تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه , يهدد به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر , الموصول القلب بصاحبه , وبقدر الله فيه , الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع , فإذا هم يثوبون ويرجعون !
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية , لمسة موحية , تطرد ذلك الخوف , عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة , وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير , ومن ابتلاء للعباد وجزاء:
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها . وسنجزي الشاكرين). .
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع , والحرص والتخلف , لا تطيل أجلا . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا . فلا كان الجبن , ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد !
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس , فتترك الاشتغال به , ولا تجعله في الحساب , وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص , كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته , في صبر وطمأنينة , وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوبا , والأجل مرسوما . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان , وأن تحصر همها كله في هذه الأرض , وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ? أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى , وإلى اهتمامات أرفع , وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ? . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ?!
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها).
وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها , ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة "الإنسان" الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا). .
(وسنجزي الشاكرين). .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان , فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة , فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة , وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء , وفق ما يريدونه لأنفسهم , من اهتمام قريب كاهتمام الدود , أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان ! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة - إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس ,
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
في الحقل الذي تملكه , وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار !
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق , الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم , وقاتلوا مع أنبيائهم , فلم يجزعوا عند الابتلاء ; وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا أخطاءهم فيروها "إسرافا" في أمرهم . وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين , جزاء إحسانهم في أدب الدعاء , وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين). .
لقد كانت الهزيمة في "أحد" , هي أول هزيمة تصدم المسلمين , الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد , فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه !
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة , وبالاستنكار تارة , وبالتقرير تارة , وبالمثل تارة , تربية لنفوسهم , وتصحيحا لتصورهم , وإعدادا لهم . فالطريق أمامهم طويل , والتجارب أمامهم شاقة , والتكاليف عليهم باهظة , والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام , لا يحدد فيه نبيا , ولا يحدد فيه قوما . إنما يربطهم بموكب الإيمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا). .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح , وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين , المنافحين عن عقيدة ودين . .
(والله يحب الصابرين). .
الذين لا تضعف نفوسهم , ولا تتضعضع قواهم , ولا تلين عزائمهم , ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح , ويمسح على القرح , ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله , وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس , ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة , ولتعترف بالذنب والخطيئة , قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:
فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
(وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين). .
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدبا مع الله , وهم يتوجهون إليه , بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب , وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا , أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا , وحسن ثواب الآخرة). .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد , وأعلن حبه لهم . وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:
(والله يحب المحسنين). .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل . .
الدرس السادس:149 - 158 مقدمة الدرس:أهم أحداث المعركة وتصحيح التصور
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ; واتخاذها محورا للتعقيبات , يتوخى بها تصحيح التصور , وتربية الضمائر , والتحذير من مزالق الطريق , والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد , وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ; بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها "بدر" بسياج من الرهبة , بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ; وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم , وأن ينفثوا سمومهم ; وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ; ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم , وإلقاء الرعب في قلبه ; ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة , حسب وعده لهم ; والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله [ ص ] ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه , في صورة فائضة بالحيوية والحركة . ثم ما أعقب الهزيمة والفزع , من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ; بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين , الذين ساء ظنهم بالله سبحانه . ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف , في سير الأحداث سيرتها تلك , مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد . ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
والاستشهاد . ويردهم إلى حقيقة البعث , التي ينتهي إليها الناس . . ماتوا أو قتلوا . . وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ; ومأواهم النار , وبئس مثوى الظالمين ! ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه , حتى إذا فشلتم , وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم ليبتليكم , ولقد عفا عنكم , والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم ; فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم , والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة , نعاسا يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ? قل:إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم , وليمحص ما في قلوبكم ; والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ; ولقد عفا الله عنهم , إن الله غفور حليم . يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا , وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى -:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا , ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت , والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . .
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية , ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي , وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة , فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ; وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها , وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها . . من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس , البانية للتصور الصحيح .
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها , وهذه الحقائق كلها , في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب , وطاقات الأداء , وبخاصة من يعالجون منهم التعبير , ويعانون أسرار الأداء !
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين). .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح , ليثبطوا عزائمهم , ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد , ويصوروا لهم مخاوف القتال , وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب , وخلخلة الصفوف , وإشاعة عدم الثقة في القيادة ; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ; وتزيين الانسحاب منها , ومسالمة المنتصرين فيها ! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية ; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة , ثم لهدم كيان العقيدة , ثم للاستسلامللأقوياء الغالبين !
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة , وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار , ويكافح الباطل والمبطلين , وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين , محافظا على موقفه , ومحتفظا بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة , وتحت وطأة الجرح والقرح , أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم , وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه ! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الإمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء , والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان , لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين , والاستماع إليهم , والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته , وأن يستمع إلى وسوستهم , وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية , والارتداد على عقبيه إلى الكفر , ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته , وفي قيادته , غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته . فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية , ينبه الله المؤمنين لها , ويحذرهم إياها , وهو يناديهم باسم الإيمان:
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين). .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب , من الإيمان إلى الكفر ? وأي ربح يتحققق بعد خسارة الإيمان ?
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم , فهو وهم , يضرب السياق صفحا عنه , ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:
(بل الله مولاكم , وهو خير الناصرين).
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية , ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه , فما حاجته بولاية أحد من خلقه ? ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد ?
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين , ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم , بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا , ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين:
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . ومأواهم النار , وبئس مثوى الظالمين). .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر , بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , كفيل بنهاية المعركة , وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم , ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده , والثقة المطلقة بهذه الولاية , والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون , وأن الله غالب على أمره , وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
والتعامل مع وعد الله هذا , مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه , فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم !
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها , لأن الله لم يمنحها سلطانا .
والتعبير: (ما لم ينزل به سلطانا)ذو معنى عميق , وهو يصادفنا في القرآن كثيرا . مرة توصف به الآلهة المدعاة , ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة , أو عقيدة , أو شخصية , أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من "الحق" أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون , ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية , مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش !
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها ; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم ; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم . . ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه , وواحدة منها !
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون ? إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد ; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ; ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل , فهو زائف باطل , مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واه هزيل , لا يحمل قوة ولا سلطانا , ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة !
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء , وهم أبدا خوارون ضعفاء ; وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب , ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود ! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ; ولو كانت له الحشود , وكان للحق القلة , تصديقا لوعد الله الصادق:
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا). .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
(ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين !). .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار , وتركوا وراءهم الغنائم , وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ;
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
وتنازعوا فيما بينهم , وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها , في حيوية عجيبة:
ولقد صدقكم الله وعده , إذ تحسونهم بإذنه , حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم , والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم , فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ? قل:إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم , والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة , ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان , ولا خاطرة في النفوس , ولا سمة في الوجوه , ولا خالجة في الضمائر , إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر , ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل , والهروب في دهش وذعر , ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة , المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس , وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة , تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن , ومنهج القرآن التربوي العجيب:
(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه). .
وكان ذلك في مطالع المعركة , حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين , أي يخمدون حسهم , أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم:" لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة). .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ; ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين:فريقا يريد غنيمة الدنيا , وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة , ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله , فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها , فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ; كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ,فلا يمنحهم الله النصر أبدا , حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة , وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة). .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب , التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا , حتى نزل فينا يوم أحد: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ; ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره , وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ; ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة:
(ثم صرفكم عنهم ليبتليكم). .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين , وصرف الرماة عن ثغرة الجبل , وصرف المقاتلين عن الميدان , فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ; ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ; وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب , ومن تمحيص النفوس , وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها , وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب , ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
(ولقد عفا عنكم). .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ; وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة , وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله , والاستسلام له , وتسليم قيادكم لمشيئته:
(والله ذو فضل على المؤمنين). .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم , ما داموا سائرين على منهجه , مقرين بعبوديتهم له ; لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم , ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم , ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة:
(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم). .
ذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل , ومقدماته التي نشأ عنها , من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا , في اضطراب ورعب ودهش , لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ ص ] يدعوهم , ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح:إن محمدا قد قتل , فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ ص ] بفرارهم , غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم , وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم , وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم , وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم , وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض , وكل ما يصيبهم من مشقة:
(فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم). .
والله المطلع على الخفايا , يعلم حقيقة أعمالكم , ودوافع حركاتكم:
(والله خبير بما تعملون). .
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها , وهرجها ومرجها , سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم , وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم , حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم). .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين , ولو لحظة واحدة , يفعل في كيانهم فعل السحر , ويردهم خلقا جديدا , ويسكب في قلوبهم الطمأنينة , كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:" رفعت رأسي يوم أحد , وجعلت أنظر , وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة:" غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد , فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه , ويسقط وآخذه " . .
أما الطائفة الأخرى ; فهم ذوو الإيمان المزعزع , الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم , والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية , ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة , ولم يستسلموا بكليتهم لقدره , ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص , وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه , ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل:
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ?). .
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء , فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له , ويتحركون له , ويقاتلون له , بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ,
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه , يهدد به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر , الموصول القلب بصاحبه , وبقدر الله فيه , الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع , فإذا هم يثوبون ويرجعون !
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية , لمسة موحية , تطرد ذلك الخوف , عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة , وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير , ومن ابتلاء للعباد وجزاء:
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها . وسنجزي الشاكرين). .
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع , والحرص والتخلف , لا تطيل أجلا . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا . فلا كان الجبن , ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد !
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس , فتترك الاشتغال به , ولا تجعله في الحساب , وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص , كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته , في صبر وطمأنينة , وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوبا , والأجل مرسوما . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان , وأن تحصر همها كله في هذه الأرض , وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ? أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى , وإلى اهتمامات أرفع , وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ? . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ?!
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها).
وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها , ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة "الإنسان" الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا). .
(وسنجزي الشاكرين). .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان , فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة , فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة , وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء , وفق ما يريدونه لأنفسهم , من اهتمام قريب كاهتمام الدود , أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان ! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة - إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس ,
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
في الحقل الذي تملكه , وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار !
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق , الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم , وقاتلوا مع أنبيائهم , فلم يجزعوا عند الابتلاء ; وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا أخطاءهم فيروها "إسرافا" في أمرهم . وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين , جزاء إحسانهم في أدب الدعاء , وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين). .
لقد كانت الهزيمة في "أحد" , هي أول هزيمة تصدم المسلمين , الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد , فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه !
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة , وبالاستنكار تارة , وبالتقرير تارة , وبالمثل تارة , تربية لنفوسهم , وتصحيحا لتصورهم , وإعدادا لهم . فالطريق أمامهم طويل , والتجارب أمامهم شاقة , والتكاليف عليهم باهظة , والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام , لا يحدد فيه نبيا , ولا يحدد فيه قوما . إنما يربطهم بموكب الإيمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا). .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح , وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين , المنافحين عن عقيدة ودين . .
(والله يحب الصابرين). .
الذين لا تضعف نفوسهم , ولا تتضعضع قواهم , ولا تلين عزائمهم , ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح , ويمسح على القرح , ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله , وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس , ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة , ولتعترف بالذنب والخطيئة , قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:
فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
(وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين). .
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدبا مع الله , وهم يتوجهون إليه , بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب , وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا , أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا , وحسن ثواب الآخرة). .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد , وأعلن حبه لهم . وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:
(والله يحب المحسنين). .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل . .
الدرس السادس:149 - 158 مقدمة الدرس:أهم أحداث المعركة وتصحيح التصور
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ; واتخاذها محورا للتعقيبات , يتوخى بها تصحيح التصور , وتربية الضمائر , والتحذير من مزالق الطريق , والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد , وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ; بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها "بدر" بسياج من الرهبة , بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ; وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم , وأن ينفثوا سمومهم ; وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ; ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم , وإلقاء الرعب في قلبه ; ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة , حسب وعده لهم ; والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله [ ص ] ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه , في صورة فائضة بالحيوية والحركة . ثم ما أعقب الهزيمة والفزع , من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ; بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين , الذين ساء ظنهم بالله سبحانه . ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف , في سير الأحداث سيرتها تلك , مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد . ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
والاستشهاد . ويردهم إلى حقيقة البعث , التي ينتهي إليها الناس . . ماتوا أو قتلوا . . وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ; ومأواهم النار , وبئس مثوى الظالمين ! ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه , حتى إذا فشلتم , وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم ليبتليكم , ولقد عفا عنكم , والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم ; فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم , والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة , نعاسا يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ? قل:إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم , وليمحص ما في قلوبكم ; والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ; ولقد عفا الله عنهم , إن الله غفور حليم . يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا , وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى -:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا , ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت , والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . .
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية , ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي , وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة , فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ; وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها , وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها . . من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس , البانية للتصور الصحيح .
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها , وهذه الحقائق كلها , في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب , وطاقات الأداء , وبخاصة من يعالجون منهم التعبير , ويعانون أسرار الأداء !
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين). .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح , ليثبطوا عزائمهم , ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد , ويصوروا لهم مخاوف القتال , وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب , وخلخلة الصفوف , وإشاعة عدم الثقة في القيادة ; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ; وتزيين الانسحاب منها , ومسالمة المنتصرين فيها ! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية ; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة , ثم لهدم كيان العقيدة , ثم للاستسلامللأقوياء الغالبين !
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة , وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار , ويكافح الباطل والمبطلين , وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين , محافظا على موقفه , ومحتفظا بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة , وتحت وطأة الجرح والقرح , أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم , وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه ! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الإمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء , والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان , لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين , والاستماع إليهم , والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته , وأن يستمع إلى وسوستهم , وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية , والارتداد على عقبيه إلى الكفر , ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته , وفي قيادته , غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته . فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية , ينبه الله المؤمنين لها , ويحذرهم إياها , وهو يناديهم باسم الإيمان:
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين). .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب , من الإيمان إلى الكفر ? وأي ربح يتحققق بعد خسارة الإيمان ?
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم , فهو وهم , يضرب السياق صفحا عنه , ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:
(بل الله مولاكم , وهو خير الناصرين).
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية , ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه , فما حاجته بولاية أحد من خلقه ? ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد ?
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين , ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم , بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا , ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين:
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . ومأواهم النار , وبئس مثوى الظالمين). .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر , بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , كفيل بنهاية المعركة , وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم , ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده , والثقة المطلقة بهذه الولاية , والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون , وأن الله غالب على أمره , وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
والتعامل مع وعد الله هذا , مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه , فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم !
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها , لأن الله لم يمنحها سلطانا .
والتعبير: (ما لم ينزل به سلطانا)ذو معنى عميق , وهو يصادفنا في القرآن كثيرا . مرة توصف به الآلهة المدعاة , ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة , أو عقيدة , أو شخصية , أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من "الحق" أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون , ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية , مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش !
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها ; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم ; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم . . ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه , وواحدة منها !
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون ? إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد ; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ; ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل , فهو زائف باطل , مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واه هزيل , لا يحمل قوة ولا سلطانا , ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة !
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء , وهم أبدا خوارون ضعفاء ; وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب , ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود ! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ; ولو كانت له الحشود , وكان للحق القلة , تصديقا لوعد الله الصادق:
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا). .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
(ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين !). .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار , وتركوا وراءهم الغنائم , وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ;
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
وتنازعوا فيما بينهم , وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها , في حيوية عجيبة:
ولقد صدقكم الله وعده , إذ تحسونهم بإذنه , حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم , والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم , فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ? قل:إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم , والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة , ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان , ولا خاطرة في النفوس , ولا سمة في الوجوه , ولا خالجة في الضمائر , إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر , ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل , والهروب في دهش وذعر , ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة , المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس , وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة , تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن , ومنهج القرآن التربوي العجيب:
(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه). .
وكان ذلك في مطالع المعركة , حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين , أي يخمدون حسهم , أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم:" لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة). .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ; ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين:فريقا يريد غنيمة الدنيا , وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة , ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله , فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها , فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ; كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ,فلا يمنحهم الله النصر أبدا , حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة , وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة). .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب , التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا , حتى نزل فينا يوم أحد: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ; ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره , وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ; ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة:
(ثم صرفكم عنهم ليبتليكم). .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين , وصرف الرماة عن ثغرة الجبل , وصرف المقاتلين عن الميدان , فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ; ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ; وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب , ومن تمحيص النفوس , وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها , وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب , ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
(ولقد عفا عنكم). .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ; وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة , وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله , والاستسلام له , وتسليم قيادكم لمشيئته:
(والله ذو فضل على المؤمنين). .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم , ما داموا سائرين على منهجه , مقرين بعبوديتهم له ; لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم , ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم , ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة:
(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم). .
ذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل , ومقدماته التي نشأ عنها , من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا , في اضطراب ورعب ودهش , لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ ص ] يدعوهم , ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح:إن محمدا قد قتل , فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ ص ] بفرارهم , غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم , وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم , وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم , وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم , وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض , وكل ما يصيبهم من مشقة:
(فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم). .
والله المطلع على الخفايا , يعلم حقيقة أعمالكم , ودوافع حركاتكم:
(والله خبير بما تعملون). .
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها , وهرجها ومرجها , سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم , وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم , حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم). .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين , ولو لحظة واحدة , يفعل في كيانهم فعل السحر , ويردهم خلقا جديدا , ويسكب في قلوبهم الطمأنينة , كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:" رفعت رأسي يوم أحد , وجعلت أنظر , وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة:" غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد , فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه , ويسقط وآخذه " . .
أما الطائفة الأخرى ; فهم ذوو الإيمان المزعزع , الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم , والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية , ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة , ولم يستسلموا بكليتهم لقدره , ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص , وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه , ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل:
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ?). .
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء , فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له , ويتحركون له , ويقاتلون له , بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ,
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 135==144 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 135==144 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى