تفسير الانفال ايه 55 الى 63 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير الانفال ايه 55 الى 63 الشيخ سيد قطب
من الاية 55 الى الاية 57
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
العقيدة والتنظيم الحركي معاً , فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض . أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الاسلام , فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الاسلام . . أي لا تناصر ولا تكافل . . ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم ; وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد .
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي , لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ; فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي .
هذه - على وجه الإجمال - هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس ; وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي . . وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية:
الدرس الأول:55 - 63 مقدمة الدرس
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة , وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء , إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم , وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم . وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم . .
هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة , عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة ; وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة .
وهي تمثل إحدي قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى , ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد ; ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية .
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ; ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها ; مع إعطاء هذه العهود الإحترام الكامل والجدية الحقيقية . فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ; ويستعد للمبادأة والشر ; فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود , وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ ; وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين . . على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سرا أو جهراً ! . . فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي ; ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية , أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع ; فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها .
وهذه - كما هو ظاهر - مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة ; لا ترفض الموادعة - متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب - وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء , وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً .
أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك , فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة , والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله:"ولما قدم النبي [ ص ] المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه - وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم - وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة . وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه , بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه . . ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن . ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم . ومنهم من دخل معه في الظاهر , وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين , وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى " . .
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة ; وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة . كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة .
وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة , تواجه أحوالاً واقعة ; ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية ; وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية , حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة . .
وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد . ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته:
"فصل في ترتيب سياق هديه [ [ ص ] ] مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل . . أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى:أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه , ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليهيا أيها المدثر . قم فأنذر)فنبأه بقولهاقرأ)وأرسله ب(يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ; ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله , ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام:أهل صلح وهدنة , وأهل حرب , وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم , وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد , فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد , وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها:فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيف والسنان , والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له , فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليهفأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق , فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر , فإذا انسلخت قاتلهم . فقتل الناقض لعهده ; وأجل من لا عهد له , أو له عهد مطلق , أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته , فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . . إلخ " . .
ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد , ومراجعة أحداث السيرة , وتاريخ نزول السور والآيات التي تتضمن هذه الأحكام , يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا , تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة , وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة . ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات . . ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية , إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية . فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة , والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله [ ص ] كما سيأتي . .
وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية:
الدرس:55-63
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). .
ولفظ(الدواب)وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض , فيشمل الأناسي فيما يشمل , إلا أنه - كما أسلفنا - يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين . . ظل البهيمة . . ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض ! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان ! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة !
وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص . . قيل:إنهم بنو قريظة , وقيل:إنهم بنو النضير . وقيل:إنهم بنو قينقاع . وقيل:إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين . . والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً . فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله [ ص ] طائفة طائفة , كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً . . والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها , إلى حين نزول هذه الآيات . ولكن الحكم الصادر فيها , المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة , ويقرر صفة ثابتة . .
فهؤلاء الذين كفروا ولّجوا في الكفر (فهم لا يؤمنون). . ففسدت بذلك فطرتهم , وباتوا بذلك شر الدواب عند الله . هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه , فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى - خصيصة التقيد بالعهد - وانطلقوا من كل قيد , كما تنطلق البهيمة , لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها , وهؤلاء لا ضابط لهم . فهم بذلك شر الدواب عند الله !
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ; وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم , والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم , إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم , والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين , مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع:
من الاية 58 الى الاية 58
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)
(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). .
وإنه لتعبير عجيب , يرسم صورة للأخذ المفزع , والهول المرعب , الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد , وانطلقوا من ضوابط الإنسان , ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً , وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ; وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة , ولا بد له من قوة , ولا بد له من سطوة , ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ , في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت , هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ; وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة ; وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين). .
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده ; فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ; ولم يخن ولم يغدر ; ولم يغش ولم يخدع ; وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم . فليس بينه وبينهم أمان . . وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة , وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة . . إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ; ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم . . فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة , لأن كل خصم قد أخذ حذره ; فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل ! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة !
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ; ويريد للبشرية أن تعف ; فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب ; وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ; ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة .
إن الإسلام يكره الخيانة , ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ; ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة . . إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ; ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة , فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة . . وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية , فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية , لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات . . إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل , فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية . . من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة:
(إن الله لا يحب الخائنين).
من الاية 59 الى الاية 59
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ; حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم "التقدم الفني في صناعة القانون" أن يدركوا حقيقة "الواقع" بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !
وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر , ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !
(ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون). .
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق , لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم , ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم , وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض , ويعلون كلمته في الناس , وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ; فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ; وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ; وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل , ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ; والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ; ويخص (رباط الخيل)لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في "الأرض" لتحرير "الإنسان" . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة:أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ; فلا يصدوا عنها , ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني:أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على "دار الإسلام" التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث:أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" كله في "الأرض" كلها . . والأمر الرابع:أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية , فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ; ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ; ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
من الاية 60 الى الاية 60
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب , وتنظيماً للشعائر , ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ; يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية , وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى , وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ; ولا لتقرير سلطان زعيم , أو دولة , أو طبقة , أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ; ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ; ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير , ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ; وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
(ترهبون به عدو الله وعدوكم , وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ; ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم , أو لم يجهروا لهم بالعداوة , واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء , وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ; ولتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا , وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل , فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
(وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله , من كل غاية أرضية , ومن كل دافع شخصي ; ومن كل شعور قومي أو طبقي , ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه , ابتغاء رضوان اللّه .
من الاية 61 الى الاية 63
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن , أو قوم على قوم , أو جنس على جنس , أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ; ويجنحون إلى السلم والمسالمة ; وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها , وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح , تعبير لطيف , يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم , ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم , أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم , يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ; وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية , ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق , وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد , أو كان له عهد غير موقت , مدة أربعة أشهر , يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات , ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن , وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ; فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة , وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ; ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي , أن يقال:إن هذا الحكم ليس نهائياً ; وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام:إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية , وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:
قال أحمد:حدثنا وكيع , حدثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن يزيد , عن أبيه , عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله , وبمن معه من المسلمين خيراً , وقال:" اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال , أو خلال , فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم , وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين , مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ; وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ; وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس , وهم مثلهم في الشرك ; ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك , وروى غيره عن أبي حنيفة ]:
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه , أن قول الله تعالى:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب , وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد , أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ; ليكون الدين كله لله .
ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ; فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ; ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث:الإسلام , أو الجزية , أو القتال , وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ; وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ; كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ; ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ; ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية , فيجعلون منها نصوصاً نهائية ; وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة , فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ; حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين , وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع , أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه , ولا بالخضوع لمنهج الله , اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه , فيتحرك حينئذ للدفاع !
ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر , أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ; ولاستطاعوا أن يقولوا:إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو , ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ; إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:
لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش , والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة , أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم , وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً , وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .
ولما كانت غزوة الخندق ; وتجمع المشركون على المدينة ; ونقضت بنو قريظة العهد ; وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ; عرض على عيينة بن حصن الفزاري , والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة , وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا , استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا:يا رسول الله , هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال:" بل أمر أصنعه لكم , فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ:يا رسول الله , والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان , ولا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة , إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام , وهدانا له , وأعزنا بك , نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال:" أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث:" انصرفا , فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون , وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين , وأن يأمن الناس بعضهم من بعض , وأن يرجع عنهم عامه ذلك , حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً , وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب , وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه , ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط , التي تبدو في ظاهرها مجحفة , لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ; تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة , وهو منهج متحرك مرن , ولكنه متين واضح , والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله , والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي , والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع , وهو دين مسيطر حاكم , يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه . .
وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه , وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ; وجهه إلى التوكل عليه , وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
ثم أمنه من خداعهم , إن هم أرادوا خيانته , وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم . وقال له:إن الله حسبه وكافيه وحافظه ; وهو الذي أيده بنصره - في بدر - وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام ; وكانت عصية على التآلف , لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:
(وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله , هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم). .
حسبك الله , فهو كافيك , وهو الذي أيدك بنصره أول مرة , وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ; وجعل منهم قوة موحدة , بعد أن كانت قلوبهم شتى , وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً . سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً . . أو كان المقصود هم المهاجرون , وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية . . أو كان الجميع مقصودين , فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً !
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله , والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ; فاستحالت هذه القلوب النافرة , وهذه الطباع الشموس , إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض , المحب بعضها لبعض , المتآلف بعضها مع بعض , بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ; والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب , تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب , التي تلين جاسيها , وترقق حواشيها , وتندي جفافها , وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد , ونطق الجارحة , وخفقة القلب , ترانيم من التعارف والتعاطف , والولاء والتناصر , والسماحة والهوادة , لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ; ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ; وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ,
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
العقيدة والتنظيم الحركي معاً , فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض . أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الاسلام , فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الاسلام . . أي لا تناصر ولا تكافل . . ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم ; وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد .
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي , لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ; فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي .
هذه - على وجه الإجمال - هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس ; وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي . . وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية:
الدرس الأول:55 - 63 مقدمة الدرس
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة , وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء , إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم , وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم . وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم . .
هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة , عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة ; وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة .
وهي تمثل إحدي قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى , ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد ; ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية .
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ; ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها ; مع إعطاء هذه العهود الإحترام الكامل والجدية الحقيقية . فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ; ويستعد للمبادأة والشر ; فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود , وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ ; وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين . . على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سرا أو جهراً ! . . فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي ; ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية , أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع ; فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها .
وهذه - كما هو ظاهر - مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة ; لا ترفض الموادعة - متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب - وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء , وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً .
أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك , فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة , والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله:"ولما قدم النبي [ ص ] المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه - وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم - وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة . وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه , بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه . . ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن . ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم . ومنهم من دخل معه في الظاهر , وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين , وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى " . .
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة ; وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة . كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة .
وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة , تواجه أحوالاً واقعة ; ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية ; وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية , حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة . .
وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد . ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته:
"فصل في ترتيب سياق هديه [ [ ص ] ] مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل . . أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى:أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه , ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليهيا أيها المدثر . قم فأنذر)فنبأه بقولهاقرأ)وأرسله ب(يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ; ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله , ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام:أهل صلح وهدنة , وأهل حرب , وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم , وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد , فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد , وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها:فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيف والسنان , والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له , فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليهفأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق , فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر , فإذا انسلخت قاتلهم . فقتل الناقض لعهده ; وأجل من لا عهد له , أو له عهد مطلق , أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته , فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . . إلخ " . .
ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد , ومراجعة أحداث السيرة , وتاريخ نزول السور والآيات التي تتضمن هذه الأحكام , يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا , تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة , وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة . ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات . . ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية , إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية . فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة , والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله [ ص ] كما سيأتي . .
وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية:
الدرس:55-63
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). .
ولفظ(الدواب)وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض , فيشمل الأناسي فيما يشمل , إلا أنه - كما أسلفنا - يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين . . ظل البهيمة . . ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض ! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان ! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة !
وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص . . قيل:إنهم بنو قريظة , وقيل:إنهم بنو النضير . وقيل:إنهم بنو قينقاع . وقيل:إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين . . والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً . فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله [ ص ] طائفة طائفة , كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً . . والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها , إلى حين نزول هذه الآيات . ولكن الحكم الصادر فيها , المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة , ويقرر صفة ثابتة . .
فهؤلاء الذين كفروا ولّجوا في الكفر (فهم لا يؤمنون). . ففسدت بذلك فطرتهم , وباتوا بذلك شر الدواب عند الله . هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه , فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى - خصيصة التقيد بالعهد - وانطلقوا من كل قيد , كما تنطلق البهيمة , لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها , وهؤلاء لا ضابط لهم . فهم بذلك شر الدواب عند الله !
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ; وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم , والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم , إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم , والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين , مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع:
من الاية 58 الى الاية 58
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)
(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). .
وإنه لتعبير عجيب , يرسم صورة للأخذ المفزع , والهول المرعب , الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد , وانطلقوا من ضوابط الإنسان , ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً , وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ; وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة , ولا بد له من قوة , ولا بد له من سطوة , ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ , في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت , هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ; وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة ; وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين). .
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده ; فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ; ولم يخن ولم يغدر ; ولم يغش ولم يخدع ; وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم . فليس بينه وبينهم أمان . . وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة , وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة . . إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ; ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم . . فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة , لأن كل خصم قد أخذ حذره ; فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل ! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة !
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ; ويريد للبشرية أن تعف ; فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب ; وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ; ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة .
إن الإسلام يكره الخيانة , ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ; ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة . . إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ; ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة , فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة . . وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية , فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية , لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات . . إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل , فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية . . من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة:
(إن الله لا يحب الخائنين).
من الاية 59 الى الاية 59
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ; حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم "التقدم الفني في صناعة القانون" أن يدركوا حقيقة "الواقع" بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !
وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر , ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !
(ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون). .
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق , لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم , ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم , وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض , ويعلون كلمته في الناس , وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ; فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ; وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ; وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل , ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ; والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ; ويخص (رباط الخيل)لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في "الأرض" لتحرير "الإنسان" . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة:أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ; فلا يصدوا عنها , ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني:أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على "دار الإسلام" التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث:أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" كله في "الأرض" كلها . . والأمر الرابع:أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية , فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ; ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ; ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
من الاية 60 الى الاية 60
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب , وتنظيماً للشعائر , ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ; يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية , وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى , وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ; ولا لتقرير سلطان زعيم , أو دولة , أو طبقة , أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ; ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ; ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير , ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ; وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
(ترهبون به عدو الله وعدوكم , وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ; ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم , أو لم يجهروا لهم بالعداوة , واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء , وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ; ولتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا , وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل , فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
(وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله , من كل غاية أرضية , ومن كل دافع شخصي ; ومن كل شعور قومي أو طبقي , ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه , ابتغاء رضوان اللّه .
من الاية 61 الى الاية 63
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن , أو قوم على قوم , أو جنس على جنس , أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ; ويجنحون إلى السلم والمسالمة ; وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها , وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح , تعبير لطيف , يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم , ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم , أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم , يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ; وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية , ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق , وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد , أو كان له عهد غير موقت , مدة أربعة أشهر , يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات , ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن , وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ; فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة , وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ; ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي , أن يقال:إن هذا الحكم ليس نهائياً ; وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام:إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية , وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:
قال أحمد:حدثنا وكيع , حدثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن يزيد , عن أبيه , عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله , وبمن معه من المسلمين خيراً , وقال:" اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال , أو خلال , فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم , وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين , مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ; وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ; وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس , وهم مثلهم في الشرك ; ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك , وروى غيره عن أبي حنيفة ]:
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه , أن قول الله تعالى:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب , وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد , أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ; ليكون الدين كله لله .
ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ; فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ; ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث:الإسلام , أو الجزية , أو القتال , وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ; وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ; كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ; ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ; ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية , فيجعلون منها نصوصاً نهائية ; وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة , فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ; حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين , وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع , أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه , ولا بالخضوع لمنهج الله , اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه , فيتحرك حينئذ للدفاع !
ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر , أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ; ولاستطاعوا أن يقولوا:إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو , ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ; إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:
لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش , والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة , أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم , وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً , وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .
ولما كانت غزوة الخندق ; وتجمع المشركون على المدينة ; ونقضت بنو قريظة العهد ; وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ; عرض على عيينة بن حصن الفزاري , والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة , وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا , استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا:يا رسول الله , هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال:" بل أمر أصنعه لكم , فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ:يا رسول الله , والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان , ولا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة , إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام , وهدانا له , وأعزنا بك , نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال:" أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث:" انصرفا , فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون , وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين , وأن يأمن الناس بعضهم من بعض , وأن يرجع عنهم عامه ذلك , حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً , وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب , وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه , ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط , التي تبدو في ظاهرها مجحفة , لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ; تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة , وهو منهج متحرك مرن , ولكنه متين واضح , والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله , والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي , والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع , وهو دين مسيطر حاكم , يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه . .
وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه , وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ; وجهه إلى التوكل عليه , وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
ثم أمنه من خداعهم , إن هم أرادوا خيانته , وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم . وقال له:إن الله حسبه وكافيه وحافظه ; وهو الذي أيده بنصره - في بدر - وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام ; وكانت عصية على التآلف , لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:
(وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله , هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم). .
حسبك الله , فهو كافيك , وهو الذي أيدك بنصره أول مرة , وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ; وجعل منهم قوة موحدة , بعد أن كانت قلوبهم شتى , وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً . سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً . . أو كان المقصود هم المهاجرون , وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية . . أو كان الجميع مقصودين , فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً !
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله , والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ; فاستحالت هذه القلوب النافرة , وهذه الطباع الشموس , إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض , المحب بعضها لبعض , المتآلف بعضها مع بعض , بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ; والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب , تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب , التي تلين جاسيها , وترقق حواشيها , وتندي جفافها , وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد , ونطق الجارحة , وخفقة القلب , ترانيم من التعارف والتعاطف , والولاء والتناصر , والسماحة والهوادة , لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ; ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ; وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ,
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانفال ايه 23==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال من ايه36 الى43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال من ايه36 الى43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى