فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
صفحة 1 من اصل 1
فسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قط
ن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر , وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر , يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة . لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة . ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة . . ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام , بنفي هذا الاتهام ! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته , وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" . . وأنه مجرد "عقيدة " في الضمير ; لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . . ومن ثم يكون الجهاد للدين , جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام . فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع , في ظل النظام العام , بعد رفع جميع المؤثرات . . ومن ثم يختلف الأمر من أساسه , وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي , الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي , فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام . مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان . . فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد , فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ . مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة . وعلىهذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة , في المراحل التاريخية المتجددة . ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية , والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .
وبعد , فإن هناك بقية في بيان طبيعة "الجهاد في الإسلام" و "طبيعة هذا الدين" يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان , بعنوان "الجهاد في سبيل الله" . . وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة ; لا غنى عنها لقارئ يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية:
"لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة "الجهاد" "بالحرب المقدسة " [ ] إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم . وقد فسروها تفسيراً منكراً . وتفننوا فيها , وألبسوها ثوباً فضفاضاً من المعاني المموهة الملفقة . وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء . وقد كان من لباقتهم , وسحر بيانهم , وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة , أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة . . الجهاد . . تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة , مصلتة سيوفها , متقدة صدورها بنار التعصب والغضب , متطايراً من عيونها شرار الفتك والنهب , عالية أصواتها بهتاف:"الله أكبر" , زاحفة إلى الأمام , ما إن رأت كافراً حتى أمسكت بخناقه , وجعلته بين أمرين:إما أن يقول كلمة:"لا إله إلا الله" فينجو بنفسه , وإما أن يضرب عنقه , فتشخب أوداجه دماً !
"ولقد رسم الدهان هذه "الصورة " بلباقة فائقة , وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع ; وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر , وكتبوا تحتها:
"هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء , وجشع إلى الفتك بالأبرياء" !
"والعجب كل العجب , أن الذين عملوا على هذه الصورة ; وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار , هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية , وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة [ ] التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها , وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها , ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين , ويفتشون عن المناجم والمعادن , وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم . يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه . وبين أيديهم الدبابات المدججة , وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء , ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها , وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة , يريدون بذلك أن يهيئوا وقوداً لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهاباً واضطراباً . فلم تكن حروبهم في "سبيل الله" , وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة , وأهوائهم الذميمة . .
"هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال , الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة . أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم "المتحضر المتمدن ! " . وأي بلاد الله , يا ترى , قد سلمت من عدوانهم , وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية ? وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وأفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة ? . . لكن هؤلاء الدهاةرسموا صورتنا بلباقة منكرة , وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع , وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة , حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا . فما أعظم دهاءهم ! وما أبرعهم في التزوير والتمويه !
"أما سذاجتنا وبله رجالنا , فحدث عن البحر ولا حرج ! وأي بله أعظم من اغترارنا بالصورة المنكرة التي صوروا بها مآثرنا حتى كدنا نؤمن بصحتها ومطابقتها للحقيقة ? وما دار بخلدنا أن ننظر إلى الأيدي الأثيمة التي عملت عملها في رسم هذه الصورة المزورة , وأن نبحث عن الأقلام الخفية التي تفننت في تمويهها وزخرفتها . وقد بلغ من اغترارنا بتزويرهم , وانخداعنا بتلك الصورة المموهة أن اعترانا الخجل والندامة , وعدنا نعتذر إلى القوم , نبدل كلام الله , ونحرف الكلم عن مواضعه , ونقول لهم:"ما لنا وللقتال , أيها السادة , إنما نحن دعاة مبشرون , ندعو إلى دين الله , دين الأمن والسلام والدعة بالحكمة والموعظة الحسنة , نبلغ كلام الله تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية , ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن , بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن من يؤمن بدعوتنا عن بينة ! هذه هي دعوتنا لا تزيد ولا تنقص ! أما السيف والقتال به فمعاذ الله أن نمت إليه بصلة . اللهم إلا أن يقال:إننا ربما دافعنا عن أنفسنا حينما اعتدى علينا أحد ! ذلك أيضاً قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة . أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضاً ! ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد "رسمياً" . ! ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله ! حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم المضجع ! فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم ; وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام ! أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها , فأنتم أحق بها وأهلها ! " .
"هذه مكايدهم السياسية التي كشفنا لك القناع عن بعضها فيما تقدم . لكنا إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية , ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة "الجهاد في سبيل الله" , واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم فضلاً عن غير المسلمين , لاح لنا أن مرجع هذا الخطأ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما , ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة:
"فالأول:أنهم ظنوا الإسلام نحلة [ ] بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة " النحلة " [ ] عامة . .
"والثاني:أنهم حسبوا المسلمين أمة [ ] بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال .
"فالحقيقة أن خطأ القوم في فهم هذين الأمرين المهمين , وعدم استجلائهم لوجه الحق في هاتين المسألتين الأساسيتين هو الذي شوه وجه الحقيقة الناصعة في هذا الشأن , وعاقهم عن إدراك مغزى الجهاد الإسلامي . بل الحق - والحق أحق أن يتبع - أن هذا الخطأ الأسياسي في فهم هاتين المسألتين قد أرخى سدوله على حقيقة الدين الإسلامي بأسره , وقلب الأمر ظهراً لبطن , وجعل موقف المسلمين من العالم ومسائله المتجددة ومشاكله المتشعبة حرجاً ضيقاً , لا يرضاه الإسلام وتعاليمه الخالدة:
"فالنحلة [ ] على حسب الاصطلاح الشائع عندهم , لا يراد بها إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر . ولا جرم أن "النحلة " بهذا المعنى لا تعدو أن تكون مسألة شخصية . فأنت حر فيما تختاره من العقيدة ; ولك الخيار في أن تعبد بأي طريق شئت من رضيت به رباً لنفسك . وإن أبت نفسك إلا التحمسلهذه النحلة والانتصار لعقيدتها فلك أن تخترق الأرض , وتجوب بلاد الله الشاسعة , داعياً إلى عقيدتها , مدافعاً عن كيانها بالحجج والبراهين , مجادلاً من يخالفونك فيها بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام . أما السيف وآلات الحرب والقتال , فمالك ومالها في هذا الشأن ? أتريد أن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بعقيدتك ?! وإن كان الإسلام نحلة [ ] كنحل العالم , على حسب الاصطلاح الشائع عندهم كما يزعمون , فالظاهر أنه لا شأن فيها للسيف وأدوات الحرب , كما قالوا . ولو كان موقف الإسلام في نفس الأمر كما زعموا ووصفوا لما كان فيه مساغ للجهاد , ولم يكن من الإسلام في ورد ولا صدر ; لكن الأمر على خلاف ذلك , كما سوف تعرفه فيما يأتي من البيان . وكذلك كلمة "الأمة " [ ] فما هي إلا عبارة عن طائفة من الناس متوافقة فيما بينها [ ] اجتمعت وتألفت وامتازت من بين طوائف أخرى لاشتراكها في بعض الأمور الجوهرية . فالطائفة التي تكون "أمة " , بهذا المعنى , لا يبعثها على استخدام السيف إلا أمران:إما أن يعتدي عليها أحد , ويريد أن يسلبها حقوقها المعروفة ; وإما أن تحمل هي بنفسها على طائفة أخرى لتنتزع من يدها حقوقها المعروفة . ففي الصورة الأولى منهما , لها سعة في الأمر , وهي لا تخلو من وازع خلقي يلجئها إلى استخدام السيف والبطش بمن اعتدى عليها . وإن كان بعض المتشدقين بالأمن والسلام لا يبيح ذلك أيضاً ! - أما الصورة الثانية - أي الاعتداء على حقوق غيرها والإغارة على الشعوب والأمم من غير ما سبب - فلا يبيحها غير الجبابرة المسيطرين [ ] حتى إن ساسة الدول الكبرى كبريطانيا وأمريكا أيضاً لا يقدرون أن يجترئوا على القول بجوازها !
"فإن كان الإسلام "نحلة " كالنحل الأخرى , والمسلمون "أمة " كغيرهم من أمم العالم , فلا جرم أن "الجهاد" الإسلامي يفقد بذلك جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها . . لكن الحقيقة أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة , وأن المسلمين ليسو بأمة كأمم العالم . . بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية [ ] ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد , ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي . . ومن هناك تعرف أن لفظ "المسلم" وصف للحزب الانقلابي العالمي [ ] الذي يكونه الإسلام , وينظم صفوفه , ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام , ويطمح إليه ببصره . والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي [ ] عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية , وإدراك هذا المبتغى .
"والإسلام يتجنب الكلمات الشائعة في دعوته وبيان منهجه العملي - شأن غيره من الدعوات الفكرية والمناهج الانقلابية - بل يؤثر لذلك لغة من المصطلحات [ ] خاصة , لئلا يقع الالتباس بين دعوته وما إليها من الأفكار والتصورات , وبين الأفكار والتصورات الشائعة الرائجة . " فالجهاد" أيضاً من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لأداء مهمته وتبيين تفاصيل دعوته . فأنت ترى أن الإسلام قد تجنب لفظة [ الحرب ] وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال [ ] في اللغة العربية , واستبدل بها كلمة [ ] في اللغة الإنجليزية . غير أن لفظة [ الجهاد ] أبلغ منها تأثيراً , وأكثر منها إحاطة بالمعنى المقصود . فما الذي أفضى بالإسلام إلى أن يختار هذه الكلمة الجديدة , صارفاً بوجهه عن الكلمات القديمة الرائجة ? الذي أراه وأجزم به أنه ليس لذلك إلا سبب واحد:وهو أن لفظة "الحرب" [ ] كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية والغايات التي ترمي إليها أمثال هذه الحروب لا تعدو أن تكون مجرد أغراض شخصية أو اجتماعية , لا تكونفيها رائحة لفكرة أو انتصار لمبدأ . وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبيل هذه الحروب , لم يكن له بد من ترك هذه اللفظة [ الحرب ] البتة . فإن الإسلام لا ينظر إلى مصلح أمة دون أمة ; ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب ; وكذلك لا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك الأرض وتستولي عليها هذه المملكة أو تلك ; وإنما تهمه سعادة البشر وفلاحهم . وله فكرة خاصة ومنهاج عملي مختار لسعادة المجتمع البشري والصعود به إلى معارج الفلاح . فكل حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة , ومنهاج غير هذا المنهاج , يقاومها الإسلام , ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرماً ; ولا يعنيه في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت فيها تلك الحكومة غير المرضية , أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها . فإن غايته استعلاء فكرته , وتعميم منهاجه , وإقامة الحكومات وتوطيد دعائمها على أساس هذه الفكرة وهذا المنهاج , بصرف النظر عمن يحمل لواء الحق والعدل بيده ومن تنتكس راية عدوانه وفساده ! والإسلام يتطلب "الأرض" , ولا يقنع بقطعة أو جزء منها ; وإنما يتطلب ويستدعي المعمورة الأرضية كلها . ولا يتطلبها لتستولي عليها وتستبد بمنابع ثروتها أمة بعينها بعد ما تنتزع من أمة أو أمم شتى , بل يتطلبها الإسلام ويستدعيها ليتمتع الجنس البشري بأجمعه بفكرة السعادة البشرية ومنهاجها العملي اللذين أكرمه الله بهما , وفضله بهما على سائر الأديان والشرائع . وتحقيقاً لهذه الغاية السامية يريد الإسلام أن يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب علمي شامل ; ويبذل الجهد المستطاع للوصول إلى هذه الغاية العظمى ; ويسمي هذا الكفاح المستمر , واستنفاد القوى البالغ واستخدام شتى الوسائل المستطاعة "بالجهاد" . فالجهاد كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد . وإذا عرفت هذا فلا تعجب إذا قلت:إن تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم , وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام نوع من أنواع الجهاد , كما أن القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف , وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة أيضاً من أصناف الجهاد . وكذلك بذل الأموال , وتحمل المشاق , ومكابدة الشدائد أيضاً فصول وأبواب مهمة من كتاب "الجهاد" العظيم .
"لكن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له ; وإنما هو الجهاد في سبيل الله ; وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبداً . وذلك أيضاً من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه , كما أشرت إليه آنفاً . وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر , وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو "الجهاد في سبيل الله" وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم . لكن الحق أن "سبيل الله" في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون , وأسمى غاية وأبعد مراماً مما يظنون ويزعمون . .
"فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل , أو جماعة من المسلمين , تبذل جهودها , وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة , وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية , فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض , مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية , لا تقصد من وراء جهودها , وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس , ولا تبتغي بها بدلاً في هذه الحياة الفانية , ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة الله أن ينال جاهاً وشرفاً أو سمعة وحسن أحدوثة , ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته , ويستبد بزمام الأمر , ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة , بعدما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم . وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). . . [ النساء:76 ]
. . . " وقد تضمنت الآية الكريمةيا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). . . [ البقرة:21 ]
"لباب هذه الدعوة , دعوة الإسلام الانقلابية , وجوهرها . فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال , أو الفلاحين , أو الملاكين , أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع , ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم . وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة . ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري , فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً , ولا يتخذوا إلهاً ولا رباً غيره . وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم , ولا يستنكفوا عن عبادته , ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق , فإن الحكم والأمر لله وحده , وبيده مقاليد السماوات والأرض ; فلا يجوز لأحد من خلقه , كائناًمن كان , أن يعلو في الأرض ويتكبر , ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته . ودعوته لهم جميعاً أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة , كما ورد في التنزيل: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:ألا نعبد إلا الله , ولا نشرك به شيئاً , ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . . . [ آل عمران:64 ] .
"فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل , لا غموض فيها ولا إبهام . فإنه قد نادى بملء صوته: (إن الحكم إلا لله , أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم). . [ يوسف:40 ]
"فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطراً عليهم , يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد . ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى , هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق , وعتو عن أمره , وطموح إلى مقام الألوهية . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكاً وأمراء إنما يشركون بالله , وذلك مبعث الفساد في الأرض , ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان .
"إن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وعبادة الله الواحد , لم تكن قضية كلامية . أو عقيدة لاهوتية فحسب . شأن غيره من النحل والملل ; بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي [ ] أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية ; واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة . فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ; ومنهم من استأثر بالملك والإمرة , وتحكم في رقاب الناس ; ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض ; وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به . . فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعاً وتستأصل شأفتهم استئصالاً . . وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهراً وعلانية ; وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم ; وينقادوا لجبروتهم ; مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم ; أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها ; فقالوا: (ما علمت لكم من إله غيري). . و (وأنا ربكم الأعلى). . و (أنا أحيي وأميت). . و (من أشد منا قوة ?). . إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغياً وعدواناً . وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم , فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة , يدعون الناس ويريدونهم علىأداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها , يلعبون بعقول الناس , ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون ! فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد , وتنديده بالكفر والشرك بالله , واجتناب الأوثان والطواغيت . . كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها , والذين يجدون فيها سنداً لهم , وعوناً على قضاء حاجاتهم وأغراضهم . . ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة , وخاطبهم قائلاً: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره , وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلماً وعدواناً . . خرجت تقاومه , وتضع في سبيل الدعوة العقبات . وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية , أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي , ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه , المستبدين بمنابع الثراء , ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام !
"إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية , وجملة من المناسك والشعائر , كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام . بل الحق أنه نظام شامل , يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم , ويقطع دابرها , ويستبدل بها نظاماً صالحاً , ومنهاجاً معتدلاً , يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى , وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان , وسعادة له وفلاحاً في العاجلة والآجلة معاً .
"ودعوته في هذه السبيل , سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء , عامة للجنس البشري كافة , لا تختص بأمة دون أمة , أو طائفة دون طائفة . فهو يدعو بني آدم جميعاً إلى كلمته ; حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه . واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس . . يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً:لا تطغوا في الأرض , وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم , وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه . فإن أسلمتم لأمر الله , ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة , فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحداً ; وإنما يعادي الحق الجور , والفساد والفحشاء , وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية , ويبتغي ما وراء ذلك , مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون , وفطرة الله التي فطر الناس عليها .
"فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن , يصير عضواً في "الجماعة الإسلامية " أو "الحزب الإسلامي" لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود , أو بين الغني منهم والفقير . كلهم سواسية كأسنان المشط . لا فضل لأمة على أمة . أو لطبقة على أخرى . وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي , الذي سمي "حزب الله" بلسان الوحي .
"وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها . فمن طبيعته , وما يستدعيه وجوده , أن لا يألو جهداً في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام , واستئصال شأفتها , وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظاماً للعمران والاجتماع معتدلاً , مؤسساً على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم: كلمة الله . فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ,ولم يسع سعيه وراء تغيير نظم الحكم وإقامة نظام الحق . . نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام . . ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل , فاتته غايته . وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ لأجلها . فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية , وتحقيق هذه البغية . . بغية إقامة نظام الحق والعدل . . ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد في هذه السبيل . وهذه الغاية الوحيدة التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). . [ آل عمران:110 ]
"ولا يظن أحد أن هذا الحزب . . (حزب الله)بلسان الوحي . . مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين , يعظون الناس في المساجد , ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا ! ليس الأمر كذلك ! وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده , ويكون شهيداً على الناس ; ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم أن يقضي على منابع الشر والعدوان , ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت ; وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة . الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق ; وجعلوا أنفسهم أربابا من دون الله ; ويستأصل شأفة ألوهيتهم . ويقيم نظاما للحكم والعمران صالحا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير . . وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). . [ الأنفال:38 ] .
(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). . [ الأنفال:73 ] .
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). . [ التوبة:33 ]
"فتبين من كل ذلك أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ; ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم ; لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض ; وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح , ويؤتي أكله , إلا بعدما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين . ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ; ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .
"وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب ; بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم ; وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة , لا يقدر أن يبقى ثابتاً على خطته , متمسكاً بمنهاجه , عاملاً وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائماً على أساس آخر , سائراً على منهاج غير منهاجه . وذلك أن حزباً مؤمناً بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص , لا يمكن أن يعيش متمسكاً بمبدئه عاملاً حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادى ء والغايات التي يؤمن بها , ويريد السير على منهاجها . فإن رجلاً يؤمن بمبادئ الشيوعية , إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا , متمسكاً بمبدئه , سائراً في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية , فلن يتمكن من ذلك أبداً , لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه , قاهرة بما أوتيت من سلطان , فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلا . . وكذلك إن أراد المسلم أن يقضي حياته مستظلاً بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة وبوده أن يبقى مستمسكاً بمبادئ الإسلام , سائراً وفق مقتضاه في أعماله اليومية , فلن يتسنى له ذلك , ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبداً . لأن القوانين التي يراها باطلة , والضرائبالتي يعتقدها غرماً ونهبا لأموال الناس , والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتاً على العدل , والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض , ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها , ويرى فيها هلاكاً للأمة . . يجد كل هذه مهيمنة عليه , ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده , بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها . فالذي يؤمن بعقيدة ونظام - فرداً كان أو جماعة - مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته , ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها ; ويعتقد أن فيها سعادة للبشر . لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق . وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته , أو يغفل عن هذا الواجب , فاعلم أنه كاذب في دعواه . ولما يدخل الإيمان في قلبه . وبهذا المعنى ورد في التنزيل:
(عفا الله عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم . والله عليم بالمتقين . . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر . وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون). . . [ التوبة:43 - 45 ] .
"وأي شهادة أصدق ; وأي حجة أنصع ; من شهادة القرآن وحجته ; ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ; ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله , وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه , وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده , فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر , وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون . . .
"لعلك تبينت مما أسلفنا آنفاً أن غاية [ ] الجهاد في الإسلام , هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه , وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها . وهذه المهمة . . مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام . غير منحصرة في قطر دون قطر . بل مما يريده الإسلام , ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة . . هذه غايته العليا , ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره . إلا أنه لا مندوحة للمسلمين , أو أعضاء "الحزب الإسلامي" عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود , والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها . أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل [ ] المحيط بجميع أنحاء الأرض . وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية , بل تدعو الناس جميعاً إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين , لا يمكنها أصلاً أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قطر . بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها , ولا تغفل عنها طرفة عين . فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية , ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها . فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة . ويقول لها مطالباً بحقه:ما بالكم تقولون:إن القضية الفلانية "حق" في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلاً ; ثم تعود القضية نفسها "باطلاً" - بزعمكم - إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع ?! الحق حق في كل حال وفي كل مكان ! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية ?! الحق ظله وارف , وخيره عام شامل , لا يختص ببيئة دون بيئة , ولا قطر دون قطر . فأينما وجد "الإنسان" مقهوراً فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له . ومهما أصيبت "الإنسانية " في أبنائها المستضعفين , فعلى العدل ومبادئهوالحاملين للوائه أن يلبوا نداءها , ويأخذوا بناصرهم حتى ينتصروا لهم من أعدائهم الجائرين , ويستردوا لهم حقوقهم المغصوبة التي استبد بها الطغاة بغياً وعدواناً . وبهذا المعنى نطق لسان الوحي , حيث ورد في التنزيل:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها). . . [ النساء:75 ]
"وزد على ذلك أن الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية - على ما أثرت فيها الفوارق القومية والوطنية . وأحدثت فيها من نزعات الشتات والاختلاف - قد تشتمل على تلاؤم شامل , وتجانس عام بين أجزائها , ربما يتعذر معه أن تسير مملكة في قطر بعينه بحسب مبادئها وخططها المرسومة المستبينة , ما دامت الأقطار المجاورة لها لا توافقها على مبادئها وخطتها , ولا ترضى بالسير وفق منهاجها وبرنامجها . من أجل ذلك وجب على الحزب المسلم , حفظاً لكيانه , وابتغاء للإصلاح المنشود , ألا يقنع بإقامة نظام الحكم الإسلامي في قطر واحد بعينه . بل من واجبه الذي لا مناص له منه بحال من الأحوال , ألا يدخر جهداً في توسيع نطاق هذا النظام وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الأرض . ذلك بأن يسعى الحزب الإسلامي , في جانب , وراء نشر الفكرة الإسلامية , وتعميم نظرياتها الكاملة ونشرها في أقصى الأرض وأدناها ; ويدعو سكان المعمورة - على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطبقاتهم أن يتلقوا هذه الدعوة بالقبول , ويدينوا بهذا المنهاج الذي يضمن لهم السعادتين , سعادتي الدنيا والآخرة . . وبجانب آخر , يشمر عن ساق الجد , ويقاوم النظم الجائرة المناقضة لقواعد الحق والعدل وبالقوة , إذا استطاع ذلك وأعد له عدته , ويقيم مكانها نظام العدل والنصفة , المؤسس على قواعد الإسلام ومبادئه الخالدة التي لا تبلى , ولن تبلى جدتها على مرور الأيام والليالي .
"هذه هي الخطة التي سلكها . وهذا هو المنهاج الذي انتهجه النبي [ ص ] ومن جاء بعده , وسار بسيرته من الخلفاء الراشدين , فإنهم بدأوا ببلاد العرب . ثم أشرقت شمس الإسلام من آفاقها . وأخضعوها أولاً لحكم الإسلام , وأدخلوها في كنف المملكة الإسلامية الجديدة . ثم دعا النبي [ ص ] الملوك والأمراء والرؤساء في مختلف بقاع الأرض إلى دين الحق والإذعان لأمر الله . فالذين آمنوا بهذه الدعوة انضموا إلى هذه المملكة الإسلامية وأصبحوا من أهلها , والذين لم يلبوا دعوتها ولم يتقبلوها بقبول حسن شرع في قتالهم وجهادهم . . ولما استخلف أبو بكر رضي الله عنه , بعد وفاته [ ص ] والتحاقه بالرفيق الأعلى , حمل على المملكتين المجاورتين للمملكة الإسلامية . . مملكتي الروم والفرس . اللتين بلغ من عتوهما وتماديهما في الغي والاستكبار في الأرض ما طبقت شهرته الآفاق . وبلغت هذه الحملات التي بدأ بها الصديق - رضي الله عنه - غايتها في عصر الفاروق الذي يرجع إليه الفضل العظيم في توطيد دعائم المملكة الإسلامية الأولى , حتى شمل ظلها الوارف تلك الأقطار جميعاً" . . . [ انتهت المقتطفات ] .
على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته , ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته , ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله . . نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى , التي قال الله سبحانه عن يومها إنه "يوم الفرقان" . . وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال , التي نزلت في هذه الغزوة , على وجه الإجمال .
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي - كما بينا من قبل - فقد سبقتها عدة سرايا , لم يقع قتال إلا في واحدة منها , هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول الله [ ص ] إلى المدينة . . وكانت كلها تمشياً مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام . والتي أسلفت الحديث عنها من قبل . . نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله [ ص ] وللمسلمين الكرام ; ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام ! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي . إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ; وبتقرير ألوهية الله في الأرض ; وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس , وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . . وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده ; والدخول في سلطانه وحده . فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت , تمشياً مع خطته العامة ; وانتصافاً في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ; ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان . . وإن كان ينبغي دائماً ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر - ولا ننسى - طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه . وهي ألا يترك في الأرض طاغوتاً يغتصب سلطان الله ; ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال !
أما أحداث هذه الغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها , ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة ; وندرك مرامي النصوص فيها ; وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية ; وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى . . ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب !! إنما تدرك أولاً وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي ; وفي واقعيتها الإيجابية , وتعاملها مع الواقع الحي . وهي - وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثراً من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه - لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي . . ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم , وفاعليتها المستمرة , ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم ; ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة ; ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون ! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين , الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب . . وهم قاعدون ! . .
قال ابن إسحاق :ثم إن رسول الله [ ص ] سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة , فيها أموال لقريش , وتجارة من تجاراتهم . وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون . .
قال ابن إسحاق:فحدثني محمد بن مسلم الزهري , وعاصم بن عمر بن قتادة , وعبد الله بن أبي بكر , ويزيد بن رومان , عن عروة بن الزبير . وغيرهم من علمائنا , عن ابن عباس رضي الله عنهما . . كل قدحدثني بعض الحديث , فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر , قالوا:
لما سمع رسول الله [ ص ] بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم , وقال:" هذه عير قريش فيها أموالهم , فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس , فخف بعضهم وثقل بعضهم , وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله [ ص ] يلقى حرباً [ وفي زاد المعاد وإمتاع الأسماع أنه [ ص ] أمر من كان ظهره - أي ما يركبه - حاضراً بالنهوض , ولم يحتفل لها احتفالاً كبيراً ] . . وقال ابن القيم:" وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً:من المهاجرين ستة وثمانون . ومن الأوس واحد وستون . ومن الخزرج مائة وسبعون . وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج , وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء , لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة , وجاء النفير بغتة , وقال النبي [ ص ] لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضراً . فاستأذنه رجال ظهورهم كانت في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم , فأبى . ولم يكن عزمهم على اللقاء , ولا أعدوا له عدة , ولا تأهبوا له أهبة . ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد " .
وكان أبو سفيان - حين دنا من الحجاز - يتحسس الأخبار , ويسأل من لقي من الركبان , تخوفاً على أمر الناس [ أي على أموالهم التي معه في القافلة ] حتى أصاب خبراً من بعض الركبان:أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك . فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري , فبعثه إلى مكة , وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم , ويخبرهم أن محمداً قد عرض لنا في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
قال المقريزي في "إمتاع الأسماع":فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول:يا معشر قريش , يا آل لؤي ابن غالب , اللطيمة [ وهي العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب وليس فيما تحمله طعام يؤكل ] قد عرض لها محمد في أصحابه . الغوث الغوث . والله ما أرى أن تدركوها ! وقد جدّع أذني بعيره , وشق قميصه وحول رحله . فلم تملك قريش من أمرها شيئاً حتى نفروا على الصعب والذلول , وتجهزوا في ثلاثة أيام . وقيل في يومين . وأعان قويهم ضعيفهم . وقام سهيل بن عمرو , وزمعة بن الأسود , وطعيمة بن عدي , وحنظلة بن أبي سفيان , وعمرو بن أبي سفيان , يحضون الناس على الخروج . فقال سهيل:يا آل غالب , أتاركون أنتم محمداً والصباة [ أي المرتدين , يقصد المسلمين ! ] من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأمواكم ? من أراد مالاً فهذا مال , ومن أراد قوة فهذه قوة . فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ! ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحُملان [ أي ما يحمل عليه من الدواب , يقال فيما يكون هبة خاصة ] لمن خرج . فقال عبد الله بن أبي ربيعة:هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت . وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاث مائة دينار قوى بها في السلاح والظهر , وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة . وكان لا يتخلف أحداً من قريش إلا بعث مكانه بعيثا . ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحداً , ويقال:إنه بعث مكانه العاصي , ابن هشام بن المغيرة - وكان له عليه دين - فقال:اخرج , وديني لك . فخرج عنه ! . . . وأخذ عداس [ وهو الغلام النصراني الذي أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بقطف من العنب لرسول الله [ ص ] يوم خرج إلى الطائف فرده أهله رداً قبيحا , وأتبعوه السفهاء والصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين , فلجأ منهم إلى بستان عتبة وشيبة . وقد وقع في نفس عداس ما وقع من أمر رسول الله [ ص ] , فأكب على يديه وقدميه يقبلهما ! ] يخذل شيبةوعتبة ابني ربيعة عن الخروج , والعاص بن منبه بن الحجاج . وأبي أمية بن خلف أن يخرج , فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فعنفاه . فقال ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي ! فابتاعوا له جملاً بثلاث مائة درهم من نعم بني قشير , فغنمه المسلمون ! . . وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر . ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دماً من أسفله وأعلاه . ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها [ وفيها نذير لقريش بالقتل والدم في كل بيت ] . . . فكره أهل الرأي المسير , ومشى بعضهم إلى بعض , فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر , وأمية بن خلف , وعتبة وشيبة ابنا ربيعة , وحكيم بن حزام , وأبو البختري [ ابن هشام ] وعلي بن أمية بن خلف , والعاص بن منبه ; حتى بكتهم أبو جهل , وأعانه عقبة بن أبي معيط , والنضر بن الحارث بن كلدة , فاجمعوا المسير . . وخرجت قريش بالقيان والدفاف يغنين في كل منهل , وينحرون الجزر , وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً . . وقادوا مائة فرس , عليها مائة دارع سوى دروع المشاة . وكانت إبلهم سبعمائة بعير . وهم كما ذكر الله تعالى عنهم بقولهولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس , ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). . [ الأنفال:47 ] .
وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول الله [ ص ] وأصحابه , لما يريدون من أخذ عيرهم , وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه [ في سرية عبد الله بن جحش ] . . وأقبل أبو سفيان بالعير ومعها سبعون رجلاً [ في رواية ابن إسحاق ثلاثون رجلاً ] منهم مخرمة بن نوفل , وعمرو ابن العاص , فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال . وقد خافوا خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة , واستبطأوا ضمضم بن عمرو والنفير [ الذين نفروا بن قريش ليمنعوا عيرهم ] . . فأصبح أبو سفيان ببدر وقد تقدم العير وهو خائف من الرصد . فضرب وجه عيره , فساحل بها [ أي اتجه إلى ساحل البحر بعيداً عن طريق المدينة ] وترك بدراً يساراً , وانطلق سريعاً . . وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل . يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر . . وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع , ويخبرهم أن قد نجت عيرهم . فلا تجزروا أنفسكم أهل يثرب [ يعني لا تعرضوا أنفسكم لأن يذبحكم أهل يثرب ] فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك . إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم , وقد نجاها الله ! فعالج قريشاً فأبت الرجوع [ من الجحفة ] . وقال أبو جهل:لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا ; فلن تزال العرب تهابنا أبداً . . وعاد قيس إلى أبي سفيان , فأخبره بمضى قريش . فقال:واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم . إن أصاب محمد النفير ذللنا . .
قال ابن إسحاق:وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي , وكان حليفاً لبني زهرة , وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم , وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل . وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها , وارجعوا , فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة . لا ما يقول هذا [ يعني أبا جهل ] فرجعوا , فلم يشهدها زهري واحد . . ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس , إلا بني عدي ابن كعب , لم يخرج منهم رجل واحد [ في إمتاع الأسماع أن طعمة بن عدي حمل على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ] . . وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة . فقالوا:والله لقد عرفنا يا بني هاشم , وإن خرجتم معنا , إن هواكم لمع محمد . فرجع طالب إلى مكة مع من رجع !
قال ابن إسحاق:وخرج رسول الله [ ص ] في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه .
وكانت إبل أصحاب رسول الله [ ص ] يومئذ سبعين بعيراً فاعتقبوها [ أي كانوا يركبونها بالتعاقب ] فكان رسول الله [ ص ] وعلي بن أبي طالب , ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً . وكان حمزة بن عبد المطلب , وزيد بن حارثة , وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله [ ص ] يعتقبون بعيراً . وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً . .
قال المقريزي في إمتاع الأسماع:
ومضى رسول الله [ ص ] حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش . فاستشار الناس , فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال فأحسن . ثم قام عمر فقال فأحسن . ثم قال:يا رسول الله , إنها والله قريش وعزها , والله ما ذلت منذ عزت , والله ما آمنت منذ كفر
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" . . وأنه مجرد "عقيدة " في الضمير ; لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . . ومن ثم يكون الجهاد للدين , جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام . فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع , في ظل النظام العام , بعد رفع جميع المؤثرات . . ومن ثم يختلف الأمر من أساسه , وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي , الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي , فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام . مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان . . فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد , فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ . مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة . وعلىهذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة , في المراحل التاريخية المتجددة . ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية , والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .
وبعد , فإن هناك بقية في بيان طبيعة "الجهاد في الإسلام" و "طبيعة هذا الدين" يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان , بعنوان "الجهاد في سبيل الله" . . وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة ; لا غنى عنها لقارئ يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية:
"لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة "الجهاد" "بالحرب المقدسة " [ ] إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم . وقد فسروها تفسيراً منكراً . وتفننوا فيها , وألبسوها ثوباً فضفاضاً من المعاني المموهة الملفقة . وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء . وقد كان من لباقتهم , وسحر بيانهم , وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة , أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة . . الجهاد . . تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة , مصلتة سيوفها , متقدة صدورها بنار التعصب والغضب , متطايراً من عيونها شرار الفتك والنهب , عالية أصواتها بهتاف:"الله أكبر" , زاحفة إلى الأمام , ما إن رأت كافراً حتى أمسكت بخناقه , وجعلته بين أمرين:إما أن يقول كلمة:"لا إله إلا الله" فينجو بنفسه , وإما أن يضرب عنقه , فتشخب أوداجه دماً !
"ولقد رسم الدهان هذه "الصورة " بلباقة فائقة , وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع ; وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر , وكتبوا تحتها:
"هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء , وجشع إلى الفتك بالأبرياء" !
"والعجب كل العجب , أن الذين عملوا على هذه الصورة ; وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار , هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية , وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة [ ] التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها , وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها , ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين , ويفتشون عن المناجم والمعادن , وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم . يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه . وبين أيديهم الدبابات المدججة , وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء , ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها , وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة , يريدون بذلك أن يهيئوا وقوداً لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهاباً واضطراباً . فلم تكن حروبهم في "سبيل الله" , وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة , وأهوائهم الذميمة . .
"هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال , الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة . أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم "المتحضر المتمدن ! " . وأي بلاد الله , يا ترى , قد سلمت من عدوانهم , وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية ? وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وأفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة ? . . لكن هؤلاء الدهاةرسموا صورتنا بلباقة منكرة , وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع , وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة , حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا . فما أعظم دهاءهم ! وما أبرعهم في التزوير والتمويه !
"أما سذاجتنا وبله رجالنا , فحدث عن البحر ولا حرج ! وأي بله أعظم من اغترارنا بالصورة المنكرة التي صوروا بها مآثرنا حتى كدنا نؤمن بصحتها ومطابقتها للحقيقة ? وما دار بخلدنا أن ننظر إلى الأيدي الأثيمة التي عملت عملها في رسم هذه الصورة المزورة , وأن نبحث عن الأقلام الخفية التي تفننت في تمويهها وزخرفتها . وقد بلغ من اغترارنا بتزويرهم , وانخداعنا بتلك الصورة المموهة أن اعترانا الخجل والندامة , وعدنا نعتذر إلى القوم , نبدل كلام الله , ونحرف الكلم عن مواضعه , ونقول لهم:"ما لنا وللقتال , أيها السادة , إنما نحن دعاة مبشرون , ندعو إلى دين الله , دين الأمن والسلام والدعة بالحكمة والموعظة الحسنة , نبلغ كلام الله تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية , ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن , بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن من يؤمن بدعوتنا عن بينة ! هذه هي دعوتنا لا تزيد ولا تنقص ! أما السيف والقتال به فمعاذ الله أن نمت إليه بصلة . اللهم إلا أن يقال:إننا ربما دافعنا عن أنفسنا حينما اعتدى علينا أحد ! ذلك أيضاً قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة . أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضاً ! ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد "رسمياً" . ! ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله ! حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم المضجع ! فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم ; وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام ! أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها , فأنتم أحق بها وأهلها ! " .
"هذه مكايدهم السياسية التي كشفنا لك القناع عن بعضها فيما تقدم . لكنا إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية , ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة "الجهاد في سبيل الله" , واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم فضلاً عن غير المسلمين , لاح لنا أن مرجع هذا الخطأ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما , ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة:
"فالأول:أنهم ظنوا الإسلام نحلة [ ] بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة " النحلة " [ ] عامة . .
"والثاني:أنهم حسبوا المسلمين أمة [ ] بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال .
"فالحقيقة أن خطأ القوم في فهم هذين الأمرين المهمين , وعدم استجلائهم لوجه الحق في هاتين المسألتين الأساسيتين هو الذي شوه وجه الحقيقة الناصعة في هذا الشأن , وعاقهم عن إدراك مغزى الجهاد الإسلامي . بل الحق - والحق أحق أن يتبع - أن هذا الخطأ الأسياسي في فهم هاتين المسألتين قد أرخى سدوله على حقيقة الدين الإسلامي بأسره , وقلب الأمر ظهراً لبطن , وجعل موقف المسلمين من العالم ومسائله المتجددة ومشاكله المتشعبة حرجاً ضيقاً , لا يرضاه الإسلام وتعاليمه الخالدة:
"فالنحلة [ ] على حسب الاصطلاح الشائع عندهم , لا يراد بها إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر . ولا جرم أن "النحلة " بهذا المعنى لا تعدو أن تكون مسألة شخصية . فأنت حر فيما تختاره من العقيدة ; ولك الخيار في أن تعبد بأي طريق شئت من رضيت به رباً لنفسك . وإن أبت نفسك إلا التحمسلهذه النحلة والانتصار لعقيدتها فلك أن تخترق الأرض , وتجوب بلاد الله الشاسعة , داعياً إلى عقيدتها , مدافعاً عن كيانها بالحجج والبراهين , مجادلاً من يخالفونك فيها بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام . أما السيف وآلات الحرب والقتال , فمالك ومالها في هذا الشأن ? أتريد أن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بعقيدتك ?! وإن كان الإسلام نحلة [ ] كنحل العالم , على حسب الاصطلاح الشائع عندهم كما يزعمون , فالظاهر أنه لا شأن فيها للسيف وأدوات الحرب , كما قالوا . ولو كان موقف الإسلام في نفس الأمر كما زعموا ووصفوا لما كان فيه مساغ للجهاد , ولم يكن من الإسلام في ورد ولا صدر ; لكن الأمر على خلاف ذلك , كما سوف تعرفه فيما يأتي من البيان . وكذلك كلمة "الأمة " [ ] فما هي إلا عبارة عن طائفة من الناس متوافقة فيما بينها [ ] اجتمعت وتألفت وامتازت من بين طوائف أخرى لاشتراكها في بعض الأمور الجوهرية . فالطائفة التي تكون "أمة " , بهذا المعنى , لا يبعثها على استخدام السيف إلا أمران:إما أن يعتدي عليها أحد , ويريد أن يسلبها حقوقها المعروفة ; وإما أن تحمل هي بنفسها على طائفة أخرى لتنتزع من يدها حقوقها المعروفة . ففي الصورة الأولى منهما , لها سعة في الأمر , وهي لا تخلو من وازع خلقي يلجئها إلى استخدام السيف والبطش بمن اعتدى عليها . وإن كان بعض المتشدقين بالأمن والسلام لا يبيح ذلك أيضاً ! - أما الصورة الثانية - أي الاعتداء على حقوق غيرها والإغارة على الشعوب والأمم من غير ما سبب - فلا يبيحها غير الجبابرة المسيطرين [ ] حتى إن ساسة الدول الكبرى كبريطانيا وأمريكا أيضاً لا يقدرون أن يجترئوا على القول بجوازها !
"فإن كان الإسلام "نحلة " كالنحل الأخرى , والمسلمون "أمة " كغيرهم من أمم العالم , فلا جرم أن "الجهاد" الإسلامي يفقد بذلك جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها . . لكن الحقيقة أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة , وأن المسلمين ليسو بأمة كأمم العالم . . بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية [ ] ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد , ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي . . ومن هناك تعرف أن لفظ "المسلم" وصف للحزب الانقلابي العالمي [ ] الذي يكونه الإسلام , وينظم صفوفه , ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام , ويطمح إليه ببصره . والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي [ ] عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية , وإدراك هذا المبتغى .
"والإسلام يتجنب الكلمات الشائعة في دعوته وبيان منهجه العملي - شأن غيره من الدعوات الفكرية والمناهج الانقلابية - بل يؤثر لذلك لغة من المصطلحات [ ] خاصة , لئلا يقع الالتباس بين دعوته وما إليها من الأفكار والتصورات , وبين الأفكار والتصورات الشائعة الرائجة . " فالجهاد" أيضاً من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لأداء مهمته وتبيين تفاصيل دعوته . فأنت ترى أن الإسلام قد تجنب لفظة [ الحرب ] وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال [ ] في اللغة العربية , واستبدل بها كلمة [ ] في اللغة الإنجليزية . غير أن لفظة [ الجهاد ] أبلغ منها تأثيراً , وأكثر منها إحاطة بالمعنى المقصود . فما الذي أفضى بالإسلام إلى أن يختار هذه الكلمة الجديدة , صارفاً بوجهه عن الكلمات القديمة الرائجة ? الذي أراه وأجزم به أنه ليس لذلك إلا سبب واحد:وهو أن لفظة "الحرب" [ ] كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية والغايات التي ترمي إليها أمثال هذه الحروب لا تعدو أن تكون مجرد أغراض شخصية أو اجتماعية , لا تكونفيها رائحة لفكرة أو انتصار لمبدأ . وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبيل هذه الحروب , لم يكن له بد من ترك هذه اللفظة [ الحرب ] البتة . فإن الإسلام لا ينظر إلى مصلح أمة دون أمة ; ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب ; وكذلك لا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك الأرض وتستولي عليها هذه المملكة أو تلك ; وإنما تهمه سعادة البشر وفلاحهم . وله فكرة خاصة ومنهاج عملي مختار لسعادة المجتمع البشري والصعود به إلى معارج الفلاح . فكل حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة , ومنهاج غير هذا المنهاج , يقاومها الإسلام , ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرماً ; ولا يعنيه في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت فيها تلك الحكومة غير المرضية , أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها . فإن غايته استعلاء فكرته , وتعميم منهاجه , وإقامة الحكومات وتوطيد دعائمها على أساس هذه الفكرة وهذا المنهاج , بصرف النظر عمن يحمل لواء الحق والعدل بيده ومن تنتكس راية عدوانه وفساده ! والإسلام يتطلب "الأرض" , ولا يقنع بقطعة أو جزء منها ; وإنما يتطلب ويستدعي المعمورة الأرضية كلها . ولا يتطلبها لتستولي عليها وتستبد بمنابع ثروتها أمة بعينها بعد ما تنتزع من أمة أو أمم شتى , بل يتطلبها الإسلام ويستدعيها ليتمتع الجنس البشري بأجمعه بفكرة السعادة البشرية ومنهاجها العملي اللذين أكرمه الله بهما , وفضله بهما على سائر الأديان والشرائع . وتحقيقاً لهذه الغاية السامية يريد الإسلام أن يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب علمي شامل ; ويبذل الجهد المستطاع للوصول إلى هذه الغاية العظمى ; ويسمي هذا الكفاح المستمر , واستنفاد القوى البالغ واستخدام شتى الوسائل المستطاعة "بالجهاد" . فالجهاد كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد . وإذا عرفت هذا فلا تعجب إذا قلت:إن تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم , وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام نوع من أنواع الجهاد , كما أن القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف , وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة أيضاً من أصناف الجهاد . وكذلك بذل الأموال , وتحمل المشاق , ومكابدة الشدائد أيضاً فصول وأبواب مهمة من كتاب "الجهاد" العظيم .
"لكن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له ; وإنما هو الجهاد في سبيل الله ; وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبداً . وذلك أيضاً من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه , كما أشرت إليه آنفاً . وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر , وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو "الجهاد في سبيل الله" وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم . لكن الحق أن "سبيل الله" في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون , وأسمى غاية وأبعد مراماً مما يظنون ويزعمون . .
"فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل , أو جماعة من المسلمين , تبذل جهودها , وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة , وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية , فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض , مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية , لا تقصد من وراء جهودها , وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس , ولا تبتغي بها بدلاً في هذه الحياة الفانية , ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة الله أن ينال جاهاً وشرفاً أو سمعة وحسن أحدوثة , ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته , ويستبد بزمام الأمر , ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة , بعدما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم . وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). . . [ النساء:76 ]
. . . " وقد تضمنت الآية الكريمةيا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). . . [ البقرة:21 ]
"لباب هذه الدعوة , دعوة الإسلام الانقلابية , وجوهرها . فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال , أو الفلاحين , أو الملاكين , أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع , ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم . وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة . ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري , فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً , ولا يتخذوا إلهاً ولا رباً غيره . وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم , ولا يستنكفوا عن عبادته , ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق , فإن الحكم والأمر لله وحده , وبيده مقاليد السماوات والأرض ; فلا يجوز لأحد من خلقه , كائناًمن كان , أن يعلو في الأرض ويتكبر , ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته . ودعوته لهم جميعاً أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة , كما ورد في التنزيل: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:ألا نعبد إلا الله , ولا نشرك به شيئاً , ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . . . [ آل عمران:64 ] .
"فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل , لا غموض فيها ولا إبهام . فإنه قد نادى بملء صوته: (إن الحكم إلا لله , أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم). . [ يوسف:40 ]
"فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطراً عليهم , يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد . ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى , هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق , وعتو عن أمره , وطموح إلى مقام الألوهية . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكاً وأمراء إنما يشركون بالله , وذلك مبعث الفساد في الأرض , ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان .
"إن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وعبادة الله الواحد , لم تكن قضية كلامية . أو عقيدة لاهوتية فحسب . شأن غيره من النحل والملل ; بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي [ ] أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية ; واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة . فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ; ومنهم من استأثر بالملك والإمرة , وتحكم في رقاب الناس ; ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض ; وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به . . فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعاً وتستأصل شأفتهم استئصالاً . . وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهراً وعلانية ; وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم ; وينقادوا لجبروتهم ; مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم ; أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها ; فقالوا: (ما علمت لكم من إله غيري). . و (وأنا ربكم الأعلى). . و (أنا أحيي وأميت). . و (من أشد منا قوة ?). . إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغياً وعدواناً . وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم , فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة , يدعون الناس ويريدونهم علىأداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها , يلعبون بعقول الناس , ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون ! فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد , وتنديده بالكفر والشرك بالله , واجتناب الأوثان والطواغيت . . كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها , والذين يجدون فيها سنداً لهم , وعوناً على قضاء حاجاتهم وأغراضهم . . ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة , وخاطبهم قائلاً: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره , وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلماً وعدواناً . . خرجت تقاومه , وتضع في سبيل الدعوة العقبات . وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية , أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي , ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه , المستبدين بمنابع الثراء , ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام !
"إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية , وجملة من المناسك والشعائر , كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام . بل الحق أنه نظام شامل , يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم , ويقطع دابرها , ويستبدل بها نظاماً صالحاً , ومنهاجاً معتدلاً , يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى , وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان , وسعادة له وفلاحاً في العاجلة والآجلة معاً .
"ودعوته في هذه السبيل , سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء , عامة للجنس البشري كافة , لا تختص بأمة دون أمة , أو طائفة دون طائفة . فهو يدعو بني آدم جميعاً إلى كلمته ; حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه . واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس . . يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً:لا تطغوا في الأرض , وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم , وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه . فإن أسلمتم لأمر الله , ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة , فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحداً ; وإنما يعادي الحق الجور , والفساد والفحشاء , وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية , ويبتغي ما وراء ذلك , مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون , وفطرة الله التي فطر الناس عليها .
"فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن , يصير عضواً في "الجماعة الإسلامية " أو "الحزب الإسلامي" لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود , أو بين الغني منهم والفقير . كلهم سواسية كأسنان المشط . لا فضل لأمة على أمة . أو لطبقة على أخرى . وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي , الذي سمي "حزب الله" بلسان الوحي .
"وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها . فمن طبيعته , وما يستدعيه وجوده , أن لا يألو جهداً في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام , واستئصال شأفتها , وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظاماً للعمران والاجتماع معتدلاً , مؤسساً على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم: كلمة الله . فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ,ولم يسع سعيه وراء تغيير نظم الحكم وإقامة نظام الحق . . نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام . . ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل , فاتته غايته . وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ لأجلها . فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية , وتحقيق هذه البغية . . بغية إقامة نظام الحق والعدل . . ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد في هذه السبيل . وهذه الغاية الوحيدة التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). . [ آل عمران:110 ]
"ولا يظن أحد أن هذا الحزب . . (حزب الله)بلسان الوحي . . مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين , يعظون الناس في المساجد , ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا ! ليس الأمر كذلك ! وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده , ويكون شهيداً على الناس ; ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم أن يقضي على منابع الشر والعدوان , ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت ; وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة . الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق ; وجعلوا أنفسهم أربابا من دون الله ; ويستأصل شأفة ألوهيتهم . ويقيم نظاما للحكم والعمران صالحا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير . . وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). . [ الأنفال:38 ] .
(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). . [ الأنفال:73 ] .
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). . [ التوبة:33 ]
"فتبين من كل ذلك أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ; ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم ; لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض ; وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح , ويؤتي أكله , إلا بعدما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين . ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ; ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .
"وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب ; بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم ; وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة , لا يقدر أن يبقى ثابتاً على خطته , متمسكاً بمنهاجه , عاملاً وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائماً على أساس آخر , سائراً على منهاج غير منهاجه . وذلك أن حزباً مؤمناً بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص , لا يمكن أن يعيش متمسكاً بمبدئه عاملاً حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادى ء والغايات التي يؤمن بها , ويريد السير على منهاجها . فإن رجلاً يؤمن بمبادئ الشيوعية , إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا , متمسكاً بمبدئه , سائراً في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية , فلن يتمكن من ذلك أبداً , لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه , قاهرة بما أوتيت من سلطان , فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلا . . وكذلك إن أراد المسلم أن يقضي حياته مستظلاً بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة وبوده أن يبقى مستمسكاً بمبادئ الإسلام , سائراً وفق مقتضاه في أعماله اليومية , فلن يتسنى له ذلك , ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبداً . لأن القوانين التي يراها باطلة , والضرائبالتي يعتقدها غرماً ونهبا لأموال الناس , والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتاً على العدل , والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض , ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها , ويرى فيها هلاكاً للأمة . . يجد كل هذه مهيمنة عليه , ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده , بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها . فالذي يؤمن بعقيدة ونظام - فرداً كان أو جماعة - مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته , ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها ; ويعتقد أن فيها سعادة للبشر . لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق . وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته , أو يغفل عن هذا الواجب , فاعلم أنه كاذب في دعواه . ولما يدخل الإيمان في قلبه . وبهذا المعنى ورد في التنزيل:
(عفا الله عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم . والله عليم بالمتقين . . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر . وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون). . . [ التوبة:43 - 45 ] .
"وأي شهادة أصدق ; وأي حجة أنصع ; من شهادة القرآن وحجته ; ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ; ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله , وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه , وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده , فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر , وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون . . .
"لعلك تبينت مما أسلفنا آنفاً أن غاية [ ] الجهاد في الإسلام , هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه , وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها . وهذه المهمة . . مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام . غير منحصرة في قطر دون قطر . بل مما يريده الإسلام , ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة . . هذه غايته العليا , ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره . إلا أنه لا مندوحة للمسلمين , أو أعضاء "الحزب الإسلامي" عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود , والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها . أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل [ ] المحيط بجميع أنحاء الأرض . وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية , بل تدعو الناس جميعاً إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين , لا يمكنها أصلاً أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قطر . بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها , ولا تغفل عنها طرفة عين . فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية , ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها . فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة . ويقول لها مطالباً بحقه:ما بالكم تقولون:إن القضية الفلانية "حق" في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلاً ; ثم تعود القضية نفسها "باطلاً" - بزعمكم - إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع ?! الحق حق في كل حال وفي كل مكان ! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية ?! الحق ظله وارف , وخيره عام شامل , لا يختص ببيئة دون بيئة , ولا قطر دون قطر . فأينما وجد "الإنسان" مقهوراً فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له . ومهما أصيبت "الإنسانية " في أبنائها المستضعفين , فعلى العدل ومبادئهوالحاملين للوائه أن يلبوا نداءها , ويأخذوا بناصرهم حتى ينتصروا لهم من أعدائهم الجائرين , ويستردوا لهم حقوقهم المغصوبة التي استبد بها الطغاة بغياً وعدواناً . وبهذا المعنى نطق لسان الوحي , حيث ورد في التنزيل:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها). . . [ النساء:75 ]
"وزد على ذلك أن الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية - على ما أثرت فيها الفوارق القومية والوطنية . وأحدثت فيها من نزعات الشتات والاختلاف - قد تشتمل على تلاؤم شامل , وتجانس عام بين أجزائها , ربما يتعذر معه أن تسير مملكة في قطر بعينه بحسب مبادئها وخططها المرسومة المستبينة , ما دامت الأقطار المجاورة لها لا توافقها على مبادئها وخطتها , ولا ترضى بالسير وفق منهاجها وبرنامجها . من أجل ذلك وجب على الحزب المسلم , حفظاً لكيانه , وابتغاء للإصلاح المنشود , ألا يقنع بإقامة نظام الحكم الإسلامي في قطر واحد بعينه . بل من واجبه الذي لا مناص له منه بحال من الأحوال , ألا يدخر جهداً في توسيع نطاق هذا النظام وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الأرض . ذلك بأن يسعى الحزب الإسلامي , في جانب , وراء نشر الفكرة الإسلامية , وتعميم نظرياتها الكاملة ونشرها في أقصى الأرض وأدناها ; ويدعو سكان المعمورة - على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطبقاتهم أن يتلقوا هذه الدعوة بالقبول , ويدينوا بهذا المنهاج الذي يضمن لهم السعادتين , سعادتي الدنيا والآخرة . . وبجانب آخر , يشمر عن ساق الجد , ويقاوم النظم الجائرة المناقضة لقواعد الحق والعدل وبالقوة , إذا استطاع ذلك وأعد له عدته , ويقيم مكانها نظام العدل والنصفة , المؤسس على قواعد الإسلام ومبادئه الخالدة التي لا تبلى , ولن تبلى جدتها على مرور الأيام والليالي .
"هذه هي الخطة التي سلكها . وهذا هو المنهاج الذي انتهجه النبي [ ص ] ومن جاء بعده , وسار بسيرته من الخلفاء الراشدين , فإنهم بدأوا ببلاد العرب . ثم أشرقت شمس الإسلام من آفاقها . وأخضعوها أولاً لحكم الإسلام , وأدخلوها في كنف المملكة الإسلامية الجديدة . ثم دعا النبي [ ص ] الملوك والأمراء والرؤساء في مختلف بقاع الأرض إلى دين الحق والإذعان لأمر الله . فالذين آمنوا بهذه الدعوة انضموا إلى هذه المملكة الإسلامية وأصبحوا من أهلها , والذين لم يلبوا دعوتها ولم يتقبلوها بقبول حسن شرع في قتالهم وجهادهم . . ولما استخلف أبو بكر رضي الله عنه , بعد وفاته [ ص ] والتحاقه بالرفيق الأعلى , حمل على المملكتين المجاورتين للمملكة الإسلامية . . مملكتي الروم والفرس . اللتين بلغ من عتوهما وتماديهما في الغي والاستكبار في الأرض ما طبقت شهرته الآفاق . وبلغت هذه الحملات التي بدأ بها الصديق - رضي الله عنه - غايتها في عصر الفاروق الذي يرجع إليه الفضل العظيم في توطيد دعائم المملكة الإسلامية الأولى , حتى شمل ظلها الوارف تلك الأقطار جميعاً" . . . [ انتهت المقتطفات ] .
على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته , ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته , ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله . . نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى , التي قال الله سبحانه عن يومها إنه "يوم الفرقان" . . وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال , التي نزلت في هذه الغزوة , على وجه الإجمال .
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي - كما بينا من قبل - فقد سبقتها عدة سرايا , لم يقع قتال إلا في واحدة منها , هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول الله [ ص ] إلى المدينة . . وكانت كلها تمشياً مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام . والتي أسلفت الحديث عنها من قبل . . نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله [ ص ] وللمسلمين الكرام ; ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام ! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي . إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ; وبتقرير ألوهية الله في الأرض ; وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس , وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . . وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده ; والدخول في سلطانه وحده . فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت , تمشياً مع خطته العامة ; وانتصافاً في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ; ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان . . وإن كان ينبغي دائماً ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر - ولا ننسى - طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه . وهي ألا يترك في الأرض طاغوتاً يغتصب سلطان الله ; ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال !
أما أحداث هذه الغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها , ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة ; وندرك مرامي النصوص فيها ; وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية ; وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى . . ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب !! إنما تدرك أولاً وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي ; وفي واقعيتها الإيجابية , وتعاملها مع الواقع الحي . وهي - وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثراً من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه - لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي . . ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم , وفاعليتها المستمرة , ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم ; ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة ; ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون ! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين , الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب . . وهم قاعدون ! . .
قال ابن إسحاق :ثم إن رسول الله [ ص ] سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة , فيها أموال لقريش , وتجارة من تجاراتهم . وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون . .
قال ابن إسحاق:فحدثني محمد بن مسلم الزهري , وعاصم بن عمر بن قتادة , وعبد الله بن أبي بكر , ويزيد بن رومان , عن عروة بن الزبير . وغيرهم من علمائنا , عن ابن عباس رضي الله عنهما . . كل قدحدثني بعض الحديث , فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر , قالوا:
لما سمع رسول الله [ ص ] بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم , وقال:" هذه عير قريش فيها أموالهم , فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس , فخف بعضهم وثقل بعضهم , وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله [ ص ] يلقى حرباً [ وفي زاد المعاد وإمتاع الأسماع أنه [ ص ] أمر من كان ظهره - أي ما يركبه - حاضراً بالنهوض , ولم يحتفل لها احتفالاً كبيراً ] . . وقال ابن القيم:" وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً:من المهاجرين ستة وثمانون . ومن الأوس واحد وستون . ومن الخزرج مائة وسبعون . وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج , وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء , لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة , وجاء النفير بغتة , وقال النبي [ ص ] لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضراً . فاستأذنه رجال ظهورهم كانت في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم , فأبى . ولم يكن عزمهم على اللقاء , ولا أعدوا له عدة , ولا تأهبوا له أهبة . ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد " .
وكان أبو سفيان - حين دنا من الحجاز - يتحسس الأخبار , ويسأل من لقي من الركبان , تخوفاً على أمر الناس [ أي على أموالهم التي معه في القافلة ] حتى أصاب خبراً من بعض الركبان:أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك . فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري , فبعثه إلى مكة , وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم , ويخبرهم أن محمداً قد عرض لنا في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
قال المقريزي في "إمتاع الأسماع":فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول:يا معشر قريش , يا آل لؤي ابن غالب , اللطيمة [ وهي العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب وليس فيما تحمله طعام يؤكل ] قد عرض لها محمد في أصحابه . الغوث الغوث . والله ما أرى أن تدركوها ! وقد جدّع أذني بعيره , وشق قميصه وحول رحله . فلم تملك قريش من أمرها شيئاً حتى نفروا على الصعب والذلول , وتجهزوا في ثلاثة أيام . وقيل في يومين . وأعان قويهم ضعيفهم . وقام سهيل بن عمرو , وزمعة بن الأسود , وطعيمة بن عدي , وحنظلة بن أبي سفيان , وعمرو بن أبي سفيان , يحضون الناس على الخروج . فقال سهيل:يا آل غالب , أتاركون أنتم محمداً والصباة [ أي المرتدين , يقصد المسلمين ! ] من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأمواكم ? من أراد مالاً فهذا مال , ومن أراد قوة فهذه قوة . فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ! ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحُملان [ أي ما يحمل عليه من الدواب , يقال فيما يكون هبة خاصة ] لمن خرج . فقال عبد الله بن أبي ربيعة:هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت . وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاث مائة دينار قوى بها في السلاح والظهر , وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة . وكان لا يتخلف أحداً من قريش إلا بعث مكانه بعيثا . ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحداً , ويقال:إنه بعث مكانه العاصي , ابن هشام بن المغيرة - وكان له عليه دين - فقال:اخرج , وديني لك . فخرج عنه ! . . . وأخذ عداس [ وهو الغلام النصراني الذي أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بقطف من العنب لرسول الله [ ص ] يوم خرج إلى الطائف فرده أهله رداً قبيحا , وأتبعوه السفهاء والصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين , فلجأ منهم إلى بستان عتبة وشيبة . وقد وقع في نفس عداس ما وقع من أمر رسول الله [ ص ] , فأكب على يديه وقدميه يقبلهما ! ] يخذل شيبةوعتبة ابني ربيعة عن الخروج , والعاص بن منبه بن الحجاج . وأبي أمية بن خلف أن يخرج , فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فعنفاه . فقال ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي ! فابتاعوا له جملاً بثلاث مائة درهم من نعم بني قشير , فغنمه المسلمون ! . . وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر . ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دماً من أسفله وأعلاه . ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها [ وفيها نذير لقريش بالقتل والدم في كل بيت ] . . . فكره أهل الرأي المسير , ومشى بعضهم إلى بعض , فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر , وأمية بن خلف , وعتبة وشيبة ابنا ربيعة , وحكيم بن حزام , وأبو البختري [ ابن هشام ] وعلي بن أمية بن خلف , والعاص بن منبه ; حتى بكتهم أبو جهل , وأعانه عقبة بن أبي معيط , والنضر بن الحارث بن كلدة , فاجمعوا المسير . . وخرجت قريش بالقيان والدفاف يغنين في كل منهل , وينحرون الجزر , وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً . . وقادوا مائة فرس , عليها مائة دارع سوى دروع المشاة . وكانت إبلهم سبعمائة بعير . وهم كما ذكر الله تعالى عنهم بقولهولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس , ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). . [ الأنفال:47 ] .
وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول الله [ ص ] وأصحابه , لما يريدون من أخذ عيرهم , وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه [ في سرية عبد الله بن جحش ] . . وأقبل أبو سفيان بالعير ومعها سبعون رجلاً [ في رواية ابن إسحاق ثلاثون رجلاً ] منهم مخرمة بن نوفل , وعمرو ابن العاص , فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال . وقد خافوا خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة , واستبطأوا ضمضم بن عمرو والنفير [ الذين نفروا بن قريش ليمنعوا عيرهم ] . . فأصبح أبو سفيان ببدر وقد تقدم العير وهو خائف من الرصد . فضرب وجه عيره , فساحل بها [ أي اتجه إلى ساحل البحر بعيداً عن طريق المدينة ] وترك بدراً يساراً , وانطلق سريعاً . . وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل . يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر . . وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع , ويخبرهم أن قد نجت عيرهم . فلا تجزروا أنفسكم أهل يثرب [ يعني لا تعرضوا أنفسكم لأن يذبحكم أهل يثرب ] فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك . إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم , وقد نجاها الله ! فعالج قريشاً فأبت الرجوع [ من الجحفة ] . وقال أبو جهل:لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا ; فلن تزال العرب تهابنا أبداً . . وعاد قيس إلى أبي سفيان , فأخبره بمضى قريش . فقال:واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم . إن أصاب محمد النفير ذللنا . .
قال ابن إسحاق:وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي , وكان حليفاً لبني زهرة , وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم , وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل . وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها , وارجعوا , فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة . لا ما يقول هذا [ يعني أبا جهل ] فرجعوا , فلم يشهدها زهري واحد . . ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس , إلا بني عدي ابن كعب , لم يخرج منهم رجل واحد [ في إمتاع الأسماع أن طعمة بن عدي حمل على عشرين بعيراً , وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ] . . وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة . فقالوا:والله لقد عرفنا يا بني هاشم , وإن خرجتم معنا , إن هواكم لمع محمد . فرجع طالب إلى مكة مع من رجع !
قال ابن إسحاق:وخرج رسول الله [ ص ] في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه .
وكانت إبل أصحاب رسول الله [ ص ] يومئذ سبعين بعيراً فاعتقبوها [ أي كانوا يركبونها بالتعاقب ] فكان رسول الله [ ص ] وعلي بن أبي طالب , ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً . وكان حمزة بن عبد المطلب , وزيد بن حارثة , وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله [ ص ] يعتقبون بعيراً . وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً . .
قال المقريزي في إمتاع الأسماع:
ومضى رسول الله [ ص ] حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش . فاستشار الناس , فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال فأحسن . ثم قام عمر فقال فأحسن . ثم قال:يا رسول الله , إنها والله قريش وعزها , والله ما ذلت منذ عزت , والله ما آمنت منذ كفر
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانفال=من الاية 1 الى الاية 18 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانفال ايه 23==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الشعراء من الاية 54 الى 108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الشعراء من الاية 14 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانفال الاية 19 الى الاية 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانفال ايه 23==35 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الشعراء من الاية 54 الى 108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الشعراء من الاية 14 الى 54 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى