تفسير النساء ايه 83==86 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير النساء ايه 83==86 الشيخ سيد قطب
من الاية 83 الى الاية 84
وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84)
عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات ; قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: (وإن منكم لمن ليبطئن). . الآيات . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين ; التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .
وقد كدنا نرجح هذا الرأي ; لأن ملامح النفاق واضحة , فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم , أمر أقرب إلى طبيعتهم , وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين:[ قيل لهم:كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال . . الآيات ] هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين , المندسين في الصف المسلم . وربما كلها وصفا للمنافقين عامة ; وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى ; وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان ; أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ; ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع , لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة). .
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي [ ص ] من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول [ ص ] ورده عليهم:" إننا لم نؤمر بقتال " . . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين , الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف ; رضي الله عنهم جميعا .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجوعة واردة في بعض من المهاجرين , الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال . . وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم , بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول [ ص ] دون الحسنة ! أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام , ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردةعنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين ; كما ورد أنها في طائفة من المنافقين !
ومن ثم نأخذ بالأحوط ; في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئه للرسول [ ص ] دون الحسنة , ورد هذه وحدها إلى الله ! ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني , ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية !!! والله المعين .
الدرس الخامس:77 - 78 حكمة عدم فرض الجهاد في مكة
ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل:متاع الدنيا قليل . والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ً . أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة . . .
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة , يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ; وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع , شديد الفزع , حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ; القهار الجبار , الذي لا يعذب عذابه أحد , ولا يوثق وثاقه أحد . . (أو أشد خشية)!! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - (ربنا لم كتبت علينا القتال ?). . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ; ولوظيفة هذا الدين أيضا . . ويتبعون ذلك التساؤل , بأمنية حسيرة مسكينة ! (لولا أخرتنا إلى أجل قريب !)وأمهلتنا بعض الوقت , قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا , قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد , وتقع الواقعة . . بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ; فتدفعهم قلة الاحتمال , إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . . حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا , وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم , ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ; ويعدون للأمر عدته , ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة , ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا , ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ; وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف , الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ; ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول [ ص ] أن يأذن له بدفع الأذى , أو حفظ الكرامة . والرسول [ ص ] يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار , والتربيةوالإعداد , وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ; ولم يعد هناك أذى ولا إذلال , وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ; لم يعد يرى للقتال مبررا ; أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
(فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية , وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ; والتصور الذي لم تتضح معالمه ; ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص , وحماية الأقوام , وحماية الأوطان , إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض , وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ; وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان , يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ; ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ; ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . . وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ; وينهى عن الجهاد !
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ; والاستماع فقط إلى أمر الله وأعتباره هو العلة والمعلول , والسبب والمسبب , والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ; ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله , ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف , الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ; ويعجب منه هذا التعجيب ! وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم ; والرد على العدوان ; ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا ; فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .
أما حكمة هذا , والأمر بالكف عن القتال , وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة , والصبر والاحتمال . . حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق , وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ; فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ; ونفرض على أوامره أسبابا وعللا , قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون , ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها , ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ; أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف , مما يدركه عقله ويحسن فيه . . فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة ; هو الحكمة التي أرادها الله . . نصا . . وليس وراءها شيء , وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف فيالطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسبابا وعللا , لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح !
إنها أسباب . . اجتهادية . . تخطى ء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ; في بيئة معينة , لقوم معينين , وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات , تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه , ويتجرد من ذاته , ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به , محورا لحياة في نظره , ودافع الحركة في حياته . . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ; فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ; ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي , لإنشاء "المجتمع المسلم" الخاضع لقيادة موجهة ; المترقي المتحضر , غير الهمجي أو القبلي .
"ب" وربما كان ذلك أيضا , لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ , في مثل بيئة قريش ; ذات العنجهية والشرف ; والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة , كثارات العرب المعروفة , التي أثارت حرب داحس والغبراء , وحرب البسوس - أعواما طويلة , تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة , إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية , وهو في مبدئه , فلا تذكر أبدا !
"ج" وربما كان ذلك أيضا , اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة , هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد , يعذبونه هم ويفتنونه و"يؤدبونه" ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال:هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم , في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة:إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ; فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد , والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة ?
"د" وربما كان ذلك أيضا , لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم , ويعذبونهم ويؤذونهم ; هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص , بل من قادته . . ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء ?!
"ه" وربما كان ذلك , أيضا , لأن النخوة العربية , في بيئة قبلية , من عادتها أن تثور للمظلوم , الذي يحتمل الأذى , ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة , ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . . وآخر هذه الظواهرنقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب , بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل , قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ; وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
"و" وربما كان ذلك أيضا , لقلة عدد المسلمين حينذاك , وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة ; حيث كانت القبائل تقف على الحياد , من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها , حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة , إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك , وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام , ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة , وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة .
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة , لتجاوز هذه الاعتبارات كلها , والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا . . هذا الأمر الأساسي هو "وجود الدعوة " . . وجودها في شخص الداعية [ ص ] وشخصه في حماية سيوف بني هاشم , فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم , إذا هي امتدت يدها إلى محمد [ ص ] فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي , ولا يكتمها , ولا يخفيها , ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها , في ندوات قريش في الكعبة , ومن فوق جبل الصفا ; وفي اجتماعات عامة . . ولا يجرؤ أحد على سد فمه ; ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ; يعلن فيه بعض حقيقة دينه ; ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه ; بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته , لم يدهن . . وعلى الجملة كان للدعوة "وجودها" الكامل , في شخص رسول الله [ ص ] محروسا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة , والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها , مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم , ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ; وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة , في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها , فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها "وجودها" وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة , فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
(فلما كتب عليهم القتال , إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !).
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع , وبين الرجال المؤمنين , ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ; المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر , فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ; يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني:
(قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). .
إنهم يخشون الموت , ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ; ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ; ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
(قل متاع الدنيا قليل). .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين ? ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ?! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ?
(والآخرة خير لمن اتقى). .
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي(خير). . (خير لمن اتقى). . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى , وهو الذي يخشى . وليس الناس . . الناس الذين سبق أن قال:إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ?
(ولا تظلمون فتيلا). .
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ; إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ; الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة , وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة , والأجل والقدر ; وعلاقة هذا كله بتكليف القتال , الذي جزعوا له هذا الجزع , وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
(أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ; ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر ; ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ; وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء , وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع , وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ; وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي , للأفراد والجماعات . .
الدرس السادس:78 - 80 تصحيح نظرة بعضهم للخير والشر
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي , والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه , ولا فصل , ولا وقفة تنبى ء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى , وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها:
وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا:هذه من عندك ! قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ?! ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله , ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا . .
إن الذين يقولون هذا القول , وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله , وما يصيبهم من الضر إلى النبي [ ص ] يحتمل فيهم وجوه:
الوجه الأول:أنهم يتطيرون بالنبي [ ص ] فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة , ولم تنسل الماشية , أو إذا أصيبوا في موقعة ; تطيروا بالرسول [ ص ] فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله !
الوجه الثاني:أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول [ ص ] تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا:إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال , يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ! ويقولون:إن الخير يأتيهم من الله , وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول [ ص ] ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر !
والوجه الثالث:هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة , وعلاقته بمشيئة الله .وطبيعة أوامر النبي [ ص ] لهم ; وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل , يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون: (ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !). . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات , هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم "قضية القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار" . . وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس ; ثم في الرد عليهم , وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم:
وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? . .
إن الله هو الفاعل الأول , والفاعل الواحد , لكل ما يقع في الكون , وما يقع للناس , وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة , وإيقاعها بهم , للرسول [ ص ] وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية ; تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير ; بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشى ء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية .
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلا , ووجوده أصلا , لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
أما الآية الثانية:
(ما أصابك من حسنة فمن الله , وما أصابك من سيئة فمن نفسك . .)
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا , وشرع طريقا , ودل على الخير , وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج , ويسير في هذا الطريق , ويحاول الخير , ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه , ولا يسلك طريقه الذي شرعه , ولا يحاول الخير الذي دله عليه , ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول , ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة , وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث , وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه , وموقفه من الناس , ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية:
وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة (وكفى بالله شهيدًا). .
وأمر الناس مع الرسول [ ص ] أن من أطاعه فقد أطاع الله . فلا تفرقه بين الله ورسوله . ولا بين قول الله وقول رسوله . . ومن تولى معرضا مكذبا فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه . ولم يرسل الرسول [ ص ] ليجبره على الهدى , ويكرهه على الدين , وليس موكلا بحفظه من العصيان والضلال . فهذا ليس داخلا في وظيفة الرسول ; ولا داخلا في قدرة الرسول .
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم . . فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره . وما يصيبهم من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة , سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر , أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله . لأنه لا ينشى ء شيئا ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله . . وما يصيبهم من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله , لأنه بسبب منهجه وهدايته . وما يصيبهم من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند أنفسهم , لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته . .
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول . لا ينشى ء ولا يحدث ولا يخلق . ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه:وهي الخلق والإنشاء والإحداث . وهو يبلغ ما جاء به من عند الله , فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله . وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول . والرسول ليس مكلفا أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين , ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي . بعد البلاغ والبيان . .
حقائق - هكذا - واضحة مريحة , بينة صريحة ; تبني التصور , وتريح الشعور ; وتمضي شوطا مع تعليم الله لهذه الجماعة , وإعدادها لدورها الكبير الخطير . .
الدرس السابع:81 ظاهرة التناسق وعدم الاختلاف في القرآن الكريم
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى - في الصف المسلم - أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلا جديدا , وفصلا جديدا ! ومع الحكاية التنفير من الفعلة ; ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم . . كل ذلك في آيات قليلة , وعبارات معدودة:
ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله [ ص ] يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف . . قالواطاعة). . قالوها هكذا جامعة شاملة . طاعة مطلقة . لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء ! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله [ ص ] حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول ; وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ ; وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف .
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها ; ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص , والتصرف الخاص . . ويكون المعنى أن المسلمين يقولون:طاعة . بجملتهم . ولكن طائفة منهم - وهي هذه الطائفة المنافقة - إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا . . وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم . فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال . وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله ; والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها !
والله - سبحانه - يطمئن النبي [ ص ] والمخلصين في الصف . يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر . وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم , ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئا بتآمرها وتبيتها . ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين ; فلن يذهبوا مفلحين , ولن يذهبوا ناجين:
(والله يكتب ما يبيتون). .
وكان الخطة التي وجه الله إليها نبيه [ ص ] في معاملة المنافقين , هي أخذهم بظاهرهم - لا بحقيقة نواياهم - والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم . . وهي خطة فتلتهم في النهاية , وأضعفتهم , وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا . . وهنا طرف من هذه الخطة:
(فأعرض عنهم).
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم , التطمين بكلاءة الله وحفظة مما يبيتون:
(وتوكل على الله . . وكفى بالله وكيلاً). .
نعم . . وكفى بالله وكيلا . لا يضار من كان وكيله ; ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة . .
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول [ ص ] مع القائلينطاعة)فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول . . كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول -[ ص ] - وظنهم أن هذا القرآن من عنده ! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة . فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل , بأن هذا كلام الله , وبأنه [ ص ] لا ينطق عن الهوى . . ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة . .
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة , هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني , واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه , الذي وهبه له الخالق المنان . يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم . . ويعين لهم منهج النظر الصحيح ; كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج . وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة ; ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى . . ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى:
أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
وفي هذا العرض , وهذا التوجيه , منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها , مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه , في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد , وكل جيل , مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف , أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه , وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر , واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد , أو المفكر الواحد , أو الفنان الواحد , أو السياسي الواحد , أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو:التغير , والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات , والتناسق , هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه , والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال , ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني , فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية , وما من مذهب بشري , إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف , الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود , ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة , فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل , الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة , في آفاقها هذه , قد لا يتسنى لكل إدراك , ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية , في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك , ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت , وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة , كما يكل كل أحد , وكل جماعة , وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة , لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم , سبيلا إلى الغرور , وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها , وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها , أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ; ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ; فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها , أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ; لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه , مما يجد من الأقضية ; وهذا سبق بيان المنهج فيه , وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص , والوقوف عنده , لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض !!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل !!!
الدرس الثامن:83 النهي عن إشاعة الأخبار والتوجيه لحسن التعامل معها
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلموإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
والصورة التي يرسمها هذا النص , هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي , لم تألف نفوسهم النظام ; ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر ; وفي النتائج التي تترتب عليها , وقد تكون قاصمة ; لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ; ولم يدركوا جدية الموقف ; وأن كلمة عابرة وفلتة لسان , قد تجر من العواقب على الشخص ذاته , وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال ; وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال ! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر ; وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك , وإذاعتها , حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . . فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة ! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة -لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية ! . . كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته , ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا , وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية !
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه ; أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته . أو هما معا . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك ; باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان , ومختلفة المستويات في الإدراك , ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول [ ص ] إن كان معهم , أو إلى أمرائهم المؤمنين , لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة ; واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة , والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم , الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر , أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه ; أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة , كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة ; ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف , فيحمله ويجري متنقلا , مذيعا له , من غير تثبت , ومن غير تمحيص , ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا , ويذكرها بفضله , ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل , ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد ; الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليل
وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84)
عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات ; قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: (وإن منكم لمن ليبطئن). . الآيات . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين ; التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .
وقد كدنا نرجح هذا الرأي ; لأن ملامح النفاق واضحة , فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم , أمر أقرب إلى طبيعتهم , وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين:[ قيل لهم:كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال . . الآيات ] هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين , المندسين في الصف المسلم . وربما كلها وصفا للمنافقين عامة ; وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى ; وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان ; أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ; ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع , لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة). .
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي [ ص ] من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول [ ص ] ورده عليهم:" إننا لم نؤمر بقتال " . . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين , الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف ; رضي الله عنهم جميعا .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجوعة واردة في بعض من المهاجرين , الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال . . وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم , بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول [ ص ] دون الحسنة ! أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام , ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردةعنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين ; كما ورد أنها في طائفة من المنافقين !
ومن ثم نأخذ بالأحوط ; في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئه للرسول [ ص ] دون الحسنة , ورد هذه وحدها إلى الله ! ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني , ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية !!! والله المعين .
الدرس الخامس:77 - 78 حكمة عدم فرض الجهاد في مكة
ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل:متاع الدنيا قليل . والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ً . أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة . . .
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة , يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ; وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع , شديد الفزع , حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ; القهار الجبار , الذي لا يعذب عذابه أحد , ولا يوثق وثاقه أحد . . (أو أشد خشية)!! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - (ربنا لم كتبت علينا القتال ?). . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ; ولوظيفة هذا الدين أيضا . . ويتبعون ذلك التساؤل , بأمنية حسيرة مسكينة ! (لولا أخرتنا إلى أجل قريب !)وأمهلتنا بعض الوقت , قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا , قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد , وتقع الواقعة . . بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ; فتدفعهم قلة الاحتمال , إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . . حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا , وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم , ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ; ويعدون للأمر عدته , ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة , ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا , ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ; وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف , الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ; ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول [ ص ] أن يأذن له بدفع الأذى , أو حفظ الكرامة . والرسول [ ص ] يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار , والتربيةوالإعداد , وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ; ولم يعد هناك أذى ولا إذلال , وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ; لم يعد يرى للقتال مبررا ; أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
(فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية , وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ; والتصور الذي لم تتضح معالمه ; ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص , وحماية الأقوام , وحماية الأوطان , إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض , وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ; وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان , يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ; ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ; ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . . وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ; وينهى عن الجهاد !
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ; والاستماع فقط إلى أمر الله وأعتباره هو العلة والمعلول , والسبب والمسبب , والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ; ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله , ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف , الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ; ويعجب منه هذا التعجيب ! وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم ; والرد على العدوان ; ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا ; فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .
أما حكمة هذا , والأمر بالكف عن القتال , وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة , والصبر والاحتمال . . حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق , وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ; فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ; ونفرض على أوامره أسبابا وعللا , قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون , ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها , ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ; أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف , مما يدركه عقله ويحسن فيه . . فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة ; هو الحكمة التي أرادها الله . . نصا . . وليس وراءها شيء , وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف فيالطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسبابا وعللا , لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح !
إنها أسباب . . اجتهادية . . تخطى ء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ; في بيئة معينة , لقوم معينين , وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات , تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه , ويتجرد من ذاته , ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به , محورا لحياة في نظره , ودافع الحركة في حياته . . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ; فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ; ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي , لإنشاء "المجتمع المسلم" الخاضع لقيادة موجهة ; المترقي المتحضر , غير الهمجي أو القبلي .
"ب" وربما كان ذلك أيضا , لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ , في مثل بيئة قريش ; ذات العنجهية والشرف ; والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة , كثارات العرب المعروفة , التي أثارت حرب داحس والغبراء , وحرب البسوس - أعواما طويلة , تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة , إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية , وهو في مبدئه , فلا تذكر أبدا !
"ج" وربما كان ذلك أيضا , اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة , هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد , يعذبونه هم ويفتنونه و"يؤدبونه" ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال:هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم , في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة:إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ; فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد , والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة ?
"د" وربما كان ذلك أيضا , لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم , ويعذبونهم ويؤذونهم ; هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص , بل من قادته . . ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء ?!
"ه" وربما كان ذلك , أيضا , لأن النخوة العربية , في بيئة قبلية , من عادتها أن تثور للمظلوم , الذي يحتمل الأذى , ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة , ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . . وآخر هذه الظواهرنقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب , بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل , قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ; وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
"و" وربما كان ذلك أيضا , لقلة عدد المسلمين حينذاك , وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة ; حيث كانت القبائل تقف على الحياد , من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها , حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة , إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك , وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام , ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة , وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة .
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة , لتجاوز هذه الاعتبارات كلها , والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا . . هذا الأمر الأساسي هو "وجود الدعوة " . . وجودها في شخص الداعية [ ص ] وشخصه في حماية سيوف بني هاشم , فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم , إذا هي امتدت يدها إلى محمد [ ص ] فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي , ولا يكتمها , ولا يخفيها , ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها , في ندوات قريش في الكعبة , ومن فوق جبل الصفا ; وفي اجتماعات عامة . . ولا يجرؤ أحد على سد فمه ; ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ; يعلن فيه بعض حقيقة دينه ; ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه ; بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته , لم يدهن . . وعلى الجملة كان للدعوة "وجودها" الكامل , في شخص رسول الله [ ص ] محروسا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة , والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها , مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم , ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ; وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة , في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها , فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها "وجودها" وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة , فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
(فلما كتب عليهم القتال , إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !).
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع , وبين الرجال المؤمنين , ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ; المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر , فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ; يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني:
(قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). .
إنهم يخشون الموت , ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ; ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ; ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
(قل متاع الدنيا قليل). .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين ? ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ?! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ?
(والآخرة خير لمن اتقى). .
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي(خير). . (خير لمن اتقى). . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى , وهو الذي يخشى . وليس الناس . . الناس الذين سبق أن قال:إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ?
(ولا تظلمون فتيلا). .
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ; إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ; الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة , وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة , والأجل والقدر ; وعلاقة هذا كله بتكليف القتال , الذي جزعوا له هذا الجزع , وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
(أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة). .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ; ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر ; ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ; وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء , وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع , وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ; وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي , للأفراد والجماعات . .
الدرس السادس:78 - 80 تصحيح نظرة بعضهم للخير والشر
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي , والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه , ولا فصل , ولا وقفة تنبى ء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى , وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها:
وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا:هذه من عندك ! قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ?! ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله , ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا . .
إن الذين يقولون هذا القول , وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله , وما يصيبهم من الضر إلى النبي [ ص ] يحتمل فيهم وجوه:
الوجه الأول:أنهم يتطيرون بالنبي [ ص ] فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة , ولم تنسل الماشية , أو إذا أصيبوا في موقعة ; تطيروا بالرسول [ ص ] فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله !
الوجه الثاني:أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول [ ص ] تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا:إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال , يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ! ويقولون:إن الخير يأتيهم من الله , وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول [ ص ] ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر !
والوجه الثالث:هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة , وعلاقته بمشيئة الله .وطبيعة أوامر النبي [ ص ] لهم ; وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل , يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون: (ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !). . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات , هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم "قضية القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار" . . وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس ; ثم في الرد عليهم , وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم:
وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? . .
إن الله هو الفاعل الأول , والفاعل الواحد , لكل ما يقع في الكون , وما يقع للناس , وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة , وإيقاعها بهم , للرسول [ ص ] وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية ; تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير ; بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشى ء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية .
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلا , ووجوده أصلا , لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
أما الآية الثانية:
(ما أصابك من حسنة فمن الله , وما أصابك من سيئة فمن نفسك . .)
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا , وشرع طريقا , ودل على الخير , وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج , ويسير في هذا الطريق , ويحاول الخير , ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه , ولا يسلك طريقه الذي شرعه , ولا يحاول الخير الذي دله عليه , ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول , ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة , وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث , وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه , وموقفه من الناس , ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية:
وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة (وكفى بالله شهيدًا). .
وأمر الناس مع الرسول [ ص ] أن من أطاعه فقد أطاع الله . فلا تفرقه بين الله ورسوله . ولا بين قول الله وقول رسوله . . ومن تولى معرضا مكذبا فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه . ولم يرسل الرسول [ ص ] ليجبره على الهدى , ويكرهه على الدين , وليس موكلا بحفظه من العصيان والضلال . فهذا ليس داخلا في وظيفة الرسول ; ولا داخلا في قدرة الرسول .
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم . . فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره . وما يصيبهم من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة , سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر , أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله . لأنه لا ينشى ء شيئا ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله . . وما يصيبهم من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله , لأنه بسبب منهجه وهدايته . وما يصيبهم من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند أنفسهم , لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته . .
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول . لا ينشى ء ولا يحدث ولا يخلق . ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه:وهي الخلق والإنشاء والإحداث . وهو يبلغ ما جاء به من عند الله , فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله . وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول . والرسول ليس مكلفا أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين , ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي . بعد البلاغ والبيان . .
حقائق - هكذا - واضحة مريحة , بينة صريحة ; تبني التصور , وتريح الشعور ; وتمضي شوطا مع تعليم الله لهذه الجماعة , وإعدادها لدورها الكبير الخطير . .
الدرس السابع:81 ظاهرة التناسق وعدم الاختلاف في القرآن الكريم
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى - في الصف المسلم - أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلا جديدا , وفصلا جديدا ! ومع الحكاية التنفير من الفعلة ; ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم . . كل ذلك في آيات قليلة , وعبارات معدودة:
ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله [ ص ] يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف . . قالواطاعة). . قالوها هكذا جامعة شاملة . طاعة مطلقة . لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء ! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله [ ص ] حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول ; وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ ; وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف .
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها ; ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص , والتصرف الخاص . . ويكون المعنى أن المسلمين يقولون:طاعة . بجملتهم . ولكن طائفة منهم - وهي هذه الطائفة المنافقة - إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا . . وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم . فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال . وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله ; والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها !
والله - سبحانه - يطمئن النبي [ ص ] والمخلصين في الصف . يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر . وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم , ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئا بتآمرها وتبيتها . ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين ; فلن يذهبوا مفلحين , ولن يذهبوا ناجين:
(والله يكتب ما يبيتون). .
وكان الخطة التي وجه الله إليها نبيه [ ص ] في معاملة المنافقين , هي أخذهم بظاهرهم - لا بحقيقة نواياهم - والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم . . وهي خطة فتلتهم في النهاية , وأضعفتهم , وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا . . وهنا طرف من هذه الخطة:
(فأعرض عنهم).
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم , التطمين بكلاءة الله وحفظة مما يبيتون:
(وتوكل على الله . . وكفى بالله وكيلاً). .
نعم . . وكفى بالله وكيلا . لا يضار من كان وكيله ; ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة . .
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول [ ص ] مع القائلينطاعة)فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول . . كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول -[ ص ] - وظنهم أن هذا القرآن من عنده ! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة . فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل , بأن هذا كلام الله , وبأنه [ ص ] لا ينطق عن الهوى . . ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة . .
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة , هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني , واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه , الذي وهبه له الخالق المنان . يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم . . ويعين لهم منهج النظر الصحيح ; كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج . وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة ; ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى . . ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى:
أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
وفي هذا العرض , وهذا التوجيه , منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها , مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه , في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد , وكل جيل , مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف , أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه , وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر , واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد , أو المفكر الواحد , أو الفنان الواحد , أو السياسي الواحد , أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو:التغير , والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات , والتناسق , هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه , والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال , ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني , فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية , وما من مذهب بشري , إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف , الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود , ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة , فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل , الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة , في آفاقها هذه , قد لا يتسنى لكل إدراك , ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية , في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك , ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت , وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة , كما يكل كل أحد , وكل جماعة , وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة , لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم , سبيلا إلى الغرور , وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها , وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها , أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ; ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ; فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها , أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ; لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه , مما يجد من الأقضية ; وهذا سبق بيان المنهج فيه , وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص , والوقوف عنده , لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض !!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل !!!
الدرس الثامن:83 النهي عن إشاعة الأخبار والتوجيه لحسن التعامل معها
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلموإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
والصورة التي يرسمها هذا النص , هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي , لم تألف نفوسهم النظام ; ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر ; وفي النتائج التي تترتب عليها , وقد تكون قاصمة ; لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ; ولم يدركوا جدية الموقف ; وأن كلمة عابرة وفلتة لسان , قد تجر من العواقب على الشخص ذاته , وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال ; وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال ! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر ; وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك , وإذاعتها , حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . . فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة ! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة -لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية ! . . كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته , ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا , وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية !
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه ; أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته . أو هما معا . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك ; باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان , ومختلفة المستويات في الإدراك , ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول [ ص ] إن كان معهم , أو إلى أمرائهم المؤمنين , لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة ; واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة , والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم , الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر , أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه ; أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة , كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة ; ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف , فيحمله ويجري متنقلا , مذيعا له , من غير تثبت , ومن غير تمحيص , ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا , ويذكرها بفضله , ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل , ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد ; الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليل
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النساء ابه 56--68 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 69==82 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 87==96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 69==82 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 87==96 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 1==3 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النساء ايه 110==122 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى