تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النساء ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
من الاية 123 الى الاية 125
لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)
(ومن أصدق من الله قيلا)?
والصدق المطلق في قول الله هنا ; يقابل الغرور الخادع , والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك ! وشتان بين من يثق بوعد الله , ومن يثق بتغرير الشيطان !
الدرس الرابع:123 - 126 قاعدة العمل والجزاء والثواب والعقاب
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت , وسنة لا تتخلف , وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة , وتخالف من أجله السنة , ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ; وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة , ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا , واتخذ الله إبراهيم خليلاً .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). . وكان اليهود ولا يزالون يقولون:إنهم شعب الله المختار !
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل , والعمل وحده . ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد . هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام . إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا . .
فأحسن الدين هو هذا الإسلام - ملة إبراهيم - وأحسن العمل هو "الإحسان" . . والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها , وحد الشفرة , حتى لا تعذب وهي تذبح !
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة , في موقفهما من العمل والجزاء ; كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل , وهو الإيمان بالله:
(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). .
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة - من ذكر أو أنثى . كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل . وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان . ولا يصاحبه الإيمان . وذلك طبيعي ومنطقي . لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم ; كما يجعله حركة طبيعية مطردة , لا استجابة لهوى شخصي , ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة . .
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء "عم" عند قوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره). . إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم . بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما . وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي - رحمه الله . وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم [ الجزء الثلاثين من الظلال ] .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
(ومن يعمل سوء ا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا). .
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ; ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت , ومهما عملت من حسنات .
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ; ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ; ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا , ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم , وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها , وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو , ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالله بن نمير , حدثنا إسماعيل , عن أبي بكر بن أبي زهير , قال:"أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال:"يا رسول الله , كيف الفلاح بعد هذه الآية ? (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب , من يعمل سوءا يجز به). . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ]:" غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ? ألست تنصب ? ألست تحزن ? ألست تصيبك اللأواء ? " قال بلى ! قال:" فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]
وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر , يحدث عن أبى بكر الصديق . قال:كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية: (من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا)فقال رسول الله [ ص ]:" يا أبا بكر , ألا أقرئك آية نزلت علي ? " قال:قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري , حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ]:" مالك يأ أبا بكر ? " فقلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء , وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ]:" أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا , حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .
وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت:قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال:" ما هي يا عائشة ? " قلت: (من يعمل سوءا يجز به)فقال . " ما يصيب العبد المؤمن , حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال:لما نزلت: (من يعمل سوءا يجز به)شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ]:" سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية , واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم , ورجفت لها نفوسهم , لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .
وفي الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء , وقضية الشرك قبلها والإيمان , برد كل ما في السماوات
من الاية 126 الى الاية 126
وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126)
والأرض لله , وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة:
ولله ما في السماوات وما في الأرض , وكان الله بكل شيء محيطًا .
وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيرا إفراده سبحانه بالملك والهيمنة - والسلطان والقهر , فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله . وإنما هو توحيد إيجابي . توحيد الفاعلية والتأثير في الكون , وتوحيد السلطان والهيمنة أيضا .
ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض . وأنه بكل شيء محيط , لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه . . كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة ; وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره . . وكل شيء ملكه . وكل شيء في قبضته . وهو بكل شى ء محيط
وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله . ولكن بعضها ينفي عنه الإرداة . وبعضها ينفي عنه العلم . وبعضها ينفي عنه السلطان . وبعضها ينفي عنه الملك . . إلى آخر هذا الركام الذي يسمى "فلسفات ! " . . ومن ثم يصبح هذا التصور سلبيا لا فاعلية له في حياة الناس , ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم ; ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم . . كلام ! مجرد كلام !
إن الله في الإسلام , له ما في السموات وما في الأرض . فهو مالك كل شيء . . وهو بكل شيء محيط . فهو مهيمن على كل شيء . . وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير . ويصلح السلوك . وتصلح الحياة . .
الوحدة الثانية عشرة:127 - 134 الموضوع:توجيهات بشأن الأسرة والأطفال والمرأة مقدمة الوحدة - علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي , فيما يختص بالمرأة والأسرة ; وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال . وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب ;من الجاهلية , وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام . مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم . أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام .
وهنا نجد جزاء تطلعهم لله , وجزاء حرارتهم , وصدق عزيمتهم على الاتباع . . نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية . . بأنه سبحانه - بذاته العلية - يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه:
(ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . .). .
فهم كانوا يستفتون الرسول [ ص ] والله - سبحانه - يتفضل فيقول للنبي [ ص ] قل:إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية . وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر , في عطف الله سبحانه , وتكريمه للجماعة المسلمة ; وهو يخاطبها بذاته ; ويرعاها بعينه ; ويفتيها فيما تستفتي , وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة .
وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها . كما تناولت التوجيه المطلوب , لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب .
(قل الله يفتيكم فيهن ; وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن , وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان . وأن تقوموا لليتامى بالقسط . .).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية:كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه . فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . وإن كانت جميلة وهويها تزوجها , وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجال أبد حتى تموت . فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه . . وقال في قوله: (والمستضعفين من الولدان)كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات . وذلك قوله: لا تؤتونهن ما كتب لهن . . فنهى الله عن ذلك ; وبين لكل ذي سهم سهمه فقال:للذكر مثل حظ الأنثيين , صغيرا أو كبيرا . .
وقال سعيد بن جبير في قوله: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط). . كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها , كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها .
وعن عائشة - رضي الله عنها -:ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . - إلى قوله: (وترغبون أن تنكحوهن)قالت عائشة:هو الرجل تكون عنده اليتيمة , هو وليها ووارثها , فأشركته في ماله , حتى في العذق , فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته , فيعضلها فنزلت الآية [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقال ابن أبي حاتم:قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم , أخبرنا ابن وهب , أخبرني يونس عن ابن شهاب , أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة:"ثم إن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية فيهن . فأنزل الله: (ويستفتونك في النساء قل:الله يفتيكم فيهن , وما يتلى عليكم في الكتاب). . . الآية . . قالت . والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب:الآية الأولى التي قال الله: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . . .). وبهذا الإسناد عن عائشة قالت:" وقول الله عز وجل:
من الاية 127 الى الاية 127
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127)
(وترغبون أن تنكحوهن). . رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء - إلا بالقسط - من أجل رغبتهم هن " .
وظاهر من هذه النصوص , ومن النص القرآني . ما كان عليه الحال في الجاهلية ; فيما يختص بالفتيات اليتيمات . فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن:الطمع في مالها , والغبن في مهرها - إن هو تزوجها - فيأكل مهرها ويأكل مالها . والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة . ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها !
كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء , إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم ; أو أنهم غير محاربين , فلا حق لهم في الميراث , تحت تأثير الشعور القبلي , الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء . ولا شيء للضعاف !
وهذه التقاليد الشائهة البدائية , هي التي أخذ الإسلام يبدلها , وينشى ء مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد - كما قلنا - مجرد وثبة , أو نهضة , في المجتمع العربي . إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى , وميلاد جديد , وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية !
والمهم الذي يجب أن نسجله:هو أن هذه النشأة الجديدة , لم تكن تطورا مسبوقا بأية خطوات تمهيدية له ; أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب !
فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني , وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية , لا بصفتهم محاربين ! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين . ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين , لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم !
كلا ! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها ; وكانت الحاجة إليهم ماسة ! ولكن كان هناك . . الإسلام . . كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان . الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب ; ومن خلال منهج ; فأقام مجتمعا جديدا وليدا . على نفس الأرض . وفي ذات الظروف . وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته ! ولا في المادة وخواصها ! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد . وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح . وكافح طويلا . لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع , وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع . . وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم ; وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية ; أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى . .
ولكن المهم هنا:هو أن المنهج المتنزل من السماء , والتصور الذي أنشأة هذا المنهج كذلك , هو الذي كان يكافح "الواقع المادي" ويعدله ويبدله . . ولم يكن قط أن الواقع المادي أو "النقيض" الكامن فيه ; أو تبدل وسائل الإنتاج . . أو شيء من هذا "الهوس الماركسي" ! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة , وأوضاعها , لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج !
كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب . . شيء هبط عليه من الملأ الأعلى . . فاستجابت له نفوس , لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة , الذي أودعه الله فيها . . ومن ثم وقع هذا التغيير . بل تم هذا الميلادالجديد للإنسان . الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها . . في كل جانب من جوانبها . . عن الملامح المعهودة في الجاهلية !!!
ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة . ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات . . فقد تم هذا كله . لأن هناك رسالة علوية ; وتصورا اعتقاديا ; هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد . الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي ; ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله
ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين , فيما يستفتون فيه الرسول [ ص ] في أمر النساء , ويقص عليهم حقوق اليتيمات , وحقوق الولدان الضعاف . . ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها , بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج:
وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا . .
فهو غير مجهول , وهو غير ضائع . . وهو مسجل عندالله . ولن يضيع خير سجل عند الله .
وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله , والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده . وقوة هذا المرجع , وسلطانه , هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس , وفي الأوضاع وفي الحياة .
إنه ليس المهم أن تقال توجيهات ; وأن تبتدع مناهج ; وأن تقام أنظمة . . إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة . السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر . . وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان , وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر ! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة ; وبلوغهما معا أوجا واحدا - وهو فرض ظاهر الاستحالة . ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة , لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان . . ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى . أو كلمة الإنسان ابن الإنسان !
الدرس الثاني:128 - 130 علاج حالة نشوز الزوج والعدل المنفي
ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي - في محيط الأسرة - في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه , بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى , لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا , فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . والصلح خير . وأحضرت الأنفس الشح . وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل , فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيما .
لقد نظم المنهج - من قبل - حالة النشوز من ناحية الزوجة ; والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [ وذلك في أوائل هذا الجزء ] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج , فتهدد أمن المرآة وكرامتها , وأمن الأسرة كلها كذلك . إن القلوب تتقلب , وإن المشاعر تتغير . والإسلام
من الاية 128 الى الاية 128
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
منهج حياة يعالج كل جزئية فيها , ويتعرض لكل ما يعرض لها ; في نطاق مبادئه واتجاهاته ; وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم .
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ; وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض , الذي يتركها كالمعلقة . لا هي زوجة ولا هي مطلقة , فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها , أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية . كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه . أو أن تترك له قسمتها وليلتها , إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها , وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها . . هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها:
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا). . هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه . .
ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق:
(والصلح خير). .
فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف , نسمة من الندى والإيناس , والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية , والرابطة العائلية .
إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله . فهو يحاول - بكل وسائله المؤثرة - أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها . . ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة ; ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها ; ولا يقول للناس:اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام ! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه !
إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها ; ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل , وتتمرغ في الطين - بحجة أن هذا واقع هذه النفس ! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى , ويدعها تتأرجح في الهواء ; لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض . بحجة الرفعة والتسامي !
إنه الوسط . . إنه الفطرة . . إنه المثالية الواقعية . أو الواقعية المثالية . . إنه يتعامل مع الإنسان , بما هو إنسان . والإنسان مخلوق عجيب . هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض ; وينطلق بروحه إلى السماء . في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده ; ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء !
وهو هنا - في هذا الحكم - يتعامل مع هذا الإنسان . وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال: (وأحضرت الأنفس الشح).
أي أن الشح حاضر دائمًا في الأنفس . وهو دائما قائم فيها . الشح بأنواعه . الشح بالمال . والشح بالمشاعر . وقد تترسب في حياة الزوجين - أو تعرض - أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته . فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها - إرضاء لهذا الشح بالمال , تستبقي معه عقدة النكاح ! وقد يكون تنازلها عن ليلتها - إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه - والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر , تستبقي معه عقدة النكاح ! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها . . لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ; ولكنه فقط يجيز لها التصرف , ويمنحها حرية النظر والتدبر
من الاية 129 الى الاية 129
وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129)
في أمرها وفق ما تراه .
وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه , لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية . بل هو يهتف لها هتافا آخر , ويعزف لها نغمة أخرى:
وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .
فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية . ولن يضيع منهما شيء على صاحبة , فإن الله خبير بما تعمله كل نفس ; خبير ببواعثه وكوامنه . . والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى , والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل , هتاف مؤثر , ونداء مستجاب . . بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب .
ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد , وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية , بالواقعية المثالية , أو المثالية الواقعية , ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيمًا .
إن الله الذي فطر النفس البشرية , يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها . ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما . خطاما لينظم حركتها فقط , لا ليعدمها ويقتلها !
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات . فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات . وهذا ميل لا حيلة له فيه ; ولا يملك محوه أو قتله . . فماذا ? إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ; ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه ; فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه ! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء - ولو حرصوا - لأن الأمر خارج عن إرادتهم . . ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم . هناك العدل في المعاملة . العدل في القسمة . العدل في النفقة . العدل في الحقوق الزوجية كلها , حتى الابتسامة في الوجه , والكلمة الطيبة باللسان . . وهذا ما هم مطالبون به . هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل . لينظمه لا ليقتله !
(فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة). .
فهذا هو المنهي عنه . الميل في المعاملة الظاهرة , والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة . . ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة ; والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان .
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيمًا .
ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية , أو مثاليتها الواقعية , التي تضع قدميها على الأرض , وترف بروحها إلى السماء , دون تناقض ودون انفصام .
لأن الإسلام كذلك . . كان نبي الإسلام [ ص ] هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال ; فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نموا متوازنا متكاملا في حدود فطرة الإنسان .
وكان هذا الرسول [ ص ] وهو يقسم بين نسائه فيما يملك , ويعدل في هذه القسمة , لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض . وأن هذا خارج عما يملك . فكان يقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك . فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب " [ أخرجه أبو داود ] . .
من الاية 130 الى الاية 130
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130)
فأما حين تجف القلوب , فلا تطيق هذه الصلة ; ولا يبقى في نفوس الزوجين ما تستقيم معه الحياة , فالتفرق إذن خير . لأن الإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال , ولا بالقيود والأغلال ; إنما يمسكهم بالمودة والرحمة ; أو بالواجب والتجمل . فإذا بلغ الحال أن لا تبلغ هذه الوسائل كلها علاج القلوب المتنافرة , فإنه لا يحكم عليها أن تقيم في سجن من الكراهية والنفرة ; أو في رباط ظاهري وانفصام حقيقي !
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيمًا . .
فالله يعد كلا منهما أن يغنيه من فضله هو , ومما عنده هو ; وهو - سبحانه - يسع عباده ويوسع عليهم بما يشاء في حدود حكمته وعلمه بما يصلح لكل حال .
إن دراسة هذا المنهج , وهو يعالج مشاعر النفوس , وكوامن الطباع , وأوضاع الحياة في واقعيتها الكلية . . تكشف عن عجب لا ينقضي , من تنكر الناس لهذا المنهج . . هذا المنهج الميسر , الموضوع للبشر , الذي يقود خطاهم من السفح الهابط , في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة ; وفق فطرتهم واستعدادتهم ; ولا يفرض عليهم أمرا من الارتفاع والتسامي , إلا وله وتر في فطرتهم يوقع عليه ; وله استعداد في طبيعتهم يستجيشه ; وله جذر في تكوينهم يستنبته . . ثم هو يبلغ بهم - بعد هذا كله - إلى ما لا يبلغه بهم منهج آخر . . في واقعية مثالية . أو مثالية واقعية . . هي صورة طبق الأصل من تكوين هذا الكائن الفريد .
الدرس الثالث:الربط بين أحكام الله وملكه السموات والأرض
ولأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية , قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها ; ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني , الذي أراده الله للكون كله , فهو يتوافق مع فطرة الله للكون , وفطرة الله للإنسان , الذي يعيش في هذا الكون . . لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير , يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة , ما يربطها بالنظام الكوني كله ; وسلطان الله في الكون كله , وملكية الله للكون كله . ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها ; وثواب الدنيا وثواب الآخرة . . وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله . قواعد الحق والعدل والتقوى:
ولله ما في السماوات وما في الأرض . ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم:أن اتقوا الله . وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا , ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين . وكان الله على ذلك قديرا . من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وكان الله سميعا بصيرًا .
ويكثر في القرآن التعقيب على الأحكام , وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض ; أو بأن لله ملك السماوات والأرض . فالأمران متلازمان في الحقيقة . فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه ; وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك . والله وحده هو المالك , ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس . فالأمران متلازمان .
كذلك يبرز هنا من وصية الله - سبحانه - لكل من أنزل عليهم كتابا . . الوصية بالتقوى , وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض , ومن له حق الوصية في ملكه:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض . ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله).
من الاية 131 الى الاية 134
وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يخشى ويخاف . وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب , وحرصها على منهجه في كل جزئياته .
كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله ; وهو أن أمرهم عليه سبحانه ; وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم:
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين . وكان الله على ذلك قديرًا . .
فهو - سبحانه - إذ يوصيهم بتقواه , لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية , وأن يكفروا . فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئا . . (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض)وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوما غيرهم , إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم , ولصلاح حالهم .
وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله ; وتكريمه على كل ما في الأرض , وكل من في الكون . . بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به , ويعتو وتجبر , ويدعي خصائص الألوهية بغير حق . . فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي , وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك . .
ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها , إلى أن فضل الله أوسع . . فعنده ثواب الدنيا والآخرة . . وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا , أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها ; وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة .
(من كان يريد ثواب الدنيا , فعند الله ثواب الدنيا والآخرة). . وكان الله سميعا بصيرًا). .
وإنه ليكون من الحمق , كما يكون من سقوط الهمة , أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا ; وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا - وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي - ثم يكتفي بطلب الدنيا , ويضع فيها همه ; ويعيش كالحيوان والدواب والهوام ; بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان ! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء . وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض ; ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى !
وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة - كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة - تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام . حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى ; ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعا ; وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته ; ويقيمون شريعته . . وهو تعقيب خطير . يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله . وفي منهجه للحياة . .
الوحدة الثالثة عشرة:135 - 147 الموضوع:العدل والإيمان والولاء وذم المنافقين لمولاتهم الكافرين مقدمة الوحدة - التربية المنهجية للجماعة المؤمنة
هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية , التي تولتها يد الرعاية الإلهية ; لإخراج الأمة التي قال الله فيها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). . وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو , المرسوم الأهداف لمعالكذلك - في الوقت ذاته - ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى , المخاطبة بهذا القرآن ; وتبرز من بين السطور صورة لهذة الجماعة إذ ذاك - كما هي - بكل ما فيها من بشرية . وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة ; ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية . . وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثلة ; بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية .
ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها , في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة - العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة ; متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة - بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة ! - متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته . . العدل الذي رأينا نموذجا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله - سبحانه - بذاته العلية على النبى [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره .
يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل . . بصورته هذه . . ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة , التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو . وفي النفس البشرية ضعفها المعروف , وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب ; وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضا . تجاه الوالدين والأقربين , وتجاه الفقير والغني ; تجاه المودة وتجاه الشنآن . . ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق . جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء ! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله .
ثم يدعوهم دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل . بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية ; وقيمته في تكوين التصور الإسلامي , المتفوق على جميع التصورات الأخرى , التي عرفتها البشرية - قبل الإسلام وبعده - وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي , في حياة الجماعة المسلمة الأولى . والذي يحمل عنصر التفوق دائما لكل جماعة تؤمن به حقا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . حيث تحق كلمة الله - في هذا الدرس نفسه - (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا). .
وبعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين - من بقي منهم على حالة النفاق , ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه - حملة يصور فيها طبيعة المنافقين , ويرسم لهم فيها صورا زرية , من واقع ما يقومون به في الصف المسلم ; ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف . وهم يلقون المسلمين - إذا انتصروا - بالملق والنفاق . ويلقون الذين كفروا - إذا انتصروا كذلك - بدعواهم أنهم سبب انتصارهم ! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس . وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
وترد في ثنايا هذه الحملة توجيهات للمؤمنين وتحذيرات . تدل على مدى ما كان لأفاعيل المنافقين في الصف المسلم - حينذاك - من آثار , وعلى مدى ضخامة الجبهة المنافقة وتغلغلها في حياة الجماعة المسلمة ; مما استدعى هذه الحملة , مع مراعاة "الواقع" يومئذ , وأخذ المسلمين خطوة خطوة في الابتعاد عن المنافقين واجتنابهم . من ذلك امرهم باجتناب مجالس المنافقين التي يتداولون فيها الكفر بايات الله والاستهزاء بها . ولم يأمرهم - حينذاك - بمقاطعة المنافقين البتة . مما يدل على أن جبهة النفاق كانت ضخمة ومتغلغلة بصورة يصعب فيها على المسلمين مقاطعتهم !
كذلك ترد في ثناياها تحذيرات للمسلمين من سمات النفاق ومقدماته ; كي لا يقعوا فيها . وأخصها موالاة الكافرين , وابتغاء العزة عندهم , والقوة بهم ! وتأمينهم بأن العزة لله جميعا , وبأن الله لن يجعل للكافرينعلى المؤمنين سبيلا , وذلك مع رسم الصور البشعة للمنافقين في الدنيا وفي الآخرة . وتقرير أن مكانهم في الدرك الأسفل من النار .
وهذه التوجيهات والتحذيرات - بهذا الأسلوب - تشي بطريقة المنهج في علاج النفوس والأوضاع ; وتغيير الواقع في حدود الطاقة والملابسات القائمة كذلك , حتى ينتهي إلى تغييره نهائيا ; وإقامة "واقع" آخر جديد . كما تشي بحالة الجماعة المسلمة حينذاك وموقفها من جبهة الكفر وجبهة النفاق المتعاونتين في حرب الجماعة المسلمة والدين الجديد .
ومن خلال هذه وتلك تتبين طبيعة المعركة التي كان القرآن يخوض بها الجماعة المسلمة , وطبيعة الأساليب المنهجية في قيادته للمعركة وللنفوس . . وهي المعركة الدائمة المتصلة بين الإسلام والجاهلية في كل زمان وكل مكان . وبين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين تتغير أشخاصهم ووسائلهم ولكن لا تتغير طبيعتهم ومبادئهم .
ومن خلال هذا كله تبرز حقيقة هذا الكتاب . . القرآن . . ودوره في قيادة الأمة المسلمة . ليس بالأمس فقط - فما جاء ليقود جيلا دون جيل . إنما جاء ليقود هذه الأمة , وليكون مرشدها وهاديها , في جميع الاجيال والدهور . .
وفي نهاية الدرس تجيء تلك اللفتة العجيبة إلى استغناء الله - سبحانه - عن تعذيب العباد . . فهو لا يطلب منهم إلا أن يؤمنوا ويشكروا . وهو سبحانه غني عن إيمانهم وشكرهم . ولكن ذلك إنما هو لصلاح حالهم , وارتقاء مستواهم ; حتى يتأهلوا لحياة الآخرة , ومستوى النعيم في الجنة . فإذا هم ارتكسوا وانتكسوا فإنما يؤهلون أنفسهم لمستوى العذاب في الجحيم . حيث يسقط المنافقون إلى أحط الدركات (في الدرك الأسفل من النار). .
الدرس الأول:135 الأمر بالعدل في الحكم والقضاء
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ; فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ; وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم , وولدت تصوراتهم , وولدت مبادئهم وأهدافهم , وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم , والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية , والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة , كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ; تسبق التكليف الشاق الثقيل:
كونوا قوامين بالقسط , شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)
(ومن أصدق من الله قيلا)?
والصدق المطلق في قول الله هنا ; يقابل الغرور الخادع , والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك ! وشتان بين من يثق بوعد الله , ومن يثق بتغرير الشيطان !
الدرس الرابع:123 - 126 قاعدة العمل والجزاء والثواب والعقاب
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت , وسنة لا تتخلف , وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة , وتخالف من أجله السنة , ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ; وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة , ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا , واتخذ الله إبراهيم خليلاً .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). . وكان اليهود ولا يزالون يقولون:إنهم شعب الله المختار !
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل , والعمل وحده . ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد . هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام . إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا . .
فأحسن الدين هو هذا الإسلام - ملة إبراهيم - وأحسن العمل هو "الإحسان" . . والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها , وحد الشفرة , حتى لا تعذب وهي تذبح !
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة , في موقفهما من العمل والجزاء ; كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل , وهو الإيمان بالله:
(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). .
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة - من ذكر أو أنثى . كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل . وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان . ولا يصاحبه الإيمان . وذلك طبيعي ومنطقي . لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم ; كما يجعله حركة طبيعية مطردة , لا استجابة لهوى شخصي , ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة . .
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء "عم" عند قوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره). . إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم . بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما . وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي - رحمه الله . وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم [ الجزء الثلاثين من الظلال ] .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
(ومن يعمل سوء ا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا). .
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ; ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت , ومهما عملت من حسنات .
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ; ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ; ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا , ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم , وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها , وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو , ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالله بن نمير , حدثنا إسماعيل , عن أبي بكر بن أبي زهير , قال:"أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال:"يا رسول الله , كيف الفلاح بعد هذه الآية ? (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب , من يعمل سوءا يجز به). . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ]:" غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ? ألست تنصب ? ألست تحزن ? ألست تصيبك اللأواء ? " قال بلى ! قال:" فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]
وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر , يحدث عن أبى بكر الصديق . قال:كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية: (من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا)فقال رسول الله [ ص ]:" يا أبا بكر , ألا أقرئك آية نزلت علي ? " قال:قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري , حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ]:" مالك يأ أبا بكر ? " فقلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء , وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ]:" أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا , حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .
وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت:قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال:" ما هي يا عائشة ? " قلت: (من يعمل سوءا يجز به)فقال . " ما يصيب العبد المؤمن , حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال:لما نزلت: (من يعمل سوءا يجز به)شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ]:" سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية , واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم , ورجفت لها نفوسهم , لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .
وفي الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء , وقضية الشرك قبلها والإيمان , برد كل ما في السماوات
من الاية 126 الى الاية 126
وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126)
والأرض لله , وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة:
ولله ما في السماوات وما في الأرض , وكان الله بكل شيء محيطًا .
وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيرا إفراده سبحانه بالملك والهيمنة - والسلطان والقهر , فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله . وإنما هو توحيد إيجابي . توحيد الفاعلية والتأثير في الكون , وتوحيد السلطان والهيمنة أيضا .
ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض . وأنه بكل شيء محيط , لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه . . كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة ; وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره . . وكل شيء ملكه . وكل شيء في قبضته . وهو بكل شى ء محيط
وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله . ولكن بعضها ينفي عنه الإرداة . وبعضها ينفي عنه العلم . وبعضها ينفي عنه السلطان . وبعضها ينفي عنه الملك . . إلى آخر هذا الركام الذي يسمى "فلسفات ! " . . ومن ثم يصبح هذا التصور سلبيا لا فاعلية له في حياة الناس , ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم ; ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم . . كلام ! مجرد كلام !
إن الله في الإسلام , له ما في السموات وما في الأرض . فهو مالك كل شيء . . وهو بكل شيء محيط . فهو مهيمن على كل شيء . . وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير . ويصلح السلوك . وتصلح الحياة . .
الوحدة الثانية عشرة:127 - 134 الموضوع:توجيهات بشأن الأسرة والأطفال والمرأة مقدمة الوحدة - علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي , فيما يختص بالمرأة والأسرة ; وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال . وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب ;من الجاهلية , وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام . مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم . أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام .
وهنا نجد جزاء تطلعهم لله , وجزاء حرارتهم , وصدق عزيمتهم على الاتباع . . نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية . . بأنه سبحانه - بذاته العلية - يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه:
(ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . .). .
فهم كانوا يستفتون الرسول [ ص ] والله - سبحانه - يتفضل فيقول للنبي [ ص ] قل:إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية . وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر , في عطف الله سبحانه , وتكريمه للجماعة المسلمة ; وهو يخاطبها بذاته ; ويرعاها بعينه ; ويفتيها فيما تستفتي , وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة .
وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها . كما تناولت التوجيه المطلوب , لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب .
(قل الله يفتيكم فيهن ; وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن , وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان . وأن تقوموا لليتامى بالقسط . .).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية:كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه . فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . وإن كانت جميلة وهويها تزوجها , وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجال أبد حتى تموت . فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه . . وقال في قوله: (والمستضعفين من الولدان)كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات . وذلك قوله: لا تؤتونهن ما كتب لهن . . فنهى الله عن ذلك ; وبين لكل ذي سهم سهمه فقال:للذكر مثل حظ الأنثيين , صغيرا أو كبيرا . .
وقال سعيد بن جبير في قوله: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط). . كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها , كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها .
وعن عائشة - رضي الله عنها -:ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . - إلى قوله: (وترغبون أن تنكحوهن)قالت عائشة:هو الرجل تكون عنده اليتيمة , هو وليها ووارثها , فأشركته في ماله , حتى في العذق , فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته , فيعضلها فنزلت الآية [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقال ابن أبي حاتم:قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم , أخبرنا ابن وهب , أخبرني يونس عن ابن شهاب , أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة:"ثم إن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية فيهن . فأنزل الله: (ويستفتونك في النساء قل:الله يفتيكم فيهن , وما يتلى عليكم في الكتاب). . . الآية . . قالت . والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب:الآية الأولى التي قال الله: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . . .). وبهذا الإسناد عن عائشة قالت:" وقول الله عز وجل:
من الاية 127 الى الاية 127
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127)
(وترغبون أن تنكحوهن). . رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء - إلا بالقسط - من أجل رغبتهم هن " .
وظاهر من هذه النصوص , ومن النص القرآني . ما كان عليه الحال في الجاهلية ; فيما يختص بالفتيات اليتيمات . فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن:الطمع في مالها , والغبن في مهرها - إن هو تزوجها - فيأكل مهرها ويأكل مالها . والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة . ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها !
كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء , إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم ; أو أنهم غير محاربين , فلا حق لهم في الميراث , تحت تأثير الشعور القبلي , الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء . ولا شيء للضعاف !
وهذه التقاليد الشائهة البدائية , هي التي أخذ الإسلام يبدلها , وينشى ء مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد - كما قلنا - مجرد وثبة , أو نهضة , في المجتمع العربي . إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى , وميلاد جديد , وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية !
والمهم الذي يجب أن نسجله:هو أن هذه النشأة الجديدة , لم تكن تطورا مسبوقا بأية خطوات تمهيدية له ; أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب !
فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني , وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية , لا بصفتهم محاربين ! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين . ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين , لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم !
كلا ! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها ; وكانت الحاجة إليهم ماسة ! ولكن كان هناك . . الإسلام . . كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان . الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب ; ومن خلال منهج ; فأقام مجتمعا جديدا وليدا . على نفس الأرض . وفي ذات الظروف . وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته ! ولا في المادة وخواصها ! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد . وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح . وكافح طويلا . لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع , وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع . . وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم ; وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية ; أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى . .
ولكن المهم هنا:هو أن المنهج المتنزل من السماء , والتصور الذي أنشأة هذا المنهج كذلك , هو الذي كان يكافح "الواقع المادي" ويعدله ويبدله . . ولم يكن قط أن الواقع المادي أو "النقيض" الكامن فيه ; أو تبدل وسائل الإنتاج . . أو شيء من هذا "الهوس الماركسي" ! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة , وأوضاعها , لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج !
كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب . . شيء هبط عليه من الملأ الأعلى . . فاستجابت له نفوس , لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة , الذي أودعه الله فيها . . ومن ثم وقع هذا التغيير . بل تم هذا الميلادالجديد للإنسان . الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها . . في كل جانب من جوانبها . . عن الملامح المعهودة في الجاهلية !!!
ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة . ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات . . فقد تم هذا كله . لأن هناك رسالة علوية ; وتصورا اعتقاديا ; هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد . الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي ; ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله
ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين , فيما يستفتون فيه الرسول [ ص ] في أمر النساء , ويقص عليهم حقوق اليتيمات , وحقوق الولدان الضعاف . . ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها , بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج:
وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا . .
فهو غير مجهول , وهو غير ضائع . . وهو مسجل عندالله . ولن يضيع خير سجل عند الله .
وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله , والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده . وقوة هذا المرجع , وسلطانه , هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس , وفي الأوضاع وفي الحياة .
إنه ليس المهم أن تقال توجيهات ; وأن تبتدع مناهج ; وأن تقام أنظمة . . إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة . السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر . . وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان , وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر ! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة ; وبلوغهما معا أوجا واحدا - وهو فرض ظاهر الاستحالة . ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة , لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان . . ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى . أو كلمة الإنسان ابن الإنسان !
الدرس الثاني:128 - 130 علاج حالة نشوز الزوج والعدل المنفي
ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي - في محيط الأسرة - في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه , بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى , لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا , فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . والصلح خير . وأحضرت الأنفس الشح . وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل , فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيما .
لقد نظم المنهج - من قبل - حالة النشوز من ناحية الزوجة ; والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [ وذلك في أوائل هذا الجزء ] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج , فتهدد أمن المرآة وكرامتها , وأمن الأسرة كلها كذلك . إن القلوب تتقلب , وإن المشاعر تتغير . والإسلام
من الاية 128 الى الاية 128
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
منهج حياة يعالج كل جزئية فيها , ويتعرض لكل ما يعرض لها ; في نطاق مبادئه واتجاهاته ; وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم .
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ; وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض , الذي يتركها كالمعلقة . لا هي زوجة ولا هي مطلقة , فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها , أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية . كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه . أو أن تترك له قسمتها وليلتها , إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها , وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها . . هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها:
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا). . هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه . .
ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق:
(والصلح خير). .
فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف , نسمة من الندى والإيناس , والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية , والرابطة العائلية .
إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله . فهو يحاول - بكل وسائله المؤثرة - أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها . . ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة ; ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها ; ولا يقول للناس:اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام ! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه !
إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها ; ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل , وتتمرغ في الطين - بحجة أن هذا واقع هذه النفس ! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى , ويدعها تتأرجح في الهواء ; لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض . بحجة الرفعة والتسامي !
إنه الوسط . . إنه الفطرة . . إنه المثالية الواقعية . أو الواقعية المثالية . . إنه يتعامل مع الإنسان , بما هو إنسان . والإنسان مخلوق عجيب . هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض ; وينطلق بروحه إلى السماء . في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده ; ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء !
وهو هنا - في هذا الحكم - يتعامل مع هذا الإنسان . وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال: (وأحضرت الأنفس الشح).
أي أن الشح حاضر دائمًا في الأنفس . وهو دائما قائم فيها . الشح بأنواعه . الشح بالمال . والشح بالمشاعر . وقد تترسب في حياة الزوجين - أو تعرض - أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته . فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها - إرضاء لهذا الشح بالمال , تستبقي معه عقدة النكاح ! وقد يكون تنازلها عن ليلتها - إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه - والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر , تستبقي معه عقدة النكاح ! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها . . لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ; ولكنه فقط يجيز لها التصرف , ويمنحها حرية النظر والتدبر
من الاية 129 الى الاية 129
وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129)
في أمرها وفق ما تراه .
وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه , لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية . بل هو يهتف لها هتافا آخر , ويعزف لها نغمة أخرى:
وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .
فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية . ولن يضيع منهما شيء على صاحبة , فإن الله خبير بما تعمله كل نفس ; خبير ببواعثه وكوامنه . . والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى , والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل , هتاف مؤثر , ونداء مستجاب . . بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب .
ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد , وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية , بالواقعية المثالية , أو المثالية الواقعية , ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيمًا .
إن الله الذي فطر النفس البشرية , يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها . ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما . خطاما لينظم حركتها فقط , لا ليعدمها ويقتلها !
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات . فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات . وهذا ميل لا حيلة له فيه ; ولا يملك محوه أو قتله . . فماذا ? إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ; ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه ; فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه ! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء - ولو حرصوا - لأن الأمر خارج عن إرادتهم . . ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم . هناك العدل في المعاملة . العدل في القسمة . العدل في النفقة . العدل في الحقوق الزوجية كلها , حتى الابتسامة في الوجه , والكلمة الطيبة باللسان . . وهذا ما هم مطالبون به . هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل . لينظمه لا ليقتله !
(فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة). .
فهذا هو المنهي عنه . الميل في المعاملة الظاهرة , والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة . . ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة ; والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان .
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيمًا .
ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية , أو مثاليتها الواقعية , التي تضع قدميها على الأرض , وترف بروحها إلى السماء , دون تناقض ودون انفصام .
لأن الإسلام كذلك . . كان نبي الإسلام [ ص ] هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال ; فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نموا متوازنا متكاملا في حدود فطرة الإنسان .
وكان هذا الرسول [ ص ] وهو يقسم بين نسائه فيما يملك , ويعدل في هذه القسمة , لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض . وأن هذا خارج عما يملك . فكان يقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك . فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب " [ أخرجه أبو داود ] . .
من الاية 130 الى الاية 130
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130)
فأما حين تجف القلوب , فلا تطيق هذه الصلة ; ولا يبقى في نفوس الزوجين ما تستقيم معه الحياة , فالتفرق إذن خير . لأن الإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال , ولا بالقيود والأغلال ; إنما يمسكهم بالمودة والرحمة ; أو بالواجب والتجمل . فإذا بلغ الحال أن لا تبلغ هذه الوسائل كلها علاج القلوب المتنافرة , فإنه لا يحكم عليها أن تقيم في سجن من الكراهية والنفرة ; أو في رباط ظاهري وانفصام حقيقي !
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيمًا . .
فالله يعد كلا منهما أن يغنيه من فضله هو , ومما عنده هو ; وهو - سبحانه - يسع عباده ويوسع عليهم بما يشاء في حدود حكمته وعلمه بما يصلح لكل حال .
إن دراسة هذا المنهج , وهو يعالج مشاعر النفوس , وكوامن الطباع , وأوضاع الحياة في واقعيتها الكلية . . تكشف عن عجب لا ينقضي , من تنكر الناس لهذا المنهج . . هذا المنهج الميسر , الموضوع للبشر , الذي يقود خطاهم من السفح الهابط , في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة ; وفق فطرتهم واستعدادتهم ; ولا يفرض عليهم أمرا من الارتفاع والتسامي , إلا وله وتر في فطرتهم يوقع عليه ; وله استعداد في طبيعتهم يستجيشه ; وله جذر في تكوينهم يستنبته . . ثم هو يبلغ بهم - بعد هذا كله - إلى ما لا يبلغه بهم منهج آخر . . في واقعية مثالية . أو مثالية واقعية . . هي صورة طبق الأصل من تكوين هذا الكائن الفريد .
الدرس الثالث:الربط بين أحكام الله وملكه السموات والأرض
ولأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية , قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها ; ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني , الذي أراده الله للكون كله , فهو يتوافق مع فطرة الله للكون , وفطرة الله للإنسان , الذي يعيش في هذا الكون . . لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير , يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة , ما يربطها بالنظام الكوني كله ; وسلطان الله في الكون كله , وملكية الله للكون كله . ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها ; وثواب الدنيا وثواب الآخرة . . وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله . قواعد الحق والعدل والتقوى:
ولله ما في السماوات وما في الأرض . ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم:أن اتقوا الله . وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا , ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين . وكان الله على ذلك قديرا . من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وكان الله سميعا بصيرًا .
ويكثر في القرآن التعقيب على الأحكام , وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض ; أو بأن لله ملك السماوات والأرض . فالأمران متلازمان في الحقيقة . فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه ; وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك . والله وحده هو المالك , ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس . فالأمران متلازمان .
كذلك يبرز هنا من وصية الله - سبحانه - لكل من أنزل عليهم كتابا . . الوصية بالتقوى , وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض , ومن له حق الوصية في ملكه:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض . ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله).
من الاية 131 الى الاية 134
وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يخشى ويخاف . وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب , وحرصها على منهجه في كل جزئياته .
كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله ; وهو أن أمرهم عليه سبحانه ; وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم:
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين . وكان الله على ذلك قديرًا . .
فهو - سبحانه - إذ يوصيهم بتقواه , لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية , وأن يكفروا . فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئا . . (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض)وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوما غيرهم , إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم , ولصلاح حالهم .
وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله ; وتكريمه على كل ما في الأرض , وكل من في الكون . . بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به , ويعتو وتجبر , ويدعي خصائص الألوهية بغير حق . . فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي , وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك . .
ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها , إلى أن فضل الله أوسع . . فعنده ثواب الدنيا والآخرة . . وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا , أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها ; وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة .
(من كان يريد ثواب الدنيا , فعند الله ثواب الدنيا والآخرة). . وكان الله سميعا بصيرًا). .
وإنه ليكون من الحمق , كما يكون من سقوط الهمة , أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا ; وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا - وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي - ثم يكتفي بطلب الدنيا , ويضع فيها همه ; ويعيش كالحيوان والدواب والهوام ; بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان ! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء . وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض ; ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى !
وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة - كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة - تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام . حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى ; ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعا ; وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته ; ويقيمون شريعته . . وهو تعقيب خطير . يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله . وفي منهجه للحياة . .
الوحدة الثالثة عشرة:135 - 147 الموضوع:العدل والإيمان والولاء وذم المنافقين لمولاتهم الكافرين مقدمة الوحدة - التربية المنهجية للجماعة المؤمنة
هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية , التي تولتها يد الرعاية الإلهية ; لإخراج الأمة التي قال الله فيها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). . وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو , المرسوم الأهداف لمعالكذلك - في الوقت ذاته - ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى , المخاطبة بهذا القرآن ; وتبرز من بين السطور صورة لهذة الجماعة إذ ذاك - كما هي - بكل ما فيها من بشرية . وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة ; ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية . . وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثلة ; بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية .
ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها , في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة - العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة ; متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة - بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة ! - متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته . . العدل الذي رأينا نموذجا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله - سبحانه - بذاته العلية على النبى [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره .
يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل . . بصورته هذه . . ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة , التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو . وفي النفس البشرية ضعفها المعروف , وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب ; وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضا . تجاه الوالدين والأقربين , وتجاه الفقير والغني ; تجاه المودة وتجاه الشنآن . . ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق . جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء ! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله .
ثم يدعوهم دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل . بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية ; وقيمته في تكوين التصور الإسلامي , المتفوق على جميع التصورات الأخرى , التي عرفتها البشرية - قبل الإسلام وبعده - وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي , في حياة الجماعة المسلمة الأولى . والذي يحمل عنصر التفوق دائما لكل جماعة تؤمن به حقا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . حيث تحق كلمة الله - في هذا الدرس نفسه - (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا). .
وبعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين - من بقي منهم على حالة النفاق , ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه - حملة يصور فيها طبيعة المنافقين , ويرسم لهم فيها صورا زرية , من واقع ما يقومون به في الصف المسلم ; ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف . وهم يلقون المسلمين - إذا انتصروا - بالملق والنفاق . ويلقون الذين كفروا - إذا انتصروا كذلك - بدعواهم أنهم سبب انتصارهم ! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس . وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
وترد في ثنايا هذه الحملة توجيهات للمؤمنين وتحذيرات . تدل على مدى ما كان لأفاعيل المنافقين في الصف المسلم - حينذاك - من آثار , وعلى مدى ضخامة الجبهة المنافقة وتغلغلها في حياة الجماعة المسلمة ; مما استدعى هذه الحملة , مع مراعاة "الواقع" يومئذ , وأخذ المسلمين خطوة خطوة في الابتعاد عن المنافقين واجتنابهم . من ذلك امرهم باجتناب مجالس المنافقين التي يتداولون فيها الكفر بايات الله والاستهزاء بها . ولم يأمرهم - حينذاك - بمقاطعة المنافقين البتة . مما يدل على أن جبهة النفاق كانت ضخمة ومتغلغلة بصورة يصعب فيها على المسلمين مقاطعتهم !
كذلك ترد في ثناياها تحذيرات للمسلمين من سمات النفاق ومقدماته ; كي لا يقعوا فيها . وأخصها موالاة الكافرين , وابتغاء العزة عندهم , والقوة بهم ! وتأمينهم بأن العزة لله جميعا , وبأن الله لن يجعل للكافرينعلى المؤمنين سبيلا , وذلك مع رسم الصور البشعة للمنافقين في الدنيا وفي الآخرة . وتقرير أن مكانهم في الدرك الأسفل من النار .
وهذه التوجيهات والتحذيرات - بهذا الأسلوب - تشي بطريقة المنهج في علاج النفوس والأوضاع ; وتغيير الواقع في حدود الطاقة والملابسات القائمة كذلك , حتى ينتهي إلى تغييره نهائيا ; وإقامة "واقع" آخر جديد . كما تشي بحالة الجماعة المسلمة حينذاك وموقفها من جبهة الكفر وجبهة النفاق المتعاونتين في حرب الجماعة المسلمة والدين الجديد .
ومن خلال هذه وتلك تتبين طبيعة المعركة التي كان القرآن يخوض بها الجماعة المسلمة , وطبيعة الأساليب المنهجية في قيادته للمعركة وللنفوس . . وهي المعركة الدائمة المتصلة بين الإسلام والجاهلية في كل زمان وكل مكان . وبين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين تتغير أشخاصهم ووسائلهم ولكن لا تتغير طبيعتهم ومبادئهم .
ومن خلال هذا كله تبرز حقيقة هذا الكتاب . . القرآن . . ودوره في قيادة الأمة المسلمة . ليس بالأمس فقط - فما جاء ليقود جيلا دون جيل . إنما جاء ليقود هذه الأمة , وليكون مرشدها وهاديها , في جميع الاجيال والدهور . .
وفي نهاية الدرس تجيء تلك اللفتة العجيبة إلى استغناء الله - سبحانه - عن تعذيب العباد . . فهو لا يطلب منهم إلا أن يؤمنوا ويشكروا . وهو سبحانه غني عن إيمانهم وشكرهم . ولكن ذلك إنما هو لصلاح حالهم , وارتقاء مستواهم ; حتى يتأهلوا لحياة الآخرة , ومستوى النعيم في الجنة . فإذا هم ارتكسوا وانتكسوا فإنما يؤهلون أنفسهم لمستوى العذاب في الجحيم . حيث يسقط المنافقون إلى أحط الدركات (في الدرك الأسفل من النار). .
الدرس الأول:135 الأمر بالعدل في الحكم والقضاء
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ; فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ; وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم , وولدت تصوراتهم , وولدت مبادئهم وأهدافهم , وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم , والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية , والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة , كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ; تسبق التكليف الشاق الثقيل:
كونوا قوامين بالقسط , شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
منازل الشهداء- عدد المساهمات : 362
تاريخ التسجيل : 24/07/2011
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 24==28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 162==169 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 35==43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ابه 56--68 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 24==28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 162==169 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 35==43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ابه 56--68 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى