منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير ال عمران ايه 179==184 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير ال عمران ايه 179==184 الشيخ سيد قطب Empty تفسير ال عمران ايه 179==184 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الإثنين مارس 19, 2012 1:51 am

مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

وهكذا تستقر القلوب , وتطمئن النفوس , وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم .

ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين , أن يميزهم من المنافقين , الذين اندسوا في الصفوف , تحت تأثير ملابسات شتى , ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم , ليميز الخبيث من الطيب , عن هذا الطريق:

(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . وما كان الله ليطلعكم على الغيب . ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء . فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .

ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته , وليس من فعل سنته , أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان , ومظهر الإسلام , بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان , ومن روح الإسلام . فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا , ولتحمل منهجا إلهيا عظيما , ولتنشىء في الأرض واقعا فريدا , ونظاما جديدا . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك , ويقتضي ألا يكون في الصف خلل , ولا في بنائه دخل . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة . .

وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث . وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة . وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر . . ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب , ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة !

كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب , الذي استأثر به , فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب , وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس "مصمما" على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار . وهو مصمم هكذا بحكمة . مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض . وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب . ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم . لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه , ويصل كيانه بكيان هذا الكون . وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها , ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض , أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر , بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض !

من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه , ولا من مقتضى حكمته , ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .

إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب ? وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم , وتجريده من الغبش , وتمحيصه من النفاق , وإعداده للدور الكوني العظيم , الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به ?

(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء). .

وعن طريق الرسالة , وعن طريق الإيمان بها أو الكفر , وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة , وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد . . عن طريق هذا كله يتم شأن الله , وتتحقق سنته , ويميز اللهالخبيث من الطيب , ويمحص القلوب , ويطهر النفوس . . ويكون من قدر الله ما يكون . .

وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله , وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة . .

وامام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة , يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه , ويلوح لهم بفضل الله العظيم , الذي ينتظر المؤمنين .

(فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .

فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب , بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان , خير خاتمة لاستعراض الأحداث في "أحد" والتعقيب على هذه الأحداث . .

دروس من غزوة أحد

وبعد . . فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة , يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال . فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها , ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:

- 1 لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية , وفي طريقته في العمل في حياة البشر . وهي حقيقة أولية بسيطة , ولكنها كثيرا ما تنسى , أو لا تدرك ابتداء , فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين:في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية , وفي دوره أمس واليوم وغدا . .

إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة ! دون اعتبار لطبيعة البشر , ولطاقتهم الفطرية , ولواقعهم المادي , في أية مرحلة من مراحل نموهم , وفي أية بيئة من بيئاتهم !

وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة , وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية , وحدود الواقع المادي للبشر . وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه , فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا , أو يؤثران في مدى استجابة الناس له , وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين , وجاذبية المطامع والشهوات , دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا . . حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها ! - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته ! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا !

وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد , هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين , وطريقته , أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .

إن هذا الدين منهج للحياة البشرية , يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري , في حدود الطاقة البشرية , ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي , ويسير بهم إلى نهاية الطريق , في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية , ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه .

وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة , في أية خطة , وفي أية خطوة , عن طبيعة فطرة الإنسان , وحدود طاقته , وواقعه المادي أيضا . وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات , وكمايمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .

ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها ; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري ; والتي تبذل فطرة الإنسان , وتنشئه نشأة أخرى , لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته , وواقعه المادي كله !

أليس هو من عند الله ? أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء ? فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية ? ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل ? ثم لماذا لا ينتصر دائما ? ولا ينتصر أصحابه دائما ? لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا ? ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا ?

وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها !

إن الله قادر - طبعا - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى . . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة . وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة . وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة . وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما , ولا تمحى , ولا تبدل , ولا تعطل . وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية . وشاء أن يبلغ "الإنسان" من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .

وليس لأحد من خلقه أن يسأله:لماذا شاء هذا ? ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها ! وليس لديه العلم , ولا إمكان العلم , بالنظام الكلي للكون , وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود , وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا "التصميم" الخاص !

و "لماذا ? " - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد , ولا يسأله كذلك ملحد جاد . . المؤمن لا يسأله , لأنه أكثر أدبا مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته - وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال . . والكافر لا يسأله , لأنه لا يعترف بالله ابتداء . فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته !

ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع . لا هو مؤمن جاد , ولا هو ملحد جاد . . ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه !

وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر . إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها فهو مؤمن , أو ينكرها فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء !

ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة ? ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة , لا تمحى , ولا تعدل , ولا تعطل ! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية ?

ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة ; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية , ويفسر التاريخالبشري على ضوئها ; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية , ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .

هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد [ ص ] لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس , بمجرد تنزله من عند الله . ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه . ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب , وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية . . إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر , تؤمن به إيمانا كاملا , وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة . . تجاهد الضعف البشري , والهوى البشري , والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين . وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر . على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا ; ولا تغفل واقعهم , ومقتضيات هذا الواقع , في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة ; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة . بقدر ما تبذل من الجهد ; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية ; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . . وقبل كل شيء , وقبل كل جهد , وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر:هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض . ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج , وثقتها به , وتوكلها عليه .

هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته , وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .

وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة , وهو يربيها بأحداث معركة أحد ; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .

حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة . وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها . وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها ; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها - حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة ; وتعاني آلامها المريرة . ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقةSadأو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم:أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير). .

ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة , بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء , الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .

إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري , ويتأثر بتصرف البشر إزاءه . . هو خير في عمومه , فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها . . ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية . . وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد , والصبر على الأذى , والصبر على الهزيمة , والصبر على النصر أيضا - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة - وحتى يتمحص القلب , ويتميز الصف , وتستقيم الجماعة على الطريق , وتمضي فيه راشدة صاعدة , متوكلة على الله .

حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس ; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا , وهو قاعد آمن سالم ; وتتبين له حقائق في الناس , وفي الحياة , لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة ; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته , وبعاداته وطباعه , وبانفعالاته واستجاباته , ما لم يكن ليبلغه أبدا , بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .

وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة , حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء , وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته , وعلى حقيقة غايته ; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها . مدى احتمال كل لبنة , ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .

وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهو يربيها بالأحداث في "أحد" وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة . وهو يقول لها , بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله , وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا). . وهو يقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب). ثم . . وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنةSadإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله , وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين , وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). .

وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره وحكمته , من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات . . وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل , يستقر في النفس من وراء الأحداث , والتعقيب المنير على هذه الأحداث .

- 2 وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية , وطبيعة الجهد البشري , ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:

إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها - ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء , حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .

وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). . وهم أصحاب محمد [ ص ] المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى ? نرى مجموعة من البشر , فيهم الضعف وفيهم النقص , وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم). ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون , منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم). . وفيهم من يقول الله عنهمSadإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا , والله وليهما , وعلى الله فليتوكل المؤمنون). . وفيهم من ينهزم وينكشف , وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم . فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . .

وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق . كانوا في دور التربية والتكوين . ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر , مسلمين أمرهم لله , مرتضين قيادته , ومستسلمين لمنهجه . ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه , بل رحمهم وعفا عنهم ; وأمر نبيه [ ص ] أن يعفو عنهم , ويستغفر لهم , وأمره أن يشاورهم في الأمر , بعد كل ما وقع منهم , وبعد كل ما وقع من جراء المشورة ! نعم إنه - سبحانه -تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك , وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير . . ولكنه لم يطردهم خارج الصف , ولم يقل لهم:إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر , بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . . لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم , ورباهم بالابتلاء , ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء , والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات . في رحمة وفي عفو وفي سماحة ; كما يربت الكبير على الصغار ; وهم يكتوون بالنار , ليعرفوا ويدركوا وينضجوا . وكشف لهم ضعفهم , ومخبآت نفوسهم , لا ليفضحهم بها , ويرذلهم , ويحقرهم , ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا . ولكن ليأخذ بأيديهم , ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .

ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية , وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة . وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح , يخرجون مع رسول الله [ ص ] غير هيابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهمSadالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .

ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا . . تغيرت معاملتهم , وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار . بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال ! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين , تلك المؤاخذة العسيرة , يجد الفرق واضحا في المعاملة ; ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة . كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد , والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق . . ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا . وظل فيهم الضعف , والنقص , والخطأ . ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله .

إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج ; ولا يبدلها أو يعطلها , ولا يحملها ما لا تطيق . وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .

وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية , لتحاول وتبلغ , في ظل هذا المنهج الفريد . فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة , إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه . وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية . متخلفة في كل شيء . على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس . . وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي , مهما تكن قابعة في السفح . ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة , فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر . فهي ليست وليدة خارقة عابرة . إنما هي وليدة المنهج الإلهي , الذي يتحقق بالجهد البشري , في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير !

هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها , ومن الواقع المادي الذي هي فيه . ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان , إلى ذلك الأوج السامق . .

شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج . أن تؤمن به . وأن تستسلم له . وأن تتخذه قاعدة حياتها , وشعار حركتها , وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل . .

3 - وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة , وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان . الارتباط بين العقيدة والتصوروالخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة .

والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية . مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط , متكاملة في الوقت ذاته وشاملة . والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط . . وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل , الذي يأخذ الحياة جملة , ولا يأخذها مزقا وتفاريق . والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعا , ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة , في قبضته , فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة , لا تصيب النفس بالفصام , ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام .

ومن نماذج هذا التجميع , وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة , وأثرها في النصر والهزيمة . فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا). . كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:

وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا - والله يحب الصابرين - وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين . . وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة , توجيهها للتطهر والاستغفارSadوسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين , الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس , والله يحب المحسنين , والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم , ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم:الاعتداء والمعصيةSadضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .

وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة , يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة , كما نجد الكلام عن "التقوى " وتصوير حالات المتقين , يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة . ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة . كما نجد الدعوة إلى ترك الربا , وإلى طاعة الله والرسول , وإلى العفو عن الناس , وكظم الغيظ , والإحسان , . . وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي إلهام .

4 - وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث , وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات , ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة , ليصحح تأثره , ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح ! وهو لا يدع جانبا من الجوانب , ولا خاطرة من الخواطر , ولا تصورا من التصورات , ولا استجابة من الاستجابات , حتى يوجه إليها الأنظار ,ويسلط عليها الأنوار , ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة , ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية ; وبذلك يمحص الدخائل , وينظفها ويطهرها في وضح النور ; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم ; ويقر المبادىء التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين , وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة . . مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق . .

وننظر في التعقيب على غزوة أحد , فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف , وكل حركة , وكل خالجة ; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة ; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث . ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج . والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف , المسيرة للحادث , كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء ; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا , ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف , والتعقيب . فهو وصف حي , يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ , والإيحاء المثير .

5 - وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإهلي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع , مزاولته بالفعل , فهو لا يقدم مبادىء نظرية , ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته . وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة , هو موقفه إزاء مبدأ الشورى . .

لقد كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة , التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب , والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها , لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة , مستندا إلى رؤياه الصادقة ; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ; ولم يستشر أصحابه , أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة ! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع , وقد خرج من بيته , فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد !

ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى . وانفذ ما استقرت عليه , ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية , وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي , وتبعة العمل . لأن هذا في تقديره [ ص ] وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه , أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة , ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة . فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة , وحرمانها المعرفة , وحرمانها التربية !

ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة . فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية , وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .

إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته ! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا , وإن حرمانها من مزاولة مبادى ء حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله , وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه , بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت , لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي , ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف . بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا !

وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعال - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: (فاعف عنهم ,واستغفر لهم , وشاورهم في الأمر).

كما أن المزاولة العملية للمبادىء النظرية تتجلى في تصرف الرسول [ ص ] عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين , واعتباره هذا ترددا وأرجحة . وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته , من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم , والشلل الحركي . فقال قولته التربوية المأثورة:" ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له " . . ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: (فإذا عزمت فتوكل على الله). . فتطابق - في المنهج - التوجيه والتنفيذ . .

6 - وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله [ ص ] والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .

إن منهج الله ثابت , وقيمه وموازينه ثابتة , والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج , ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك . ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج , ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة .

وحين يخطىء البشر في التصور أو السلوك , فإنه يصفهم بالخطأ . وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف . ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم !

ونتعلم نحن من هذا , أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادىء منهجها سليمة ناصعة قاطعة , وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أيا كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا , بتحريف المنهج , وتبديل قيمه وموازينه . فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف . . فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص . والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة . . وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام , وعلى تاريخ الإسلام ; إنما يحسب على أصحابه وحدهم , ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه:من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام . . إن تاريخ "الإسلام" ليس هو تاريخ "المسلمين" ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان ! إن تاريخ "الإسلام" هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام , في تصورات الناس وسلوكهم , وفي أوضاع حياتهم , ونظام مجتمعاتهم . . فالإسلام محور ثابت , تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت . فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار , أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا , فما للإسلام وما لهم يومئذ ? وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام , أو يفسر بها الإسلام ? بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام , وأبوا تطبيقه في حياتهم , وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم , لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين , ولا لأنهم يقولون بأفواههم:إنهم مسلمون ?!

وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة , وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة , ويسجل عليها النقص والضعف , ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها , ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه . وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء !

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182)

الوحدة السادسة:180 - 189 كشف بعض جرائم اليهود مقدمة الوحدة - جو نزول الآيات

انتهى الاستعراض القرآني للمعركة - معركة أحد - ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة - وبخاصة اليهود - لم تكن قد انتهعند مقدمه إلى المدينة , وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج . . ولكن كان بقي من حوله:بنو النضير , وبنو قريظة , وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة . . وكلهم يتراسلون ويتجمعون , ويتصلون بالمنافقين في المدينة , وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة , ويكيدون للمسلمين كيدا لا ينقطع ولا يكف .

وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا . فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين , والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . . فلما أبلغهم رسول الله [ ص ] هذا التحذير - الذي جاء ردا على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر - أساءوا أدبهم في استقباله ; وقالوا:يا محمد . لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال . إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس , وإنك لم تلق مثلنا . ثم مضوا في دسهم وكيدهم , الذي روت هذه السورة منه الوانا شتى , حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي [ ص ] من العهد . فحاصرهم النبي [ ص ] حتى نزلوا على حكمه , فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات . . وبقيت الطائفتان الأخريان:بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما - في الظاهر - مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة . . وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله , وسجله عليها السجل الصادق - كتاب الله - وتعارفه أهل الأرض كلهم , عن ذلك الجنس الملعون !

وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها . يبدو فيه سوء الأدب مع الله - سبحانه - بعد سوء الفعل مع المسلمين . وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول [ ص ] ثم يزيدون فيقولون: (إن الله فقير ونحن أغنياء)!

ويبدو فيه التعلل الواهي , الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم ; وكذب هذا التعلل , ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف . هذا الوقاع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم , وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق , ونبذه وراء ظهورهم , وشرائهم به ثمنا قليلا . وبقتلهم أنبياءهم بغير حق , وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها , وجاءوهم بالبينات فرفضوها .

وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم , وأقاويلهم على ربهم , كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة , وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم - هم والمشركون - للمسلمين . كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية ; تبصرهم بما حولهم , وبمن حولهم ; وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها , وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم , وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق . . وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة . ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان , على مدار التاريخ . .

ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتولى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير . . نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة . فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل . وكل نفس ذائقة الموت على كل حال . إنما الجزاء هناك , والكسب والخسارة هناك . (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). . وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم , والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب . فلاعاصم لهم إلا الصبر والتقوى , والمضي مع المنهج , الذي يزحزحهم عن النار !

وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو , قائما اليوم وغدا , يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق , لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله . . يبصرها بطبيعة أعدائها - وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب - الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية ! - ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها , وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء . ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك . بما عند الله . ويهون عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال . ويناديها - كما نادى الجماعة المسلمة الأولى -: (كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم ; ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .

والقرآن هو القرآن . كتاب هذه الأمة الخالد . ودستورها الشامل . وحاديها الهادي . وقائدها الأمين .

وأعداؤها هم أعداؤها . . والطريق هو الطريق . .

الدرس الأول:180 - 184 كذب اليهود وسوء أدبهم مع الله

(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض , والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل:قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم , إن كنتم صادقين ? فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير). .

لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة , عم تعنيهم , ومن تحذرهم البخل , وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات , في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .

والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .

وقد نزل هذا التحذير التهديدي , مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم , ومن كذب تعلاتهم ; ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم , بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل , الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل:

(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير). .

إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم , كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ; ويحسبون أن هذا البخل خير لهم , يحفظ لهم أموالهم , فلا تذهب بالإنفاق .

والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ; ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم (يبخلون بما آتاهم الله من فضله). . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا "من فضله" شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل , وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث: (ولله ميراث السماوات والأرض). . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده , بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !

ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله , لا حاجة بهم إلى جزائه , ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه - وقالوا في وقاحة:ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة , وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة ?! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله:

(لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا ! وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد).

وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق:

(سنكتب ما قالوا). .

لنحاسبهم عليه , فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم:

(وقتلهم الأنبياء بغير حق). .

وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء , آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه , متباهين بهذا الجرم العظيم . . !

(ونقول ذوقوا عذاب الحريق). .

والنص على "الحريق" هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة:قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة:إن الله فقير ونحن أغنياء .

(ذلك بما قدمت أيديكم). .

جزاء وفاقا , لا ظلم فيه , ولا قسوة:

(وأن الله ليس بظلام للعبيد). .

والتعبير بالعبيد هنا , إبراز لحقيقة وضعهم - وهم عبيد من العبيد - بالقياس إلى الله تعالى . وهو يزيد في شناعة الجرم , وفظاعة سوء الأدب . الذي يتجلى في قول العبيد: (إن الله فقير ونحن أغنياء)والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء . .

لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

هؤلاء الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء , والذي قتلوا الأنبياء . . هم الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد [ ص ] لأن الله عهد إليهم - بزعمهم - ألا يؤمنوا لرسول , حتى يأتيهم بقربان يقدمونه , فتقع المعجزة , وتبهط نار تأكله , على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل . وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله !!

هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي . . لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات:

(الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول , حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ?).

وهي مجابهة قوية , تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر , وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله !

وهنا يلتفت إلى الرسول [ ص ] مسليا مواسيا , مهونا عليه ما يلقاه منهم , وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور:

(فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك , جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير).

فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب . والأجيال المتعاقبة - وبخاصة من بني إسرائيل - تلقوا بالتكذيب رسلا جاءوهم بالبينات والخوارق , وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية - وهي الزبر - وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل . . فهذا هو طريق الرسل والرسالات . . وما فيه من عناء ومشقة . وهو وحده الطريق .

الدرس الثاني:185 - 186 حقيقة الموت والنجاة ومشقة الطريق

بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة ; يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها , وتضحي من أجلها ; ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها , ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال:

(كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة , فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز , وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا , وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .

إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة , محدودة بأجل ; ثم تأتي نهايتها حتما . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم , ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية , ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .

الكل ي
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى