تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
من الاية 19 الى الاية 22
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22)
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه). . . إلى آخر الآية . . .
وروى الإمام أحمد قال:حدثنا أبو معاوية , حدثنا أبو إسحق الشيباني , عن محمد بن عبيدالله الثقفي . عن سعد بن أبي وقاص , قال:لما كان يوم بدر , وقتل أخي عمير , قتلت سعيد بن العاص ; وأخذت سيفه . وكان يسمى ذا الكثيفة . فأتيت به النبي [ ص ] فقال:" اذهب فاطرحه في القبض " قال:فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال:فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال , فقال لي رسول الله [ ص ] " اذهب فخذ سلبك " .
وقال الإمام أحمد أيضاً:حدثنا أسود بن عامر , أخبرنا أبو بكر , عن عاصم بن أبي النجود , عن مصعب ابن سعد , عن سعد بن مالك , قال:قلت يا رسول الله , قد شفاني الله اليوم من المشركين , فهب لي هذا السيف . فقال:" إن هذا السيف لا لك ولا لي , ضعه " . قال:فوضعته ثم رجعت , فقلت:عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي . قال:فإذا رجل يدعوني من ورائي . قال:قلت:قد أنزل الله فيّ شيئاً ? قال:" كنت سألتني السيف , وليس هو لي , وإنه قد وهب لي , فهو لك " . قال:وأنزل الله هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال , قل الأنفال لله والرسول). . [ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به , وقال الترمذي:حسن صحيح . ]
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال . . ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم ; وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء , وهاجروا إلى الله بعقيدتهم , لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا ; وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين , وشاركوهم ديارهم وأموالهم , لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). . ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها . لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة ; وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء ; وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله [ ص ] ومن الله سبحانه وتعالى , في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين ! . . ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به , وردهم إليه . . ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل , والصلاح بين قلوبهم في المشاعر ; حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -:" فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل , وساءت فيه أخلاقنا , فنزعه الله من أيدينا , فجعله إلى رسول الله [ ص ] . . " .
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً . نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [ ص ] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها , فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه ; إنما أصبح فضلاً من الله عليهم ; يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه . . . وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل , الذي بدأ بهذه الآيات , واستطرد فيما تلاها كذلك .
(يسألونك عن الأنفال . قل:الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله , إن كنتم مؤمنين). .
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال , هو الهتاف بتقوى الله . . وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب . . إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا , والنزاع عليها - وإن كانهذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى . . إن قلباًلا يتعلق باللّه , يخشى غضبه ويتلمس رضاه , لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض , ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق !
إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة . . وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها:
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم). .
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله:
(وأطيعوا اللّه ورسوله).
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال . فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق , وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول , فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول . فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه ; طيبة قلوبهم , راضية نفوسهم ; وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم , ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم . . ذلك:
(إن كنتم مؤمنين). .
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية . يتجلى فيها , ليثبت وجوده , ويترجم عن حقيقته . وكما قال رسول اللّه - [ ص ] -:" ليس الإيمان بالتمني , ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - [ ص ] - ولتعريف الإيمان وتحديده ; وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان , أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع .
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان "الحق" كما يريده رب هذا الدين ; ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى:
(إن كنتم مؤمنين). . فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم , وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً , وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم). .
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي . وفي العبارة هنا قصر بلفظإنما). وليس هنالك مبرر لتأويله - وفيه هذا الجزم الدقيق - ليقال:إن المقصود هو "الإيمان الكامل" ! فلو شاء اللّه - سبحانه - أن يقول هذا لقاله . إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة . إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون . فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين . والتوكيد في آخر الآيات: (أولئك هم المؤمنون حقا)يقرر هذه الحقيقة . فغير المؤمنين(حقا)لا يكونون مؤمنين أصلاً . . والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضا . واللّه يقول: (فماذا بعد الحق إلا الضلال). فما لم يكن حقاً فهو الضلال . وليس المقابل لوصف: (المؤمنون حقاً)هو المؤمنون إيماناً غير كامل ! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير !
لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان , ولم يكن مؤمناً أصلاً . . جاء في تفسير ابن كثير:قال علي ابن طلحة عن ابن عباس , في قوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم)" قال:المنافقون:لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر اللّه عند أداء فرائضه , ولا يؤمنون بشيء من آيات اللّه , ولا يتوكلون , ولا يصلون إذا غابوا [ أي عن أعين الناس ] ولا يؤدون زكاة أموالهم . فأخبر اللّه تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين . ثم وصف اللّه المؤمنين فقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم)فأدوا فرائضه . (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)يقول:زادتهم تصديقاً , (وعلى ربهم يتوكلون)يقول:لا يرجون غيره" .
وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلاً ; وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه ; إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه .
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم). . .
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر باللّه في أمر أو نهي ; فيغشاه جلاله , وتنتفض فيه مخافته ; ويتمثل عظمة اللّه ومهابته , إلى جانب تقصيره هو وذنبه , فينبعث إلى العمل والطاعة . . . أو هي كما قالت أم الدرداء - رضي اللّه عنها - فيما رواه الثوري , عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم , عن شهر بن حوشب , عن أم الدرداء قالت:" الوجل في القلب كاحتراق السعفة , أما تجد له قشعريرة ? قال:بلى . قالت:إذا وجدت ذلك فادع اللّه عند ذلك . فإن الدعاء يذهب ذلك " . .
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر ! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي ; فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله , وجلا وتقوى لله .
(وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً , وما ينتهي به إلى الاطمئنان . . إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة , ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه ; فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن , ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان . . وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً , فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً . . لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمؤمنين . . (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). . ومن ذلك قول أحد الصحابة - رضوان الله عليهم -:كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . .
وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص , يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه ; وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً ; ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك ! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله [ ص ] السيف , قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول [ ص ] فيتصرف فيها بما يريد . وقد قال له:" إن هذا السيف لا لك ولا لي , ضعه " فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه , توقع أن يكون الله - سبحانه - قد أنزل فيه شيئاً ; قال:" قلت:قد أنزل الله في شيئاً " قال رسول الله [ ص ]: كنت سألتني السيف وهو ليس لي , وإنه قد وهب لي , فهو لك . . فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم , ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم . وهو شيء هائل . وهي فترة عجيبة في حياة البشر . ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق . . كما أن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً . . وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر ; فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه . . وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن ; وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً ; لأنها ابتداء مؤمنة . الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً ! وليس الإيمان عندها بالتمني , لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل !
(وعلى ربهم يتوكلون). .
عليه وحده . . كما يفيده بناء العبارة . لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه . . أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير:" أي لا يرجون سواه , ولا يقصدون إلا إياه , ولا يلوذون إلا بجنابه , ولا يطلبون الحوائج إلا منه , ولا يرغبون إلا إليه , ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب , ولهذا قال سعيد ابن جبير:التوكل على الله جماع الإيمان " . .
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ; وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد , توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه . والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله !
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب . فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ; ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها . إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله . ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن . . اتخاذ السبب عبادة بالطاعة . وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله . . وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها ; وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها .
ولقد ظلت الجاهلية "العلمية ! " الحديثة تلج فيها تسميه "حتمية القوانين الطبيعية " . ذلك لتنفي "قدر الله" وتنفي "غيب الله" . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها , أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي ! ولجأت إلى نظرية "الاحتمالات" في عالم المادة . فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً . وبقي "الغيب" سراً مختوماً . وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة ; وبقي قول الله - سبحانه - (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)هو القانون الحتمي الوحيد , الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون , بقدره النافذ الطليق !
يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
"لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق , أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً , وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته , وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول , وأن لا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] . . أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن , هو أنالحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها الحالة [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول:إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر احتمالاً من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالاً من [ د ] . . . وهكذا . بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين:أي الحالات تتبع الآخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث , فأمره موكول إلى الأقدار . مهما تكن حقيقة هذه الأقدار"
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة , لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء . وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث . وهو وحده الحقيقة المستيقنة . والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية ! . . وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ; ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية , وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله ; والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية ! . . إنها نقلة التحرر العقلي , والتحرر الشعوري , والتحرر السياسي , والتحرر الاجتماعي , والتحرر الأخلاقي . . . إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه . . . وما يمكن أن يتحرر "الإنسان" أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب "الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس . أو عبوديته لإرادة [ الطبيعة ! ] فكل "حتمية " غير إرادة الله وقدره , هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره . . ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده , واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه . . والتصور الإعتقادي في الإسلام كل متكامل . ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .
(الذين يقيمون الصلاة). .
وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل . فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان , لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان .
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها . إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها . الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل ! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً .
(ومما رزقناهم ينفقون). .
في الزكاة وغير الزكاة . . وهم ينفقون (مما رزقناهم). . فهو بعض مما رزقهم الرازق . . وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته . فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً . إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه , ويحتفظون منه ببقية . والأصل هو رزق الله وحده !
تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان . وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله ; والاستجابة الوجدانية لذكره ; والتأثر القلبي بآياته ; والتوكل عليه وحده ; وإقامة الصلاة له , والإنفاق من بعض رزقه . .
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة . . حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها . . فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة . وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة ً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً . بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها . فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة . ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي , لا منهج نظري معرفي , مهمته بناء [ نظرية ] وعرضها لذاتها !
وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير:
(أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم , ومغفرة , ورزق كريم). .
فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق . فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان . وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات . . ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء , بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات (لهم درجات عند ربهم). . وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم(مغفرة). . وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم (رزق كريم). . فتغطي الحالة كلها , كل ما لابسها من مشاعر ومواقف . وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية ; وهي أن هذه صفات المؤمنين , من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان .
(أولئك هم المؤمنون حقاً). . .
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه , وأنه ليس الإيمان دعوى ولا كلمات لسان , ولا هو بالتمني . . قال الحافظ الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي , حدثنا أبو كريب , حدثنا زيد بن الحباب , حدثنا ابن لهيعة , عن خالد بن يزيد السكسكي , عن سعيد ابن أبي هلال , عن محمد بن أبي الجهم , عن الحارث بن مالك الأنصاري , أنه مر برسول الله [ ص ] فقال له:" كيف أصبحت يا حارث ? " قال:أصبحت مؤمناً حقا . قال:" انظر ما تقول , فإن لكل شيء حقيقة , فما حقيقة إيمانك ? " فقال:عزفت نفسي عن الدنيا , فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري . وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا . وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها . وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال:" يا حارث . عرفت فالزم " . . ثلاثاً . . . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله [ ص ] له بالمعرفة من حال نفسه , ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة . فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً , وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها , وإلى أهل النار يتضاغون فيها , لا ينتهي إلى مجرد النظر . إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها . ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره , وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً . . . .
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب ; فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان , ومن ورائها واقع يشهد ظاهرة شهادة بعكس ما يقوله اللسان ! إن التحرج ليس معناه التميع ! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب ; والتحرج في تصورها ألزم . وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع , التي غلبت عليها الجاهلية , وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة !
الدرس الثاني:5 - 8 في الطريق إلى بدر والفرق بين إرادة الله وإرادة المسلمين بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها , وساءت أخلاقهم فيها - كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح - ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها , ومواقفهم فيها , ومشاعرهم تجاهها . . . فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله ; وأن كل ما كان فيها من أحداث , وكل ما نشأ عنها من نتائج - بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها - إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده . . أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً , لا يقاس إلى ما أراده الله لهم , وبهم , من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض . ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض , وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق . . ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً ; كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها ; ليروا أن ما يرونه هم , وما يكرهونه أو يحبونه , ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره , وهو يعلم عاقبة الأمور:
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . . إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عندالله , إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ; ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار . .
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول , ليعيد الرسول [ ص ] قسمتها بينهم على السواء - بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه - ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة ; فيمتنع التنازع عليها , ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله , فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء ; وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم , ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم .
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم , ومن إرادة الله لهم , وبهم , ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال ; وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب . . ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم . . من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها . . فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها ? وما الذي أراده الله لهم , وبهم ? وأين ما أرادوه مما أراده الله ? . . إنها نقلة بعيدة في واقع الأمر ; ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور !
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ; ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . .
إن رد الأنفال لله والرسول , وقسمتها بينهم على السواء , وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ; وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال , بعدما أفلتت القافلة , وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال:يا رسول الله , امض لأمر الله , فنحن معك , والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم , فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر , والذي قاله المقداد , والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال , وعارض فيه , لأنهم لم يستعدوا لقتال , إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ; فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها , وشجعانها وفرسانها , كرهوا لقاءها كراهية شديدة , هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون , يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)!
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال:قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة:" إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة , فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا:نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا:" ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا:لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو , ولكنا أردنا العير ! ثم قال:" ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك:فقال المقداد بن عمرو:إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال:فأنزل الله على رسوله [ ص ]كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون).
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ , وما كرهوا من أجله القتال , حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). . وذلك بعد ما تبين الحق , وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى , وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم . كانت ما كانت . كانت العير أو كانت النفير . كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة .
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ; ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغممن الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع ; فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ; ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق , وتواجه الخطر فعلاً , وتنتصر على الهزة الأولى ! . . لقد كان هؤلاء هم أهل بدر , الذين قال فيهم رسول الله [ ص ]:" وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة , فقال:اعملوا ما شئتم , فقد غفرت لكم " . . وهذا يكفي . .
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم). .
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك . أما ما أراده الله لهم , وبهم , فكان أمراً آخر:
(ويريد الله أن يحق الحق بكلماته , ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل , ولو كره المجرمون). .
لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ; وأن تكون موقعة بين الحق والباطل , ليحق الحق ويثبته , ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين , فيقتل منهم من يقتل , ويؤسر منهم من يؤسر , وتذل كبرياؤهم , وتخضد شوكتهم , وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله , ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله , وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض , وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .
نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ; وأن تصبح دولة ; وأن يصبح لها قوة وسلطان . . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة , وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية , لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ; ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ; ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .
وينظر الناظر اليوم , وبعد اليوم , ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ; ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ; وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال , ولا بخيال !
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ; والحق في قلة من العدد , وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله , وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي , وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها , قد انتصرت على نفسها , وانتصرت على من فيها , وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ; فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ; فإذا الحق راجح غالب .
ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ; وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان , لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله , وسنة من سننه الجارية في خلقه , ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ; والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل , ولو كره المجرمون). . .
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع , قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة , ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض , وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض , تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .
الدرس الثالث:9 - 14 الإستغاثة والمطر والملائكة في بدر
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها , حيث يتجلى كيف كانت حالهم , وكيف دبر الله لهم , وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته , ليعيشوه مرة أخرى , ولكن في ضوء التوجيه القرآني , فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً , والجزيرة العربية , والأرض كلها ; وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ; كما أنها تتجاوز يوم بدر , وتاريخ الجزيرة العربية , وتاريخ البشرية في الأرض , وتمتد وراء الحياة الدنيا , حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى , وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله , وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى: (إذ تستغيثون ربكم , فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عند الله , إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه , وأن للكافرين عذاب النار). .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته , وتدبيره وقدره ; وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان , كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف , ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة , وعليه رداؤه وإزاره , ثم قال:" اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال:فما زال يستغيث ربه ويدعوه , حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه , ثم التزمه من ورائه , ثم قال:يا نبي الله , كفاك مناشدتك ربك , فإنه سينجز لك ما وعدك , فأنزل الله عز وجلإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين). .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر:عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفايةإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين). . فهذا عددهم . .(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان). . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم , وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري:باب شهود الملائكة بدراً:حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا جرير , عن يحيى بن سعيد , عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي , عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال:جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال:ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال:" من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال:" وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
(إذ تستغيثون ربكم , فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عند الله , إن الله عزيز حكيم). .
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون , وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين . . ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله ; إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة , إنما يرد الأمر كله إليه - سبحانه - تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره . فهذه الاستجابة , وهذا المدد , وهذا الإخبار به . . . كل ذلك لم يكن إلا بشرى , ولتطمئن به القلوب . أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون . . هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا , حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً . .
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية ; وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي , وأن يمضوا في طاعة أمر الله , واثقين بنصر الله . . كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم . . وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة , وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي . . وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة . ثم يجيء النصر من عند الله وحده . حيث لا يملك النصر غيره . وهو(العزيز)القادر الغالب على أمره . وهو(الحكيم)الذي يحل كل أمر محله . .
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام). .
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة , لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره . . لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم , ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم ; والطمأنينة تفيض على قلوبهم [ وهكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع , وتكرر النعاس , وتكررت الطمأنينة ] . . ولقد كنت أمر على هذه الآيات , وأقرأ أخبار هذا النعاس , فأدركه كحادث وقع , يعلم الله سره , ويحكي لنا خبره . . ثم إذا بي أقع في شدة , وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم , والتوجس القلق , في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة . . كيف تم هذا ? كيف وقع هذا التحول المفاجىء ? لست أدري ! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي . وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور . وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .
لقد كانت هذه الغشية , وهذه الطمأنينة , مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر:
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). .
ولفظ(يغشيكم)ولفظ(النعاس)ولفظ(أمنة). . كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف ; وترسم الظل العام للمشهد , وتصور حال المؤمنين يومذاك , وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال .
وأما قصة الماء:
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام). .
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة , قبيل المعركة .
قال علي بن طلحة , عن ابن عباس قال:نزل النبي [ ص ] حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة , وأصاب المسلمين ضعف شديد , وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم:تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله , وقد غلبكم المشركون على الماء , وأنتم تصلون مجنبين ? فأمطر الله عليهم مطراً شديداً , فشرب المسلمون وتطهروا , وأذهب الله عنهم رجز الشيطان , وثبت الرمل حين أصابه المطر , ومشى الناس عليه والدواب , فساروا إلى القوم , وأمد الله نبيه [ ص ] بألف من الملائكة , فكان جبريل في خمسمائة مجنبة , وميكائيل في خمسمائة مجنبة " . .
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله [ ص ] ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر , وتغوير ما وراءها من القلب .
"والمعروف أن رسول الله [ ص ] لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده - فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال:يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته , منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه , أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ? فقال:" بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال:يا رسول الله , ليس بمنزل , ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله [ ص ] ففعل ذلك " .
ففي هذه الليلة - وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر - كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً . . والمدد على هذا النحو مدد مزدوج:مادي وروحي . فالماء في الصحراء مادة الحياة , فضلاً على أن يكون أداة النصر . والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة . ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان ! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء [ ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم , فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ] . وهنا تثور الهواجس والوساوس , ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب ! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها . . وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة . .
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام). .
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي ; وتسكن القلوب بوجود الماء , وتطمئن الأرواح بالطهارة ; وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال .
ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا ; وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ; وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة:
(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم , فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوا فوق الأعناق , واضربوا منهم كل بنان). .
إنه الأمر الهائل . . إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة ; واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة . . هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث:كيف اشتركت الملائكة ? ولاكم قتيلاً قتلت ? ولا كيف قتلت ? . . . إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة . . إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم . . أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة , واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة !
إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ; ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم . فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني . . وقد أوحى إليهم ربهم:أني معكم . وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا , ففعلوا - لأنهم يفعلون ما يؤمرون - ولكننا لا ندري كيف فعلوا . وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كلبنان . ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها , فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة , ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله . . ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا . فكان ذلك , ووعده الحق , ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان . فالله هو الذي خلق , وهو أعلم بمن خلق , وهو يحول بين المرء وقلبه ; وهو أقرب إليه من حبل الوريد . .
إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة . وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة . . ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم ال
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22)
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه). . . إلى آخر الآية . . .
وروى الإمام أحمد قال:حدثنا أبو معاوية , حدثنا أبو إسحق الشيباني , عن محمد بن عبيدالله الثقفي . عن سعد بن أبي وقاص , قال:لما كان يوم بدر , وقتل أخي عمير , قتلت سعيد بن العاص ; وأخذت سيفه . وكان يسمى ذا الكثيفة . فأتيت به النبي [ ص ] فقال:" اذهب فاطرحه في القبض " قال:فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال:فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال , فقال لي رسول الله [ ص ] " اذهب فخذ سلبك " .
وقال الإمام أحمد أيضاً:حدثنا أسود بن عامر , أخبرنا أبو بكر , عن عاصم بن أبي النجود , عن مصعب ابن سعد , عن سعد بن مالك , قال:قلت يا رسول الله , قد شفاني الله اليوم من المشركين , فهب لي هذا السيف . فقال:" إن هذا السيف لا لك ولا لي , ضعه " . قال:فوضعته ثم رجعت , فقلت:عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي . قال:فإذا رجل يدعوني من ورائي . قال:قلت:قد أنزل الله فيّ شيئاً ? قال:" كنت سألتني السيف , وليس هو لي , وإنه قد وهب لي , فهو لك " . قال:وأنزل الله هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال , قل الأنفال لله والرسول). . [ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به , وقال الترمذي:حسن صحيح . ]
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال . . ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم ; وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء , وهاجروا إلى الله بعقيدتهم , لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا ; وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين , وشاركوهم ديارهم وأموالهم , لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). . ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها . لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة ; وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء ; وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله [ ص ] ومن الله سبحانه وتعالى , في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين ! . . ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به , وردهم إليه . . ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل , والصلاح بين قلوبهم في المشاعر ; حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -:" فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل , وساءت فيه أخلاقنا , فنزعه الله من أيدينا , فجعله إلى رسول الله [ ص ] . . " .
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً . نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [ ص ] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها , فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه ; إنما أصبح فضلاً من الله عليهم ; يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه . . . وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل , الذي بدأ بهذه الآيات , واستطرد فيما تلاها كذلك .
(يسألونك عن الأنفال . قل:الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله , إن كنتم مؤمنين). .
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال , هو الهتاف بتقوى الله . . وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب . . إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا , والنزاع عليها - وإن كانهذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى . . إن قلباًلا يتعلق باللّه , يخشى غضبه ويتلمس رضاه , لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض , ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق !
إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة . . وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها:
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم). .
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله:
(وأطيعوا اللّه ورسوله).
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال . فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق , وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول , فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول . فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه ; طيبة قلوبهم , راضية نفوسهم ; وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم , ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم . . ذلك:
(إن كنتم مؤمنين). .
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية . يتجلى فيها , ليثبت وجوده , ويترجم عن حقيقته . وكما قال رسول اللّه - [ ص ] -:" ليس الإيمان بالتمني , ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - [ ص ] - ولتعريف الإيمان وتحديده ; وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان , أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع .
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان "الحق" كما يريده رب هذا الدين ; ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى:
(إن كنتم مؤمنين). . فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم , وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً , وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم). .
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي . وفي العبارة هنا قصر بلفظإنما). وليس هنالك مبرر لتأويله - وفيه هذا الجزم الدقيق - ليقال:إن المقصود هو "الإيمان الكامل" ! فلو شاء اللّه - سبحانه - أن يقول هذا لقاله . إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة . إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون . فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين . والتوكيد في آخر الآيات: (أولئك هم المؤمنون حقا)يقرر هذه الحقيقة . فغير المؤمنين(حقا)لا يكونون مؤمنين أصلاً . . والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضا . واللّه يقول: (فماذا بعد الحق إلا الضلال). فما لم يكن حقاً فهو الضلال . وليس المقابل لوصف: (المؤمنون حقاً)هو المؤمنون إيماناً غير كامل ! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير !
لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان , ولم يكن مؤمناً أصلاً . . جاء في تفسير ابن كثير:قال علي ابن طلحة عن ابن عباس , في قوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم)" قال:المنافقون:لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر اللّه عند أداء فرائضه , ولا يؤمنون بشيء من آيات اللّه , ولا يتوكلون , ولا يصلون إذا غابوا [ أي عن أعين الناس ] ولا يؤدون زكاة أموالهم . فأخبر اللّه تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين . ثم وصف اللّه المؤمنين فقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم)فأدوا فرائضه . (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)يقول:زادتهم تصديقاً , (وعلى ربهم يتوكلون)يقول:لا يرجون غيره" .
وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلاً ; وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه ; إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه .
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم). . .
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر باللّه في أمر أو نهي ; فيغشاه جلاله , وتنتفض فيه مخافته ; ويتمثل عظمة اللّه ومهابته , إلى جانب تقصيره هو وذنبه , فينبعث إلى العمل والطاعة . . . أو هي كما قالت أم الدرداء - رضي اللّه عنها - فيما رواه الثوري , عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم , عن شهر بن حوشب , عن أم الدرداء قالت:" الوجل في القلب كاحتراق السعفة , أما تجد له قشعريرة ? قال:بلى . قالت:إذا وجدت ذلك فادع اللّه عند ذلك . فإن الدعاء يذهب ذلك " . .
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر ! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي ; فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله , وجلا وتقوى لله .
(وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً , وما ينتهي به إلى الاطمئنان . . إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة , ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه ; فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن , ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان . . وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً , فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً . . لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمؤمنين . . (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). . ومن ذلك قول أحد الصحابة - رضوان الله عليهم -:كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . .
وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص , يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه ; وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً ; ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك ! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله [ ص ] السيف , قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول [ ص ] فيتصرف فيها بما يريد . وقد قال له:" إن هذا السيف لا لك ولا لي , ضعه " فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه , توقع أن يكون الله - سبحانه - قد أنزل فيه شيئاً ; قال:" قلت:قد أنزل الله في شيئاً " قال رسول الله [ ص ]: كنت سألتني السيف وهو ليس لي , وإنه قد وهب لي , فهو لك . . فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم , ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم . وهو شيء هائل . وهي فترة عجيبة في حياة البشر . ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق . . كما أن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً . . وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر ; فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه . . وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن ; وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً ; لأنها ابتداء مؤمنة . الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً ! وليس الإيمان عندها بالتمني , لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل !
(وعلى ربهم يتوكلون). .
عليه وحده . . كما يفيده بناء العبارة . لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه . . أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير:" أي لا يرجون سواه , ولا يقصدون إلا إياه , ولا يلوذون إلا بجنابه , ولا يطلبون الحوائج إلا منه , ولا يرغبون إلا إليه , ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب , ولهذا قال سعيد ابن جبير:التوكل على الله جماع الإيمان " . .
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ; وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد , توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه . والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله !
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب . فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ; ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها . إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله . ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن . . اتخاذ السبب عبادة بالطاعة . وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله . . وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها ; وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها .
ولقد ظلت الجاهلية "العلمية ! " الحديثة تلج فيها تسميه "حتمية القوانين الطبيعية " . ذلك لتنفي "قدر الله" وتنفي "غيب الله" . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها , أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي ! ولجأت إلى نظرية "الاحتمالات" في عالم المادة . فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً . وبقي "الغيب" سراً مختوماً . وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة ; وبقي قول الله - سبحانه - (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)هو القانون الحتمي الوحيد , الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون , بقدره النافذ الطليق !
يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
"لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق , أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً , وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته , وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول , وأن لا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] . . أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن , هو أنالحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها الحالة [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول:إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر احتمالاً من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالاً من [ د ] . . . وهكذا . بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين:أي الحالات تتبع الآخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث , فأمره موكول إلى الأقدار . مهما تكن حقيقة هذه الأقدار"
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة , لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء . وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث . وهو وحده الحقيقة المستيقنة . والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية ! . . وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ; ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية , وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله ; والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية ! . . إنها نقلة التحرر العقلي , والتحرر الشعوري , والتحرر السياسي , والتحرر الاجتماعي , والتحرر الأخلاقي . . . إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه . . . وما يمكن أن يتحرر "الإنسان" أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب "الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس . أو عبوديته لإرادة [ الطبيعة ! ] فكل "حتمية " غير إرادة الله وقدره , هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره . . ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده , واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه . . والتصور الإعتقادي في الإسلام كل متكامل . ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .
(الذين يقيمون الصلاة). .
وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل . فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان , لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان .
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها . إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها . الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل ! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً .
(ومما رزقناهم ينفقون). .
في الزكاة وغير الزكاة . . وهم ينفقون (مما رزقناهم). . فهو بعض مما رزقهم الرازق . . وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته . فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً . إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه , ويحتفظون منه ببقية . والأصل هو رزق الله وحده !
تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان . وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله ; والاستجابة الوجدانية لذكره ; والتأثر القلبي بآياته ; والتوكل عليه وحده ; وإقامة الصلاة له , والإنفاق من بعض رزقه . .
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة . . حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها . . فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة . وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة ً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً . بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها . فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة . ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي , لا منهج نظري معرفي , مهمته بناء [ نظرية ] وعرضها لذاتها !
وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير:
(أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم درجات عند ربهم , ومغفرة , ورزق كريم). .
فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق . فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان . وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات . . ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء , بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات (لهم درجات عند ربهم). . وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم(مغفرة). . وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم (رزق كريم). . فتغطي الحالة كلها , كل ما لابسها من مشاعر ومواقف . وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية ; وهي أن هذه صفات المؤمنين , من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان .
(أولئك هم المؤمنون حقاً). . .
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه , وأنه ليس الإيمان دعوى ولا كلمات لسان , ولا هو بالتمني . . قال الحافظ الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي , حدثنا أبو كريب , حدثنا زيد بن الحباب , حدثنا ابن لهيعة , عن خالد بن يزيد السكسكي , عن سعيد ابن أبي هلال , عن محمد بن أبي الجهم , عن الحارث بن مالك الأنصاري , أنه مر برسول الله [ ص ] فقال له:" كيف أصبحت يا حارث ? " قال:أصبحت مؤمناً حقا . قال:" انظر ما تقول , فإن لكل شيء حقيقة , فما حقيقة إيمانك ? " فقال:عزفت نفسي عن الدنيا , فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري . وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا . وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها . وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال:" يا حارث . عرفت فالزم " . . ثلاثاً . . . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله [ ص ] له بالمعرفة من حال نفسه , ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة . فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً , وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها , وإلى أهل النار يتضاغون فيها , لا ينتهي إلى مجرد النظر . إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها . ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره , وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً . . . .
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب ; فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان , ومن ورائها واقع يشهد ظاهرة شهادة بعكس ما يقوله اللسان ! إن التحرج ليس معناه التميع ! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب ; والتحرج في تصورها ألزم . وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع , التي غلبت عليها الجاهلية , وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة !
الدرس الثاني:5 - 8 في الطريق إلى بدر والفرق بين إرادة الله وإرادة المسلمين بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها , وساءت أخلاقهم فيها - كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح - ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها , ومواقفهم فيها , ومشاعرهم تجاهها . . . فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله ; وأن كل ما كان فيها من أحداث , وكل ما نشأ عنها من نتائج - بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها - إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده . . أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً , لا يقاس إلى ما أراده الله لهم , وبهم , من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض . ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض , وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق . . ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً ; كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها ; ليروا أن ما يرونه هم , وما يكرهونه أو يحبونه , ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره , وهو يعلم عاقبة الأمور:
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . . إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عندالله , إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ; ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار . .
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول , ليعيد الرسول [ ص ] قسمتها بينهم على السواء - بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه - ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة ; فيمتنع التنازع عليها , ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله , فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء ; وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم , ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم .
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم , ومن إرادة الله لهم , وبهم , ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال ; وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب . . ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم . . من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها . . فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها ? وما الذي أراده الله لهم , وبهم ? وأين ما أرادوه مما أراده الله ? . . إنها نقلة بعيدة في واقع الأمر ; ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور !
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ; ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . .
إن رد الأنفال لله والرسول , وقسمتها بينهم على السواء , وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ; وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال , بعدما أفلتت القافلة , وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال:يا رسول الله , امض لأمر الله , فنحن معك , والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم , فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر , والذي قاله المقداد , والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال , وعارض فيه , لأنهم لم يستعدوا لقتال , إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ; فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها , وشجعانها وفرسانها , كرهوا لقاءها كراهية شديدة , هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون , يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)!
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال:قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة:" إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة , فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا:نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا:" ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا:لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو , ولكنا أردنا العير ! ثم قال:" ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك:فقال المقداد بن عمرو:إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال:فأنزل الله على رسوله [ ص ]كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون).
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ , وما كرهوا من أجله القتال , حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). . وذلك بعد ما تبين الحق , وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى , وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم . كانت ما كانت . كانت العير أو كانت النفير . كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة .
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ; ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغممن الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع ; فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ; ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق , وتواجه الخطر فعلاً , وتنتصر على الهزة الأولى ! . . لقد كان هؤلاء هم أهل بدر , الذين قال فيهم رسول الله [ ص ]:" وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة , فقال:اعملوا ما شئتم , فقد غفرت لكم " . . وهذا يكفي . .
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم). .
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك . أما ما أراده الله لهم , وبهم , فكان أمراً آخر:
(ويريد الله أن يحق الحق بكلماته , ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل , ولو كره المجرمون). .
لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ; وأن تكون موقعة بين الحق والباطل , ليحق الحق ويثبته , ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين , فيقتل منهم من يقتل , ويؤسر منهم من يؤسر , وتذل كبرياؤهم , وتخضد شوكتهم , وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله , ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله , وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض , وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .
نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ; وأن تصبح دولة ; وأن يصبح لها قوة وسلطان . . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة , وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية , لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ; ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ; ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .
وينظر الناظر اليوم , وبعد اليوم , ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ; ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ; وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال , ولا بخيال !
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ; والحق في قلة من العدد , وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله , وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي , وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها , قد انتصرت على نفسها , وانتصرت على من فيها , وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ; فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ; فإذا الحق راجح غالب .
ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ; وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان , لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله , وسنة من سننه الجارية في خلقه , ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ; والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل , ولو كره المجرمون). . .
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع , قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة , ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض , وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض , تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .
الدرس الثالث:9 - 14 الإستغاثة والمطر والملائكة في بدر
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها , حيث يتجلى كيف كانت حالهم , وكيف دبر الله لهم , وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته , ليعيشوه مرة أخرى , ولكن في ضوء التوجيه القرآني , فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً , والجزيرة العربية , والأرض كلها ; وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ; كما أنها تتجاوز يوم بدر , وتاريخ الجزيرة العربية , وتاريخ البشرية في الأرض , وتمتد وراء الحياة الدنيا , حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى , وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله , وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى: (إذ تستغيثون ربكم , فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عند الله , إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه , وأن للكافرين عذاب النار). .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته , وتدبيره وقدره ; وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان , كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف , ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة , وعليه رداؤه وإزاره , ثم قال:" اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال:فما زال يستغيث ربه ويدعوه , حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه , ثم التزمه من ورائه , ثم قال:يا نبي الله , كفاك مناشدتك ربك , فإنه سينجز لك ما وعدك , فأنزل الله عز وجلإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين). .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر:عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفايةإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين). . فهذا عددهم . .(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان). . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم , وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري:باب شهود الملائكة بدراً:حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا جرير , عن يحيى بن سعيد , عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي , عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال:جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال:ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال:" من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال:" وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
(إذ تستغيثون ربكم , فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى , ولتطمئن به قلوبكم , وما النصر إلا من عند الله , إن الله عزيز حكيم). .
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون , وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين . . ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله ; إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة , إنما يرد الأمر كله إليه - سبحانه - تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره . فهذه الاستجابة , وهذا المدد , وهذا الإخبار به . . . كل ذلك لم يكن إلا بشرى , ولتطمئن به القلوب . أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون . . هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا , حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً . .
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية ; وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي , وأن يمضوا في طاعة أمر الله , واثقين بنصر الله . . كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم . . وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة , وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي . . وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة . ثم يجيء النصر من عند الله وحده . حيث لا يملك النصر غيره . وهو(العزيز)القادر الغالب على أمره . وهو(الحكيم)الذي يحل كل أمر محله . .
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه , وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام). .
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة , لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره . . لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم , ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم ; والطمأنينة تفيض على قلوبهم [ وهكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع , وتكرر النعاس , وتكررت الطمأنينة ] . . ولقد كنت أمر على هذه الآيات , وأقرأ أخبار هذا النعاس , فأدركه كحادث وقع , يعلم الله سره , ويحكي لنا خبره . . ثم إذا بي أقع في شدة , وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم , والتوجس القلق , في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة . . كيف تم هذا ? كيف وقع هذا التحول المفاجىء ? لست أدري ! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي . وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور . وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .
لقد كانت هذه الغشية , وهذه الطمأنينة , مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر:
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). .
ولفظ(يغشيكم)ولفظ(النعاس)ولفظ(أمنة). . كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف ; وترسم الظل العام للمشهد , وتصور حال المؤمنين يومذاك , وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال .
وأما قصة الماء:
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام). .
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة , قبيل المعركة .
قال علي بن طلحة , عن ابن عباس قال:نزل النبي [ ص ] حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة , وأصاب المسلمين ضعف شديد , وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم:تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله , وقد غلبكم المشركون على الماء , وأنتم تصلون مجنبين ? فأمطر الله عليهم مطراً شديداً , فشرب المسلمون وتطهروا , وأذهب الله عنهم رجز الشيطان , وثبت الرمل حين أصابه المطر , ومشى الناس عليه والدواب , فساروا إلى القوم , وأمد الله نبيه [ ص ] بألف من الملائكة , فكان جبريل في خمسمائة مجنبة , وميكائيل في خمسمائة مجنبة " . .
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله [ ص ] ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر , وتغوير ما وراءها من القلب .
"والمعروف أن رسول الله [ ص ] لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده - فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال:يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته , منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه , أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ? فقال:" بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال:يا رسول الله , ليس بمنزل , ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله [ ص ] ففعل ذلك " .
ففي هذه الليلة - وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر - كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً . . والمدد على هذا النحو مدد مزدوج:مادي وروحي . فالماء في الصحراء مادة الحياة , فضلاً على أن يكون أداة النصر . والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة . ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان ! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء [ ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم , فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ] . وهنا تثور الهواجس والوساوس , ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب ! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها . . وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة . .
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به , ويذهب عنكم رجز الشيطان , وليربط على قلوبكم , ويثبت به الأقدام). .
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي ; وتسكن القلوب بوجود الماء , وتطمئن الأرواح بالطهارة ; وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال .
ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا ; وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ; وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة:
(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم , فثبتوا الذين آمنوا , سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , فاضربوا فوق الأعناق , واضربوا منهم كل بنان). .
إنه الأمر الهائل . . إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة ; واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة . . هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث:كيف اشتركت الملائكة ? ولاكم قتيلاً قتلت ? ولا كيف قتلت ? . . . إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة . . إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم . . أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة , واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة !
إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ; ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم . فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني . . وقد أوحى إليهم ربهم:أني معكم . وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا , ففعلوا - لأنهم يفعلون ما يؤمرون - ولكننا لا ندري كيف فعلوا . وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كلبنان . ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها , فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة , ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله . . ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا . فكان ذلك , ووعده الحق , ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان . فالله هو الذي خلق , وهو أعلم بمن خلق , وهو يحول بين المرء وقلبه ; وهو أقرب إليه من حبل الوريد . .
إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة . وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة . . ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم ال
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قطب
» فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء من الاية 51 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء من الاية 51 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى