تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
من الاية 64 الى الاية 65
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والأمر كما قلنا من قبل في الظلال , يقتضي "سلطة " تأمر وتنهى , والأمر والنهي أمر غير الدعوة . فالدعوة بيان , والأمر والنهي سلطان . وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ; فلا يكون مطلق كلام !
وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم:
وقالت اليهود يد الله مغلولة - غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا , بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء - . .
وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه . فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك . وقد قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا:يد الله مغلولة , يعللون بذلك بخلهم ; فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل . . فكيف ينفقون ?!
وقد بلغ من غلظ حسهم , وجلافة قلوبهم , ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ; فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا:يد الله مغلولة !
ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم , ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم: (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا).
وكذلك كانوا , فهم أبخل خلق الله بمال !
ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ; ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب:
(بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء). .
وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان . . شاهدة باليد المبسوطة , والفضل الغامر , والعطاء الجزيل , ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ; لأنها مشغولة عنها باللم والضم , وبالكنود وبالجحود , وبالبذاءة حتى في حق الله !
ويحدث الله رسوله [ ص ] عما سيبدو من القوم , وعما سيحل بهم , بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ; وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث:
(وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا). .
فبسبب من الحقد والحسد , وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله , سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا . لأنهم وقد أبوا الإيمان , لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ; ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا , وطغيانا وكفرا . فيكون الرسول [ ص ] رحمة للمؤمنين , ووبالا عن المنكرين .
ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ; ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ; ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة:
وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . .
وما تزال طوائف اليهود متعادية . وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ; وتوقد نار الحرب علىالبلاد الإسلامية وتفلح ! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة . ففي خلال ألف وثلاثمائة عام . . بل من قبل الإسلام . . واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد . ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه . مهما تقم حولهم الأسناد . ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة , التي يتحقق لها وعد الله . . فأين هي العصبة المؤمنة اليوم , التي تتلقى وعد الله , وتقف ستارا لقدر الله , ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ?
ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام:تؤمن به على حقيقته ; وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته . . يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله . . واليهود يعرفون هذا , ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ; ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك , على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض , ويضربون - لا بأيديهم - ولكن بأيدي عملائهم - ضربات وحشية منكرة ; لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة . . ولكن الله غالب على أمره . ووعد الله لا بد أن يتحقق:
(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله). .
إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود , لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ; فالله لا يحب الفساد في الأرض ; وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه:
(ويسعون في الأرض فسادا , والله لا يحب المفسدين). .
الدرس السادس:65 - 66 أثر الإيمان وتطبيق شرع الله في الرخاء المعيشي
وفي نهاية الدرس تجيء القاعدة الإيمانية الكبرى - قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء . لا افتراق بين دين ودنيا , ولا افتراق بين دنيا وآخرة . فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة ; للدنيا وللدين . . تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله ; وأكلهم السحت ; وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض . . واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء , وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق:
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ; ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل , وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون). .
إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي , ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية . ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل , وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم ; والعقل البشري , والموازين البشرية , والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج , بإزاء هذا الأمر الخطير . .
إن الله - سبحانه - يقول لأهل الكتاب - ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب - إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم - وهذا جزاء الآخرة . وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم - كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا , ونمت وفاضت عليهم الأزراق , ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق , ووفرة النتاج وحسن التوزيع , وصلاح أمر الحياة . . ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا
من الاية 66 الى الاية 66
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66)
يقيمون منهج الله - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها (وكثير منهم ساء ما يعملون). وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا , لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا , ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة . . وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية . . يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). .
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ; وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا . إنما هو طريق واحد , تصلح به الدنيا والآخرة , فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة . . هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا . .
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب , ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة أنسانية واقعية , يقام , وتقام عليه الحياة . . وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية , وفيض الرزق , ووفرة النتاج , وحسن التوزيع , حتى يأكل الناس جمعيا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم .
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ; ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا , ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا . . وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية .
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم , بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين . ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ; وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ; ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع . . لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا . .
حقيقة:إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله , وعن منهجه للحياة , اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع الدنيوية , أن يتخلوا عن طريق الآخرة ; وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ; والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف , الذي يحض عليه الدين . كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة , والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع , لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق , ولا مرضية لله سبحانه . .
ولكن . . تراها ضربة لازب ! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ? ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ?
كلا . . إنها ليست ضربة لازب ! فالعداء بين الدنيا والآخرة ; والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل . . بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا . إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء !
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ; وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا . وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هوذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ; وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي . .
هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية . . ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس . . فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة , وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة . والخلافة عمل وإنتاج , ووفرة ونماء , وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم , كما يقول الله في كتابه الكريم .
إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله , بإذن الله , وفق شرط الله . . ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر , وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها - بل الخامات والموارد الكونية كذلك - هو الوفاء بوظيفة الخلافة . ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة - وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف - طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ; بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ; ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه , كما يصور التعبير القرآني الجميل !
ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض , ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له , عاصيا لله , ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها , وهو يقول للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). وهو يقول كذلك للناس: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه), ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد . . وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا !
والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق . فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته , ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه . فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي .
هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة , وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله . . فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف . . إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة - في المنهج الإسلامي - لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان . . فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج ; وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله , فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون , ولا يأكل من سحت , ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه - مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع - والمنهج يسجل للفرد عمله - في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات - عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة . . ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ; ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة , وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان , وفي العمر كله بحج بيت الله . وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة . .
ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي . إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة . وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج , الذي ينظم أمر الحياة كلها , ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم . ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل , والتغلب على شهواتالناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق . . وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء , والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض , وتقرير سلطانه في حياة الناس . . إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج , المعين على أداء شطره الآخر . . وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض . كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين . .
إن التصور الإسلامي , وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه , لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا - ولا العكس - إنما يقدمهما معا في طريق واحد , وبجهد واحد . ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة - دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله , أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج - ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل .
والتصور الإسلامي - وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه - لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى , بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية . . وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه ; بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا - كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان ! - فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي - والمنهج الإسلامي - فريضة الخلافة في الأرض . والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى , تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس . . وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا ; والطريق هو الطريق , ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم . والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة , ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع . . لأنهما لا تجتمعان . . !
إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس , وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة , وبين العبادة الروحية والإبداع المادي , وبين النجاح في الحياة الدنيا , والنجاح في الحياة الأخرى . . إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية ! إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله , وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها , معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه . .
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا , فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى . .
إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر , من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه , إذا هم آثروا اطراح الدين كله , على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة , والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم , يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب , ولا تطيق الفراغ والخواء . وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية , أو فلسفية , أو فنية . . على الإطلاق . . لأنها جوعة النزعة إلى إله . .
وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر , إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله ,وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته , وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله , وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني , والسلوك الديني , مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود .
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء , سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية , أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية . . وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله , وأن الحياة للناس ! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق , والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل !
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة . . ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء . . لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ; ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة , بل ينسق . .
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة , في فترة موقوتة , إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي , ولا تقيم منهج الله في حياتها , وهي موفورة الخيرات , كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء . . .
إنه رخاء موقوت , حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت . وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني . . والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم , مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء , وحافلا بالأحقاد , وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة . . وهو بلاء على رغم الرخاء ! . .
وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر , لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع . . وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام !
وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلا أو آجلا - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها . فالعمل والإنتاج والتوزيع , كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق . والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان !
وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال . ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج , وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء ! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار !
وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة ; في هذا العالم المضطرب ; الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة . . وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون ; فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية . . ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء !
وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار - وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي - وليس هذا إلا مثلا للآخرين , في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني ; وافتراق الدنيا والآخرة , وافتراق الدين والحياة ; أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله , واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس ; وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس !
وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة , نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس , وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض , فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب - ولكل جماعة من الناس - أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا , وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة ; وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي - بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة - وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان . .
ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية . . فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة . . فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة ; ويرفع كل قيم الحياة ; ويقوم كل موازين الحياة . . فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي , وكل شيء فيه يجيء تبعا له , ومنبثقا منه ومعتمدا عليه . . ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق .
وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة . . كل أولئك ثمرته للإنسان , وللحياة الإنسانية . فالله - سبحانه - غني عن العالمين . . وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس , وجعلها مناط العمل والنشاط ; ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها , وعده باطلا لا يقبل , وحابطا لا يعيش , وذاهبا مع الريح . . فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة . . ولكن لأنه - سبحانه - يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج . .
في الحديث القدسي:عن أبى ذر - رضي الله عنه - عن النبي [ ص ] فيما روى عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي , وجعلته بينكم محرما , فلا تظالموا . . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته , فاستهدوني أهدكم . . يا عبادي , كلكم جائع إلا من أطعمته , فاستطعموني أطعمكم . . يا عبادي , كلكم عار إلا من كسوته , فاستكسوني أكسكم . . يا عبادي , إنكم تخطئون بالليل والنهار , وأنا أغفر الذنوب جميعا , فاستغفروني أغفر لكم . . يا عبادي , إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني , ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . . يا عبادي , لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم , ما زاد ذلك في ملكي شيئا . . يا عبادي , لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم , كانوا على أفجر قلب رجل واحد , ما نقص ذلك من ملكي شيئا . . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني , فأعطيت كل إنسان مسألته , ما نقص ذلك مما عندي , إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم , ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله ; ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . . [ رواه مسلم ]
وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله . . فهي كلها لحسابنا نحن . . لحساب هذه البشرية . . في الدنيا والآخرة جميعا . . وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا . .
ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول:إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب . فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل . وما أنزل إليهم من ربهم - وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة - فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن . .
أولى بالشرط الذين يقولون:إنهم مسلمون . . فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص:الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل , والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم . . وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد . . وقد انتهى إليه كل دين قبله ; ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره . . أو يقبل من أحد غيره .
فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم . . وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم , وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة ; ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا . .
إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وشرط الله قائم ; والطريق إليه معروف . . لو كانوا يعقلون . .
الوحدة السادسة:67 - 81 الموضوع:بيان كفر وانحراف وإفساد أهل الكتاب مقدمة الوحدة تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب
يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - وكشف الانحراف فيما يعتقدون , وكشف السوء فيما يصنعون ; في تاريخهم كله - وبخاصة اليهود - كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وب
المائدة
من الاية 67 الى الاية 69
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
عليهم ولا هم يحزنون). .
إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول [ ص ] أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا , وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق . . هذا , وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة . . والله يتولى حمايته وعصمته من الناس , ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل !
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم ! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ; وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ; وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ; فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ; ولا تراعي مواقع الرغبات ; إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ . .
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى . . وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ; وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة !
(إن الله لا يهدي القوم الكافرين). .
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة . . والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها , لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق !
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة , لا يعني الخشونة والفظاظة ; فقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق . فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه . والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة , وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها . فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول . . ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول [ ص ] يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ , وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة , فكان مأمورا أن يقول: (يا أيها الكافرون:لا أعبد ما تعبدون . .)فيصفهم بصفتهم ; ويفاصلهم في الأمر , ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه , ولا يدهن فيدهنون , كما يودون ! ولا يقول لهم:إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه , بل يقول لهم:إنهم على الباطل المحض , وإنه على الحق الكامل . . فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة , في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة . .
وهذا النداء , وهذا التكليف , في هذه السورة:
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . . إن الله لا يهدي القوم الكافرين). .
يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه , وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه . . ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء . . ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان . . ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين:
(قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . .).
وحينما كلف الرسول [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان . . بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه ! حينما كلف الرسول [ ص ] بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة , كانوا يتلون كتبهم ; وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية ; وكانوا يقولون:إنهم مؤمنون . . ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله [ ص ] أن يواجههم به , لم يعترف لهم بشيء أصلا الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم , لأن "الدين" وليس كلمات تقال باللسان ; وليس كتبا تقرأ وترتل ; وليس صفة تورث وتدعى . إنما الدين منهج حياة . منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير , والعبادة الممثلة في الشعائر , والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج . . ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه , فقد كلف "الرسول" [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين ; وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل !
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم , مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد [ ص ] فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه . وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر الله وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم:[ سواء كان المقصود بقوله: (وما أنزل إليهم من ربهم)هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود ] . . نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد , الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه . . فهم ليسوا على شيء - بشهادة الله سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الاخير . . والرسول [ ص ] قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم ; وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم ; وإلا فما بلغ رسالة ربه . . ويا له من تهديد !
وكان الله - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة , وبهذه الكلمة الفاصلة , ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا , وعنادا ولجاجا . . ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول [ ص ] أن يواجههم بها ; وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها ; لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق ; وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق . . فيهتدي من يهتدي عن بينة , ويضل من يضل عن بينة , ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة:
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا , فلا تأس على القوم الكافرين . .
وكان الله - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ; ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج ; ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون , إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانا وكفرا ; فهم يستحقون هذا المصير البائس ; لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ; ولا خير في أعماقها ولا صدق . فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ; ليظهر ما كمن فيها وما بطن ; ولتجهر بالطغيان والكفر ; ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين !
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب - على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله [ ص ] وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . فماذا نجد . . ?
نجد أن الله - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي في المواضع الأخرى المتعددة . . فهم إذن لم يعودوا على "دين الله" ولم يعودوا أهل "دين" يقبله الله .
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة . ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها !
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب . . أهل دين . . يستطيع "المسلم" أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين ; كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين ! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ; حتى يعتبرهم المسلم (على شيء)وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). . وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف !
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة , في هياجهم علينا , وفي اشتداد حربهم لنا , ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه , ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبلة الله من الناس . .
إن الله - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه . ولا يقبل منا هذا الاعتراف . ولا يغفر لنا هذا التناصر , ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه . لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ; ونختار في أمرنا غير ما يختار ; ونعترف بعقائد محرفة أنها "دين إلهي , يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي . . والله يقول:إنهم ليسوا على شيء , حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وهم لا يفعلون !
والذين يقولون:إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء , ليسوا على شيء كذلك . فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء . والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه . وأن دعواهم أنهم على دين , يردها عليهم رب الدين . فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ; ودعوتهم إلى "الإسلام" من جديد هي واجب "المسلم" الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته . فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما , ولا تحقق إيمانا , ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله , في أي ملة , وفي أي زمان !
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ; ويقيموا كتاب الله في حياتهم ; يملك "المسلم" أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين , عن "الدين" وعن "المتدينين" . . فأما قبل ذلك فهو عبث ; وهو تمييع , يقوم به خادع أو مخدوع !
إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب , وشعائر تقام للتعبد , ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبارغير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة , وخداع للضمير ; لا يقدم عليه "مسلم" نظيف الضمير !
وعلى "المسلم" أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين . .
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس , إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته , بلا مجاملة ولا مداهنة . . فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء , وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه , وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه . . يدعوهم إلى نقلة بعيدة , ورحلة طويلة , وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم . . فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه . . (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة). .
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق , وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم . . حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات , وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم , لأنه لم يعرفهم حقيقة المطلوب منهم كله , وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه !
إن التلطف في دعوة الناس إلى الله , ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية , لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها . . إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة . أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة , ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة . .
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية . وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض , وهم أصحاب كلمة مسموعة , في الشئون الدولية . وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة . وينظر فيرى الذين يقولون:إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم . . فيتعاظمه الامر , ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة , ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء ! وأن يبين لهم "الدين" الحق !
وليس هذا هو الطريق . . إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق , وواجب صاحب الدعوة هو واجبة لا تغيره كثرة الضلال ; ولا ضخامة الباطل . . فالباطل ركام . . وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة:أنهم ليسوا على شيء . . كذلك ينبغي أن تستأنف . . وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله [ ص ] وناداه:
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . إن الله لا يهدي القوم الكافرين . قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم).
الدرس الثاني:69 الدين المقبول عند الله
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن "الدين" الذي يقبله الله من الناس , أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ; والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ:
(إن الذين آمنوا , والذين هادوا , والصابئون , والنصارى . . من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ ص ] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة , ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام .
والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة , فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع , وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ; ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .
وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من "المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة , أن محمدا [ ص ] هو خاتم النبيين , وأنه أرسل إلى البشر كافة , وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به , وفق ما جاء به ; في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا , ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا , فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين , ولا يدخل في مضمون قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وهذه هي الحقيقة الأساسية "المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ; أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ; من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على "دين" يرضاه الله ; ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !
إنما الله هو الولي(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .
الدرس الثالث:70 كفر اليهود وقتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق
بعد ذلك يأخذ السياق في عرض طرف من تاريخ بني إسرائيل - اليهود - يتجلى فيه كيف أنهم ليسوا على شيء ; ويتبين معه ضرورة تبليغهم الدعوة , ومخاطبتهم بالإسلام , ليأووا منه إلى دين الله . ثم لتتبين حقيقتهم التي لم تتغير ; وتنكشف للمسلمين هذه الحقيقة , فتسقط في أعينهم قيمة يهود , وتنفر قلوبهم من الولاء لهم والتناصر معهم , وهم على مثل هذه الحال في أمر الحق والدين:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل , وأرسلنا إليهم رسلا . كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم:فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة . فعموا وصموا , ثم تاب الله عليهم , ثم عموا وصموا - كثير منهم - والله بصير بما يعملون . .
إنه تاريخ قديم ! فليس موقفهم من رسول الإسلام [ ص ] بالأول ولا بالأخير ! إنهم مردوا على العصيان والإعراض ; ومردوا على النكول عن ميثاق الله ; ومردوا على اتخاذ هواهم إلههم لا
من الاية 70 الى الاية 75
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ و
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والأمر كما قلنا من قبل في الظلال , يقتضي "سلطة " تأمر وتنهى , والأمر والنهي أمر غير الدعوة . فالدعوة بيان , والأمر والنهي سلطان . وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ; فلا يكون مطلق كلام !
وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم:
وقالت اليهود يد الله مغلولة - غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا , بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء - . .
وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه . فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك . وقد قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا:يد الله مغلولة , يعللون بذلك بخلهم ; فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل . . فكيف ينفقون ?!
وقد بلغ من غلظ حسهم , وجلافة قلوبهم , ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ; فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا:يد الله مغلولة !
ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم , ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم: (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا).
وكذلك كانوا , فهم أبخل خلق الله بمال !
ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ; ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب:
(بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء). .
وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان . . شاهدة باليد المبسوطة , والفضل الغامر , والعطاء الجزيل , ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ; لأنها مشغولة عنها باللم والضم , وبالكنود وبالجحود , وبالبذاءة حتى في حق الله !
ويحدث الله رسوله [ ص ] عما سيبدو من القوم , وعما سيحل بهم , بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ; وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث:
(وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا). .
فبسبب من الحقد والحسد , وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله , سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا . لأنهم وقد أبوا الإيمان , لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ; ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا , وطغيانا وكفرا . فيكون الرسول [ ص ] رحمة للمؤمنين , ووبالا عن المنكرين .
ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ; ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ; ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة:
وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . .
وما تزال طوائف اليهود متعادية . وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ; وتوقد نار الحرب علىالبلاد الإسلامية وتفلح ! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة . ففي خلال ألف وثلاثمائة عام . . بل من قبل الإسلام . . واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد . ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه . مهما تقم حولهم الأسناد . ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة , التي يتحقق لها وعد الله . . فأين هي العصبة المؤمنة اليوم , التي تتلقى وعد الله , وتقف ستارا لقدر الله , ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ?
ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام:تؤمن به على حقيقته ; وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته . . يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله . . واليهود يعرفون هذا , ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ; ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك , على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض , ويضربون - لا بأيديهم - ولكن بأيدي عملائهم - ضربات وحشية منكرة ; لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة . . ولكن الله غالب على أمره . ووعد الله لا بد أن يتحقق:
(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله). .
إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود , لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ; فالله لا يحب الفساد في الأرض ; وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه:
(ويسعون في الأرض فسادا , والله لا يحب المفسدين). .
الدرس السادس:65 - 66 أثر الإيمان وتطبيق شرع الله في الرخاء المعيشي
وفي نهاية الدرس تجيء القاعدة الإيمانية الكبرى - قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء . لا افتراق بين دين ودنيا , ولا افتراق بين دنيا وآخرة . فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة ; للدنيا وللدين . . تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله ; وأكلهم السحت ; وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض . . واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء , وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق:
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ; ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل , وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون). .
إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي , ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية . ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل , وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم ; والعقل البشري , والموازين البشرية , والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج , بإزاء هذا الأمر الخطير . .
إن الله - سبحانه - يقول لأهل الكتاب - ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب - إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم - وهذا جزاء الآخرة . وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم - كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا , ونمت وفاضت عليهم الأزراق , ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق , ووفرة النتاج وحسن التوزيع , وصلاح أمر الحياة . . ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا
من الاية 66 الى الاية 66
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66)
يقيمون منهج الله - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها (وكثير منهم ساء ما يعملون). وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا , لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا , ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة . . وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية . . يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). .
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ; وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا . إنما هو طريق واحد , تصلح به الدنيا والآخرة , فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة . . هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا . .
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب , ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة أنسانية واقعية , يقام , وتقام عليه الحياة . . وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية , وفيض الرزق , ووفرة النتاج , وحسن التوزيع , حتى يأكل الناس جمعيا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم .
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ; ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا , ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا . . وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية .
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم , بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين . ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ; وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ; ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع . . لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا . .
حقيقة:إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله , وعن منهجه للحياة , اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع الدنيوية , أن يتخلوا عن طريق الآخرة ; وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ; والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف , الذي يحض عليه الدين . كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة , والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع , لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق , ولا مرضية لله سبحانه . .
ولكن . . تراها ضربة لازب ! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ? ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ?
كلا . . إنها ليست ضربة لازب ! فالعداء بين الدنيا والآخرة ; والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل . . بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا . إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء !
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ; وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا . وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هوذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ; وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي . .
هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية . . ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس . . فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة , وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة . والخلافة عمل وإنتاج , ووفرة ونماء , وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم , كما يقول الله في كتابه الكريم .
إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله , بإذن الله , وفق شرط الله . . ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر , وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها - بل الخامات والموارد الكونية كذلك - هو الوفاء بوظيفة الخلافة . ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة - وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف - طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ; بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ; ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه , كما يصور التعبير القرآني الجميل !
ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض , ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له , عاصيا لله , ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها , وهو يقول للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). وهو يقول كذلك للناس: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه), ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد . . وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا !
والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق . فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته , ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه . فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي .
هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة , وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله . . فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف . . إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة - في المنهج الإسلامي - لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان . . فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج ; وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله , فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون , ولا يأكل من سحت , ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه - مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع - والمنهج يسجل للفرد عمله - في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات - عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة . . ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ; ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة , وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان , وفي العمر كله بحج بيت الله . وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة . .
ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي . إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة . وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج , الذي ينظم أمر الحياة كلها , ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم . ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل , والتغلب على شهواتالناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق . . وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء , والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض , وتقرير سلطانه في حياة الناس . . إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج , المعين على أداء شطره الآخر . . وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض . كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين . .
إن التصور الإسلامي , وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه , لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا - ولا العكس - إنما يقدمهما معا في طريق واحد , وبجهد واحد . ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة - دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله , أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج - ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل .
والتصور الإسلامي - وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه - لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى , بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية . . وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه ; بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا - كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان ! - فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي - والمنهج الإسلامي - فريضة الخلافة في الأرض . والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى , تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس . . وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا ; والطريق هو الطريق , ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم . والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة , ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع . . لأنهما لا تجتمعان . . !
إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس , وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة , وبين العبادة الروحية والإبداع المادي , وبين النجاح في الحياة الدنيا , والنجاح في الحياة الأخرى . . إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية ! إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله , وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها , معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه . .
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا , فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى . .
إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر , من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه , إذا هم آثروا اطراح الدين كله , على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة , والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم , يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب , ولا تطيق الفراغ والخواء . وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية , أو فلسفية , أو فنية . . على الإطلاق . . لأنها جوعة النزعة إلى إله . .
وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر , إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله ,وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته , وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله , وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني , والسلوك الديني , مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود .
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء , سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية , أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية . . وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله , وأن الحياة للناس ! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق , والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل !
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة . . ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء . . لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ; ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة , بل ينسق . .
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة , في فترة موقوتة , إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي , ولا تقيم منهج الله في حياتها , وهي موفورة الخيرات , كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء . . .
إنه رخاء موقوت , حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت . وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني . . والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم , مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء , وحافلا بالأحقاد , وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة . . وهو بلاء على رغم الرخاء ! . .
وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر , لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع . . وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام !
وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلا أو آجلا - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها . فالعمل والإنتاج والتوزيع , كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق . والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان !
وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال . ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج , وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء ! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار !
وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة ; في هذا العالم المضطرب ; الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة . . وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون ; فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية . . ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء !
وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار - وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي - وليس هذا إلا مثلا للآخرين , في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني ; وافتراق الدنيا والآخرة , وافتراق الدين والحياة ; أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله , واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس ; وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس !
وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة , نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس , وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض , فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب - ولكل جماعة من الناس - أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا , وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة ; وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي - بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة - وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان . .
ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية . . فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة . . فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة ; ويرفع كل قيم الحياة ; ويقوم كل موازين الحياة . . فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي , وكل شيء فيه يجيء تبعا له , ومنبثقا منه ومعتمدا عليه . . ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق .
وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة . . كل أولئك ثمرته للإنسان , وللحياة الإنسانية . فالله - سبحانه - غني عن العالمين . . وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس , وجعلها مناط العمل والنشاط ; ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها , وعده باطلا لا يقبل , وحابطا لا يعيش , وذاهبا مع الريح . . فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة . . ولكن لأنه - سبحانه - يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج . .
في الحديث القدسي:عن أبى ذر - رضي الله عنه - عن النبي [ ص ] فيما روى عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي , وجعلته بينكم محرما , فلا تظالموا . . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته , فاستهدوني أهدكم . . يا عبادي , كلكم جائع إلا من أطعمته , فاستطعموني أطعمكم . . يا عبادي , كلكم عار إلا من كسوته , فاستكسوني أكسكم . . يا عبادي , إنكم تخطئون بالليل والنهار , وأنا أغفر الذنوب جميعا , فاستغفروني أغفر لكم . . يا عبادي , إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني , ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . . يا عبادي , لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم , ما زاد ذلك في ملكي شيئا . . يا عبادي , لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم , كانوا على أفجر قلب رجل واحد , ما نقص ذلك من ملكي شيئا . . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم , وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني , فأعطيت كل إنسان مسألته , ما نقص ذلك مما عندي , إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم , ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله ; ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . . [ رواه مسلم ]
وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله . . فهي كلها لحسابنا نحن . . لحساب هذه البشرية . . في الدنيا والآخرة جميعا . . وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا . .
ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول:إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب . فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل . وما أنزل إليهم من ربهم - وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة - فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن . .
أولى بالشرط الذين يقولون:إنهم مسلمون . . فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص:الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل , والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم . . وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد . . وقد انتهى إليه كل دين قبله ; ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره . . أو يقبل من أحد غيره .
فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم . . وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم , وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة ; ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا . .
إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وشرط الله قائم ; والطريق إليه معروف . . لو كانوا يعقلون . .
الوحدة السادسة:67 - 81 الموضوع:بيان كفر وانحراف وإفساد أهل الكتاب مقدمة الوحدة تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب
يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - وكشف الانحراف فيما يعتقدون , وكشف السوء فيما يصنعون ; في تاريخهم كله - وبخاصة اليهود - كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وب
المائدة
من الاية 67 الى الاية 69
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
عليهم ولا هم يحزنون). .
إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول [ ص ] أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا , وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق . . هذا , وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة . . والله يتولى حمايته وعصمته من الناس , ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل !
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم ! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ; وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ; وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ; فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ; ولا تراعي مواقع الرغبات ; إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ . .
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى . . وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ; وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة !
(إن الله لا يهدي القوم الكافرين). .
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة . . والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها , لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق !
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة , لا يعني الخشونة والفظاظة ; فقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق . فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه . والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة , وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها . فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول . . ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول [ ص ] يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ , وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة , فكان مأمورا أن يقول: (يا أيها الكافرون:لا أعبد ما تعبدون . .)فيصفهم بصفتهم ; ويفاصلهم في الأمر , ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه , ولا يدهن فيدهنون , كما يودون ! ولا يقول لهم:إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه , بل يقول لهم:إنهم على الباطل المحض , وإنه على الحق الكامل . . فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة , في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة . .
وهذا النداء , وهذا التكليف , في هذه السورة:
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . . إن الله لا يهدي القوم الكافرين). .
يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه , وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه . . ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء . . ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان . . ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين:
(قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . .).
وحينما كلف الرسول [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان . . بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه ! حينما كلف الرسول [ ص ] بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة , كانوا يتلون كتبهم ; وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية ; وكانوا يقولون:إنهم مؤمنون . . ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله [ ص ] أن يواجههم به , لم يعترف لهم بشيء أصلا الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم , لأن "الدين" وليس كلمات تقال باللسان ; وليس كتبا تقرأ وترتل ; وليس صفة تورث وتدعى . إنما الدين منهج حياة . منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير , والعبادة الممثلة في الشعائر , والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج . . ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه , فقد كلف "الرسول" [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين ; وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل !
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم , مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد [ ص ] فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه . وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر الله وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم:[ سواء كان المقصود بقوله: (وما أنزل إليهم من ربهم)هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود ] . . نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد , الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه . . فهم ليسوا على شيء - بشهادة الله سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الاخير . . والرسول [ ص ] قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم ; وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم ; وإلا فما بلغ رسالة ربه . . ويا له من تهديد !
وكان الله - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة , وبهذه الكلمة الفاصلة , ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا , وعنادا ولجاجا . . ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول [ ص ] أن يواجههم بها ; وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها ; لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق ; وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق . . فيهتدي من يهتدي عن بينة , ويضل من يضل عن بينة , ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة:
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا , فلا تأس على القوم الكافرين . .
وكان الله - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ; ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج ; ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون , إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانا وكفرا ; فهم يستحقون هذا المصير البائس ; لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ; ولا خير في أعماقها ولا صدق . فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ; ليظهر ما كمن فيها وما بطن ; ولتجهر بالطغيان والكفر ; ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين !
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب - على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله [ ص ] وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . فماذا نجد . . ?
نجد أن الله - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي في المواضع الأخرى المتعددة . . فهم إذن لم يعودوا على "دين الله" ولم يعودوا أهل "دين" يقبله الله .
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة . ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها !
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب . . أهل دين . . يستطيع "المسلم" أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين ; كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين ! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ; حتى يعتبرهم المسلم (على شيء)وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). . وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف !
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة , في هياجهم علينا , وفي اشتداد حربهم لنا , ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه , ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبلة الله من الناس . .
إن الله - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه . ولا يقبل منا هذا الاعتراف . ولا يغفر لنا هذا التناصر , ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه . لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ; ونختار في أمرنا غير ما يختار ; ونعترف بعقائد محرفة أنها "دين إلهي , يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي . . والله يقول:إنهم ليسوا على شيء , حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وهم لا يفعلون !
والذين يقولون:إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء , ليسوا على شيء كذلك . فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء . والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه . وأن دعواهم أنهم على دين , يردها عليهم رب الدين . فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ; ودعوتهم إلى "الإسلام" من جديد هي واجب "المسلم" الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته . فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما , ولا تحقق إيمانا , ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله , في أي ملة , وفي أي زمان !
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ; ويقيموا كتاب الله في حياتهم ; يملك "المسلم" أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين , عن "الدين" وعن "المتدينين" . . فأما قبل ذلك فهو عبث ; وهو تمييع , يقوم به خادع أو مخدوع !
إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب , وشعائر تقام للتعبد , ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبارغير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة , وخداع للضمير ; لا يقدم عليه "مسلم" نظيف الضمير !
وعلى "المسلم" أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين . .
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس , إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته , بلا مجاملة ولا مداهنة . . فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء , وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه , وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه . . يدعوهم إلى نقلة بعيدة , ورحلة طويلة , وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم . . فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه . . (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة). .
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق , وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم . . حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات , وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم , لأنه لم يعرفهم حقيقة المطلوب منهم كله , وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه !
إن التلطف في دعوة الناس إلى الله , ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية , لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها . . إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة . أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة , ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة . .
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية . وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض , وهم أصحاب كلمة مسموعة , في الشئون الدولية . وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة . وينظر فيرى الذين يقولون:إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم . . فيتعاظمه الامر , ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة , ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء ! وأن يبين لهم "الدين" الحق !
وليس هذا هو الطريق . . إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق , وواجب صاحب الدعوة هو واجبة لا تغيره كثرة الضلال ; ولا ضخامة الباطل . . فالباطل ركام . . وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة:أنهم ليسوا على شيء . . كذلك ينبغي أن تستأنف . . وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله [ ص ] وناداه:
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . إن الله لا يهدي القوم الكافرين . قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم).
الدرس الثاني:69 الدين المقبول عند الله
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن "الدين" الذي يقبله الله من الناس , أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ; والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ:
(إن الذين آمنوا , والذين هادوا , والصابئون , والنصارى . . من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ ص ] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة , ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام .
والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة , فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع , وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ; ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .
وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من "المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة , أن محمدا [ ص ] هو خاتم النبيين , وأنه أرسل إلى البشر كافة , وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به , وفق ما جاء به ; في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا , ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا , فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين , ولا يدخل في مضمون قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وهذه هي الحقيقة الأساسية "المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ; أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ; من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على "دين" يرضاه الله ; ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !
إنما الله هو الولي(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .
الدرس الثالث:70 كفر اليهود وقتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق
بعد ذلك يأخذ السياق في عرض طرف من تاريخ بني إسرائيل - اليهود - يتجلى فيه كيف أنهم ليسوا على شيء ; ويتبين معه ضرورة تبليغهم الدعوة , ومخاطبتهم بالإسلام , ليأووا منه إلى دين الله . ثم لتتبين حقيقتهم التي لم تتغير ; وتنكشف للمسلمين هذه الحقيقة , فتسقط في أعينهم قيمة يهود , وتنفر قلوبهم من الولاء لهم والتناصر معهم , وهم على مثل هذه الحال في أمر الحق والدين:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل , وأرسلنا إليهم رسلا . كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم:فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة . فعموا وصموا , ثم تاب الله عليهم , ثم عموا وصموا - كثير منهم - والله بصير بما يعملون . .
إنه تاريخ قديم ! فليس موقفهم من رسول الإسلام [ ص ] بالأول ولا بالأخير ! إنهم مردوا على العصيان والإعراض ; ومردوا على النكول عن ميثاق الله ; ومردوا على اتخاذ هواهم إلههم لا
من الاية 70 الى الاية 75
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ و
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 78==88 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 97==107 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه89===96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 108==الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 78==88 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 97==107 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه89===96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 108==الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى