للمنتجات ; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة , ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج , وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله , بقصد إعلاء كلمة الله , وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله , بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب ; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ; في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ; ومن يغلب في سبيل الله أيضا:
ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
من الاية 75 الى الاية 75
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75)
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم , في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل , وما ترجوه من الغنيمة كذلك ! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ? وأين غنيمة المال من فضل الله ? وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ?!
الدرس الثالث:75 التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن
ثم يلتفت السياق إلى المسلمين . يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين ; إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها . يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس , وحساسية القلوب ; تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ; الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم ; وهم يتطلعون إلى الخلاص , ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجا من دار الظلم والعدوان . . يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد , وشرف الغاية , ونبل الهدف , في هذا القتال , الذي يدعوهم أن ينفروا إليه , غير متثاقلين ولا مبطئين . وذلك في أسلوب تحضيضي ; يستنكر البطء والقعود:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله , والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان . الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا ?). .
وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله ; واستنفاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ? هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم , وكرامة المؤمن , ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق ? هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة ; لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم , والفتنة في دينهم . والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض , لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني , الذي تتبعه كرامة النفس والعرض , وحق المال والأرض !
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف , مشهد مؤثر مثير . لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد . وهو وحده يكفي . لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات . . وهو أسلوب عميق الوقع , بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس .
ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن:إن (هذه القرية الظالم أهلها)التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب , يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها , هي "مكة " وطن المهاجرين , الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها . ويدعو المسلمون المستضعفين هذه الدعوة الحادة للخروج منه !
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه ; وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم , وعذبوا في عقيدتهم . . بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم "دار حرب" . . دار حرب , هم لا يدافعون عنها , وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها . . إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته . ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه ; وأرضه التي يدفع عنها هي
من الاية 76 الى الاية 77
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
دار الإسلام التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة . . وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي , تنضح به الجاهليات , ولا يعرفه الإسلام .
الدرس الرابع:76 التصور الحقيقي لفرض الجهاد
ثم لمسة نفسية أخرى , لاستنهاض الهمم , واستجاشة العزائم , وإنارة الطريق , وتحديد القيم والغايات والأهداف , التي يعمل لها كل فريق:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفا). .
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف , وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين ; تحت رايتين متميزتين:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله). .
(والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). .
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; لتحقيق منهجه , وإقرار شريعته , وإقامة العدل "بين الناس" باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم , وشتى مناهجهم , وشتى شرائعهم , وشتى طرائقهم , وشتى قيمهم , وشتى موازينهم . . فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ; ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة , مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله , ليس لأنفسهم منها نصيب , ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم , ولا لجنسهم , ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده , ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ; يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ; ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ; ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله , الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .
كذلك يخوضون المعركة , وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما , الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . .إن كيد الشيطان كان ضعيفا . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين , وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب , ورأى بعينيه النصر ; فهو واثق من الأجر العظيم .
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه , انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد
من الاية 78 الى الاية 82
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (79) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)
في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال ; فهي كثيرة مشهورة . . ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب , في أقصر فترة عرفت في التاريخ ; فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة , على المعسكرات المعادية . . ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين , وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ; ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين ; فأمسوا مهزومين !
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته . فلم يكن الأمر هينا . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهدا موصولا , لمعالجة شح النفس , وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . . وفي الدرس بقية من هذا العلاج , وذلك الجهد الموصول .
الدرس الخامس:مقدمة الدرس تحقيق الفئة المقصودة بالآيات
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين , الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال , للحكمة التي يعلمها الله ; والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال , بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة , وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن - "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! " ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا :هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول [ ص ]: هذه من عندك . وممن يقولون:طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول [ ص ] بيت طائفة منهم غير الذي تقول). وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء , في الأسلوب القرآني ; الذي يصور حالة النفس , كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة , والأجل والقدر , والخير والشر , والنفع والضرر , والكسب والخسارة , والموازين والقيم ; ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
(ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ? قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا , وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ; من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) .
(ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 24==28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 162==169 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 35==43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 24==28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 162==169 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 35==43 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى