تفسير سورة المائده ايه 78==88 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة المائده ايه 78==88 الشيخ سيد قطب
من الاية 78 الى الاية 79
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)
على دين الله . والله سبحانه يقول:إنهم كفروا بسبب هذه المقولات .
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لايكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام , فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله . بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله .
والحقيقية الثالثة:المترتبة على هاتين الحقيقتين , أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام , ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد [ ص ] هو وحده "الدين" عند الله . .
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل "الأديان" أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام ! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل , لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها . فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة . . في اعتبار الإسلام . .
الدرس الخامس:78 - 79 لعن اليهود على لسان أنبيائهم والسبب في ذلك
وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل , على مدى التاريخ ; ممثلا في موقف داود وموقف عيسى - عليهما السلام - وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل , واستجاب الله له . بسبب عصيانهم وعدوانهم , وبسبب انحلالهم الاجتماعي , وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه ; وبسبب توليهم الكافرين ; فباءوا بالسخط واللعنة , وكتب عليهم الخلود في العذاب .
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون ! ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . .
وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق . وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم , هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله ; فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل .
والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة ; وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرن كل رسول ويعزرونه ويتبعونه:
(ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .
فهي المعصية والاعتداء ; يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء . وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء . . كما فصل الله في كتابه الكريم .
ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل . ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها ; وأن يسكت عنها المجتمع . ولا يقابلها بالتناهي والنكير:
(كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون !). .
إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين . فالأرض لا تخلو من الشر ;والمجتمع لا يخلو من الشذوذ , ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه ; وأن يصبحا سهلا يجترى ء عليه كل من يهم به . . وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ; ويصبح الجزاء على الشرك رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه ; وتوقع العقوبة الرادعة عليه . . عندئذ ينزوي الشر , وتنحسر دوافعه . وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه . وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع , ولا يسمح لها بالسيطرة ; وعندئذ لا تشيع الفاحشة . ولا تصبح هي الطابع العام !
والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد , يريد للجماعة المسلمة أن تكون لها كيان حي متجمع صلب ; يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية , قبل أن تصبح ظاهرة عامة ; ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق , وحساسا تجاه الاعتداء عليه ; ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها , فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء . . ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم ; أو الأغنياء المتسلطين بالمال ; أو الأشرار المتسلطين بالأذى ; أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله , والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء .
والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة ; فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ; ويجعل الأمانة في عنق كل فرد , بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود , قال:قال رسول الله [ ص ]:" لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم , وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله بعضهم ببعض , ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم . . . [ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ] . " وكان الرسول [ ص ] متكئا فجلس , فقال:" ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا " .
وروى أو داود - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود قال:قال رسول الله [ ص ] " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل , فيقول:يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد , فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " , ثم قال:" (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)- إلى قولهفاسقون)" ثم قال:" كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر , ولتأخذن على يد الظالم , ولتأطرنه على الحق أطراً - أو تقصرنه على الحق قصراً - "
فليس هو مجرد الإمر والنهي , ثم تنتهي المسأله , إنما هو الإصرار , والمقاطعه , والكف بالقوه عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء .
وروي مسلم - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله [ ص ] " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ; فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه . . وذلك أضعف الإيمان " .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميره قال - سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" إن الله لا يعذب العامه بعمل الخاصه , حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم - وهم قادرون على أن ينكروه - فلا ينكرونه . فإذا فعلوا عذب الله العامه والخاصه " .
وروى أبو داود والترمذي - بإسناده - عن أبي سعيد قال:قال:رسول الله [ ص ]:" أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر " . .
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى ; لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها - وهو يرى المنكر يقع من غيره -:وأنا مالي ?! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع , بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى ?! وهذه الغيرة على حرمات الله , والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله . . هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به . .
وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله ; ومعرفة تكاليف هذا الإيمان . وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله ; ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة . وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة , والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله . . فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله ; ويقيم حياته كلها على منهجه ; هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم ; أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان ! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض ; والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد ; وتعتبر الفسق والفجور والمعصية "مسائل شخصية " ! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها . . كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه , ويعقد الألسنة , وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان . .
إن الجهد الأصيل , والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير . . والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله . . قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية , شخصية وفردية ; عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله ; وحين تطغى الجاهلية , وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله ; وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس , وأن تنبت من الجذور ; وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض . . وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس .
وهذا يحتاج إلى إيمان . وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة . فالايمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ; والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده , فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض , ولا تقديرا من المجتمع الضال , ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان !
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم . مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله , ويتحاكم إلى شريعته , مهما وجد فيه من طغيان الحكم , في بعض الأحيان , ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان . . وهكذا نجد في قول الرسول [ ص ]:" أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر " . . فهو "إمام" ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ; وبتحكيم شريعته . فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له:"إمام" إنما يقول عنه الله - سبحانه - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .
فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله , فالمنكر الأكبر فيها والأهم , فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات . . هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار , قبل الدخول في المنكرات الجزئية , التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر , وفرع عنه , وعرض له . .
إنه لا جدوى من ضياع الجهد . . جهد الخيرين الصالحين من الناس . . في مقاومة المنكرات الجزئية , الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول . . منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية , ورفض ألوهية الله , برفض شريعته للحياة . . لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .
على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات ? بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم:إن هذا منكر فاجتنبوه ? أنت تقول:إن هذا منكر ; فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك:كلا ! ليس هذا منكرا . لقد كان منكرا في الزمان الخالي ! والدنيا "تتطور" , والمجتمع "يتقدم" وتختلف الاعتبارات !
فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال , ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم ? ومن أين نأتي بهذا الميزان ?
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال ? إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها , وإلى خضم لا معالم فيه !
فلا بد ابتداء من إقامة الميزان . . ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء . .
هذا الميزان الثابت هو ميزان الله . .
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله ? ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله ? بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ?
ألا يكون جهدا ضائعا , وعبثا هازلا , أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة , تختلف عليها الموازين والقيم , وتتعارض فيها الآراء والأهواء ?!
إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم , وعلى ميزان , وعلى سلطان , وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء . .
لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة . والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان ! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن , ولتحشد كلها في جبهة واحدة , لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان !
وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين , ينفقون جهدهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الفروع ; بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ; ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مقطوع !
فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ; فيستحيل ماله كله حراما ; ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال . . لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!
وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!
وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر , ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام . وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله ?!
وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ; في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ; ولا يعبد فيه الله . إنما هو يتخذ أربابا من دونه ; ينزلون له شريعته وقانونه ; ونظامه وأوضاعه , وقيمة وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله . إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ; ويضعون لهم القيم والموازين ?!
ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ? ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها . . كبيرة الكفر بالله ; برفض منهجه للحياة ?!
إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق , مما ينفق فيه هؤلاء "الطيبون" جهدهم وطاقتهم واهتمامهم . . إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات - مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله . فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه . فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ; تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ; واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة . . فكل جهد في الفروع ضائع ; وكل محاولة في الفروع عبث . . والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات . .
والرسول [ ص ] يقول:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان " . .
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ; ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ; فيبقى أضعف الإيمان ; وهو تغييره بقلوبهم ; وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه , إن هم كانوا حقا على الإسلام !
وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر - كما يلوح في بادىء الأمر - وتعبير الرسول [ ص ] بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته . فإنكار المنكر بالقلب , معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر . . إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له , ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به . . وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر , ولإقامة الوضع "المعروف" في أول فرصة تسنح , وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة . . وهذا كله عمل إيجابي في التغيير . . وهو على كل حال أضعف الإيمان . فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان ! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع , ولأن له ضغطا - قد يكون ساحقا - فهو الخروج من آخر حلقة , والتخلي حتى عن أضعف الإيمان ! هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون ! . .
الدرس السادس:80 - 81 تحالف اليهود مع باقي الكفار لحرب الحق
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل , وهو نهاية هذا الجزء . فيصف حالهم
من الاية 80 الى الاية 81
تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
على عهد الرسول [ ص ] وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان , فهم يتولون الذين كفروا , ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة . وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير . . فهم غير مؤمنين . ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين:
(ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون). .
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود - على عهد رسول الله [ ص ] ينطبق على حالهم اليوم وغدا , وفي كل حين . كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم . . مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن , وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن . .
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ; ويؤلبونهم على المسلمين , (ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا). . كما حكى عنهم القرآن الكريم . وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب , ومن قبلها ومن بعدها كذلك ; إلى اللحظة الحاضرة . . وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين !
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب , فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين ! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك , كلما كانت المعركة مع المسلمين ! حتى و"المسلمون" لا يمثلون الإسلام في شيء . إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ; ومن ينتمون إليه , ولو كانوا في انتمائهم مدعين !
وصدق الله العظيم: (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا). .
(لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون). .
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم . . إنها سخط الله عليهم . وخلودهم في العذاب . فما أبأسها من حصيلة ! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ; ويا لها من ثمرة مرة . ثمرة توليهم للكافرين !
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم ? فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله:في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ; وأعدائه الذين يتولون الكافرين !
وما الدافع ? ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ? إنه عدم الإيمان بالله والنبي:
(ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون). .
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ; فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . .
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة:
الحقيقة الأولى:أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد [ ص ] غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك . (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء)وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .
والحقيقة الثانية:أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله , على لسان محمد [ ص ] فإن استجابوا فقد أمنوا , وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله .
والحقيقة الثالثة:أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين , في شأن من الشئون . لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ; وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ; وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ; وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . .
هذا هو الإسلام . . في وضوحه ونصاعته . وفي بره وسماحته . .
والله يقول الحق . وهو يهدي السبيل .
انتهى الجزء السادس
ويليه الجزء السابع مبدوءا بقوله تعالى:
(لتجدن أشد الناس عداوة الذين آمنوا)
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة المائدة وأوائل سورة الأنعام
الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء السابع تماسك بناء منهج سورة المائدة في إنشاء الأمة وتنظيم المجتمع المسلم
يتألف هذا الجزء من بقية سورة المائدة - التي وردت أوائلها وسبق الحديث عنها في الجزء السادس - ومن أوائل سورة الأنعام إلى قوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة . . . وسنرجى ء الحديث عن هذا الشطر الثاني من هذا الجزء إلى موضعه - حين نستعرض سورة الأنعام , ونمضي هنا في الحديث عن الشطر الأول المكون من بقية سورة المائدة .
لقد جاءت في التعريف بهذه السورة - في الجزء السادس - هذه العبارات:
"نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ; وليقيم به دولة , ولينظم به مجتمعا ; وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ; وليجدد به روابط ذلك المجتمع فيما بينه , وروابط تلك الدولة مع سائر الدول , وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد , يجمع متفرقه ; ويؤلف أجزاءه ; ويشدها كلها إلى مصدر واحد , وإلى سلطان واحد , وإلى جهة واحدة . . وذلك هو "الدين" كما هو في حقيقته عند الله ; وكما عرفه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين" ! "
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ; الرابط بينها هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:إنشاء أمة , وإقامة دولة , وتنظيم مجتمع , على أساس من عقيدة خاصة , وتصور معين , وبناء جديد , الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان , وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك .
"وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم إلى جانب تعريف الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها , وحقيقة دورها , وطبيعة طريقها , وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم , وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها . . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ; والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح , وألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة , تمثل معنى "الدين" كما أراده الله , وكما فهمه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين" .
وعلى ضوء هذا التصوير العام لطبيعة السورة ومحتوياتها , نستطيع أن نمضي مع بقيتها في هذا الجزء . فنجدها تضم بقية من موضوعات السورة التي أشرنا إليها , والتي سبق بعضها في الجزء السادس .
نجد بقية عن المعسكرات المتعددة التي تواجه الأمة المسلمة في المدينة - ومن عجب أنها هي التي تواجه حركات البعث الإسلامي دائما - والعداء الذي تنطوي عليه صدورها ; مع التفاوت في مواقف بعض هذه المعسكرات ; وميل فئات منها للهدى كبعض فئات النصارى التي استجابت لدعوة الرسول [ ص ] ولانت قلوبها لما سمعت من الهدى , وفازت بثواب الله وجنات تجري من تحتها الأنهار .
ونجد بقية من الحديث عن حق التشريع بالحل والحرمة ; والنهي عن الاعتداء بالتحريم والتحليل بغير سلطان من الله ; وتذكير الذين آمنوا بتقوى الله في هذا الأمر الذي يتعلق به الإيمان والكفر بعد ما أعلنوا الإيمان .
يتلو ذلك بقية من الأحكام التشريعية في الأيمان , والخمر والميسر والأنصاب والأزلام , والصيد في حالة الإحرام , وحرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد . . مع التنبيه المتكرر إلى وجوب الالتزام والطاعة لما يشرعه الله - سبحانه - وما يأمر به نبيه [ ص ] والنهي والتحذير من المخالفة , والتهديد بالعذاب الأليم , والانتقام من الله , والتذكير بالله الذي إليه يحشرون .
ثم بقية في تربية الجماعة المسلمة . بتقرير القيم التي تتعامل بها , فلا تعجبها كثرة الخبيث ولكن يعجبها الطيب الزكي . وفي أدبها الواجب مع ربها ومع رسولها . فلا تسأله عما لم يبده ولا تطلب تفصيل ما أجمله .
ثم إبطال ما تبقى من تقاليد الجاهلية وشرائعها المتخلفة من شركها ووثنيتها , في بعض أنواع الأنعام والذبائح:كالبحيرة , والسائبة , والوصيلة والحامي . . مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلها ; ورد الأمر في هذا إلى الله وحده , لا إلى عرف البشر واصطلاحهم .
ذلك مع تنبيه الأمة المسلمة إلى تميزها بذاتها , وتضامنها فيما بينها , وانفصالها عن سواها ; وتبعتها الخاصة , وبراءتها من تبعات أهل الضلال ; ورد أمر جزائها وجزاء غيرها إلى الله وحده في دار الجزاء .
وينتهي الحديث عن قضية التشريع كلها بحكم الإشهاد على الوصية في حالة السفر والبعد عن الحاضرة ; وتنطيم الإسلام لمثل هذه الأقضية في مجتمع يجاهد في سبيل الله , ويضرب في الأرض كذلك للتجارة ابتغاء فضل الله . مع ربط التشريع بمخافة الله في الدنيا والآخرة .
أما بقية السورة فتتضمن بقية في تصحيح عقيدة النصارى - من اهل الكتاب - ومن أجل هذا يعاد عرض طرف من قصة مريم وعيسى ; والمعجزات التي أجراها الله على يديه ; ومسألة المائدة التي طلبها الحواريون . . ثم تعرض قضية ألوهية عيسى وأمه ودعاوى النصارى فيها ; حيث يكذب عيسى - عليه السلام - أن يكون هو قد ادعاها , ويبرى ء نفسه من هذه الفرية أمام ربه في مشهد مرهوب من مشاهد القيامة ; ويدع أمر قومه لله ربه وربهم على ملأ من البشرية بأجمعها , والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم شهود . .
وتختم السورة بتقرير ملكية الله للسماوات والأرض وما فيهن , وقدرته التي لا حدود لها ولا قيود: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن , والله على كل شيء قدير . .
ومن هذا الاستعراض السريع لبقية محتويات السورة , يتجلى التماسك في بنائها - حسب منهجها في تناول هذه المحتويات وهو المنهج الذي أشرنا إليه في مطالع السورة ونقلنا فقرات منه في مطلع هذا البيان الوجيز .
فنمضي الآن بالتفصيل مع السورة في مواجهة النصوص:
من الاية 82 الى الاية 83
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
الوحدة السابعة:82 - 86 ثناء على النصارى الذين دخلوا في الإسلام
هذه البقية من الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين , ومواقفهم من الرسول [ ص ] ومن الأمة المسلمة ; هي طرف من الحديث الطويل الذي تضمنته السورة من قبل خلال أكثر من [ ربعين ] فقد تناخرج مخرج العموم , لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ; وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى , ويجده كل من يتأمل !
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا , حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة , وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول:إن هذا "على الأقل" . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة , فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا !
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام [ ص ] وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل , والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا , وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة , معاهدة تعايش مع اليهود ; ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل , حتى قال الله فيهمولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ? بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام , فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج , ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله [ ص ] فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية , وأفادتها من قرون السبي في بابل , والعبودية في مصر , والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ , فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ; وراحوا يجمعون القبائل المتفرقةلحرب الجماعة المسلمة: (ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) .
ولما غلبهم الاسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين , وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في انحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الارض ; وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة , وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين , ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ; وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ; وبين قريش في مكة , وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام , وجمع الشراذم , وأطلق الشائعات , في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله [ ص ] وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ; ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال "الدستور" بها في عهد السلطان عبدالحميد , ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي "البطل" أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا , وأعرض مجالا , من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ; ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . . [ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية , التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول:
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي , فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة , التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام , فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
(ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا , وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون:ربنا آمنا , فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم). .
إن هذة الآيات تصور حالة , وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام -: (الذين قالوا:إنا نصارى). . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة , هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين , فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها , ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة , وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص:
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس , قالوا:إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد , ولا يدع الأمر مجهلا ومعمما على كل من قالوا:إنا نصارى . . إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها:
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون ربنا آمنا , فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . .
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس , الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا . . إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم , ولانت قلوبهم , وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه . والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير - وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول , فيفيض الدمع , ليؤدي ما لا يؤديه القول ; وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف .
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ; ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن ; والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان . . إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق ! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا . . موقف القبول لهذا الحق , والإيمان به , والإذعان لسلطانه , وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذغان في لهجة قوية عميقة صريحة:
من الاية 84 الى الاية 86
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
(يقولون:ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ?). .
إنهم اولا يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه . ثم يدعونه - سبحانه - أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق ; وأن يسلكهم في سلك الامة القائمة عليه في الأرض . . الأمه المسلمه , التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق , وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر . . فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة ; ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعة هذة الأمة ; ويدعونه - سبحانه - أن يكتبهم في سجلها . .
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله ; أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به , ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم , ويرفع مقامهم عنده , فيدخلهم مع القوم الصالحينوما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ?). .
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة , ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر , ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة , مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق ; الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض , والتمكين له في حياة الناس ثم وضوح الطريق ففي تقديرهم وتوحده ; بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد:هو طريق الإيمان بالله , وبالحق الذي أنزله على رسوله , والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا إنا نصارى ; وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول [ ص ] من الحق ; وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح , بالإيمان المعلن , والانضمام إلى الصف المسلم ; والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال ; والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو ; مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين . . لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل يتابع خطاه لتكملة الصورة , ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلا:
(فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين). .
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم ; وصدق عزيمتهم على المضى في الطريق ; وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه ; ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه , واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة - بكل تكاليفها في النفس والمال - منة يمن الله بها على من يشاء من عباده ; واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونة إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه ; ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين . .
لقد علم الله منهم هذا كله ; فقبل منهم قولهم وكتب لهم الجنة جزاء لهم ; وشهد لهم - سبحانه - بأنهم محسنون , وأنه يجزيهم جزاء المحسنينفأثابهم الله - بما قالوا - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . . وذلك جزاء المحسنين . .).
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام . . والله - جل جلاله - قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين .
هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى). .
هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه , بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة . وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام , والانضمام للصف المسلم ; والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة ; وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا:إنا نصارى ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون , ولايستجيبون له , ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدينوالذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم):. .
والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون . . والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى ; ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء ; ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق ; وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه:
(لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة). .
(إن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية). .
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة). .
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم). .
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم). .
فهو تعبير مألوف في القرآن , وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا:إنا نصارى ; وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا ; وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وأولئك أصحاب الجحيم . .
وليس كل من قالوا:إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا). . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا , ولا ملامحها مجهلة , ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل . .
ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص:
أورد القرطبي في تفسيره:"وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه , لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم ; وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله [ ص ] إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه , حالت بينهم وبين رسول الله [ ص ] الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار , قال كفارقريش:إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي واب
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)
على دين الله . والله سبحانه يقول:إنهم كفروا بسبب هذه المقولات .
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لايكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام , فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله . بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله .
والحقيقية الثالثة:المترتبة على هاتين الحقيقتين , أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام , ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد [ ص ] هو وحده "الدين" عند الله . .
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل "الأديان" أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام ! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل , لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها . فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة . . في اعتبار الإسلام . .
الدرس الخامس:78 - 79 لعن اليهود على لسان أنبيائهم والسبب في ذلك
وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل , على مدى التاريخ ; ممثلا في موقف داود وموقف عيسى - عليهما السلام - وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل , واستجاب الله له . بسبب عصيانهم وعدوانهم , وبسبب انحلالهم الاجتماعي , وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه ; وبسبب توليهم الكافرين ; فباءوا بالسخط واللعنة , وكتب عليهم الخلود في العذاب .
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون ! ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . .
وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق . وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم , هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله ; فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل .
والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة ; وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرن كل رسول ويعزرونه ويتبعونه:
(ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .
فهي المعصية والاعتداء ; يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء . وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء . . كما فصل الله في كتابه الكريم .
ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل . ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها ; وأن يسكت عنها المجتمع . ولا يقابلها بالتناهي والنكير:
(كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون !). .
إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين . فالأرض لا تخلو من الشر ;والمجتمع لا يخلو من الشذوذ , ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه ; وأن يصبحا سهلا يجترى ء عليه كل من يهم به . . وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ; ويصبح الجزاء على الشرك رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه ; وتوقع العقوبة الرادعة عليه . . عندئذ ينزوي الشر , وتنحسر دوافعه . وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه . وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع , ولا يسمح لها بالسيطرة ; وعندئذ لا تشيع الفاحشة . ولا تصبح هي الطابع العام !
والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد , يريد للجماعة المسلمة أن تكون لها كيان حي متجمع صلب ; يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية , قبل أن تصبح ظاهرة عامة ; ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق , وحساسا تجاه الاعتداء عليه ; ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها , فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء . . ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم ; أو الأغنياء المتسلطين بالمال ; أو الأشرار المتسلطين بالأذى ; أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله , والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء .
والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة ; فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ; ويجعل الأمانة في عنق كل فرد , بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود , قال:قال رسول الله [ ص ]:" لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم , وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله بعضهم ببعض , ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم . . . [ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ] . " وكان الرسول [ ص ] متكئا فجلس , فقال:" ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا " .
وروى أو داود - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود قال:قال رسول الله [ ص ] " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل , فيقول:يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد , فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " , ثم قال:" (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)- إلى قولهفاسقون)" ثم قال:" كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر , ولتأخذن على يد الظالم , ولتأطرنه على الحق أطراً - أو تقصرنه على الحق قصراً - "
فليس هو مجرد الإمر والنهي , ثم تنتهي المسأله , إنما هو الإصرار , والمقاطعه , والكف بالقوه عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء .
وروي مسلم - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله [ ص ] " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ; فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه . . وذلك أضعف الإيمان " .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميره قال - سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" إن الله لا يعذب العامه بعمل الخاصه , حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم - وهم قادرون على أن ينكروه - فلا ينكرونه . فإذا فعلوا عذب الله العامه والخاصه " .
وروى أبو داود والترمذي - بإسناده - عن أبي سعيد قال:قال:رسول الله [ ص ]:" أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر " . .
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى ; لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها - وهو يرى المنكر يقع من غيره -:وأنا مالي ?! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع , بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى ?! وهذه الغيرة على حرمات الله , والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله . . هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به . .
وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله ; ومعرفة تكاليف هذا الإيمان . وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله ; ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة . وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة , والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله . . فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله ; ويقيم حياته كلها على منهجه ; هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم ; أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان ! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض ; والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد ; وتعتبر الفسق والفجور والمعصية "مسائل شخصية " ! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها . . كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه , ويعقد الألسنة , وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان . .
إن الجهد الأصيل , والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير . . والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله . . قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية , شخصية وفردية ; عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله ; وحين تطغى الجاهلية , وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله ; وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس , وأن تنبت من الجذور ; وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض . . وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس .
وهذا يحتاج إلى إيمان . وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة . فالايمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ; والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده , فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض , ولا تقديرا من المجتمع الضال , ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان !
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم . مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله , ويتحاكم إلى شريعته , مهما وجد فيه من طغيان الحكم , في بعض الأحيان , ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان . . وهكذا نجد في قول الرسول [ ص ]:" أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر " . . فهو "إمام" ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ; وبتحكيم شريعته . فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له:"إمام" إنما يقول عنه الله - سبحانه - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .
فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله , فالمنكر الأكبر فيها والأهم , فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات . . هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار , قبل الدخول في المنكرات الجزئية , التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر , وفرع عنه , وعرض له . .
إنه لا جدوى من ضياع الجهد . . جهد الخيرين الصالحين من الناس . . في مقاومة المنكرات الجزئية , الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول . . منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية , ورفض ألوهية الله , برفض شريعته للحياة . . لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .
على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات ? بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم:إن هذا منكر فاجتنبوه ? أنت تقول:إن هذا منكر ; فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك:كلا ! ليس هذا منكرا . لقد كان منكرا في الزمان الخالي ! والدنيا "تتطور" , والمجتمع "يتقدم" وتختلف الاعتبارات !
فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال , ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم ? ومن أين نأتي بهذا الميزان ?
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال ? إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها , وإلى خضم لا معالم فيه !
فلا بد ابتداء من إقامة الميزان . . ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء . .
هذا الميزان الثابت هو ميزان الله . .
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله ? ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله ? بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ?
ألا يكون جهدا ضائعا , وعبثا هازلا , أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة , تختلف عليها الموازين والقيم , وتتعارض فيها الآراء والأهواء ?!
إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم , وعلى ميزان , وعلى سلطان , وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء . .
لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة . والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان ! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن , ولتحشد كلها في جبهة واحدة , لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان !
وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين , ينفقون جهدهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الفروع ; بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ; ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مقطوع !
فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ; فيستحيل ماله كله حراما ; ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال . . لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!
وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!
وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر , ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام . وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله ?!
وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ; في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ; ولا يعبد فيه الله . إنما هو يتخذ أربابا من دونه ; ينزلون له شريعته وقانونه ; ونظامه وأوضاعه , وقيمة وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله . إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ; ويضعون لهم القيم والموازين ?!
ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ? ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها . . كبيرة الكفر بالله ; برفض منهجه للحياة ?!
إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق , مما ينفق فيه هؤلاء "الطيبون" جهدهم وطاقتهم واهتمامهم . . إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات - مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله . فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه . فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ; تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ; واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة . . فكل جهد في الفروع ضائع ; وكل محاولة في الفروع عبث . . والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات . .
والرسول [ ص ] يقول:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان " . .
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ; ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ; فيبقى أضعف الإيمان ; وهو تغييره بقلوبهم ; وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه , إن هم كانوا حقا على الإسلام !
وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر - كما يلوح في بادىء الأمر - وتعبير الرسول [ ص ] بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته . فإنكار المنكر بالقلب , معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر . . إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له , ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به . . وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر , ولإقامة الوضع "المعروف" في أول فرصة تسنح , وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة . . وهذا كله عمل إيجابي في التغيير . . وهو على كل حال أضعف الإيمان . فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان ! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع , ولأن له ضغطا - قد يكون ساحقا - فهو الخروج من آخر حلقة , والتخلي حتى عن أضعف الإيمان ! هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون ! . .
الدرس السادس:80 - 81 تحالف اليهود مع باقي الكفار لحرب الحق
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل , وهو نهاية هذا الجزء . فيصف حالهم
من الاية 80 الى الاية 81
تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
على عهد الرسول [ ص ] وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان , فهم يتولون الذين كفروا , ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة . وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير . . فهم غير مؤمنين . ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين:
(ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون). .
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود - على عهد رسول الله [ ص ] ينطبق على حالهم اليوم وغدا , وفي كل حين . كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم . . مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن , وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن . .
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ; ويؤلبونهم على المسلمين , (ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا). . كما حكى عنهم القرآن الكريم . وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب , ومن قبلها ومن بعدها كذلك ; إلى اللحظة الحاضرة . . وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين !
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب , فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين ! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك , كلما كانت المعركة مع المسلمين ! حتى و"المسلمون" لا يمثلون الإسلام في شيء . إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ; ومن ينتمون إليه , ولو كانوا في انتمائهم مدعين !
وصدق الله العظيم: (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا). .
(لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون). .
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم . . إنها سخط الله عليهم . وخلودهم في العذاب . فما أبأسها من حصيلة ! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ; ويا لها من ثمرة مرة . ثمرة توليهم للكافرين !
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم ? فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله:في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ; وأعدائه الذين يتولون الكافرين !
وما الدافع ? ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ? إنه عدم الإيمان بالله والنبي:
(ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون). .
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ; فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . .
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة:
الحقيقة الأولى:أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد [ ص ] غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك . (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء)وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .
والحقيقة الثانية:أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله , على لسان محمد [ ص ] فإن استجابوا فقد أمنوا , وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله .
والحقيقة الثالثة:أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين , في شأن من الشئون . لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ; وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ; وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ; وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . .
هذا هو الإسلام . . في وضوحه ونصاعته . وفي بره وسماحته . .
والله يقول الحق . وهو يهدي السبيل .
انتهى الجزء السادس
ويليه الجزء السابع مبدوءا بقوله تعالى:
(لتجدن أشد الناس عداوة الذين آمنوا)
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة المائدة وأوائل سورة الأنعام
الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء السابع تماسك بناء منهج سورة المائدة في إنشاء الأمة وتنظيم المجتمع المسلم
يتألف هذا الجزء من بقية سورة المائدة - التي وردت أوائلها وسبق الحديث عنها في الجزء السادس - ومن أوائل سورة الأنعام إلى قوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة . . . وسنرجى ء الحديث عن هذا الشطر الثاني من هذا الجزء إلى موضعه - حين نستعرض سورة الأنعام , ونمضي هنا في الحديث عن الشطر الأول المكون من بقية سورة المائدة .
لقد جاءت في التعريف بهذه السورة - في الجزء السادس - هذه العبارات:
"نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ; وليقيم به دولة , ولينظم به مجتمعا ; وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ; وليجدد به روابط ذلك المجتمع فيما بينه , وروابط تلك الدولة مع سائر الدول , وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد , يجمع متفرقه ; ويؤلف أجزاءه ; ويشدها كلها إلى مصدر واحد , وإلى سلطان واحد , وإلى جهة واحدة . . وذلك هو "الدين" كما هو في حقيقته عند الله ; وكما عرفه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين" ! "
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ; الرابط بينها هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:إنشاء أمة , وإقامة دولة , وتنظيم مجتمع , على أساس من عقيدة خاصة , وتصور معين , وبناء جديد , الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان , وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك .
"وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم إلى جانب تعريف الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها , وحقيقة دورها , وطبيعة طريقها , وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم , وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها . . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ; والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح , وألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة , تمثل معنى "الدين" كما أراده الله , وكما فهمه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين" .
وعلى ضوء هذا التصوير العام لطبيعة السورة ومحتوياتها , نستطيع أن نمضي مع بقيتها في هذا الجزء . فنجدها تضم بقية من موضوعات السورة التي أشرنا إليها , والتي سبق بعضها في الجزء السادس .
نجد بقية عن المعسكرات المتعددة التي تواجه الأمة المسلمة في المدينة - ومن عجب أنها هي التي تواجه حركات البعث الإسلامي دائما - والعداء الذي تنطوي عليه صدورها ; مع التفاوت في مواقف بعض هذه المعسكرات ; وميل فئات منها للهدى كبعض فئات النصارى التي استجابت لدعوة الرسول [ ص ] ولانت قلوبها لما سمعت من الهدى , وفازت بثواب الله وجنات تجري من تحتها الأنهار .
ونجد بقية من الحديث عن حق التشريع بالحل والحرمة ; والنهي عن الاعتداء بالتحريم والتحليل بغير سلطان من الله ; وتذكير الذين آمنوا بتقوى الله في هذا الأمر الذي يتعلق به الإيمان والكفر بعد ما أعلنوا الإيمان .
يتلو ذلك بقية من الأحكام التشريعية في الأيمان , والخمر والميسر والأنصاب والأزلام , والصيد في حالة الإحرام , وحرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد . . مع التنبيه المتكرر إلى وجوب الالتزام والطاعة لما يشرعه الله - سبحانه - وما يأمر به نبيه [ ص ] والنهي والتحذير من المخالفة , والتهديد بالعذاب الأليم , والانتقام من الله , والتذكير بالله الذي إليه يحشرون .
ثم بقية في تربية الجماعة المسلمة . بتقرير القيم التي تتعامل بها , فلا تعجبها كثرة الخبيث ولكن يعجبها الطيب الزكي . وفي أدبها الواجب مع ربها ومع رسولها . فلا تسأله عما لم يبده ولا تطلب تفصيل ما أجمله .
ثم إبطال ما تبقى من تقاليد الجاهلية وشرائعها المتخلفة من شركها ووثنيتها , في بعض أنواع الأنعام والذبائح:كالبحيرة , والسائبة , والوصيلة والحامي . . مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلها ; ورد الأمر في هذا إلى الله وحده , لا إلى عرف البشر واصطلاحهم .
ذلك مع تنبيه الأمة المسلمة إلى تميزها بذاتها , وتضامنها فيما بينها , وانفصالها عن سواها ; وتبعتها الخاصة , وبراءتها من تبعات أهل الضلال ; ورد أمر جزائها وجزاء غيرها إلى الله وحده في دار الجزاء .
وينتهي الحديث عن قضية التشريع كلها بحكم الإشهاد على الوصية في حالة السفر والبعد عن الحاضرة ; وتنطيم الإسلام لمثل هذه الأقضية في مجتمع يجاهد في سبيل الله , ويضرب في الأرض كذلك للتجارة ابتغاء فضل الله . مع ربط التشريع بمخافة الله في الدنيا والآخرة .
أما بقية السورة فتتضمن بقية في تصحيح عقيدة النصارى - من اهل الكتاب - ومن أجل هذا يعاد عرض طرف من قصة مريم وعيسى ; والمعجزات التي أجراها الله على يديه ; ومسألة المائدة التي طلبها الحواريون . . ثم تعرض قضية ألوهية عيسى وأمه ودعاوى النصارى فيها ; حيث يكذب عيسى - عليه السلام - أن يكون هو قد ادعاها , ويبرى ء نفسه من هذه الفرية أمام ربه في مشهد مرهوب من مشاهد القيامة ; ويدع أمر قومه لله ربه وربهم على ملأ من البشرية بأجمعها , والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم شهود . .
وتختم السورة بتقرير ملكية الله للسماوات والأرض وما فيهن , وقدرته التي لا حدود لها ولا قيود: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن , والله على كل شيء قدير . .
ومن هذا الاستعراض السريع لبقية محتويات السورة , يتجلى التماسك في بنائها - حسب منهجها في تناول هذه المحتويات وهو المنهج الذي أشرنا إليه في مطالع السورة ونقلنا فقرات منه في مطلع هذا البيان الوجيز .
فنمضي الآن بالتفصيل مع السورة في مواجهة النصوص:
من الاية 82 الى الاية 83
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
الوحدة السابعة:82 - 86 ثناء على النصارى الذين دخلوا في الإسلام
هذه البقية من الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين , ومواقفهم من الرسول [ ص ] ومن الأمة المسلمة ; هي طرف من الحديث الطويل الذي تضمنته السورة من قبل خلال أكثر من [ ربعين ] فقد تناخرج مخرج العموم , لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ; وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى , ويجده كل من يتأمل !
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا , حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة , وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول:إن هذا "على الأقل" . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة , فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا !
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام [ ص ] وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل , والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا , وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة , معاهدة تعايش مع اليهود ; ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل , حتى قال الله فيهمولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ? بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام , فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج , ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله [ ص ] فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية , وأفادتها من قرون السبي في بابل , والعبودية في مصر , والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ , فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ; وراحوا يجمعون القبائل المتفرقةلحرب الجماعة المسلمة: (ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) .
ولما غلبهم الاسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين , وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في انحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الارض ; وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة , وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين , ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ; وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ; وبين قريش في مكة , وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام , وجمع الشراذم , وأطلق الشائعات , في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله [ ص ] وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ; ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال "الدستور" بها في عهد السلطان عبدالحميد , ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي "البطل" أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا , وأعرض مجالا , من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ; ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . . [ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية , التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول:
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي , فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة , التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام , فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
(ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا , وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون:ربنا آمنا , فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم). .
إن هذة الآيات تصور حالة , وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام -: (الذين قالوا:إنا نصارى). . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة , هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين , فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها , ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة , وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص:
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس , قالوا:إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد , ولا يدع الأمر مجهلا ومعمما على كل من قالوا:إنا نصارى . . إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها:
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون ربنا آمنا , فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . .
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس , الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا . . إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم , ولانت قلوبهم , وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه . والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير - وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول , فيفيض الدمع , ليؤدي ما لا يؤديه القول ; وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف .
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ; ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن ; والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان . . إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق ! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا . . موقف القبول لهذا الحق , والإيمان به , والإذعان لسلطانه , وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذغان في لهجة قوية عميقة صريحة:
من الاية 84 الى الاية 86
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
(يقولون:ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ?). .
إنهم اولا يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه . ثم يدعونه - سبحانه - أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق ; وأن يسلكهم في سلك الامة القائمة عليه في الأرض . . الأمه المسلمه , التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق , وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر . . فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة ; ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعة هذة الأمة ; ويدعونه - سبحانه - أن يكتبهم في سجلها . .
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله ; أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به , ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم , ويرفع مقامهم عنده , فيدخلهم مع القوم الصالحينوما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق , ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ?). .
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة , ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر , ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة , مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق ; الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض , والتمكين له في حياة الناس ثم وضوح الطريق ففي تقديرهم وتوحده ; بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد:هو طريق الإيمان بالله , وبالحق الذي أنزله على رسوله , والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا إنا نصارى ; وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول [ ص ] من الحق ; وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح , بالإيمان المعلن , والانضمام إلى الصف المسلم ; والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال ; والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو ; مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين . . لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل يتابع خطاه لتكملة الصورة , ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلا:
(فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين). .
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم ; وصدق عزيمتهم على المضى في الطريق ; وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه ; ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه , واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة - بكل تكاليفها في النفس والمال - منة يمن الله بها على من يشاء من عباده ; واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونة إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه ; ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين . .
لقد علم الله منهم هذا كله ; فقبل منهم قولهم وكتب لهم الجنة جزاء لهم ; وشهد لهم - سبحانه - بأنهم محسنون , وأنه يجزيهم جزاء المحسنينفأثابهم الله - بما قالوا - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . . وذلك جزاء المحسنين . .).
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام . . والله - جل جلاله - قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين .
هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى). .
هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه , بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة . وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام , والانضمام للصف المسلم ; والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة ; وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا:إنا نصارى ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون , ولايستجيبون له , ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدينوالذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم):. .
والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون . . والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى ; ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء ; ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق ; وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه:
(لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة). .
(إن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية). .
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة). .
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم). .
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم). .
فهو تعبير مألوف في القرآن , وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا:إنا نصارى ; وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا ; وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وأولئك أصحاب الجحيم . .
وليس كل من قالوا:إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا). . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا , ولا ملامحها مجهلة , ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل . .
ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص:
أورد القرطبي في تفسيره:"وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه , لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم ; وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله [ ص ] إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه , حالت بينهم وبين رسول الله [ ص ] الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار , قال كفارقريش:إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي واب
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 97==107 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 108==الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه89===96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 97==107 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 108==الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه89===96 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى