تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم , وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم , مهما تكن دعواهم في الدين:إنه المعصية والاعتداء:
(ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلا , أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله , وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين ! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم , فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم:لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون ? فلينظر قبل أن يقولها:ما هو الإسلام , ومن هم المسلمون ?! ثم يقول !
وإنصافا للقلة الخيرة من أهل الكتاب , يعود السياق عليهم بالاستثناء , فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء . فهناك المؤمنون . يصور حالهم مع ربهم , فإذا هي حال المؤمنين الصادقين . ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين .
(ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة , يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر , ويأمرون بالمعروف , وينهون عن المنكر , ويسارعون في الخيرات . وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه , والله عليم بالمتقين). .
وهو صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب . فقد آمنوا إيمانا صادقا عميقا , وكاملا شاملا , وانضموا للصف المسلم , وقاموا على حراسة هذا الدين . . آمنوا بالله واليوم الآخر . . وقد نهضوا بتكاليف الإيمان , وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها - خير أمة أخرجت للناس - فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . . وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة , فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه , فسارعوا في الخيرات , ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين . وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا , ولن يكفروا أجرا . مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين . .
وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة , وفي هذا الوعد , ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير .
هذا في جانب . . وفي الجانب الآخر , الكافرون . الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ; ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا , ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم . الخير المنبثق من الإيمان بالله , على تصور واضح , وهدف ثابت , وطريق موصول . وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها , وجنوح يصرفه الهوى , ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم , ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم . .
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر , أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله , ولكن أنفسهم يظلمون). .
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل . .
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله , ولا تصلح فدية لهم من العذاب , ولا تنجيهم من النار . . وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك , حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرا . فلا خير إلا أن يكون موصولا بالإيمان , ونابعا من الإيمان . ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر . إنما يرسم مشهدا حيا نابضا بالحياة . . .
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة ! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف , فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب !
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
(وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون).
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر , فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا . له هدف مرسوم , وله دافع مفهوم , وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة , والرغبة الغامضة , والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار , فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم . إنما هو ظلمهم لأنفسهم , بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ; ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
الدرس السابع:118 - 120 تحذير الأمة من موالاة الأعداء
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف , وكشفا لما في جدالهم من مغالطة , وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء , وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها , دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين . . في نهاية هذا الدرس , ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة , وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها , وهم للذين آمنوا عدو . . يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة , ما نزال نرى مصداقها في كل وقت , وفي كل أرض . صورة رسمها هذا القرآن الحي , فغفل عنها أهل هذا القرآن . فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم , وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله , وإذا لقوكم قالوا:آمنا , وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل:موتوا بغيظكم , إن الله عليم بذات الصدور . أن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط). .
ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
إنها صورة كاملة السمات , ناطقة بدخائل النفوس , وشواهد الملامح , تسجل المشاعر الباطنة , والانفعالات الظاهرة , والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة , وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال , ولا يقصرون في اعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم , والكيد لهم والدس , ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب , كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة ; وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين , وللشر المبيت , وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم ; في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء , وما يزال يفضي إليهم بالمودة , وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ; ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء , لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار . . فجاء هذا التنوير وهذا التحذير , يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر , ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين , الذين لا يخلصون لها أبدا , ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة , فهو حقيقة دائمة , تواجه واقعا دائما . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم:ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر , وكل شأن , وكل موضع , وكل نظام , وكل تصور , وكل منهج , وكل طريق !
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم , يوادون من حاد الله ورسوله ; ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل:
(ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر). .
والله سبحانه يقول:
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله , وإذا لقوكم قالوا:آمنا , وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ). .
والله سبحانه يقول:
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها). .
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة , ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
المسلمون , ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود , فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق ! . . وتبلغ بنا المجاملة , أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها , وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام , وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا , ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم , وندفع أذاهم , وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم , ويفلت على السنتهم منه شواظ:
(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط). .
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء ; وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ; ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى:الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده . . هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله , فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه , ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته ; وستشد هذه الرابطة من عزيمته , فلا يستسلم من قريب , ولا يواد من حاد الله ورسوله , طلبا للنجاة أو كسبا للعزة !
هذا هو الطريق:الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها , وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا , ووقاهم الله كيد أعدائهم , وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين , الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا , واستمعوا إلى مشورتهم , واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة , ومكن لأعدائهم فيهم , وأذل رقابهم , وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة ; وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض , فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .
خاتمة الوحدة - سماحة الإسلام في مواجهة الأعداء
بهذا ينتهي هذا الدرس ; وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة . وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة ; وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة .
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى , عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم , وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . . أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا ; وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا ; وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا ; يتقي الكيد ولكنه لا يكيد , ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه , وأن يفتن في عقيدته , وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب , وأن يمنع الفتنة , وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله , وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته . وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه . وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم , وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم , مهما تكن دعواهم في الدين:إنه المعصية والاعتداء:
(ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلا , أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله , وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين ! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم , فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم:لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون ? فلينظر قبل أن يقولها:ما هو الإسلام , ومن هم المسلمون ?! ثم يقول !
وإنصافا للقلة الخيرة من أهل الكتاب , يعود السياق عليهم بالاستثناء , فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء . فهناك المؤمنون . يصور حالهم مع ربهم , فإذا هي حال المؤمنين الصادقين . ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين .
(ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة , يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر , ويأمرون بالمعروف , وينهون عن المنكر , ويسارعون في الخيرات . وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه , والله عليم بالمتقين). .
وهو صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب . فقد آمنوا إيمانا صادقا عميقا , وكاملا شاملا , وانضموا للصف المسلم , وقاموا على حراسة هذا الدين . . آمنوا بالله واليوم الآخر . . وقد نهضوا بتكاليف الإيمان , وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها - خير أمة أخرجت للناس - فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . . وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة , فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه , فسارعوا في الخيرات , ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين . وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا , ولن يكفروا أجرا . مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين . .
وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة , وفي هذا الوعد , ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير .
هذا في جانب . . وفي الجانب الآخر , الكافرون . الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ; ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا , ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم . الخير المنبثق من الإيمان بالله , على تصور واضح , وهدف ثابت , وطريق موصول . وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها , وجنوح يصرفه الهوى , ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم , ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم . .
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر , أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله , ولكن أنفسهم يظلمون). .
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل . .
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله , ولا تصلح فدية لهم من العذاب , ولا تنجيهم من النار . . وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك , حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرا . فلا خير إلا أن يكون موصولا بالإيمان , ونابعا من الإيمان . ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر . إنما يرسم مشهدا حيا نابضا بالحياة . . .
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة ! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف , فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب !
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
(وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون).
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر , فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا . له هدف مرسوم , وله دافع مفهوم , وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة , والرغبة الغامضة , والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار , فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم . إنما هو ظلمهم لأنفسهم , بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ; ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
الدرس السابع:118 - 120 تحذير الأمة من موالاة الأعداء
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف , وكشفا لما في جدالهم من مغالطة , وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء , وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها , دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين . . في نهاية هذا الدرس , ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة , وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها , وهم للذين آمنوا عدو . . يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة , ما نزال نرى مصداقها في كل وقت , وفي كل أرض . صورة رسمها هذا القرآن الحي , فغفل عنها أهل هذا القرآن . فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم , وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله , وإذا لقوكم قالوا:آمنا , وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل:موتوا بغيظكم , إن الله عليم بذات الصدور . أن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط). .
ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
إنها صورة كاملة السمات , ناطقة بدخائل النفوس , وشواهد الملامح , تسجل المشاعر الباطنة , والانفعالات الظاهرة , والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة , وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال , ولا يقصرون في اعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم , والكيد لهم والدس , ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب , كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة ; وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين , وللشر المبيت , وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم ; في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء , وما يزال يفضي إليهم بالمودة , وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ; ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء , لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار . . فجاء هذا التنوير وهذا التحذير , يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر , ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين , الذين لا يخلصون لها أبدا , ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة , فهو حقيقة دائمة , تواجه واقعا دائما . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم:ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر , وكل شأن , وكل موضع , وكل نظام , وكل تصور , وكل منهج , وكل طريق !
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم , يوادون من حاد الله ورسوله ; ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل:
(ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر). .
والله سبحانه يقول:
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله , وإذا لقوكم قالوا:آمنا , وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ). .
والله سبحانه يقول:
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها). .
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة , ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
المسلمون , ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود , فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق ! . . وتبلغ بنا المجاملة , أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها , وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام , وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا , ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم , وندفع أذاهم , وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم , ويفلت على السنتهم منه شواظ:
(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط). .
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء ; وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ; ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى:الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده . . هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله , فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه , ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته ; وستشد هذه الرابطة من عزيمته , فلا يستسلم من قريب , ولا يواد من حاد الله ورسوله , طلبا للنجاة أو كسبا للعزة !
هذا هو الطريق:الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها , وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا , ووقاهم الله كيد أعدائهم , وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين , الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا , واستمعوا إلى مشورتهم , واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة , ومكن لأعدائهم فيهم , وأذل رقابهم , وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة ; وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض , فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .
خاتمة الوحدة - سماحة الإسلام في مواجهة الأعداء
بهذا ينتهي هذا الدرس ; وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة . وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة ; وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة .
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى , عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم , وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . . أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا ; وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا ; وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا ; يتقي الكيد ولكنه لا يكيد , ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه , وأن يفتن في عقيدته , وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب , وأن يمنع الفتنة , وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله , وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته . وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه . وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة ال عمران ايه 154==162 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 163==165 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 166==178 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 163==165 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 166==178 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى