تفسير سوره المائده ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سوره المائده ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بسورة المائدة
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ; وليقيم به دولة ; ولينظم به مجتمعا ; وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ; وليحدد به روابط ذلك المجتمع ; فيما بينه ; وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ; وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد , يجمع متفرقة , ويؤلف أجزاءه , ويشدها كلها إلى مصدر واحد , وإلى سلطان واحد , وإلى جهة واحدة . . وذلك هو الدين , كما هو في حقيقته عند الله ; وكما عرفه المسلمون . أيام أن كانوا "مسلمين" !
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ; الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:إنشاء أمة , وإقامة دولة , وتنظيم مجتمع ; على أساس من عقيدة خاصة , وتصور معين , وبناء جديد . . الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ; وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك . .
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية , وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم . . إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها , وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك , وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة ; وتربطها بربها . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ; والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ; أو ألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى "الدين" كما أراده الله وكما فهمه المسلمون . أيام أن كانوا مسلمين .
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة ; وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب ; وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه . . لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني ; إنما ينص عليه نصا ; ويؤكده تأكيدا ; ويتكى ء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو "الدين" ; وأن الإقرار به كله هو "الإيمان" ; وأن الحكم به كله "هو الإسلام" . . وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون . الظالمون . الفاسقون . . وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون .
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا . إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير . .
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله , وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا .
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو "الإسلام" ; وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو "الدين" إلى أن الله هو "الإله الواحد" لا شريك له في ألوهيته ; وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه . وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه . . ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه . فالخالق لكل شيء , المالك لكل شيء , هو صاحب الحق , وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه . . هو الذي يشرع فيما يملك ; وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه ; وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر . . إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب ; كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء . والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها ; ويتبعون النظام الذي يرتضيه . هذه كتلك سواء بسواء . وهم يعبدونه بإقامة الشعائر , ويعبدونه باتباع الشرائع , بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة ; فكلتاهما من عند الله , الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه . بما أنه هو الإله الواحد . المالك الواحد . العليم بما في السموات والأرض جميعا . . ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي ; لأنه هو دين الله , ولا دين سواه .
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة ; في تقرير الألوهية الواحدة ; ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله - سبحانه - وبين غيره . أو بين خصائص الألوهية , وخصائص العبودية على الإطلاق: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه . ويهديهم إلى صراط مستقيم . لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . قل . فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ? ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء . والله على كل شيء قدير . وقالت اليهود والنصارى:نحن أبناء الله وأحباؤه ! قل فلم يعذبكم بذنوبكم ? بل أنتم بشر ممن خلق . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , وإليه المصير . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل , أن تقولوا:ما جاءنا من بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير . .
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح:يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم , إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة , ومأواه النار , وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . وما من إله إلا إله واحد . وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . . .
ولأن الله هو وحده الإله , وهو وحده الخالق , وهو وحده المالك . . فهو وحده الذي يشرع , هو وحده الذي يحلل ويحرم , وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل . كما أنه هو وحده الذي يعبد , وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر . وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله ; فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه ; ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود ; كما وقع من بني إسرائيل قبلهم:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . .)
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . .)
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به , إذ قلتم:سمعنا وأطعنا , واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله . إن الله خبير بما تعملون .
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل , وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ; وقال الله:إني معكم , لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا , لأكفرن عنكم سيئاتكم , ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم , فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة:منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح . ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة . ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام , ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين . . وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل !
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به ; والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ; ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . .). .
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . .). .
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . .). .
5: وم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا . إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل الله - دون سواه - وإلا فهو الكفر والظلم والفسق . . وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق:
(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم , ومن الذين هادوا , سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه ; يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا - ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا - أولئك الذين)(لم يرد الله أن يطهر قلوبهم , لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط , إن الله يحب المقسطين , وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله , ثم يتولون من بعد ذلك , وما أولئك بالمؤمنين . إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور , يحكم بها النبيون الذين أسلموا , للذين هادوا , والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء . فلا تخشوا الناس واخشون , ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس , والعين بالعين , والأنف بالأنف , والأذن بالأذن , والسن بالسن , والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفاره له . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . . وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم , مصدقا لما بين يديه من التوراة , وآتيناه الإنجيل , فيه هدى ونور , ومصدقا لما بين يديه من التوراة , وهدى وموعظة للمتقين , وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . . وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . . فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ; ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات , إلى الله مرجعكم جميعا , فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . . وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون . . أفحكم الجاهلية يبغون ? ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?). .
وهكذا تتبين القضية . . إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . . وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . . وإذن فشريعة واحدة , ومنهج واحد , وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله , فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله , فهو كفر وظلم وفسوق . . وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه , وكما جاء به كل الرسل من عنده . . أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .
وهذه الحتمية:حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و"الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي , والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله , ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي:"الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ; وادعاء أخص خصائص الألوهية , وهي السلطان والحاكمية , وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها , إذا هم نسبوها إلى أنفسهم , ووضعوا عليها شاراتهم ; ولم يردوها لله ; ولم يطبقوها باسم الله , إذعانا لسلطانه , واعترافا بألوهيته ; وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية , إلا تطبيقالشريعة الله , وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). . ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ; ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق , أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ; وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
وعلى هذا المعنى يتكى ء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك .
شأن آخر يتناوله سياق السورة ; غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح , وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ; وغير بيان معنى "الدين" وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل , والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل .
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة ; دورها الحقيقي في هذه الأرض ; وموقفها تجاه أعدائها , وكشف هؤلاء الأعداء , وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين ; وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم ; وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها . . إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة ; والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة . .
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ; وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ; ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ; فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ; وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة:
اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه). .
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ; تقيم العدل في الأرض , غير متأثرة بمودة أو شنآن , وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة . . وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ; فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ; لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ; وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ; وتعاونوا على البر والتقوى , ولا تعاونوا على الإثم والعدوان , واتقوا الله إن الله شديد العقاب). .
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله , شهداء بالقسط ; ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله , إن الله خبير بما تعملون).
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه , فاحكم بينهم بما أنزل الله ; ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق .
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ; وصاحبة الرسالة الأخيرة , والدين الاخير ; وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير . . ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ; ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا . إنما تتولى الله ورسوله , ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله . فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها , ولا بأرضها , ولا بموروثاتها الجاهلية . إنما هي "أمة " بهذه العقيدة الجديدة , وبهذا المنهج الرباني , وبهذه الرسالة الأخيرة . . وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ; بعضهم أولياء بعض , ومن يتولهم منكم فإنه منهم , إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون). .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء , واتقوا الله إن كنتم مؤمنين , وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا , ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). .
(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم , لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). .
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى , وأعداء منهج الله الصحيح دائما . وهم لا يريدون رؤية الحق ; كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد . وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم , من تاريخهم القديم مع رسل الله ; ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم:
(ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ; وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ; وقال الله:إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم , وأقرضتم الله قرضا حسنا , لأكفرن عنكم سيئاتكم ; ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم , وجعلنا قلوبهم قاسية , يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم . فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين . . ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم , فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ; وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
(وإذ قال موسى لقومه:يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم , إذ جعل فيكم أنبياء , وجعلكم ملوكا , وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ; ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا:يا موسى إن فيها قوما جبارين , وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما:ادخلوا عليهم الباب ; فإذا دخلتموه فإنكم غالبون , وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا:يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا , إنا هاهنا قاعدون . قال:رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال:فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ; فلا تأس على القوم الفاسقين . .
. . . (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا أو فساد في الأرض فكأنما قتل)(الناس جميعا ; ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات , ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون). .
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ; ومن الذين هادوا . سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك , يحرفون الكلم من بعد مواضعه , يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم , لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . . إلخ. .
(قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله , وما أنزل إلينا , وما أنزل من قبل ; وأن أكثركم فاسقون ? قل:هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ? من لعنه الله وغضب عليه , وجعل منهم القردة والخنازير , وعبد الطاغوت . . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل . .).
وإذا جاؤوكم قالوا آمنا , وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ; والله أعلم بما كانوا يكتمون . وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان , وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يعملون ! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! وقالت اليهود:يد الله مغلولة . غلت أيديهم , ولعنوا بما قالوا ! بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ; وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ; ويسعون في الأرض فسادا , والله لا يحب المفسدين .
(قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا , فلا تأس على القوم الكافرين). .
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ; كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا . ثم تاب الله عليهم . ثم عموا وصموا . . كثير منهم . . والله بصير بما يعملون).
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا , لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . .
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). . إلخ .
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة ; والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا , تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة:
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك . . كما تعالج موقف الأمة المسلمة , في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها . . وإنها لهي هي . . على مدار الزمان !
ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة ?
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح . . وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة . . وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة , التي فيها: (اليوم أكملت لكم دينكم . . .)فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة . .
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول:إن السورة نزلت بكاملها بعد "الفتح" ; فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر , تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرئيل مع موسى - عليه السلام - من دخول الأرض المقدسة , كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية . وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصارى - رضي الله عنه - في رواية , وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية , وهو يقول لرسول الله [ ص ]:"إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون . . الخ" . .
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود - في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم - قوة ونفوذ وعمل في المدينة , وفي الصف المسلم ; مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم . وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة , عقب غزوة الخندق , وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية:بني قينقاع , وبني النضير وبني قريظة . فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد . ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السليمة قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم . فقول الله تعالى لنبيه الكريم: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح . .)لا بد سابق على هذه الفترة . وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم . .
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح ; بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك , كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك . فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال . وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات .
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة , وتقديم سورة آل عمران , وتقديم سورة النساء , نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها , بالجماعة المسلمة , مع أعداء هذه الجماعة , وأعداء دينها , وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون , وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ; ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات . . كل ذلك في وقت واحد ; وفي منهج واحد ; وفي نفس واحد !
وأهم قواعد البناء:تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش . وبيان معنى "الدين" وأنه هو منهج الحياة ; وأن الحكم بما أنزل الله وحده , والتلقي في شئون الحياة كلها من الله وحده هو الإيمان , وهو الإسلام ; وبغير هذا لا يكون هناك توحيد لله . فتوحيد الله هو إفراده - سبحانه - بالألوهية ; وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك . والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية , كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء . . وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا . .
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة "شخصيتها" وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات , والزوايا التي تعالجها منها , والأضواء التي تسلطها عليها ; ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ; بحيث تتميز "شخصية " كل سورة تماما ; ويبرز طابعها الخاص .
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير . . سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله ; أو المبادى ء والتوجيهات , التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ; ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة ; في أسلوب التقرير الدقيق , وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة . . من بدئها إلى منتهاها .
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها . . فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: (اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا). . يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها , وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة , كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ; فلا تعديل فيها ولا تغيير ; فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ; لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ; وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر , ونظام آخر , وشريعة أخرى ; فلا يحتاج منا إلى وصف , فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد , وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ; وليس لكل زمان شريعة , ولا لكل عصر دين . . إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر , قد اكتملت وتمت , ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل , أو يحور , أو يغير أو يطور ! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان , فليبتغ غير الإسلام دينا . . (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي , والشعائر التعبدية , والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ; يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ; وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ; دون خروج على أصل فيه ولا فرع , لأنه لهذا جاء , ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ; ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ; بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ; لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة , ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع , وأن هناك حاجات ستبرز , وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور . .
وبهذا ننهي هذا التقديم العام المجمل للسورة , ونأخذ في التفصيل . .
الوحدة الأولى:1 - 11 مجموعة من التشريعات والتوجيهات
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول:1 - 2 الوفاء بالعقود وبعض أحكام الإحرام (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ; وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين , من الأوفي أولها عقد الإيمان بالله ; ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه , ومقتضى العبودية لألوهيته . . هذا العقد الذي تنبثق منه , وتقوم عليه سائر العقود ; وسائر الضوابط في الحياة .
وعقد الإيمان بالله ; والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ; ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة , والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق . . هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض , بشرط وعقد هذا نصه القرآني: قلنا:اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى , فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ; وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله , باطلا بطلانا أصليا , غير قابل للتصحيح المستأنف ! وتحتم على كل مؤمن بالله , يريد الوفاء بعقد الله , أن يرد هذا الباطل , ولا يعترف به ; ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرىوإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم , وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ?). . فهذا عقد آخر مع كل فرد ; عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل:كيف ? لأن الله أعلم بخلقة ; وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول:إنه أخذ عليهم هذا العهد , على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان , كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء !
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق ; وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق .
والذين آمنوا بمحمد [ ص ] قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا , وأثرة علينا , وألا تنازع الأمر أهله" .
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول [ ص ] من مكة إلى المدينة , كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو "بيعة الرضوان" .
وعلى عقد الإيمان بالله , والعبودية لله , تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله , وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله - فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا , بصفتهم هذه , أن يوفوا بها . إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء , مستحثة لهم كذلك على الوفاء . . ومن ثم كان هذا النداء:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). .
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - غير محلي الصيد وأنتم حرم . إن الله يحكم ما يريد . . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا , ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى . ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .واتقوا الله . إن الله شديد العقاب . حرمت عليكم الميتة , والدم ولحم الخنزير , وما أهل لغير الله به , والمنخنقة , والموقوذة , والمتردية , والنطيحة , وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب , وأن تستقسموا بالأزلام . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم , فلا تخشوهم واخشون . . اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم). .
إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح , وفي الأنواع , وفي الأماكن , وفي الأوقات . . إن هذا كله من "العقود" . . وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء . فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده ; ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره . . ومن ثم نودوا هذا النداء , في مطلع هذا البيان . . وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام:
(أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم -). .
وبمقتضى هذا الإحلال من الله ; وبمقتضى إذنه هذا وشرعه - لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر - صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول (بهيمة الأنعام)من الذبائح والصيد - إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها - وهو الذي سيرد ذكره محرما . . إما حرمة وقتية أو مكانية ; وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان . وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ; ويضاف إليها الوحشي منها , كالبقر الوحشي , والحمر الوحشية والظباء .
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم . . . وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام:
(غير محلي الصيد وأنتم حرم). .
والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها . فالإحرام للحج أو للعمرة , تجرد عن أسباب الحياة العادية واساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام , الذي جعله الله مثابة الأمان . . ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء . . وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية ; تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة ; وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء ; وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله ; لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها , وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام , يربط هذا العقد بالعقد الأكبر , ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق:
(إن الله يحكم ما يريد). .
طليقة مشيئته , حاكمة إرادته , متفردا - سبحانه - بالحكم وفق ما يريد . ليس هنالك من يريد معه ; وليس هنالك من يحكم بعده ; ولا راد لما يحكم به . . وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء . .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا . .).
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى (شعائر الله)في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ; فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ; لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السياق
من الاية 2 الى الاية 2
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
القرآني إلى الله تعظيما لها , وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ; وهي رجب , وذو القعدة , وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ; فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان , أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها , وأقام هذه الحرمة على أمر الله , يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . .)وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين , فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ; وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين , ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ; وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة , فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ; ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ; بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ; ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر:أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ; فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل:إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ; فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به , وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا:إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا). . وقوله: (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم). . والأظهر القول الأول ; وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ; وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة , للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام , في غير البيت الحرام , فلا صيد في البيت الحرام: (وإذا حللتم فاصطادوا). .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ; كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ; استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ; ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه , وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام , وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان , يدعو الله الذين آمنوا به , وتعاقدوا معه , أن يفوا بعقدهم ; وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ; بلا تأثر بالمشاعر الشخصية , والعواطفالذاتية , والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ; وقبله كذلك ; وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ; وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض , فهذا كله شيء ; وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله , إن الله شديد العقاب). .
إنها قمة في ضبط النفس ; وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام , ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ; تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ; ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية , ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب , ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ; لا في الإثم والعدوان ; ويخوفها عقاب الله , ويأمرها بتقواه , لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط , وعلى التسامي والتسامح , تقوى لله , وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية , بالمنهج الرباني , أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية , والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور:"أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا" . . كانت حمية الجاهلية , ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ; وكان الحلف على النصرة , في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ; ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور:"انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى , وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت , وإن ترشد غزية أرشد !
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وت
المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بسورة المائدة
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ; وليقيم به دولة ; ولينظم به مجتمعا ; وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ; وليحدد به روابط ذلك المجتمع ; فيما بينه ; وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ; وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد , يجمع متفرقة , ويؤلف أجزاءه , ويشدها كلها إلى مصدر واحد , وإلى سلطان واحد , وإلى جهة واحدة . . وذلك هو الدين , كما هو في حقيقته عند الله ; وكما عرفه المسلمون . أيام أن كانوا "مسلمين" !
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ; الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:إنشاء أمة , وإقامة دولة , وتنظيم مجتمع ; على أساس من عقيدة خاصة , وتصور معين , وبناء جديد . . الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ; وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك . .
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية , وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم . . إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها , وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك , وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة ; وتربطها بربها . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ; والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ; أو ألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى "الدين" كما أراده الله وكما فهمه المسلمون . أيام أن كانوا مسلمين .
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة ; وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب ; وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه . . لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني ; إنما ينص عليه نصا ; ويؤكده تأكيدا ; ويتكى ء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو "الدين" ; وأن الإقرار به كله هو "الإيمان" ; وأن الحكم به كله "هو الإسلام" . . وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون . الظالمون . الفاسقون . . وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون .
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا . إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير . .
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله , وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا .
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو "الإسلام" ; وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو "الدين" إلى أن الله هو "الإله الواحد" لا شريك له في ألوهيته ; وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه . وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه . . ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه . فالخالق لكل شيء , المالك لكل شيء , هو صاحب الحق , وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه . . هو الذي يشرع فيما يملك ; وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه ; وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر . . إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب ; كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء . والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها ; ويتبعون النظام الذي يرتضيه . هذه كتلك سواء بسواء . وهم يعبدونه بإقامة الشعائر , ويعبدونه باتباع الشرائع , بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة ; فكلتاهما من عند الله , الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه . بما أنه هو الإله الواحد . المالك الواحد . العليم بما في السموات والأرض جميعا . . ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي ; لأنه هو دين الله , ولا دين سواه .
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة ; في تقرير الألوهية الواحدة ; ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله - سبحانه - وبين غيره . أو بين خصائص الألوهية , وخصائص العبودية على الإطلاق: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه . ويهديهم إلى صراط مستقيم . لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . قل . فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ? ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , يخلق ما يشاء . والله على كل شيء قدير . وقالت اليهود والنصارى:نحن أبناء الله وأحباؤه ! قل فلم يعذبكم بذنوبكم ? بل أنتم بشر ممن خلق . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما , وإليه المصير . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل , أن تقولوا:ما جاءنا من بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير . .
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح:يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم , إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة , ومأواه النار , وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . وما من إله إلا إله واحد . وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . . .
ولأن الله هو وحده الإله , وهو وحده الخالق , وهو وحده المالك . . فهو وحده الذي يشرع , هو وحده الذي يحلل ويحرم , وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل . كما أنه هو وحده الذي يعبد , وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر . وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله ; فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه ; ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود ; كما وقع من بني إسرائيل قبلهم:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . .)
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . .)
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به , إذ قلتم:سمعنا وأطعنا , واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله . إن الله خبير بما تعملون .
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل , وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ; وقال الله:إني معكم , لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا , لأكفرن عنكم سيئاتكم , ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم , فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة:منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح . ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة . ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام , ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين . . وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل !
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به ; والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ; ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . .). .
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . .). .
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . .). .
5: وم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا . إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل الله - دون سواه - وإلا فهو الكفر والظلم والفسق . . وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق:
(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم , ومن الذين هادوا , سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه ; يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا - ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا - أولئك الذين)(لم يرد الله أن يطهر قلوبهم , لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط , إن الله يحب المقسطين , وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله , ثم يتولون من بعد ذلك , وما أولئك بالمؤمنين . إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور , يحكم بها النبيون الذين أسلموا , للذين هادوا , والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء . فلا تخشوا الناس واخشون , ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس , والعين بالعين , والأنف بالأنف , والأذن بالأذن , والسن بالسن , والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفاره له . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . . وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم , مصدقا لما بين يديه من التوراة , وآتيناه الإنجيل , فيه هدى ونور , ومصدقا لما بين يديه من التوراة , وهدى وموعظة للمتقين , وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . . وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . . فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ; ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات , إلى الله مرجعكم جميعا , فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . . وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون . . أفحكم الجاهلية يبغون ? ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?). .
وهكذا تتبين القضية . . إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . . وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . . وإذن فشريعة واحدة , ومنهج واحد , وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله , فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله , فهو كفر وظلم وفسوق . . وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه , وكما جاء به كل الرسل من عنده . . أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .
وهذه الحتمية:حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و"الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي , والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله , ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي:"الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ; وادعاء أخص خصائص الألوهية , وهي السلطان والحاكمية , وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها , إذا هم نسبوها إلى أنفسهم , ووضعوا عليها شاراتهم ; ولم يردوها لله ; ولم يطبقوها باسم الله , إذعانا لسلطانه , واعترافا بألوهيته ; وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية , إلا تطبيقالشريعة الله , وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). . ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ; ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق , أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ; وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
وعلى هذا المعنى يتكى ء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك .
شأن آخر يتناوله سياق السورة ; غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح , وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ; وغير بيان معنى "الدين" وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل , والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل .
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة ; دورها الحقيقي في هذه الأرض ; وموقفها تجاه أعدائها , وكشف هؤلاء الأعداء , وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين ; وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم ; وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها . . إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة ; والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة . .
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ; وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ; ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ; فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ; وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة:
اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه). .
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ; تقيم العدل في الأرض , غير متأثرة بمودة أو شنآن , وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة . . وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ; فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ; لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ; وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ; وتعاونوا على البر والتقوى , ولا تعاونوا على الإثم والعدوان , واتقوا الله إن الله شديد العقاب). .
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله , شهداء بالقسط ; ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله , إن الله خبير بما تعملون).
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه , فاحكم بينهم بما أنزل الله ; ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق .
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ; وصاحبة الرسالة الأخيرة , والدين الاخير ; وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير . . ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ; ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا . إنما تتولى الله ورسوله , ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله . فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها , ولا بأرضها , ولا بموروثاتها الجاهلية . إنما هي "أمة " بهذه العقيدة الجديدة , وبهذا المنهج الرباني , وبهذه الرسالة الأخيرة . . وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ; بعضهم أولياء بعض , ومن يتولهم منكم فإنه منهم , إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون). .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء , واتقوا الله إن كنتم مؤمنين , وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا , ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). .
(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم , لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). .
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى , وأعداء منهج الله الصحيح دائما . وهم لا يريدون رؤية الحق ; كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد . وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم , من تاريخهم القديم مع رسل الله ; ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم:
(ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ; وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ; وقال الله:إني معكم . لئن أقمتم الصلاة , وآتيتم الزكاة , وآمنتم برسلي , وعزرتموهم , وأقرضتم الله قرضا حسنا , لأكفرن عنكم سيئاتكم ; ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم , وجعلنا قلوبهم قاسية , يحرفون الكلم عن مواضعه , ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم . فاعف عنهم واصفح , إن الله يحب المحسنين . . ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم , فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ; وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
(وإذ قال موسى لقومه:يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم , إذ جعل فيكم أنبياء , وجعلكم ملوكا , وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ; ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا:يا موسى إن فيها قوما جبارين , وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما:ادخلوا عليهم الباب ; فإذا دخلتموه فإنكم غالبون , وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا:يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا , إنا هاهنا قاعدون . قال:رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال:فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ; فلا تأس على القوم الفاسقين . .
. . . (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا أو فساد في الأرض فكأنما قتل)(الناس جميعا ; ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات , ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون). .
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ; ومن الذين هادوا . سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك , يحرفون الكلم من بعد مواضعه , يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم , لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . . إلخ. .
(قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله , وما أنزل إلينا , وما أنزل من قبل ; وأن أكثركم فاسقون ? قل:هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ? من لعنه الله وغضب عليه , وجعل منهم القردة والخنازير , وعبد الطاغوت . . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل . .).
وإذا جاؤوكم قالوا آمنا , وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ; والله أعلم بما كانوا يكتمون . وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان , وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يعملون ! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! وقالت اليهود:يد الله مغلولة . غلت أيديهم , ولعنوا بما قالوا ! بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ; وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة , كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ; ويسعون في الأرض فسادا , والله لا يحب المفسدين .
(قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا , فلا تأس على القوم الكافرين). .
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ; كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا . ثم تاب الله عليهم . ثم عموا وصموا . . كثير منهم . . والله بصير بما يعملون).
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا , لبئس ما قدمت لهم أنفسهم:أن سخط الله عليهم , وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . .
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). . إلخ .
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة ; والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا , تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة:
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك . . كما تعالج موقف الأمة المسلمة , في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها . . وإنها لهي هي . . على مدار الزمان !
ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة ?
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح . . وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة . . وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة , التي فيها: (اليوم أكملت لكم دينكم . . .)فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة . .
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول:إن السورة نزلت بكاملها بعد "الفتح" ; فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر , تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرئيل مع موسى - عليه السلام - من دخول الأرض المقدسة , كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية . وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصارى - رضي الله عنه - في رواية , وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية , وهو يقول لرسول الله [ ص ]:"إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون . . الخ" . .
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود - في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم - قوة ونفوذ وعمل في المدينة , وفي الصف المسلم ; مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم . وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة , عقب غزوة الخندق , وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية:بني قينقاع , وبني النضير وبني قريظة . فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد . ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السليمة قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم . فقول الله تعالى لنبيه الكريم: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح . .)لا بد سابق على هذه الفترة . وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم . .
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح ; بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك , كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك . فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال . وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات .
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة , وتقديم سورة آل عمران , وتقديم سورة النساء , نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها , بالجماعة المسلمة , مع أعداء هذه الجماعة , وأعداء دينها , وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون , وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ; ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات . . كل ذلك في وقت واحد ; وفي منهج واحد ; وفي نفس واحد !
وأهم قواعد البناء:تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش . وبيان معنى "الدين" وأنه هو منهج الحياة ; وأن الحكم بما أنزل الله وحده , والتلقي في شئون الحياة كلها من الله وحده هو الإيمان , وهو الإسلام ; وبغير هذا لا يكون هناك توحيد لله . فتوحيد الله هو إفراده - سبحانه - بالألوهية ; وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك . والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية , كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء . . وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا . .
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة "شخصيتها" وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات , والزوايا التي تعالجها منها , والأضواء التي تسلطها عليها ; ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ; بحيث تتميز "شخصية " كل سورة تماما ; ويبرز طابعها الخاص .
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير . . سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله ; أو المبادى ء والتوجيهات , التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ; ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة ; في أسلوب التقرير الدقيق , وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة . . من بدئها إلى منتهاها .
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها . . فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: (اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا). . يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها , وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة , كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ; فلا تعديل فيها ولا تغيير ; فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ; لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ; وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر , ونظام آخر , وشريعة أخرى ; فلا يحتاج منا إلى وصف , فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد , وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ; وليس لكل زمان شريعة , ولا لكل عصر دين . . إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر , قد اكتملت وتمت , ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل , أو يحور , أو يغير أو يطور ! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان , فليبتغ غير الإسلام دينا . . (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي , والشعائر التعبدية , والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ; يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ; وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ; دون خروج على أصل فيه ولا فرع , لأنه لهذا جاء , ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ; ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ; بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ; لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة , ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع , وأن هناك حاجات ستبرز , وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور . .
وبهذا ننهي هذا التقديم العام المجمل للسورة , ونأخذ في التفصيل . .
الوحدة الأولى:1 - 11 مجموعة من التشريعات والتوجيهات
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول:1 - 2 الوفاء بالعقود وبعض أحكام الإحرام (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ; وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين , من الأوفي أولها عقد الإيمان بالله ; ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه , ومقتضى العبودية لألوهيته . . هذا العقد الذي تنبثق منه , وتقوم عليه سائر العقود ; وسائر الضوابط في الحياة .
وعقد الإيمان بالله ; والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ; ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة , والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق . . هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض , بشرط وعقد هذا نصه القرآني: قلنا:اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى , فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ; وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله , باطلا بطلانا أصليا , غير قابل للتصحيح المستأنف ! وتحتم على كل مؤمن بالله , يريد الوفاء بعقد الله , أن يرد هذا الباطل , ولا يعترف به ; ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرىوإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم , وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ?). . فهذا عقد آخر مع كل فرد ; عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل:كيف ? لأن الله أعلم بخلقة ; وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول:إنه أخذ عليهم هذا العهد , على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان , كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء !
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق ; وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق .
والذين آمنوا بمحمد [ ص ] قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا , وأثرة علينا , وألا تنازع الأمر أهله" .
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول [ ص ] من مكة إلى المدينة , كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو "بيعة الرضوان" .
وعلى عقد الإيمان بالله , والعبودية لله , تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله , وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله - فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا , بصفتهم هذه , أن يوفوا بها . إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء , مستحثة لهم كذلك على الوفاء . . ومن ثم كان هذا النداء:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). .
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - غير محلي الصيد وأنتم حرم . إن الله يحكم ما يريد . . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله , ولا الشهر الحرام , ولا الهدي , ولا القلائد , ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا , ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى . ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .واتقوا الله . إن الله شديد العقاب . حرمت عليكم الميتة , والدم ولحم الخنزير , وما أهل لغير الله به , والمنخنقة , والموقوذة , والمتردية , والنطيحة , وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب , وأن تستقسموا بالأزلام . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم , فلا تخشوهم واخشون . . اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم). .
إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح , وفي الأنواع , وفي الأماكن , وفي الأوقات . . إن هذا كله من "العقود" . . وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء . فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده ; ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره . . ومن ثم نودوا هذا النداء , في مطلع هذا البيان . . وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام:
(أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم -). .
وبمقتضى هذا الإحلال من الله ; وبمقتضى إذنه هذا وشرعه - لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر - صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول (بهيمة الأنعام)من الذبائح والصيد - إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها - وهو الذي سيرد ذكره محرما . . إما حرمة وقتية أو مكانية ; وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان . وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ; ويضاف إليها الوحشي منها , كالبقر الوحشي , والحمر الوحشية والظباء .
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم . . . وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام:
(غير محلي الصيد وأنتم حرم). .
والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها . فالإحرام للحج أو للعمرة , تجرد عن أسباب الحياة العادية واساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام , الذي جعله الله مثابة الأمان . . ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء . . وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية ; تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة ; وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء ; وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله ; لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها , وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام , يربط هذا العقد بالعقد الأكبر , ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق:
(إن الله يحكم ما يريد). .
طليقة مشيئته , حاكمة إرادته , متفردا - سبحانه - بالحكم وفق ما يريد . ليس هنالك من يريد معه ; وليس هنالك من يحكم بعده ; ولا راد لما يحكم به . . وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء . .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا . .).
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى (شعائر الله)في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ; فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ; لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السياق
من الاية 2 الى الاية 2
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
القرآني إلى الله تعظيما لها , وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ; وهي رجب , وذو القعدة , وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ; فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان , أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها , وأقام هذه الحرمة على أمر الله , يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . .)وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين , فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ; وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين , ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ; وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة , فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ; ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ; بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ; ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر:أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ; فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل:إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ; فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به , وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا:إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا). . وقوله: (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم). . والأظهر القول الأول ; وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ; وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة , للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام , في غير البيت الحرام , فلا صيد في البيت الحرام: (وإذا حللتم فاصطادوا). .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ; كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ; استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ; ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه , وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام , وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان , يدعو الله الذين آمنوا به , وتعاقدوا معه , أن يفوا بعقدهم ; وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ; بلا تأثر بالمشاعر الشخصية , والعواطفالذاتية , والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ; وقبله كذلك ; وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ; وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض , فهذا كله شيء ; وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله , إن الله شديد العقاب). .
إنها قمة في ضبط النفس ; وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام , ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ; تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ; ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية , ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب , ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ; لا في الإثم والعدوان ; ويخوفها عقاب الله , ويأمرها بتقواه , لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط , وعلى التسامي والتسامح , تقوى لله , وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية , بالمنهج الرباني , أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية , والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور:"أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا" . . كانت حمية الجاهلية , ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ; وكان الحلف على النصرة , في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ; ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور:"انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى , وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت , وإن ترشد غزية أرشد !
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وت
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره المائده ايه 4==11 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه12==19 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه 20==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره المائده ايه12==19 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 54--==63 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المائده ايه 64==77 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى