تفسير ال عمران ايه 185==191 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير ال عمران ايه 185==191 الشيخ سيد قطب
لُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه , ويرسم هيئته , ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها , ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها , ويستنقذ من جاذبيتها , ويدخل الجنة . . فقد فاز . .
صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ? بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك الإنسان فضل الله , فيزحزحه عن النار ! (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). .
إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة , ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء , ولا بد من أذى في الأموال والأنفس , ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره , لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة , وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو , بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء , وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك , مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة , وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
تُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم , مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس , ومزالق الطريق , ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير , ولا بد فيها من سر , يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله , فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ; ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل , ولم تتراجع , ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها , تتوالى القرون والأجيال ; وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة , ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)!
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها , وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة , وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية , وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى , وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق , وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة , وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة , ووسائل الدعاية الحديثة , لتشويه أهدافها , وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة , وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى , وحين تعوي حولها بالدعاية , وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق , وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
كله , لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ; وتمضي في طريقها الموعود , إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
الدرس الثالث:187 - 189 بيان مسؤولية العلماء وكتمان أهل الكتاب للحق
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه , حين يسألون عنه:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب:لتبيننه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم , واشتروا به ثمنا قليلا . فبئس ما يشترون)!
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه , ولبسه بالباطل , لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين , وفي صحة الإسلام , وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله , وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق ; وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة ; حين ينكشف أيضا أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس , ويبلغوه , ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد ; فيمثله في حركة:
(فنبذوه وراء ظهورهم)!
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة , ابتغاء ثمن قليل:
(واشتروا به ثمنا قليلا).
هو عرض من أعراض هذه الأرض , ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود ! وكله ثمن قليل , ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور ! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله ! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله !
(فبئس ما يشترون)!
وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس أن النبي [ ص ] سأل اليهود عن شيء , فكتموه إياه , وأخبروه بغيره , فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه , واستحمدوا بذلك إليه , وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وأنه في هذا نزلت آية:
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). .
وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري , أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله [ ص ] كانوا إذا خرج رسول الله [ ص ] إلى الغزو وتخلفوا عنه , وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله [ ص ] فإذا قدم رسول الله [ ص ] من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا , وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت: ا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190)
أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . .).
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك:إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .
فأما إذا كانت الأولى , فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب , وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع , حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري !
وأما إذا كانت الثانية , ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول [ ص ] ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي , وتكاليف العقيدة , فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم , ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا , فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم ; وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !
إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان , وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول [ ص ] أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وإن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين:
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم).
والذي يتوعدهم به هو الله . مالك السماوات والأرض . القادر على كل شيء . فأين المفازة إذن ? وكيف النجاة ?
(ولله ملك السماوات والأرض , والله على كل شيء قدير). .
الوحدة السابعة:190 - 200 الموضوع:من صفات أولي الألباب وطبيعة طريق الحق مقدمة الوحدة - الكون كتاب مفتوح
هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه:من مقومات التصور الإسلامي . وتقرير هذه المقومات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب , ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين . وبيان طبيعة
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله (لأولي الألباب)وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ; وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح , ويتأملون ما ينطق به من الآيات , وما يوحي به من الغايات . . استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر , والنهوض بتكاليف هذا الإيمان , الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح . . مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة . وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي , التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار .
وعطفا على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين , يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن , وجزاؤه المناسب , ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع , التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح , ودعائهم الخاشع المنيب . وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمنا قليلا , كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب , وتقدم وصفهم في السورة .
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة , وتمثل خصائصها المطلوبة , وتكاليفها المحددة , والتي بها يكون الفلاح:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله , لعلكم تفلحون). .
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل , وموضوعاتها الرئيسية , ويتسق معها كل الاتساق .
الدرس الأول:190 - 198 توجيه القلوب إلى تصفح كتاب الكون
(إن في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته , وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد . . .). .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ? ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار). .
إلى نهاية ذلك الدعاء ?
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم). . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ; ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان , وتحيل حياته إلى جحيم منكرة , وإلى حياة قلقة مهددة , وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !). .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب)من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !). .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
(. . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . .). .
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه , ويرسم هيئته , ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها , ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها , ويستنقذ من جاذبيتها , ويدخل الجنة . . فقد فاز . .
صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ? بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك الإنسان فضل الله , فيزحزحه عن النار ! (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). .
إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة , ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء , ولا بد من أذى في الأموال والأنفس , ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره , لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة , وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو , بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء , وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك , مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة , وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
تُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم , مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس , ومزالق الطريق , ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير , ولا بد فيها من سر , يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله , فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ; ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل , ولم تتراجع , ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها , تتوالى القرون والأجيال ; وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة , ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)!
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها , وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة , وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية , وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى , وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق , وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة , وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة , ووسائل الدعاية الحديثة , لتشويه أهدافها , وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة , وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى , وحين تعوي حولها بالدعاية , وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق , وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
كله , لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ; وتمضي في طريقها الموعود , إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
الدرس الثالث:187 - 189 بيان مسؤولية العلماء وكتمان أهل الكتاب للحق
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه , حين يسألون عنه:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب:لتبيننه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم , واشتروا به ثمنا قليلا . فبئس ما يشترون)!
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه , ولبسه بالباطل , لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين , وفي صحة الإسلام , وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله , وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق ; وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة ; حين ينكشف أيضا أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس , ويبلغوه , ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد ; فيمثله في حركة:
(فنبذوه وراء ظهورهم)!
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة , ابتغاء ثمن قليل:
(واشتروا به ثمنا قليلا).
هو عرض من أعراض هذه الأرض , ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود ! وكله ثمن قليل , ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور ! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله ! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله !
(فبئس ما يشترون)!
وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس أن النبي [ ص ] سأل اليهود عن شيء , فكتموه إياه , وأخبروه بغيره , فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه , واستحمدوا بذلك إليه , وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وأنه في هذا نزلت آية:
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). .
وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري , أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله [ ص ] كانوا إذا خرج رسول الله [ ص ] إلى الغزو وتخلفوا عنه , وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله [ ص ] فإذا قدم رسول الله [ ص ] من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا , وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت: ا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190)
أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . .).
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك:إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .
فأما إذا كانت الأولى , فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب , وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع , حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري !
وأما إذا كانت الثانية , ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول [ ص ] ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي , وتكاليف العقيدة , فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم , ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا , فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم ; وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !
إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان , وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول [ ص ] أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وإن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين:
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم).
والذي يتوعدهم به هو الله . مالك السماوات والأرض . القادر على كل شيء . فأين المفازة إذن ? وكيف النجاة ?
(ولله ملك السماوات والأرض , والله على كل شيء قدير). .
الوحدة السابعة:190 - 200 الموضوع:من صفات أولي الألباب وطبيعة طريق الحق مقدمة الوحدة - الكون كتاب مفتوح
هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه:من مقومات التصور الإسلامي . وتقرير هذه المقومات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب , ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين . وبيان طبيعة
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله (لأولي الألباب)وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ; وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح , ويتأملون ما ينطق به من الآيات , وما يوحي به من الغايات . . استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر , والنهوض بتكاليف هذا الإيمان , الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح . . مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة . وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي , التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار .
وعطفا على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين , يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن , وجزاؤه المناسب , ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع , التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح , ودعائهم الخاشع المنيب . وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمنا قليلا , كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب , وتقدم وصفهم في السورة .
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة , وتمثل خصائصها المطلوبة , وتكاليفها المحددة , والتي بها يكون الفلاح:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله , لعلكم تفلحون). .
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل , وموضوعاتها الرئيسية , ويتسق معها كل الاتساق .
الدرس الأول:190 - 198 توجيه القلوب إلى تصفح كتاب الكون
(إن في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته , وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد . . .). .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ? ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار). .
إلى نهاية ذلك الدعاء ?
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم). . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ; ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان , وتحيل حياته إلى جحيم منكرة , وإلى حياة قلقة مهددة , وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !). .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب)من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !). .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
(. . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . .). .
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء
مواضيع مماثلة
» تفسير ال عمران ايه 179==184 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 14==30 الشيخ سيد قطب
» تفسير ايه ال عمران 31==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 37==47 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 192==اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 14==30 الشيخ سيد قطب
» تفسير ايه ال عمران 31==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 37==47 الشيخ سيد قطب
» تفسير ال عمران ايه 192==اخر السوره الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى