تفسير سورة المعارج ايه رقم 1 الى 18 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة المعارج ايه رقم 1 الى 18 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 3
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
سورة المعارج
تقديم لسورة المعارج
هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء , المديد , العميق , الدقيق , لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة ; وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق ! وفي الظواهر لا في الحقائق !
أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس , وفي خلال دروبها ومنحنياتها , ورواسبها وركامها . وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون - فيما بعد - كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !
والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ; وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين , كما أوعدهم القرآن الكريم . وهي تلم - في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة - بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء . وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان . كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك , واستحقاقها للتكريم . وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . . وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر , واختلاف الموازين . . .
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها , أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها . تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية . فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية - ابتداء - قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له !
والذي يقرأ هذا القرآن - وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة - يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة . ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا . . تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة , والمسارة الودود , التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب , والصرخة المفزعة , التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها . وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها .وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين , وتخجل من بعضه , وتكره بعضه , وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها ! . . ومئات من اللمسات , ومئات من اللفتات , ومئات من الهتافات , ومئات من المؤثرات . . يطلع عليها قارئ القرآن , وهو يتبع تلك المعركة الطويلة , وذلك العلاج البطيء . ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة .
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة , والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها .
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة , ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى , وتعرض لها من زاوية جديدة , وصور وظلال جديدة . .
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم , ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلةفإذا نفخ في الصور نفخة واحدة , وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة , وانشقت السماء فهي يومئذ واهية). . وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوبوالملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية). . وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعريومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). .
كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب , حتى في النطق بالحكم بهذا العذابخذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). . كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم: (يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . .)
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها , أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته . حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال . إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعةيوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه , وصاحبته وأخيه , وفصيلته التي تؤويه , ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه). .
وجهنم هنا "نفس" ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي: إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيايوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون , خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة , ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون). .
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة , باختلاف طابعي السورتين في عمومه . مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج - فيما تناولت - تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء , في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان . وكان هذا متناسقا مع طابعها "النفسي" الخاص:فجاء في صفة الإنسان (إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا , وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين , الذين هم على صلاتهم دائمون . . الخ. .
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها: (إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقونبيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . . .). .
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة . ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة , كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض ; وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح . . فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء , وموازين هذا الجزاء . فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها . من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر , وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا . . . الخ وهو متعلق باليوم الآخر .
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان . وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء .
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم , مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه . وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل .
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس . مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة ! للموضوع الأصيل .
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة , الناشئ من بنائها التعبيري . . فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة . وفق المعنى والجو فيه . . فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا , لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها . والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا . ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ .
ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة - مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها - من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:
(سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبرا جميلا). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس .
(إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا). . حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين .
(يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث . مع تنوع الإيقاع في الداخل .
(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا إنها لظى). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول .
(نزاعة للشوى . . تدعو من أدبر وتولى . وجمع فأوعى . إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا). . حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى .
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي - موسيقيا - من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي . ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه , وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي .
والآن نستعرض السورة تفصيلا . . .
الدرس الأول:1 - 18 قرب وقوع يوم القيامة والهول في مشاهده
سأل سائل بعذاب واقع , للكافرين ليس له دافع , من الله ذي المعارج , تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا , إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا , يوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن , ولا يسأل حميم حميما , يبصرونهم , يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه , وصاحبته وأخيه , وفصيلته التي تؤويه , ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا ! إنها لظى , نزاعة للشوى , تدعو من أدبر وتولى , وجمع فأوعى . .
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب ; ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة , وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب ; وينكرونها أشد الإنكار , ويتحدون الرسول [ ص ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود , أو أن يقول لهم:متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه:قال:ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله . وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا , لأنه كائن في تقدير الله من جهة , ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله - وهو واقع ليس له من دافع - يبدو تعاسة من السائل المستعجل ; فردا كان أو مجموعة !
وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقا . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله (ذي المعارج). . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي , كما قال في السورة الأخرى: (رفيع الدرجات ذو العرش). .
وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب , ووقوعه , ومستحقيه , ومصدره , وعلو هذا المصدر ورفعته , مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب , والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر , ومقاييسه غير مقاييسهم:
من الاية 4 الى الاية 5
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)
(تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا , إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة , لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح:الأرجح أنه جبريل عليه السلام , كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر , إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته , وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن - ولم نكلف أن ندري - طبيعة هذه المهام , ولا كيف يصعد الملائكة , ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص , وليس لنا إليها من سبيل , وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم , الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة). . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة , ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم !
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة , فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا , وهو عند الله قريب . ومن ثم يدعو الله نبيه [ ص ] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب .
(فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة , وتكررت لكل رسول , ولكل مؤمن يتبع الرسول . وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق , ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية , موصولة بالهدف البعيد , متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن , الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد . صبر الواثق من العاقبة , الراضي بقدر الله , الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء , الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة . فهي دعوة الله , وهي دعوة إلى الله . ليس له هو منها شيء . وليس له وراءها من غاية . فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله , وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة , ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون , وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون , يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله . ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير ; فيستعجلون . وإذا طال عليهم الأمد يستريبون . وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم , وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . . عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير:
من الاية 6 الى الاية 14
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14)
(فاصبر صبرا جميلا). .
والخطاب هنا للرسول [ ص ] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب . وتقريرا للحقيقة الأخرى:وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر ; ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة:
(إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع , الذي يرونه بعيدا ويراه الله قريبا . يرسم مشاهده في مجالي الكون وأغوار النفس . وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء:
(يوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن). .
والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت . والعهن هو الصوف المنتفش . والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم , تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها . ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة . وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية . فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية - وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل - فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قالوإذا النجوم انكدرت)وستبرد حتى تصير معادن سائلة ! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية !
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه . أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب , الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر , وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش . ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس , فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير:
(ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم . يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه).
إن الناس في هم شاغل , لا يدع لأحد منهم أن يتلفت خارج نفسه , ولا يجد فسحة في شعوره لغيرهولا يسأل حميم حميما). فلقد قطع الهول المروع جميع الوشائج , وحبس النفوس على همها لا تتعداه . . وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض(يبصرونهم)كأنما عمدا وقصدا ! ولكن لكل منهم همه , ولكل ضمير منهم شغله . فلا يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله , ولا أن يسأله عونه . فالكرب يلف الجميع , والهول يغشى الجميع . .
فما بال(المجرم)? إن الهول ليأخذ بحسه , وإن الرعب ليذهب بنفسه , وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ بأعز الناس عليه , ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة , ويناضل عنهم , ويعيش لهم . . ببنيه . وزوجه . وأخيه , وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه . بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الإطلاق , فيود لو يفتدي بمن في الأرض جميعا ثم ينجيه . . وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات ! صورة مبطنة بالهول , مغمورة بالكرب , موشاة بالفزع , ترتسم من خلال التعبير القرآني الموحي .
وبينما المجرم في هذه الحال , يتمنى ذلك المحال , يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل , أو كل حديث خادع من النفس . كما يسمع الملأ جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه:
كلا ! إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
إنه مشهد تطير له النفس شعاعا , بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله . .(كلا !)في ردع عن تلك الأماني
من الاية 15 الى الاية 18
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
المستحيلة في الافتداء بالبنين والزوج والأخ والعشيرة ومن في الأرض جميعا . .(كلا ! إنها لظى)نار تتلظى وتتحرق(نزاعة للشوى)تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا . . وهي غول مفزعة . ذات نفس حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد: تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . . تدعوه كما كان يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى . ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يملك أن يدبر ويتولى ! ولقد كان من قبل مشغولا عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الأوعية ! فأما اليوم فالدعوة من جهنم لا يملك أن يلهو عنها . ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كله منها !
والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير , وعدم الحض على طعام المسكين , وجمع المال في الأوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية . . هذا التوكيد يدل على أن الدعوة كانت تواجه في مكة حالات خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب والضلالة . مما اقتضى تكرار الإشارة إلى هذا الأمر , والتخويف من عاقبته , بوصفه من موجبات العذاب بعد الكفر والشرك بالله .
وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى , وتؤكد ملامح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة . فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا . وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر , وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف . وكان هنالك تكالب على الثراء , وشح النفوس يجعل الفقراء محرومون , واليتامى مضيعين . ومن ثم تكرر الأمر في هذا الشأن وتكرر التحذير . وظل القرآن يعالج هذا الجشع وهذا الحرص ; ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح وبعده على السواء . مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا , ومن أكل أموال الناس بالباطل , ومن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في أموالهن ! ومن نهر السائل , وقهر اليتيم , ومن حرمان المساكين . . . إلى آخر هذه الحملات المتتابعة العنيفة الدالة على الكثير من ملامح البيئة . فضلا على أنها توجيهات دائمة لعلاج النفس الإنسانية في كل بيئة . وحب المال , والحرص عليه , وشح النفس به , والرغبة في احتجانه , آفة تساور النفوس مساورة عنيفة , وتحتاج للانطلاق من إسارها والتخلص من أوهاقها , والتحرر من ربقتها , إلى معارك متلاحقة , وإلى علاج طويل !
الدرس الثاني:19 - 35 من طبيعة النفس الإنسانية التي يهذبها الإسلام وصفات الصالحين
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم , وفي صورة ذلك العذاب ; فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير , في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان . ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين:
(إن الإنسان خلق هلوعا:إذا مسه الشر جزوعا , وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون).
وصورة الإنسان - عند خواء قلبه من الإيمان - كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق ; والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني , الذي
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
سورة المعارج
تقديم لسورة المعارج
هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء , المديد , العميق , الدقيق , لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة ; وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق ! وفي الظواهر لا في الحقائق !
أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس , وفي خلال دروبها ومنحنياتها , ورواسبها وركامها . وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون - فيما بعد - كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !
والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ; وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين , كما أوعدهم القرآن الكريم . وهي تلم - في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة - بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء . وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان . كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك , واستحقاقها للتكريم . وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . . وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر , واختلاف الموازين . . .
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها , أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها . تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية . فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية - ابتداء - قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له !
والذي يقرأ هذا القرآن - وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة - يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة . ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا . . تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة , والمسارة الودود , التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب , والصرخة المفزعة , التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها . وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها .وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين , وتخجل من بعضه , وتكره بعضه , وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها ! . . ومئات من اللمسات , ومئات من اللفتات , ومئات من الهتافات , ومئات من المؤثرات . . يطلع عليها قارئ القرآن , وهو يتبع تلك المعركة الطويلة , وذلك العلاج البطيء . ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة .
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة , والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها .
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة , ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى , وتعرض لها من زاوية جديدة , وصور وظلال جديدة . .
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم , ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلةفإذا نفخ في الصور نفخة واحدة , وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة , وانشقت السماء فهي يومئذ واهية). . وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوبوالملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية). . وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعريومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). .
كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب , حتى في النطق بالحكم بهذا العذابخذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). . كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم: (يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . .)
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها , أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته . حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال . إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعةيوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه , وصاحبته وأخيه , وفصيلته التي تؤويه , ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه). .
وجهنم هنا "نفس" ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي: إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيايوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون , خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة , ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون). .
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة , باختلاف طابعي السورتين في عمومه . مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج - فيما تناولت - تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء , في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان . وكان هذا متناسقا مع طابعها "النفسي" الخاص:فجاء في صفة الإنسان (إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا , وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين , الذين هم على صلاتهم دائمون . . الخ. .
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها: (إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقونبيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . . .). .
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة . ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة , كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض ; وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح . . فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء , وموازين هذا الجزاء . فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها . من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر , وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا . . . الخ وهو متعلق باليوم الآخر .
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان . وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء .
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم , مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه . وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل .
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس . مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة ! للموضوع الأصيل .
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة , الناشئ من بنائها التعبيري . . فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة . وفق المعنى والجو فيه . . فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا , لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها . والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا . ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ .
ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة - مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها - من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:
(سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبرا جميلا). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس .
(إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا). . حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين .
(يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميما). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث . مع تنوع الإيقاع في الداخل .
(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا إنها لظى). . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول .
(نزاعة للشوى . . تدعو من أدبر وتولى . وجمع فأوعى . إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا). . حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى .
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي - موسيقيا - من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي . ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه , وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي .
والآن نستعرض السورة تفصيلا . . .
الدرس الأول:1 - 18 قرب وقوع يوم القيامة والهول في مشاهده
سأل سائل بعذاب واقع , للكافرين ليس له دافع , من الله ذي المعارج , تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا , إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا , يوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن , ولا يسأل حميم حميما , يبصرونهم , يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه , وصاحبته وأخيه , وفصيلته التي تؤويه , ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا ! إنها لظى , نزاعة للشوى , تدعو من أدبر وتولى , وجمع فأوعى . .
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب ; ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة , وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب ; وينكرونها أشد الإنكار , ويتحدون الرسول [ ص ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود , أو أن يقول لهم:متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه:قال:ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله . وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا , لأنه كائن في تقدير الله من جهة , ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله - وهو واقع ليس له من دافع - يبدو تعاسة من السائل المستعجل ; فردا كان أو مجموعة !
وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقا . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله (ذي المعارج). . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي , كما قال في السورة الأخرى: (رفيع الدرجات ذو العرش). .
وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب , ووقوعه , ومستحقيه , ومصدره , وعلو هذا المصدر ورفعته , مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب , والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر , ومقاييسه غير مقاييسهم:
من الاية 4 الى الاية 5
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)
(تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , فاصبر صبرا جميلا , إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة , لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح:الأرجح أنه جبريل عليه السلام , كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر , إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته , وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن - ولم نكلف أن ندري - طبيعة هذه المهام , ولا كيف يصعد الملائكة , ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص , وليس لنا إليها من سبيل , وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم , الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة). . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة , ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم !
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة , فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا , وهو عند الله قريب . ومن ثم يدعو الله نبيه [ ص ] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب .
(فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة , وتكررت لكل رسول , ولكل مؤمن يتبع الرسول . وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق , ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية , موصولة بالهدف البعيد , متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن , الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد . صبر الواثق من العاقبة , الراضي بقدر الله , الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء , الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة . فهي دعوة الله , وهي دعوة إلى الله . ليس له هو منها شيء . وليس له وراءها من غاية . فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله , وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة , ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون , وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون , يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله . ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير ; فيستعجلون . وإذا طال عليهم الأمد يستريبون . وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم , وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . . عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير:
من الاية 6 الى الاية 14
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14)
(فاصبر صبرا جميلا). .
والخطاب هنا للرسول [ ص ] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب . وتقريرا للحقيقة الأخرى:وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر ; ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة:
(إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). .
ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع , الذي يرونه بعيدا ويراه الله قريبا . يرسم مشاهده في مجالي الكون وأغوار النفس . وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء:
(يوم تكون السماء كالمهل , وتكون الجبال كالعهن). .
والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت . والعهن هو الصوف المنتفش . والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم , تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها . ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة . وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية . فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية - وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل - فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قالوإذا النجوم انكدرت)وستبرد حتى تصير معادن سائلة ! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية !
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه . أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب , الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر , وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش . ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس , فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير:
(ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم . يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه).
إن الناس في هم شاغل , لا يدع لأحد منهم أن يتلفت خارج نفسه , ولا يجد فسحة في شعوره لغيرهولا يسأل حميم حميما). فلقد قطع الهول المروع جميع الوشائج , وحبس النفوس على همها لا تتعداه . . وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض(يبصرونهم)كأنما عمدا وقصدا ! ولكن لكل منهم همه , ولكل ضمير منهم شغله . فلا يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله , ولا أن يسأله عونه . فالكرب يلف الجميع , والهول يغشى الجميع . .
فما بال(المجرم)? إن الهول ليأخذ بحسه , وإن الرعب ليذهب بنفسه , وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ بأعز الناس عليه , ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة , ويناضل عنهم , ويعيش لهم . . ببنيه . وزوجه . وأخيه , وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه . بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الإطلاق , فيود لو يفتدي بمن في الأرض جميعا ثم ينجيه . . وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات ! صورة مبطنة بالهول , مغمورة بالكرب , موشاة بالفزع , ترتسم من خلال التعبير القرآني الموحي .
وبينما المجرم في هذه الحال , يتمنى ذلك المحال , يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل , أو كل حديث خادع من النفس . كما يسمع الملأ جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه:
كلا ! إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
إنه مشهد تطير له النفس شعاعا , بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله . .(كلا !)في ردع عن تلك الأماني
من الاية 15 الى الاية 18
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
المستحيلة في الافتداء بالبنين والزوج والأخ والعشيرة ومن في الأرض جميعا . .(كلا ! إنها لظى)نار تتلظى وتتحرق(نزاعة للشوى)تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا . . وهي غول مفزعة . ذات نفس حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد: تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . . تدعوه كما كان يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى . ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يملك أن يدبر ويتولى ! ولقد كان من قبل مشغولا عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الأوعية ! فأما اليوم فالدعوة من جهنم لا يملك أن يلهو عنها . ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كله منها !
والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير , وعدم الحض على طعام المسكين , وجمع المال في الأوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية . . هذا التوكيد يدل على أن الدعوة كانت تواجه في مكة حالات خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب والضلالة . مما اقتضى تكرار الإشارة إلى هذا الأمر , والتخويف من عاقبته , بوصفه من موجبات العذاب بعد الكفر والشرك بالله .
وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى , وتؤكد ملامح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة . فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا . وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر , وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف . وكان هنالك تكالب على الثراء , وشح النفوس يجعل الفقراء محرومون , واليتامى مضيعين . ومن ثم تكرر الأمر في هذا الشأن وتكرر التحذير . وظل القرآن يعالج هذا الجشع وهذا الحرص ; ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح وبعده على السواء . مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا , ومن أكل أموال الناس بالباطل , ومن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في أموالهن ! ومن نهر السائل , وقهر اليتيم , ومن حرمان المساكين . . . إلى آخر هذه الحملات المتتابعة العنيفة الدالة على الكثير من ملامح البيئة . فضلا على أنها توجيهات دائمة لعلاج النفس الإنسانية في كل بيئة . وحب المال , والحرص عليه , وشح النفس به , والرغبة في احتجانه , آفة تساور النفوس مساورة عنيفة , وتحتاج للانطلاق من إسارها والتخلص من أوهاقها , والتحرر من ربقتها , إلى معارك متلاحقة , وإلى علاج طويل !
الدرس الثاني:19 - 35 من طبيعة النفس الإنسانية التي يهذبها الإسلام وصفات الصالحين
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم , وفي صورة ذلك العذاب ; فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير , في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان . ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين:
(إن الإنسان خلق هلوعا:إذا مسه الشر جزوعا , وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون).
وصورة الإنسان - عند خواء قلبه من الإيمان - كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق ; والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني , الذي
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المعارج ايه 19 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحاقه ايه 35 ==الى ايه11 من سورة المعارج
» تفسير سورة المعارج ايه40==الى ايه11 من سورة نوح
» تفسير سورة المعارج ايه11==40
» تفسير سورة المعارج عدد آياتها 44 ( آية 1-44 ) وهي مكية
» تفسير سورة الحاقه ايه 35 ==الى ايه11 من سورة المعارج
» تفسير سورة المعارج ايه40==الى ايه11 من سورة نوح
» تفسير سورة المعارج ايه11==40
» تفسير سورة المعارج عدد آياتها 44 ( آية 1-44 ) وهي مكية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى