تفسير سوره الانفال ايه 23==35 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سوره الانفال ايه 23==35 الشيخ سيد قطب
من الاية 23 الى الاية 23
وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)
فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة ; فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم , وما أفسدوا هم من فطرتهم . ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه , ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا . . (ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون). . .
لأن العقل قد يدرك , ولكن القلب المطموس لا يستجيب . فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة . والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب !
الدرس السابع:24 - 26 تذكير المسلمين بتمكين الله لهم
ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول , مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض ; والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم , واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . وأنه إليه تحشرون . واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس , فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة , وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة , لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
من الاية 24 الى الاية 25
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
استجيبوا له طائعين مختارين ; وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . (يحول بين المرء وقلبه)فيفصل بينه وبين قلبه ; ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه , ويصرفه كيف شاء , ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ; يتمثلها القلب في النص القرآني , ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب , ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة , والحذر الدائم , والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ; والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته , أو غفلة من غفلاته , أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس , وهم غير مرسلين ولا معصومين ?!
إنها صورة تهز القلب حقا ; ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات , ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه , وهو في قبضة القاهر الجبار ; وهو لا يملك منه شيئا , وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
ليقول لهم:إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة , ولكنه - سبحانه - يكرمكم ; فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ; وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ; وأمانة الخلافة الواعية , وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
(وأنه إليه تحشرون). .
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور , لا استجابة العبد المقهور .
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد , وعن تلبية دعوة الحياة , والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب). .
من الاية 26 الى الاية 27
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
والفتنة:الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ; ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ; بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ; فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها , وبما كان من الأذى الذي ينالها , والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة , التي أعزها بها الله , وأعطاها وحماها:
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض , تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ; واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف , قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين , وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
(تخافون أن يتخطفكم الناس). .
وهو مشهد التربص الوجِل , والترقب الفزع , حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة , والحركات المفزَّعة , والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ; والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم , في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
(فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات). .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
(لعلكم تشكرون). .
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة , ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه , وهذا المشهد وذلك معروضان عليه , ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ; قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين , ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
(إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس). .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ; وأن تترقب في يقين وثقة , موعود الله للعصبة المسلمة , موعوده الذي حققه للعصبة الأولى , ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه , وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى:
(فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
الدرس الثامن:27 - 29 النهي عن خيانة الأمانة والتوجيه لتقوى الله
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى . . إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا . والحياة التي يدعو إليها رسول الله [ ص ] حياة كريمة , لا بد لها من تكاليف , ولا بد لها من تضحيات . . لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان ; ومن التخلف عن دعوة الجهاد ; وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة . واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول , وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض , وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد , والوصاية على البشرية بالحق والعدل . . ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد , التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
"لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها
الأنفال
من الاية 28 الى الاية 28
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد . .
هذا هو التنبيه الأول:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى , ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
(وأن الله عنده أجر عظيم). .
من الاية 29 الى الاية 30
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال , إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا , ويكفر عنكم سيئاتكم , ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم). .
هذا هو الزاد , وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة:أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل , ووضح الحق , وتكشف الطريق , واطمأن القلب , واستراح الضمير , واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش , ويحجب الرؤية , ويُعمي المسالك , ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله , ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة , ويرفع اللبس , ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم). .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب(الكريم)ذو الفضل العظيم !
الوحدة الثانية:30 - 40 الموضوع:من عداوات وأعمال الكافرين
مقدمة الوحدة يمضي السياق في السورة , يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر ; ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر , مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر ; ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره . . الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم ; كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق .
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة - وقبل هذه الغزوة - من القلة والضعف وقلة المنعة , حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس ; وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله . .
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله [ ص ] قبيل الهجرة ويتآمرون . وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون ! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب - إن كان هذا هو الحق من عند الله - بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به !
ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله , ويجمعوا لحرب رسول الله ; ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا , والحشر إلى جهنم في الآخرة , والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير .
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين:أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات . أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم ; وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد . . .
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين ; وحتى تتقرر الألوهية فيالأرض لله وحده - فيكون الدين كله لله - فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي [ ص ] هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله , والله بما يعملون بصير . وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده , وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض , واصل المسلمون جهادهم , مستيقنين أن الله مولاهم , ونعم المولى ونعم النصير . .
الدرس الأول:30 - 31 التآمر على الرسول ليلة الهجرة والشبهات على القرآن
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين). .
إنه التذكير بما كان في مكة , قبل تغير الحال , وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ; كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق ; في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ; أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ; أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ; على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ; ليتفرق دمه في القبائل ; ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها , فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالرزاق , أخبرنا معمر , أخبرني عثمان الجريري , عن مقسم مولى ابن عباس , أخبره ابن عباس في قوله: (وإذ يمكر بك). . . قال:" تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم:بل اقتلوه . وقال بعضهم:بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ; فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ; فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم , فقالوا:أين صاحبك هذا ? قال:لا أدري ! فاقتصوا أثره ; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم , فصعدوا في الجبل , فمروا بالغار , فرأوا على بابه نسج العنكبوت , فقالوا:لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
(ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين).
والصورة التي يرسمها قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله). . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش , وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم , محيط , يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !
إنها صورة ساخرة , وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل , من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار , القاهر فوق عباده , الغالب على أمره , وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ; فيهز بها القلوب , ويحرك بها أعماق الشعور .
من الاية 31 الى الاية 31
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ; ودعاويهم ومفترياتهم . حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا ! مع وصف هذا القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ذكر ابن كثير في التفسير - نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم - أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال:" فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس , وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ; ولما قدم وجد رسول الله [ ص ] قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن . فكان - عليه [ ص ] - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ; ثم يقول:بالله أينا أحسن قصصا ? أنا أو محمد ? ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى , أمر رسول الله [ ص ] أن تضرب رقبته صبرا بين يديه , ففعل ذلك والحمد لله . وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه . . كما قال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد ابن جبير قال:قتل النبي [ ص ] يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط , وطعيمة بن عدي , والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر , فلما أمر بقتله قال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول " . فأمر رسول الله [ ص ] بقتله , فقال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" اللهم أغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد:هذا الذي أردت ! قال:وفيه أنزلت هذه الآيةوإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا , لو نشاء لقلنا مثل هذا , إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن:إنه أساطير الأولينوقالوا:أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). .
وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن , وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ; ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك . وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات . وهم يعلمون أنها مناورات ! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب , الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات , للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد !
لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة , مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة , والخروج من حاكمية العباد جملة ; والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته . ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [ ص ] وحده , دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله ! . . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها ; وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [ ص ] ويخضعون لقيادته وسلطانه ; وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ; ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة , وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة . .
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . وكان هذا واقعاً يشهده الملأمن قريش ; ويحسون خطره على كيانهم , وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم .
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ; ويؤدون بعض الشعائر التعبدية , بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل ; وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه .
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة . . ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ; ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ; كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ; وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين . . فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل . ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام . .
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام , ومن هذا القرآن . . إنه لم يزعجهم من قبل أن "الحنفاء" اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم ; واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده , واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً . . فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء ; لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية ! إن هذا ليس هو الإسلام - كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين , ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين ! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين . . هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه ; والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع . . وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش , فيقاومونه بشتى الأساليب . . ومنها هذا الأسلوب . . أسلوب الادعاء على القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين ! وأنهم - لو شاءوا - قالوا مثله ! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة . . وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون !
والأساطير واحدتها أسطورة . وهي الحكاية المتلبسة - غالباً - بالتصورات الخرافية عن الآلهة ; وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة , وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً . .
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين ; وقصص الخوارق والمعجزات ; وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين . . . إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات ; فيقولون للجماهير المستغفلة:إنها أساطير الأولين ; اكتتبها محمد ممن يجمعونها ; وجاء يتلوها عليكم , زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله . . وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [ ص ] بعد انتهائه ; أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ; ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ; ليقول للناس:إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد . وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي ! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير !
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس . وبخاصة في أول الأمر , قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص , وبين القرآن الكريم . لندرك لم نادى منادي رسول الله [ ص ] قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث . ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفرالقليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ; ولم يقبل فيه فدية كالآخرين .
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً ; وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين ; وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله ; وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً , قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات , فلم يقف له منها شيء ; وراح الملأ من قريش - في ذعر - يقولون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون !)ووجد كبراؤهم , من أمثال أبي سفيان , وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ; ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [ ص ] في خفية عن الآخرين ; حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود , ألا يعودوا إليها , مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين !
على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه , لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون . . لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر . . لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن . فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون , وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم . . . ويفهمون أنهم مسلمون , ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين !
لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه . . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها . . حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم , إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم , وقيمهم وموازينهم ! ثم قالوا لهم:إن هذا الدين محترم , وإن هذا القرآن مصون . وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ; ويترنم به المترنمون , ويرتله المرتلون . . فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل ?! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم , وأما أنظمتكم وأوضاعكم , وأما شرائعكم وقوانينكم , وأما قيمكم وموازينكم , فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها , فإليه ترجعون !
إنها مناورة النضر بن الحارث , ولكن في صورة متطورة معقدة , تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة . . ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة , التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين , على مدار القرون !
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن , أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب ! . . إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة , والسلطان القاهر على الفطرة , ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين ; وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين !
إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية ; بحيث يذيعه - على السواء - اليهود , ويذيعه الصليبيون , ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين !
وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس "المسلمين" ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل ; أو مجرد تمائم وتعاويذ ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس . . المسلمين ! . . من أن يكون مصدر التوجيه للحياة ; وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون . . ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد ; وسيظل يعمل ; وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب , وتتخذه
من الاية 32 الى الاية 35
وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
وحده مصدر التوجيه ; وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين . من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد . . وما كان مرة لا بد أن سيكون . .
الدرس الثاني:34 - 35 من أعمال الكفرة المنكرة
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ; فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ; وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء , أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
(وإذ قالوا:اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك , فأمطر علينا حجارة من السماء , أو ائتنا بعذاب أليم). .
وهو دعاء غريب ; يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق , حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق , وأن يهديها إليه , دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة , تأخذها العزة بالإثم , حتى لتؤثر الهلاك والعذاب , على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
ويعقب السياق على هذا العناد , وعلى هذا الادعاء , بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم , ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ; وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام , وما كانوا أولياءه , إن أولياؤه إلا المتقون , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ; ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه , وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم , يدعوهم , فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ; فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). .
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً). .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلقألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?).
وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)
فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة ; فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم , وما أفسدوا هم من فطرتهم . ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه , ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا . . (ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون). . .
لأن العقل قد يدرك , ولكن القلب المطموس لا يستجيب . فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة . والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب !
الدرس السابع:24 - 26 تذكير المسلمين بتمكين الله لهم
ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول , مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض ; والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم , واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . وأنه إليه تحشرون . واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس , فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة , وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة , لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
من الاية 24 الى الاية 25
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
استجيبوا له طائعين مختارين ; وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . (يحول بين المرء وقلبه)فيفصل بينه وبين قلبه ; ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه , ويصرفه كيف شاء , ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ; يتمثلها القلب في النص القرآني , ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب , ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة , والحذر الدائم , والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ; والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته , أو غفلة من غفلاته , أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس , وهم غير مرسلين ولا معصومين ?!
إنها صورة تهز القلب حقا ; ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات , ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه , وهو في قبضة القاهر الجبار ; وهو لا يملك منه شيئا , وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
ليقول لهم:إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة , ولكنه - سبحانه - يكرمكم ; فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ; وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ; وأمانة الخلافة الواعية , وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
(وأنه إليه تحشرون). .
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور , لا استجابة العبد المقهور .
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد , وعن تلبية دعوة الحياة , والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب). .
من الاية 26 الى الاية 27
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
والفتنة:الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ; ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ; بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ; فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها , وبما كان من الأذى الذي ينالها , والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة , التي أعزها بها الله , وأعطاها وحماها:
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض , تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ; واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف , قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين , وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
(تخافون أن يتخطفكم الناس). .
وهو مشهد التربص الوجِل , والترقب الفزع , حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة , والحركات المفزَّعة , والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ; والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم , في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
(فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات). .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
(لعلكم تشكرون). .
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة , ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه , وهذا المشهد وذلك معروضان عليه , ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ; قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين , ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
(إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس). .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ; وأن تترقب في يقين وثقة , موعود الله للعصبة المسلمة , موعوده الذي حققه للعصبة الأولى , ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه , وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى:
(فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
الدرس الثامن:27 - 29 النهي عن خيانة الأمانة والتوجيه لتقوى الله
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى . . إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا . والحياة التي يدعو إليها رسول الله [ ص ] حياة كريمة , لا بد لها من تكاليف , ولا بد لها من تضحيات . . لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان ; ومن التخلف عن دعوة الجهاد ; وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة . واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول , وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض , وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد , والوصاية على البشرية بالحق والعدل . . ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد , التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
"لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها
الأنفال
من الاية 28 الى الاية 28
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد . .
هذا هو التنبيه الأول:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى , ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
(وأن الله عنده أجر عظيم). .
من الاية 29 الى الاية 30
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال , إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا , ويكفر عنكم سيئاتكم , ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم). .
هذا هو الزاد , وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة:أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل , ووضح الحق , وتكشف الطريق , واطمأن القلب , واستراح الضمير , واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش , ويحجب الرؤية , ويُعمي المسالك , ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله , ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة , ويرفع اللبس , ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم). .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب(الكريم)ذو الفضل العظيم !
الوحدة الثانية:30 - 40 الموضوع:من عداوات وأعمال الكافرين
مقدمة الوحدة يمضي السياق في السورة , يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر ; ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر , مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر ; ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره . . الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم ; كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق .
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة - وقبل هذه الغزوة - من القلة والضعف وقلة المنعة , حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس ; وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله . .
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله [ ص ] قبيل الهجرة ويتآمرون . وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون ! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب - إن كان هذا هو الحق من عند الله - بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به !
ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله , ويجمعوا لحرب رسول الله ; ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا , والحشر إلى جهنم في الآخرة , والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير .
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين:أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات . أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم ; وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد . . .
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين ; وحتى تتقرر الألوهية فيالأرض لله وحده - فيكون الدين كله لله - فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي [ ص ] هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله , والله بما يعملون بصير . وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده , وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض , واصل المسلمون جهادهم , مستيقنين أن الله مولاهم , ونعم المولى ونعم النصير . .
الدرس الأول:30 - 31 التآمر على الرسول ليلة الهجرة والشبهات على القرآن
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين). .
إنه التذكير بما كان في مكة , قبل تغير الحال , وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ; كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق ; في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ; أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ; أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ; على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ; ليتفرق دمه في القبائل ; ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها , فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالرزاق , أخبرنا معمر , أخبرني عثمان الجريري , عن مقسم مولى ابن عباس , أخبره ابن عباس في قوله: (وإذ يمكر بك). . . قال:" تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم:بل اقتلوه . وقال بعضهم:بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ; فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ; فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم , فقالوا:أين صاحبك هذا ? قال:لا أدري ! فاقتصوا أثره ; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم , فصعدوا في الجبل , فمروا بالغار , فرأوا على بابه نسج العنكبوت , فقالوا:لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
(ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين).
والصورة التي يرسمها قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله). . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش , وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم , محيط , يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !
إنها صورة ساخرة , وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل , من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار , القاهر فوق عباده , الغالب على أمره , وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ; فيهز بها القلوب , ويحرك بها أعماق الشعور .
من الاية 31 الى الاية 31
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ; ودعاويهم ومفترياتهم . حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا ! مع وصف هذا القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ذكر ابن كثير في التفسير - نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم - أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال:" فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس , وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ; ولما قدم وجد رسول الله [ ص ] قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن . فكان - عليه [ ص ] - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ; ثم يقول:بالله أينا أحسن قصصا ? أنا أو محمد ? ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى , أمر رسول الله [ ص ] أن تضرب رقبته صبرا بين يديه , ففعل ذلك والحمد لله . وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه . . كما قال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد ابن جبير قال:قتل النبي [ ص ] يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط , وطعيمة بن عدي , والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر , فلما أمر بقتله قال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول " . فأمر رسول الله [ ص ] بقتله , فقال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" اللهم أغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد:هذا الذي أردت ! قال:وفيه أنزلت هذه الآيةوإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا , لو نشاء لقلنا مثل هذا , إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن:إنه أساطير الأولينوقالوا:أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). .
وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن , وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ; ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك . وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات . وهم يعلمون أنها مناورات ! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب , الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات , للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد !
لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة , مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة , والخروج من حاكمية العباد جملة ; والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته . ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [ ص ] وحده , دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله ! . . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها ; وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [ ص ] ويخضعون لقيادته وسلطانه ; وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ; ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة , وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة . .
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . وكان هذا واقعاً يشهده الملأمن قريش ; ويحسون خطره على كيانهم , وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم .
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ; ويؤدون بعض الشعائر التعبدية , بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل ; وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه .
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة . . ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ; ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ; كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ; وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين . . فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل . ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام . .
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام , ومن هذا القرآن . . إنه لم يزعجهم من قبل أن "الحنفاء" اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم ; واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده , واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً . . فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء ; لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية ! إن هذا ليس هو الإسلام - كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين , ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين ! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين . . هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه ; والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع . . وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش , فيقاومونه بشتى الأساليب . . ومنها هذا الأسلوب . . أسلوب الادعاء على القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين ! وأنهم - لو شاءوا - قالوا مثله ! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة . . وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون !
والأساطير واحدتها أسطورة . وهي الحكاية المتلبسة - غالباً - بالتصورات الخرافية عن الآلهة ; وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة , وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً . .
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين ; وقصص الخوارق والمعجزات ; وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين . . . إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات ; فيقولون للجماهير المستغفلة:إنها أساطير الأولين ; اكتتبها محمد ممن يجمعونها ; وجاء يتلوها عليكم , زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله . . وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [ ص ] بعد انتهائه ; أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ; ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ; ليقول للناس:إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد . وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي ! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير !
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس . وبخاصة في أول الأمر , قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص , وبين القرآن الكريم . لندرك لم نادى منادي رسول الله [ ص ] قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث . ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفرالقليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ; ولم يقبل فيه فدية كالآخرين .
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً ; وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين ; وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله ; وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً , قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات , فلم يقف له منها شيء ; وراح الملأ من قريش - في ذعر - يقولون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون !)ووجد كبراؤهم , من أمثال أبي سفيان , وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ; ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [ ص ] في خفية عن الآخرين ; حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود , ألا يعودوا إليها , مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين !
على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه , لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون . . لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر . . لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن . فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون , وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم . . . ويفهمون أنهم مسلمون , ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين !
لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه . . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها . . حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم , إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم , وقيمهم وموازينهم ! ثم قالوا لهم:إن هذا الدين محترم , وإن هذا القرآن مصون . وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ; ويترنم به المترنمون , ويرتله المرتلون . . فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل ?! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم , وأما أنظمتكم وأوضاعكم , وأما شرائعكم وقوانينكم , وأما قيمكم وموازينكم , فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها , فإليه ترجعون !
إنها مناورة النضر بن الحارث , ولكن في صورة متطورة معقدة , تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة . . ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة , التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين , على مدار القرون !
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن , أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب ! . . إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة , والسلطان القاهر على الفطرة , ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين ; وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين !
إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية ; بحيث يذيعه - على السواء - اليهود , ويذيعه الصليبيون , ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين !
وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس "المسلمين" ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل ; أو مجرد تمائم وتعاويذ ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس . . المسلمين ! . . من أن يكون مصدر التوجيه للحياة ; وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون . . ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد ; وسيظل يعمل ; وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب , وتتخذه
من الاية 32 الى الاية 35
وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
وحده مصدر التوجيه ; وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين . من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد . . وما كان مرة لا بد أن سيكون . .
الدرس الثاني:34 - 35 من أعمال الكفرة المنكرة
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ; فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ; وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء , أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
(وإذ قالوا:اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك , فأمطر علينا حجارة من السماء , أو ائتنا بعذاب أليم). .
وهو دعاء غريب ; يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق , حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق , وأن يهديها إليه , دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة , تأخذها العزة بالإثم , حتى لتؤثر الهلاك والعذاب , على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
ويعقب السياق على هذا العناد , وعلى هذا الادعاء , بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم , ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ; وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام , وما كانوا أولياءه , إن أولياؤه إلا المتقون , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ; ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه , وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم , يدعوهم , فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ; فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). .
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً). .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلقألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?).
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال ايه 55 الى 63 الشيخ سيد قطب
» فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
» تفسير الانفال من ايه36 الى43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال ايه 55 الى 63 الشيخ سيد قطب
» فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
» تفسير الانفال من ايه36 الى43 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى