تفسير ال عمران ايه 37==47 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير ال عمران ايه 37==47 الشيخ سيد قطب
لَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا .
(وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم). .
وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها , وتدعها لحمايته ورعايته , وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم . .
وهذه كذلك كلمة القلب الخالص , ورغبة القلب الخالص . فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم !
(فتقبلها ربها بقبول حسن , وأنبتها نباتا حسنا). .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم , وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح , وكلمة الله , وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .
(وكفلها زكريا). .
أي جعل كفالتها له , وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته:
(كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال:يا مريم أنى لك هذا ? قالت:هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب). .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها:كيف ومن أين هذا كله ? فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله , وتفويض الأمر إليه كله:
و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه , واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر , لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
الدرس الثاني:38 - 41 قصة تبشير زكريا بيحيى
عندئذ تحركت في نفس زكريا , الشيخ الذي لم يوهب ذرية , تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية . الرغبة في الذرية . في الامتداد . في الخلف . . الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد , الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل . إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها , لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها:
(هنالك دعا زكريا ربه . قال:رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء . . فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى , مصدقا بكلمة من الله , وسيدا وحصورا , ونبيا من الصالحين . . قال:رب أنى يكون لي غلام , وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قال:كذلك الله يفعل ما يشاء . قال:رب اجعل لي آية . قال:آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ; واذكر ربك كثيرا , وسبح بالعشي والإبكار). .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
وكذلك . . نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية , وعدم تقيدها بالمألوف للبشر , الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ; ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون ! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه , لأنه واقع , صاغوا حوله الخرافات والأساطير !
فها هو ذا "زكريا" الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة - فيتوجه إلى ربه يناجيه , ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة:
(هنالك دعا زكريا ربه . قال:رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء). .
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب ?
كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن , ولا تتقيد بمألوف الناس ; لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد:
(فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى , مصدقا بكلمة من الله . وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين). .
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر , الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ; ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر , اسمه معروف قبل مولده ; "يحيى " ; وصفته معروفة كذلك:سيدا كريما , وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات , ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله . ونبيا صالحا في موكب الصالحين .
لقد استجيبت الدعوة , ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة , وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه , أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله , فلا يخبط في التيه بلا دليل , وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل , وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل !
ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه - وهل زكريا إلا إنسان على كل حال - واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر ?
(قال:رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ?). .
وجاءه الجواب . . جاءه في بساطة ويسر . يرد الأمر إلى نصابه . ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها , ولا غرابة في كونها:
(قال:كذلك الله يفعل ما يشاء). .
كذلك ! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائما على هذا النحو ; ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة , ولا يتدبرون الصنعة , ولا يستحضرون الحقيقة !
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42)
كذلك . بهذا اليسر . وبهذه الطلاقة . يفعل الله ما يشاء . . فماذا في أن يهب لزكريا غلاما وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ? إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها , ويتخذون منها قانونا ! فأما بالقياس إلى الله , فلا مألوف ولا غريب . . كل شيء مرده إلى توجه المشيئة , والمشيئة مطلقة من كل القيود !
ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى , ولدهشة المفاجأة في نفسه , راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها:
(قال:رب اجعل لي آية . . .). .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ; فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ; وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه:
(قال:آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار). .
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ? إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر !!!
الدرس الثالث:42 - 44 كلام الملائكة مريم والدلالة على الوحي
وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
(وإذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). .
وأي اصطفاء ?! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة , كما تلقاها أول هذه الخليقة:"آدم" ? وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ? إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة , معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله !!
وهنا تظهر عظمة هذا الدين ; ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على "نساء العالمين" بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم , ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !
أي صدق ? وآية عظمة ? وأية دلالة على مصدر هذا الدين , وصدق صاحبه الأمين !
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
إنه يتلقى "الحق" من ربه ; عن مريم وعن عيسى عليه السلام ; فيعلن هذا الحق , في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !
(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). .
طاعة وعبادة , وخشوع وركوع , وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير . .
وعند هذا المقطع من القصة , وقبل الكشف عن الحدث الكبير . . يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص . . إنه إثبات الوحي , الذي ينبىء النبي [ ص ] بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب , في هذا الأمر:
(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك . وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ? وما كنت لديهم إذ يختصمون). .
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم , حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل , وفاء لنذرها وعهدها مع ربها . والنص يشير إلى حادث لم يذكره "العهد القديم" ولا "العهد الجديد" المتداولان ; ولكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار والرهبان . حادث إلقاء الأقلام . . أقلام سدنة الهيكل . . لمعرفة من تكون مريم من نصيبه . والنص القرآني لا يفصل الحادث - ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه , أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة - فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة - بواسطة إلقاء الأقلام - لمعرفة من هي من نصيبه , على نحو ما نصنع في "القرعة " مثلا . وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن . فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت . وكانت هذه هي العلامة بينهم . فسلموا بمريم له
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول [ ص ] حاضره , ولم يبلغ إلى علمه . فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها , فاتخذها القرآن - في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها - دليلا على وحي من الله لرسوله الصادق . ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة . ولو كانت موضع جدال لجادلوه ; وهم قد جاءوا للجدال !
الدرس الرابع:45 - 51 خلق عيسى بن مريم ونبوته
والأن نجيء إلى مولد عيسى:العجيبة الكبرى في عرف الناس , والشأن العادي للمشيئة الطليقة:
إذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين , ويكلم الناس في المهد وكهلا ; ومن الصالحين . قالت:رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ? قال:كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له:كن . فيكون . . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم:أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير , فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ; وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ; وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقا لما بين يدي من التوارة , ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم , وجئتكم بآية من ربكم , فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم . .
إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)
لقد تأهلت مريم - إذن - بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل , واستقبال هذا الحدث , وها هي ذي تتلقى - لأول مرة - التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير:
(إذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين). .
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله . بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة . وهو الكلمة في الحقيقة . فماذا وراء هذا التعبير ?
إن هذه وأمثالها , من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد . . ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: (أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . .)إلخ .
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله , وصنعته وقدرته , ومشيئته الطليقة:
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب - وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب , فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله . سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي , أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت ! وهذه كتلك في صنع الله . وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة . . . .
من أين جاءت هذه الحياة ? وكيف جاءت ? إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض . . شيء زائد . وشيء مغاير . وشيء ينشىء آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق . .
هذا السر من أين جاء ? إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر ! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم !
نحن لا نعلم . وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها - نحن البشر - بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها . أو لإنشائها بأيدينا من الموات !
نحن لا نعلم . . ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم . . وهو يقول لنا:إنها نفخة من روحه . وإن الأمر قد تم بكلمة منه . (كن . فيكون). .
ما هي هذه النفخة ? وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام ?
ما هي ? وكيف ? هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه , لأنه ليس من شأنه . إنه لم يوهب القدرة على إدراكه . إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها - وظيفة الخلافة في الأرض - إنه لن يخلق حياة من موات . . فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة , وماهية النفخة من روح الله , وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية ?
والله - سبحانه - يقول:إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة - حتى علىالملائكة - فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب ! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية , وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون , ليس لسائر الأحياء !
وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا , إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارىء لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان !
المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة ; وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات . .
وقد شاء الله - بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة - أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا . طريق التقاء ذكر وأنثى . واجتماع بويضة وخلية تذكير . فيتم الإخصاب , ويتم الإنسال . والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة .
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة . . حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان . فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى . وإن لم تكن مثلها تماما . أنثى فقط . تتلقى النفخة التي تنشىء الحياة ابتداء . فتنشأ فيها الحياة !
أهذه النفخة هي الكلمة ? آلكلمة هي توجه الإرادة ? آلكلمةكن)التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة ? والكلمة هي عيسى , أو هي التي منها كينونته ?
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات . . وخلاصتها هي تلك:أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشىء الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها , ونجهل ماهيتها . ويجب أن نجهلها . لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض , ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف !
والأمر هكذا سهل الإدراك . ووقوعه لا يثير الشبهات !
وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فتضمنت البشارة نوعه , وتضمنت اسمه ونسبه . وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه . . ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين). . كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده (ويكلم الناس في المهد). . ولمحة من مستقبلهوكهلا). . وسمته والموكب الذي ينتسب إليه: (ومن الصالحين). .
فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة , فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان:
(قالت:رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ?). .
وجاءها الجواب , يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل , ومألوفهم المحدود:
(قال:كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له:كن فيكون). .
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب , وتزول الحيرة , ويطمئن القلب ; ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب:كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب !!
وهكذا كان القرآن ينشىء التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة , ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .
يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا .
(وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم). .
وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها , وتدعها لحمايته ورعايته , وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم . .
وهذه كذلك كلمة القلب الخالص , ورغبة القلب الخالص . فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم !
(فتقبلها ربها بقبول حسن , وأنبتها نباتا حسنا). .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم , وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح , وكلمة الله , وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .
(وكفلها زكريا). .
أي جعل كفالتها له , وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته:
(كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال:يا مريم أنى لك هذا ? قالت:هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب). .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها:كيف ومن أين هذا كله ? فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله , وتفويض الأمر إليه كله:
و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه , واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر , لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
الدرس الثاني:38 - 41 قصة تبشير زكريا بيحيى
عندئذ تحركت في نفس زكريا , الشيخ الذي لم يوهب ذرية , تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية . الرغبة في الذرية . في الامتداد . في الخلف . . الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد , الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل . إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها , لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها:
(هنالك دعا زكريا ربه . قال:رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء . . فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى , مصدقا بكلمة من الله , وسيدا وحصورا , ونبيا من الصالحين . . قال:رب أنى يكون لي غلام , وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قال:كذلك الله يفعل ما يشاء . قال:رب اجعل لي آية . قال:آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ; واذكر ربك كثيرا , وسبح بالعشي والإبكار). .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
وكذلك . . نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية , وعدم تقيدها بالمألوف للبشر , الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ; ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون ! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه , لأنه واقع , صاغوا حوله الخرافات والأساطير !
فها هو ذا "زكريا" الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة - فيتوجه إلى ربه يناجيه , ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة:
(هنالك دعا زكريا ربه . قال:رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء). .
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب ?
كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن , ولا تتقيد بمألوف الناس ; لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد:
(فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى , مصدقا بكلمة من الله . وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين). .
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر , الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ; ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر , اسمه معروف قبل مولده ; "يحيى " ; وصفته معروفة كذلك:سيدا كريما , وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات , ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله . ونبيا صالحا في موكب الصالحين .
لقد استجيبت الدعوة , ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة , وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه , أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله , فلا يخبط في التيه بلا دليل , وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل , وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل !
ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه - وهل زكريا إلا إنسان على كل حال - واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر ?
(قال:رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ?). .
وجاءه الجواب . . جاءه في بساطة ويسر . يرد الأمر إلى نصابه . ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها , ولا غرابة في كونها:
(قال:كذلك الله يفعل ما يشاء). .
كذلك ! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائما على هذا النحو ; ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة , ولا يتدبرون الصنعة , ولا يستحضرون الحقيقة !
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42)
كذلك . بهذا اليسر . وبهذه الطلاقة . يفعل الله ما يشاء . . فماذا في أن يهب لزكريا غلاما وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ? إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها , ويتخذون منها قانونا ! فأما بالقياس إلى الله , فلا مألوف ولا غريب . . كل شيء مرده إلى توجه المشيئة , والمشيئة مطلقة من كل القيود !
ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى , ولدهشة المفاجأة في نفسه , راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها:
(قال:رب اجعل لي آية . . .). .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ; فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ; وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه:
(قال:آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار). .
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ? إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر !!!
الدرس الثالث:42 - 44 كلام الملائكة مريم والدلالة على الوحي
وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
(وإذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). .
وأي اصطفاء ?! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة , كما تلقاها أول هذه الخليقة:"آدم" ? وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ? إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة , معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله !!
وهنا تظهر عظمة هذا الدين ; ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على "نساء العالمين" بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم , ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !
أي صدق ? وآية عظمة ? وأية دلالة على مصدر هذا الدين , وصدق صاحبه الأمين !
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
إنه يتلقى "الحق" من ربه ; عن مريم وعن عيسى عليه السلام ; فيعلن هذا الحق , في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !
(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). .
طاعة وعبادة , وخشوع وركوع , وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير . .
وعند هذا المقطع من القصة , وقبل الكشف عن الحدث الكبير . . يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص . . إنه إثبات الوحي , الذي ينبىء النبي [ ص ] بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب , في هذا الأمر:
(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك . وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ? وما كنت لديهم إذ يختصمون). .
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم , حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل , وفاء لنذرها وعهدها مع ربها . والنص يشير إلى حادث لم يذكره "العهد القديم" ولا "العهد الجديد" المتداولان ; ولكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار والرهبان . حادث إلقاء الأقلام . . أقلام سدنة الهيكل . . لمعرفة من تكون مريم من نصيبه . والنص القرآني لا يفصل الحادث - ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه , أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة - فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة - بواسطة إلقاء الأقلام - لمعرفة من هي من نصيبه , على نحو ما نصنع في "القرعة " مثلا . وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن . فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت . وكانت هذه هي العلامة بينهم . فسلموا بمريم له
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول [ ص ] حاضره , ولم يبلغ إلى علمه . فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها , فاتخذها القرآن - في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها - دليلا على وحي من الله لرسوله الصادق . ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة . ولو كانت موضع جدال لجادلوه ; وهم قد جاءوا للجدال !
الدرس الرابع:45 - 51 خلق عيسى بن مريم ونبوته
والأن نجيء إلى مولد عيسى:العجيبة الكبرى في عرف الناس , والشأن العادي للمشيئة الطليقة:
إذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين , ويكلم الناس في المهد وكهلا ; ومن الصالحين . قالت:رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ? قال:كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له:كن . فيكون . . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم:أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير , فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ; وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ; وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقا لما بين يدي من التوارة , ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم , وجئتكم بآية من ربكم , فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم . .
إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)
لقد تأهلت مريم - إذن - بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل , واستقبال هذا الحدث , وها هي ذي تتلقى - لأول مرة - التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير:
(إذ قالت الملائكة:يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين). .
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله . بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة . وهو الكلمة في الحقيقة . فماذا وراء هذا التعبير ?
إن هذه وأمثالها , من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد . . ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: (أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . .)إلخ .
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله , وصنعته وقدرته , ومشيئته الطليقة:
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب - وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب , فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله . سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي , أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت ! وهذه كتلك في صنع الله . وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة . . . .
من أين جاءت هذه الحياة ? وكيف جاءت ? إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض . . شيء زائد . وشيء مغاير . وشيء ينشىء آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق . .
هذا السر من أين جاء ? إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر ! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم !
نحن لا نعلم . وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها - نحن البشر - بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها . أو لإنشائها بأيدينا من الموات !
نحن لا نعلم . . ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم . . وهو يقول لنا:إنها نفخة من روحه . وإن الأمر قد تم بكلمة منه . (كن . فيكون). .
ما هي هذه النفخة ? وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام ?
ما هي ? وكيف ? هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه , لأنه ليس من شأنه . إنه لم يوهب القدرة على إدراكه . إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها - وظيفة الخلافة في الأرض - إنه لن يخلق حياة من موات . . فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة , وماهية النفخة من روح الله , وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية ?
والله - سبحانه - يقول:إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة - حتى علىالملائكة - فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب ! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية , وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون , ليس لسائر الأحياء !
وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا , إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارىء لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان !
المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة ; وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات . .
وقد شاء الله - بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة - أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا . طريق التقاء ذكر وأنثى . واجتماع بويضة وخلية تذكير . فيتم الإخصاب , ويتم الإنسال . والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة .
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة . . حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان . فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى . وإن لم تكن مثلها تماما . أنثى فقط . تتلقى النفخة التي تنشىء الحياة ابتداء . فتنشأ فيها الحياة !
أهذه النفخة هي الكلمة ? آلكلمة هي توجه الإرادة ? آلكلمةكن)التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة ? والكلمة هي عيسى , أو هي التي منها كينونته ?
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات . . وخلاصتها هي تلك:أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشىء الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها , ونجهل ماهيتها . ويجب أن نجهلها . لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض , ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف !
والأمر هكذا سهل الإدراك . ووقوعه لا يثير الشبهات !
وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فتضمنت البشارة نوعه , وتضمنت اسمه ونسبه . وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه . . ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين). . كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده (ويكلم الناس في المهد). . ولمحة من مستقبلهوكهلا). . وسمته والموكب الذي ينتسب إليه: (ومن الصالحين). .
فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة , فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان:
(قالت:رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ?). .
وجاءها الجواب , يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل , ومألوفهم المحدود:
(قال:كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له:كن فيكون). .
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب , وتزول الحيرة , ويطمئن القلب ; ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب:كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب !!
وهكذا كان القرآن ينشىء التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة , ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .
منازل الشهداء- عدد المساهمات : 362
تاريخ التسجيل : 24/07/2011
مواضيع مماثلة
» تفسير ال عمران ايه 179==184 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 14==30 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 185==191 الشيخ سيد قطب
» تفسير ايه ال عمران 31==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 14==30 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 185==191 الشيخ سيد قطب
» تفسير ايه ال عمران 31==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى