تفسير سوره المائده ايه12==19 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سوره المائده ايه12==19 الشيخ سيد قطب
وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12)
كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ; وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد , ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم , فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة , وقام الدليل .
ومن خلال هذه الدعوة , تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحده ميثاق الله مع جميع عباده:أن يؤمنوا به , ويوحدوه , ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم , وينصروهم , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة , ويقرر العبادة الصحيحة , ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .
فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم:
الدرس الأول:12 - 13 نقض بني إسرائيل لميثاقهم وعقابهم
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل , وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا . وقال الله . إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم ; وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ; وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به , ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين . .
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به , فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون). .
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ; متضمنا شرطا وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه , بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر , الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطا . . وكان هذا نصه:
(وقال الله:إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم , ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم , فقد ضل سواء السبيل). .
. . (إني معكم). . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه , فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه , فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى , فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن , وقد وصل , وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .
ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ; ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .
شرطه:إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ; وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ; وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر !
وإيتاء الزكاة . . اعترافا بنعمة الله في الرزق ; وملكيته ابتداء للمال ; وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ; وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء , وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ; كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب , وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه . . كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ; ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ; وفي دورة الاقتصاد . .
والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله ; وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا , وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا . .
وليس هو مجرد الإيمان السلبي , إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل , وشد أزرهم فيما ندبهم الله له , وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به , وليقيمه في الأرض , وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي , ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة , وتعزيز , وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق .
وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك , وهو الواهب . . ولكنه - فضلا منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقة لله - قرضا لله . .
ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان:
تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطى ء , ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة , وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره . .
وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله , لا يبلغه الإنسان بعمله , إنما يبلغه بفضل من الله , حين يبذل الجهد , فيما يملك وفيما يطيق . .
وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق:
(فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل). .
فلا هدى له بعد ذلك , ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى , وتحدد معه العقد , ووضح له الطريق , وتأكد له الجزاء . .
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعا ; فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم , وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل !
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق , وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها , ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا , وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله , وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية , يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . . .)
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14)
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم , إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة , وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية , ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة , والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة , فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم , وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم , لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم , إلا قليلا منهم . . .). .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم , ورفع عنهم الاضطهاد , وعاملهم بالحسنى , ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة , ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد , وتآمروا مع كل عدو لهم , حتى تحين الفرصة , فينقضوا عليهم , قساة جفاة لا يرحمونهم , ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه , وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة , تعبير طريف:
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم). .
الفعلة الخائنة , والنية الخائنة , والكلمة الخائنة , والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . .(خائنة). . لتبقى الخيانة وحدها مجردة , تملأ الجو , وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم , وهذا هو جوهر موقفهم , مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها , وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ; وتسمع توجيهاته ; وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها , ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ; وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة , وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه , حين نقضوا ميثاقهم مع الله , لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله , فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد , ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير , وسارت في طريق غير الطريق , نزع الله منها قيادة البشرية ; وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ; وحتى تستمسك بعهدها , وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية:
(فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين). .
والعفو عن قبائحهم إحسان , والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
الدرس الثاني:14 نقض النصارى لميثاقهم وعقابهم
كذلك يقص الله - سبحانه - على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة , أنه أخذ ميثاق الذين قالوا:إنا نصارى , من أهل الكتاب . ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك . فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق:
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون).
ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة:
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى). .
ودلالة هذا التعبير:أنهم قالوها دعوى , ولم يحققوها في حياتهم واقعا . . ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله . وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي . وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ; ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف . كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق , التي لا تكاد تعد . في القديم وفي الحديث [ كما سنبين إجمالا بعد قليل ] . وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة . . جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه , ونسيانهم حظا مما ذكروا به . . ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ; وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون !
ولقد وقع بين الذين قالوا:إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله - سبحانه - في كتابه الصادق الكريم ; وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله . سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ; أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ; أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات . . وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين , جزاء على نقضهم ميثاقهم , ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله , وأول بند فيه هو بند التوحيد , الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام . لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)
الدرس الثالث:15 - 19 مطالبة أهل الكتاب بالإسلام وإلافهم كافرون
وحين يبلغ السياق هذا الموضع من استعراض موقف اليهود والنصارى من ميثاقهم مع الله . . وجهوا الخطاب لأهل الكتاب جميعا . . هؤلاء وهؤلاء . . لإعلانهم برسالة خاتم النبيين ; وإنها جاءت إليهم - ككثير مما أخفوه أو حرفوه ; مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني , مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة , التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان , قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة , وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل .
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول , ووظيفته في الحياة البشرية , وما قدر الله من أثره في حياة الناس .
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه , ويهديهم إلى صراط مستقيم). .
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج . . الإسلام . . من أنه(نور). .
إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يحد حقيقة الإيمان في قلبه . .(نور)نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم .
ثقلة الطين في كيانه , وظلمة التراب , وكثافة اللحم والدم , وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة , وتشرق الظلمة , وترق الكثافة , وترف العرامة . .
واللبس والغبش في الرؤية , والتأرجح والتردد في الخطوة , والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . .
(نور . وكتاب مبين). . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . .
(يهدي به الله - من اتبع رضوانه - سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه , ويهديهم إلى صراط مستقيم).
لقد رضي الله الإسلام دينا . . وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له . . يهديه . . (سبل السلام). .
وما أدق هذا التعبير وأصدقه ; إنه "السلام" هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها . . سلام الفرد . وسلام الجماعة . وسلام العالم . . سلام الضمير , وسلام العقل , وسلام الجوارح . . سلام البيت والأسرة , وسلام المجتمع والأمة , وسلام البشر والإنسانية . . السلام مع الحياة . والسلام مع الكون . والسلام مع الله رب الكون والحياة . . السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوما - إلا في هذا الدين ; وإلا في منهجه ونظامه وشريعته , ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته .
حقا إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه , من يتبع رضوان الله , (سبل السلام). . سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشى ء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير . وحرب القلق الناشى ء من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة . وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام . إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا ; ويلتذون هذا المذاق المريح . .
يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة ; والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات . . من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون !
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا ; ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا , وتحطم أخلاقنا وسلوكنا , وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا . . بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا ; حين نتبع رضوانه ; ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا
إننا نعاني من ويلات الجاهلية ; والإسلام منا قريب . ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء . . فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير ? ونشتري فيها الضلالة بالهدى ? ونؤثر فيها الحرب على السلام ?
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان . ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية , قبل أن ننقذ نحن أنفسنا , وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام , حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام .
(ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه). .
والجاهلية كلها ظلمات . . ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات . وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه . وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس . وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين . والنور هو النور . . هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور . .
يهديهم إلى صراط مستقيم . .
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها . مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه . مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات . .
إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته ; وخلق الكون ونواميسه ; هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج ; وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين . فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم , حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين !
وصدق الله العظيم . الغني عن العالمين . الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم !
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ; وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه , فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب , التي تخفي نصاعة التوحيد ; والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها , ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها:
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . قل:فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ? ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير). .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ; بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ; وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد , حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ; ولكنها دخلت على فترات ; وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ; حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير , الذي تحار فيه العقول . حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها !
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل:إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل:إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل:إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب , ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل:إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية "مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية:
"وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول:إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم "البربرانية " . . ويسمون:"الريمتيين" . ومنهم من كان يقول:إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار , فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة "سابليوس" وشيعته . ومنهم من كان يقول:لم تحبل به مريم تسعة أشهر , وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب , لأن الكلمة دخلت في أذنها , وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة "إليان" وأشياعه . ومنهم من كان يقول:إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره , وإن ابتداء الابن من مريم , وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي , صحبته النعمة الإلهية , وحلت فيه بالمحبة والمشيئة , ولذلك سمي "ابن الله" ويقولون:إن الله جوهر قديم واحد , وأقنوم واحد , ويسمونه بثلاثة أسماء , ولا يؤمنون بالكلمة , ولا بروح القدس . وهي مقالة "بولس الشمشاطي" بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم "البوليقانيون" . ومنهم من كان يقول:إنهم ثلاثة آلهة لم تزل:صالح , وطالح , وعدل بينهما . وهي مقالة "مرقيون" اللعين وأصحابه ! وزعموا أن "مرقيون" هو رئيس الحواريين وأنكروا "بطرس" . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة "بولس الرسول" ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني "قسطنطين" الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم , وشرد أصحاب سائر المذاهب ; وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده , وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه:
"إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه . وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول:إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق , أو من يقول:إنه قابل للتغيير , ويعتريه ظل دوران" .
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع "آريوس" وقد غلبت على القسطنطينية , وأنطاكية , وبابل , والإسكندرية , ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول "روح القدس" فقال بعضهم:هو إله , وقال آخرون:ليس بإله ! فاجتمع "مجمع القسطنطينية الأول" سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع , بناء على مقالة أسقف الإسكندرية:
"قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية:ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئا غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق , فقد قلنا:إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا:إن روح الله مخلوق , فقد قلنا:إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا:إن حياته مخلوقة , فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن" !!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع , كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم "الثالوث" من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى "نسطور" بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ; وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم , فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله ! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق:
"إن هذا الإنسان الذي يقول:إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال:إنه الله وابن الله , ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة " . .
ثم يقول:"إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة , أو هو ملهم من الله , فلم يرتكب خطيئة , وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه , وبطريرك الإسكندرية , وأساقفة أنطاكية , فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد "مجمع أفسس" سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق -:
"أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان , معروف بطبيعتين , متوحد في الأقنوم" . . ولعنوا نسطور !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد , انعقد له "مجمع أفسس الثاني" وقرر:
"أن المسيح طبيعة واحدة , اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت" .
ولكن هذا الرأي لم يسلم ; واستمرت الخلافات الحادة ; فاجتمع مجمع "خلقيدونية " سنة 451 وقرر:
"أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها , والناسوت طبيعه وحدها , التقتا في المسيح" . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني !
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري "المنوفيسية " والمذهب "الملوكاني"
قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية , التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة:"سير . ت . و . أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ; والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف , وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ; ولتقول كلمة الفصل ; ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة:
لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . . (لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة). .
[ كما سيجيء في السورة ] .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع:
(قل:فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم , وأمه , ومن في الأرض جميعا ? .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه , وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه , وكل ذات أخرى , في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة , وسلطانه متفرد , ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء , وخالق كل شيء , والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء , والله على كل شيء قدير). .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية , ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية , وحقيقة العبودية , والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .
واليهود والنصارى يقولون:إنهم أبناء الله وأحباؤه:
(وقالت اليهود والنصارى:نحن أبناء الله وأحباؤه). .
فزعموا لله - سبحانه - أبوة , على تصور من التصورات , إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ; وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور , ولا تستقيم الحياة , إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ; وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ; وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ; والقوانين , والنظم والأوضاع , دون أن تتداخل الاختصاصات , بتداخل الصفات والخصائص , وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب , إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف !
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه , كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
سبحانه - يحابي فريقا من عباده , فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ? وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ?
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور , وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة , ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ; كما يقرر بطلان ذلك الادعاء:
(قل:فلم يعذبكم بذنوبكم ? بل أنتم بشر ممن خلق , يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء). .
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ; فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية !
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء , وأن مصير كل شيء إليه:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير). .
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته , ويصير إليه الجميع . .
وينهي هذا البيان , بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب , يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه . بلا غبش ولا عذر , ولا غموض:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير). .
وبهذه المواجهة الحاسمة , لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . .
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ; يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون:
(والله على كل شيء قدير). .
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ; فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ; وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . .
وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ; وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . .
الدرس الرابع:20 - 26 قصة تيه بني إسرائيل
وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام -
كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ; وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد , ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم , فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة , وقام الدليل .
ومن خلال هذه الدعوة , تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحده ميثاق الله مع جميع عباده:أن يؤمنوا به , ويوحدوه , ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم , وينصروهم , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة , ويقرر العبادة الصحيحة , ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .
فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم:
الدرس الأول:12 - 13 نقض بني إسرائيل لميثاقهم وعقابهم
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل , وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا . وقال الله . إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم ; وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ; وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به , ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين . .
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به , فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون). .
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ; متضمنا شرطا وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه , بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر , الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطا . . وكان هذا نصه:
(وقال الله:إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم , ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم , فقد ضل سواء السبيل). .
. . (إني معكم). . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه , فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه , فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى , فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن , وقد وصل , وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .
ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ; ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .
شرطه:إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ; وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ; وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر !
وإيتاء الزكاة . . اعترافا بنعمة الله في الرزق ; وملكيته ابتداء للمال ; وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ; وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء , وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ; كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب , وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه . . كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ; ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ; وفي دورة الاقتصاد . .
والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله ; وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا , وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا . .
وليس هو مجرد الإيمان السلبي , إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل , وشد أزرهم فيما ندبهم الله له , وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به , وليقيمه في الأرض , وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي , ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة , وتعزيز , وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق .
وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك , وهو الواهب . . ولكنه - فضلا منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقة لله - قرضا لله . .
ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان:
تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطى ء , ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة , وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره . .
وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله , لا يبلغه الإنسان بعمله , إنما يبلغه بفضل من الله , حين يبذل الجهد , فيما يملك وفيما يطيق . .
وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق:
(فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل). .
فلا هدى له بعد ذلك , ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى , وتحدد معه العقد , ووضح له الطريق , وتأكد له الجزاء . .
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعا ; فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم , وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل !
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق , وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها , ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا , وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله , وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية , يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . . .)
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14)
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم , إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة , وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية , ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة , والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة , فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم , وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم , لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم , إلا قليلا منهم . . .). .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم , ورفع عنهم الاضطهاد , وعاملهم بالحسنى , ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة , ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد , وتآمروا مع كل عدو لهم , حتى تحين الفرصة , فينقضوا عليهم , قساة جفاة لا يرحمونهم , ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه , وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة , تعبير طريف:
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم). .
الفعلة الخائنة , والنية الخائنة , والكلمة الخائنة , والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . .(خائنة). . لتبقى الخيانة وحدها مجردة , تملأ الجو , وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم , وهذا هو جوهر موقفهم , مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها , وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ; وتسمع توجيهاته ; وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها , ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ; وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة , وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه , حين نقضوا ميثاقهم مع الله , لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله , فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد , ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير , وسارت في طريق غير الطريق , نزع الله منها قيادة البشرية ; وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ; وحتى تستمسك بعهدها , وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية:
(فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين). .
والعفو عن قبائحهم إحسان , والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
الدرس الثاني:14 نقض النصارى لميثاقهم وعقابهم
كذلك يقص الله - سبحانه - على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة , أنه أخذ ميثاق الذين قالوا:إنا نصارى , من أهل الكتاب . ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك . فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق:
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون).
ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة:
(ومن الذين قالوا:إنا نصارى). .
ودلالة هذا التعبير:أنهم قالوها دعوى , ولم يحققوها في حياتهم واقعا . . ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله . وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي . وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ; ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف . كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق , التي لا تكاد تعد . في القديم وفي الحديث [ كما سنبين إجمالا بعد قليل ] . وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة . . جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه , ونسيانهم حظا مما ذكروا به . . ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ; وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون !
ولقد وقع بين الذين قالوا:إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله - سبحانه - في كتابه الصادق الكريم ; وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله . سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ; أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ; أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات . . وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين , جزاء على نقضهم ميثاقهم , ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله , وأول بند فيه هو بند التوحيد , الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام . لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)
الدرس الثالث:15 - 19 مطالبة أهل الكتاب بالإسلام وإلافهم كافرون
وحين يبلغ السياق هذا الموضع من استعراض موقف اليهود والنصارى من ميثاقهم مع الله . . وجهوا الخطاب لأهل الكتاب جميعا . . هؤلاء وهؤلاء . . لإعلانهم برسالة خاتم النبيين ; وإنها جاءت إليهم - ككثير مما أخفوه أو حرفوه ; مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني , مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة , التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان , قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة , وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل .
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول , ووظيفته في الحياة البشرية , وما قدر الله من أثره في حياة الناس .
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه , ويهديهم إلى صراط مستقيم). .
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج . . الإسلام . . من أنه(نور). .
إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يحد حقيقة الإيمان في قلبه . .(نور)نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم .
ثقلة الطين في كيانه , وظلمة التراب , وكثافة اللحم والدم , وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة , وتشرق الظلمة , وترق الكثافة , وترف العرامة . .
واللبس والغبش في الرؤية , والتأرجح والتردد في الخطوة , والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . .
(نور . وكتاب مبين). . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . .
(يهدي به الله - من اتبع رضوانه - سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه , ويهديهم إلى صراط مستقيم).
لقد رضي الله الإسلام دينا . . وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له . . يهديه . . (سبل السلام). .
وما أدق هذا التعبير وأصدقه ; إنه "السلام" هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها . . سلام الفرد . وسلام الجماعة . وسلام العالم . . سلام الضمير , وسلام العقل , وسلام الجوارح . . سلام البيت والأسرة , وسلام المجتمع والأمة , وسلام البشر والإنسانية . . السلام مع الحياة . والسلام مع الكون . والسلام مع الله رب الكون والحياة . . السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوما - إلا في هذا الدين ; وإلا في منهجه ونظامه وشريعته , ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته .
حقا إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه , من يتبع رضوان الله , (سبل السلام). . سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشى ء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير . وحرب القلق الناشى ء من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة . وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام . إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا ; ويلتذون هذا المذاق المريح . .
يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة ; والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات . . من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون !
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا ; ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا , وتحطم أخلاقنا وسلوكنا , وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا . . بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا ; حين نتبع رضوانه ; ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا
إننا نعاني من ويلات الجاهلية ; والإسلام منا قريب . ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء . . فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير ? ونشتري فيها الضلالة بالهدى ? ونؤثر فيها الحرب على السلام ?
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان . ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية , قبل أن ننقذ نحن أنفسنا , وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام , حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام .
(ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه). .
والجاهلية كلها ظلمات . . ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات . وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه . وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس . وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين . والنور هو النور . . هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور . .
يهديهم إلى صراط مستقيم . .
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها . مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه . مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات . .
إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته ; وخلق الكون ونواميسه ; هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج ; وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين . فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم , حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين !
وصدق الله العظيم . الغني عن العالمين . الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم !
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ; وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه , فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب , التي تخفي نصاعة التوحيد ; والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها , ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها:
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . قل:فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ? ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير). .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ; بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ; وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد , حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ; ولكنها دخلت على فترات ; وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ; حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير , الذي تحار فيه العقول . حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها !
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل:إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل:إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل:إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب , ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل:إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية "مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية:
"وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول:إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم "البربرانية " . . ويسمون:"الريمتيين" . ومنهم من كان يقول:إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار , فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة "سابليوس" وشيعته . ومنهم من كان يقول:لم تحبل به مريم تسعة أشهر , وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب , لأن الكلمة دخلت في أذنها , وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة "إليان" وأشياعه . ومنهم من كان يقول:إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره , وإن ابتداء الابن من مريم , وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي , صحبته النعمة الإلهية , وحلت فيه بالمحبة والمشيئة , ولذلك سمي "ابن الله" ويقولون:إن الله جوهر قديم واحد , وأقنوم واحد , ويسمونه بثلاثة أسماء , ولا يؤمنون بالكلمة , ولا بروح القدس . وهي مقالة "بولس الشمشاطي" بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم "البوليقانيون" . ومنهم من كان يقول:إنهم ثلاثة آلهة لم تزل:صالح , وطالح , وعدل بينهما . وهي مقالة "مرقيون" اللعين وأصحابه ! وزعموا أن "مرقيون" هو رئيس الحواريين وأنكروا "بطرس" . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة "بولس الرسول" ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني "قسطنطين" الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم , وشرد أصحاب سائر المذاهب ; وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده , وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه:
"إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه . وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول:إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق , أو من يقول:إنه قابل للتغيير , ويعتريه ظل دوران" .
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع "آريوس" وقد غلبت على القسطنطينية , وأنطاكية , وبابل , والإسكندرية , ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول "روح القدس" فقال بعضهم:هو إله , وقال آخرون:ليس بإله ! فاجتمع "مجمع القسطنطينية الأول" سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع , بناء على مقالة أسقف الإسكندرية:
"قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية:ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئا غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق , فقد قلنا:إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا:إن روح الله مخلوق , فقد قلنا:إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا:إن حياته مخلوقة , فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن" !!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع , كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم "الثالوث" من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى "نسطور" بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ; وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم , فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله ! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق:
"إن هذا الإنسان الذي يقول:إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال:إنه الله وابن الله , ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة " . .
ثم يقول:"إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة , أو هو ملهم من الله , فلم يرتكب خطيئة , وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه , وبطريرك الإسكندرية , وأساقفة أنطاكية , فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد "مجمع أفسس" سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق -:
"أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان , معروف بطبيعتين , متوحد في الأقنوم" . . ولعنوا نسطور !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد , انعقد له "مجمع أفسس الثاني" وقرر:
"أن المسيح طبيعة واحدة , اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت" .
ولكن هذا الرأي لم يسلم ; واستمرت الخلافات الحادة ; فاجتمع مجمع "خلقيدونية " سنة 451 وقرر:
"أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها , والناسوت طبيعه وحدها , التقتا في المسيح" . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني !
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري "المنوفيسية " والمذهب "الملوكاني"
قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية , التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة:"سير . ت . و . أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ; والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف , وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ; ولتقول كلمة الفصل ; ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة:
لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . . (لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة). .
[ كما سيجيء في السورة ] .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع:
(قل:فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم , وأمه , ومن في الأرض جميعا ? .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه , وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه , وكل ذات أخرى , في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة , وسلطانه متفرد , ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء , وخالق كل شيء , والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء , والله على كل شيء قدير). .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية , ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية , وحقيقة العبودية , والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .
واليهود والنصارى يقولون:إنهم أبناء الله وأحباؤه:
(وقالت اليهود والنصارى:نحن أبناء الله وأحباؤه). .
فزعموا لله - سبحانه - أبوة , على تصور من التصورات , إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ; وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور , ولا تستقيم الحياة , إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ; وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ; وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ; والقوانين , والنظم والأوضاع , دون أن تتداخل الاختصاصات , بتداخل الصفات والخصائص , وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب , إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف !
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه , كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
سبحانه - يحابي فريقا من عباده , فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ? وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ?
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور , وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة , ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ; كما يقرر بطلان ذلك الادعاء:
(قل:فلم يعذبكم بذنوبكم ? بل أنتم بشر ممن خلق , يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء). .
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ; فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية !
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء , وأن مصير كل شيء إليه:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير). .
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته , ويصير إليه الجميع . .
وينهي هذا البيان , بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب , يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه . بلا غبش ولا عذر , ولا غموض:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير). .
وبهذه المواجهة الحاسمة , لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . .
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ; يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون:
(والله على كل شيء قدير). .
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ; فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ; وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . .
وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ; وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . .
الدرس الرابع:20 - 26 قصة تيه بني إسرائيل
وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام -
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره المائده ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 4==11 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 4==11 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى