منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار السبت مارس 31, 2012 7:08 pm

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)

على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله ; وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم ; ; وكيف نقضوه ; وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق .

وإذ قال موسى لقومه:يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ; وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم , ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا:يا موسى إن فيها قوما جبارين ; وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما:ادخلوا عليهم الباب , فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ; وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا:يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا , إنا هاهنا قاعدون . قال:رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي , فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . . قال:فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض , فلا تأس على القوم الفاسقين .

إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل . . ذلك لحكمة متشعبة الجوانب . .

من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول . هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ; وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ; كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة . فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة , لتعرف من هم أعداؤها . ما طبيعتهم ? وما تاريخهم ? وما وسائلهم ? وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ?

ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ; كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله . فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ; ووسائلهم كلها مكشوفة .

ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير . وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ; ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ; ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ; ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف , كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم . . فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم , وتقلبات هذا التاريخ ; وتعرف مزالق الطريق , وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم , لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها ; وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون . ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق , ومداخل الشيطان , وبوادر الانحراف , على هدى التجارب الأولى .

ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل . وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ; وتنحرف أجيال منها ; وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة , ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ; فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة , نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ; يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت ! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة , لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها , وينفض عنها الركام , لجدته عليها , وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة . فأما القلوب التي نوديت من قبل , فالنداء الثانيلا تكون له جدته , ولا تكون له هزته ; ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته , ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف , وإلى الصبر الطويل !

وجوانب شتى لحكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل , وعرضها مفصلة على الأمة المسلمة وارثة العقيدة والدين ; القوامة على البشر أجمعين . . جوانب شتى لا نملك هنا المضي معها أكثر من هذه الإشارات السريعة . . لنعود إلى هذه الحلقة , في هذا الدرس , في هذه السورة:

(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء , وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين). .

وإننا لنلمح في كلمات موسى - عليه السلام - إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب . فلقد جربهم من قبل في "مواطن كثيرة " في خط سير الرحلة الطويل . . جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر ; وحررهم من الذل والهوان , باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر , وأغرق لهم فرعون وجنده . فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم , فيقولون (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة). . وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلا ذهبا له خوار ; ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون:إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته ! . . وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء , وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا , فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر - أرض الذل بالنسبة لهم - فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها , ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص , والهدف الأسمى , الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون ! . . وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ . . (فذبحوها وما كادوا يفعلون)! وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده . فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم - بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا - ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم , (وظنوا أنه واقع بهم)! . .

لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل . . ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة . أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا . الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا , وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته . .

لقد جربهم فحق له أن يشفق , وهو يدعوهم دعوته الأخيرة , فيحشد فيها ألمع الذكريات , وأكبر البشريات , وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات:

(يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا , وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين). .

نعمة الله . ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا . وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ . والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله . فهي إذن يقين . . وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده . وهذا وعده الذي هم عليه قادمون . . والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين . .

الُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)

ولكن إسرائيل . , هي إسرائيل !!! الجبن . والتمحل . والنكوص على الأعقاب . ونقض الميثاق: (قالوا:يا موسى إن فيها قوما جبارين ; وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون). إن جبلة يهود لتبدو هنا على حقيقتها , مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل . ذلك أنهم أمام الخطر ; فلا بقية إذن من تجمل ; ولا محاولة إذن للتشجع , ولا مجال كذلك للتمحل . إن الخطر ماثل قريب ; ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب هذه الأرض , وأن الله قد كتبها لهم - فهم يريدونه نصرا رخيصا , لا ثمن له , ولا جهد فيه . نصرا مريحا يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى !

(إن فيها قوما جبارين . . وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها . . فإن يخرجوا منها فإنا داخلون). .

ولكن تكاليف النصر ليست هكذا كما تريدها يهود ! وهي فارغة القلوب من الإيمان !

(قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما:ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).

هنا تبرز قيمة الإيمان بالله , والخوف منه . . فهذان رجلان من الذين يخافون الله , ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين ! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم ! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة ; وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس . فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين:مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس . . والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده ; ولا يخاف شيئا سواه . .

(ادخلوا عليهم الباب . فإذا دخلتموه فإنكم غالبون). .

قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب . . أقدموا واقتحموا . فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم ; وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم . .

(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين). .

فعلى الله - وحده - يتوكل المؤمن . وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته ; وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه . . ولكن لمن يقولان هذا الكلام ? لبني إسرائيل ?!

(قالوا:يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون). .

وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ; ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون ! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين ; بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان . يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن . فيحرج بأنه ناكل عن الواجب , فيسب هذا الواجب ; ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد !

اذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون . .

هكذا في وقاحة العاجز , الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان ! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان !

(فاذهب أنت وربك)! . .

فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال !

5 ا هاهنا قاعدون . .

لا نريد ملكا , ولا نريد عزا , ولا نريد أرض الميعاد . . ودونها لقاء الجبارين !

قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام . نهاية الجهد الجهيد . والسفر الطويل . واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل !

نعم ها هي ذي نهاية المطاف . . نكوصا عن الأرض المقدسة , وهو معهم على أبوابها . ونكولا عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق . . فماذا يصنع ? وبمن يستجير ?

(قال:رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي . فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). .

دعوة فيها الألم . وفيها الالتجاء . وفيها الاستسلام . وفيها - بعد ذلك - المفاصلة والحسم والتصميم !

وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه . . ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول . وفي إيمان النبي الكليم . وفي عزم المؤمن المستقيم , لا يجد متوجها إلا لله . يشكو له بثه ونجواه , ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين . فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق . . ما يربطه بهم نسب . وما يربطه بهم تاريخ . وما يربطه بهم جهد سابق . إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله , وهذا الميثاق مع الله .

وقد فصلوه . فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق . وما عاد يربطه بهم رباط . . إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون . . إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون . .

هذا هو أدب النبي . . وهذه هي خطة المؤمن . وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون . . لا جنس . لا نسب . لا قوم . لا لغة . لا تاريخ . لا وشيجة من كل وشائج الأرض ; إذا انقطعت وشيجة العقيدة ; وإذا اختلف المنهج والطريق . .

واستجاب الله لنبيه . وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين .

(قال:فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض . فلا تأس على القوم الفاسقين).

وهكذا أسلمهم الله - وهم على أبواب الأرض المقدسة - للتيه ; وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم . . والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة ; وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل . جيل يعتبر بالدرس , وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود . . جيل غير هذا الجيل الذي أفسدة الذل والاستعباد والطغيان في مصر , فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل ! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب .

ويتركهم السياق هنا - في التيه - لا يزيد على ذلك . . وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني , على طريقة القرآن في التعبير .

ولقد وعى المسلمون هذا الدرس - مما قصه الله عليهم من القصص - فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر , قالوا لنبيهم [ ص ] إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم . (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)لكن نقول:اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون . .

وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة ; وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل . .

الوحدة الثالثة:27 - 40 الموضوع:أحكام حماية النفس والحياة في المجتمع المسلم مقدمة الوحدة - البيئة التي تنفذ فيها أحكام النفس والحياة يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية . وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفالشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي . وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع , الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله .

وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس ; مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة "ابني آدم" التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية ; كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها ; وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها ; ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها

وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحاما قويا مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني . ويحس القارى ء المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها ; وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه ; والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة ; والاعتداء على النظام العام ; والاعتداء على المال والملكية الفردية ; في ظل المجتمع الإسلامي ; القائم على منهج الله ; المحكوم بشريعته .

والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته ; وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة . . ومن ثم يكفل لكل فرد - كما يكفل للجماعة - كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة , ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة , وكل عوامل الكبت والقمع , وكل عوامل الظلم والاعتداء , وكل عوامل الحاجة والضرورة:وكذلك يصبح الاعتداء - في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل - على النفس والحياة , أو على النظام العام , أو على الملكية الفردية ; جريمة بشعة منكرة , مجردة عن البواعث المبررة - أو المخففة - بصفة عامة . . وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس ; وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة . . وإلى جانب هذا كله , ومع هذا كله ; يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم ; ويدرأ عنه الحدود بالشبهات ; ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات , وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات .

. . وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس , وفيما تضمنه من أحكام . .

ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لا بد أن نقول كلمة عامة ; عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام ; والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ . .

إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس - سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام ; أو الاعتداء على المال - شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة , في جرائم الحدود ; والقصاص ; والتعازيز . . كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في "المجتمع المسلم" في "دار الإسلام" . . ولا بد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام:

ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما:

الأول:"دار الإسلام" . . وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام , وتحكمه شريعة الإسلام , سواء كان أهله كلهم مسلمين , أو كان أهله مسلمين وذميين . أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام , ويحكمونه بشريعة الإسلام . أو كانوا مسلمين , أو مسلمين وذميين ولكن غلب على

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)

بلادهم حربيون , غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام . . فالمدار كله في اعتبار بلد ما "دار إسلام" هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام . .

الثاني:دار الحرب . وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام , ولا يحكم بشريعة الإسلام . . كائنا أهله ما كانوا . . سواء قالوا:إنهم مسلمون , أو إنهم أهل كتاب , أو أنهم كفار . فالمدار كله في اعتبار بلد ما "دار حرب" هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام , وهو يعتبر "دار حرب" بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة .

والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك .

وهذا المجتمع , القائم على منهج الله , المحكوم بشريعته , هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء , وتصان فيه الأموال ; ويصان فيه النظام العام ; وأن توقع على المخلين بأمنه , المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية , في هذا الدرس وفي سواه . . ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل ; ومجتمع متحرر عادل ; ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز ; ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه . فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام ; وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق ; وأن يحافظ على سلامة "دار الإسلام" التي يعيش فيها آمنا سالما غانما مكفول الحقوق جميعا , معترفا له بكل خصائصه الإنسانية , وبكل حقوقه الاجتماعية - بل مكلفا بحماية هذه الخصائص والحقوق - فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار - دار الإسلام - فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات ; مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن , وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات .

فأما "دار الحرب" . . بتعريفها ذاك . . فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات , لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام , ولا تعترف بحاكمية الإسلام . . وهي - بالنسبة للمسلمين [ الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام ] - ليست حمى . فأرواحها وأموالها مباحة ; لا حرمة لها عند الإسلام - إلا بعهد من المسلمين ; حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات - كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين [ القادمين من دار الحرب ] إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان ; مدة هذا العهد ; وفي حدود "دار الإسلام" التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم [ والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام ] .

وعلى ضوء هذا البيان نستطيع أن نمضي مع السياق:

الدرس الأول:27 قصة ابني آدم والقصاص

واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق:إذ قربا قربانا , فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال:لأقتلنك . قال:إنما يتقبل الله من المتقين . لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك , إني أخاف الله رب العالمين:إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار , وذلك جزاء الظالمين . فطوعت له نفسه قتل أخيه , فقتله , فأصبح من الخاسرين . فبعث الله غرابا يبحث في الأرض , ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال:يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب , فأواري سوأة أخي ? فأصبح من النادمين . . .

هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان ; ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له . كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة ; ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة . وتقفهما وجها لوجه , كل منهما يتصرف وفق طبيعته . . وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر , والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير ;ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل , تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء , وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة ; فإذا ارتكبها - على الرغم من ذلك - وجد الجزاء العادل , المكافى ء للفعلة المنكرة . كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه . فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش . وأن تصان , وأن تأمن ; في ظل شريعة عادلة رادعة .

ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة . . وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن:"قابيل وهابيل" وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ; وورود تفصيلات عن القضية بينهما , والنزاع على أختين لهما . . فإننا نؤثر أن نستبقي القصة - كما وردت - مجملة بدون تحديد . لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب - والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات - والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل . وهو من رواية ابن مسعود قال:قال رسول الله [ ص ]:" لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها , لأنه كان أول من سن القتل " . . [ رواه الإمام أحمد في مسنده ]:حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا:حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود . . وأخرجه الجماعة - سوى أبى داود - من طرق عن الأعمش . . وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان , وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد , وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث . .

وبقاء القصة مجملة - كما وردت في سياقها القرآني - يؤدي الغرض من عرضها ; ويؤدي الإيحاءات كاملة ; ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية . . لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله . .

(واتل عليهم نبأ ابني آدم - بالحق - إذ قربا قربانا , فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . قال:لأقتلنك . قال:إنما يتقبل الله من المتقين). .

واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية - بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى - اتله عليهم بالحق . فهو حق وصدق في روايته , وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية ; وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة .

إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة . فهما في موقف طاعة بين يدي الله . موقف تقديم قربان , يتقربان به إلى الله:

إذ قربا قربانًا . .

(فتقبل من أحدهما , ولم يتقبل من الآخر). .

والفعل مبني للمجهول ; ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية ; وإلى كيفية غيبية . . وهذه الصياغة تفيدنا أمرين:الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح إنها مأخوذة عن أساطير "العهد القديم" . . والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريره له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله , فالأمر لم يكن له يد فيه ; وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية ; تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته . . فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه , وليجيش خاطر القتل في نفسه ! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال . . مجال العبادة والتقرب , ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها . .

(قال:لأقتلنك). .

وهكذا يبدو هذا القول - بهذا التأكيد المنبى ء عن الإصرار - نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب ; اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر . شعور الحسد الأعمى ; الذي لا يعمر نفسا طيبة . .

وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء:بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق . .

ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة ; بتصوير استجابة النموذج الآخر ; ووداعته وطيبة قلبه:

(قال:إنما يتقبل الله من المتقين).

هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله ; وفي إيمان يدرك أسباب القبول ; وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ; وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول ; وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره . .

ثم يمضى الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير:

(لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك , إني أخاف الله رب العالمين). .

وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ; في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني ; وحماسة للمعتدى عليه ضد المعتدي ; وإعجابا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ; وتقوى قلبه وخوفه من رب العالمين .

ولقد كان في هذا القول اللين ما يفثأ الحقد ; ويهدى ء الحسد , ويسكن الشر , ويمسح على الأعصاب المهتاجة ; ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة , وبشاشة الإيمان , وحساسية التقوى .

أجل . لقد كان في ذلك كفاية . . ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير:

(إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار , وذلك جزاء الظالمين). .

إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني , فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك . فهذا الخاطر - خاطر القتل - لا يدور بنفسي أصلا , ولا يتجه اليه فكري إطلاقا . . خوفا من الله رب العالمين . . لا عجزا عن إتيانه . . وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ; فيكون إثمك مضاعفا , وعذابك مضاعفا . . (وذلك جزاء الظالمين). .

وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل , ليثنيه عما تراوده به نفسه , وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي .

وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه , ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف , بالخوف من الله رب العالمين ; وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان .

ولكن النموذج الشرير لا تكمل صورته , حتى نعلم كيف كانت استجابته:

(فطوعت له نفسه قتل أخيه , فقتله , فأصبح من الخاسرين). .

بعد هذا كله . بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير . بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة , فوقعت الجريمة . وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة , وطوعت له كل مانع . . طوعت له نفسه القتل . . وقتل من ? قتل أخيه . . وحق عليه النذير:

(فأصبح من الخاسرين). .

فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك . وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق . وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة . وخسر آخرته فباء بأثمه الأول وإثمه الأخير . .

ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن , فهو سوأة لا تطيقها النفوس .

وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير:

(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال:يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ? فأصبح من النادمين). .

وتقول بعض الروايات:إن الغراب قتل غرابا آخر , أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب , فجعل يحفر في الأرض , ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .

وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته , وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .

كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب , قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته , وهذا من قدرته على السواء . .

وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل , ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم ; أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره:

(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل:أنه من قتل نفسا - بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا ; ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ; ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).

من أجل ذلك . . من أجل وجود هذه النماذج في البشرية . . من أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين , الذين لا يريدون شرا ولا عدوانا . . ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر ; وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس . . من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة , تعدل جريمة قتل الناس جميعا ; وجعلنا العمل على دفع القتل واستحياء نفس واحدة عملا عظيما يعدل إنقاذ الناس جميعا . . وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة [ وسيأتي في الدرس التالي في سياق السورة بيان شريعة القصاص مفصلة ] .

إن قتل نفس واحدة - في غير قصاص لقتل , وفي غير دفع فساد في الأرض - يعدل قتل الناس جميعا . لأن كل نفس ككل نفس ; وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس . فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته ; الحق الذي تشترك فيه كل النفوس . كذلك دفع القتل عن نفس , واستحياؤها بهذا الدفع - سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34)

نفس أخرى - هو استحياء للنفوس جميعا , لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعا .

وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام , يتبين أن هذا التقرير ينطبق - فقط - على أهل دار الإسلام - من مسلمين وذميين ومستأمنين - فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح - ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة - وكذلك ما لهم . فيحسن أن نكون دائما على ذكر من هذه القاعدة التشريعية ; وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام , ويحكم فيها بهذه الشريعة , وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله , ولا يحكم فيها بهذه الشريعة . .

ولقد كتب الله ذلك المبدأ على بني إسرائيل ; لأنهم كانوا - في ذلك الحين - هم أهل الكتاب ; الذين يمثلون "دار الإسلام" ما أقاموا بينهم شريعة التوراة بلا تحريف ولا التواء . . ولكن بني إسرائيل تجاوزوا حدود شريعتهم - بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة - وكانوا على عهد رسول الله [ ص ] وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم . والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء ; بغير عذر ; ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على الله وسقوطها بمجيء الرسل إليهم , وببيان شريعتهم لهم:

(ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ; ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون). .

الدرس الثاني:33 - 34 حد الحرابة وقطع الطريق

وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ; والتعدي على شريعته , بالتغيير أو بالإهمال ?

وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ; وجعل كلا منهما مبررا للقتل , واستثناء من صيانة حق الحياة ; وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام , وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان , وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ; لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ; فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات , وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ; كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير , وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر , وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها , وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر , ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج , ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ; ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .

فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث , وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة:

(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله , ويسعون في الأرض فسادا , أن يقتلوا أو يصلبوا , أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف , أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا , ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم). .

وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص , هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله , والتجمع في شكل عصابة , خارجة على سلطان هذا الإمام , تروع أهل دار الإسلام ; وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة , وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة , يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .

وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ; المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده , ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته , ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة , ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله , وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها , يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله , وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .

إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف , وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة , بالحرب لشريعة الله ورسوله , وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله , وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .

كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة , هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله , في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة , في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .

نقرر هذا بوضوح , لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان , كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة , ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم , ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ; بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .

إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام , أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ? إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ; فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ?!

. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة , التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ; وتروع عباد الله في دار الإسلام , وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .

ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص:إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات , أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .

ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل , ومن أخذ المال ولم يقتل قطع , ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب , ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي:

وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه , وإنما التخيير في قتله أو صلبه , وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه , وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط , فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه , لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .

ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه , وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة , والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ; ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .

كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ? أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ?

ونحن نختار النفي من أرض الجريمة , إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ; جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته , أو بعزله عن عصابته !

(ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم). .

فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة , ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة , وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .

فإذا ارتدع هؤلاء الخارجون المفسدون عن غيهم وفسادهم , نتيجة استشعارهم نكارة الجريمة , وتوبة منهم إلى الله ورجوعا إلى طريقه المستقيم - وهم ما يزالون في قوتهم , لم تنلهم يد السلطان - سقطت جريمتهم وعقوبتها معا , ولم يعد للسلطان عليهم من سبيل , وكان الله غفورا لهم رحيما بهم في الحساب الأخير:

(إلا الذين تابوا - من قبل أن تقدروا عليهم - فاعلموا أن الله غفور رحيم). .

والحكمة واضحة في إسقاط الجريمة والعقوبة في هذه الحالة عنهم من ناحيتين:

الأولى:تقدير توبتهم - وهم يملكون العدوان - واعتبارها دليل صلاح واهتداء . .

والثانية:تشجيعهم على التوبة , وتوفير مؤنة الجهد في قتالهم من أيسر سبيل .

والمنهج الإسلامي يتعامل مع الطبيعة البشرية بكل مشاعرها ومساربها واحتمالاتها ; والله الذي رضي للمسلمين هذا المنهج هو بارى ء هذه الطبيعة , الخبير بمسالكها ودروبها , العليم بما يصلحها وما يصلح لها . . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ? . .
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى