منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة ال عمران ايه 103==111  الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الجمعة مارس 16, 2012 2:11 am

عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله , تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية , والثارات القبلية , والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .

(واذكروا نعمة الله عليكم , إذ كنتم أعداء , فألف بين قلوبكم , فأصبحتم بنعمته إخوانا). .

ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها , إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم , فأصبحوا بنعمة الله إخوانا - الركيزة الثانية -:

(وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها).

والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط:"القلب" . . فلا يقول:فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق: (فألف بين قلوبكم)فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب: (وكنتم على شفا حفرة من النار). . وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة , إذا بالقلوب ترى يد الله , وهي تدرك وتنقذ ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب ! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة , وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال !

وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج , فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة , فبعث رجلا معه , وأمره أن يجلس بينهم , ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم "بعاث" ! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم , وغضب بعضهم على بعض , وتثاوروا , ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى "الحرة " . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فأتاهم , فجعل يسكنهم , ويقول:" أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية , فندموا على ما كان منهم , واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم .

وكذلك بين الله لهم فاهتدوا , وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية:

(كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).

فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه , القائمين على منهجه , لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة , كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين , الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .

على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة , وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب , ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم , ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة , ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم , في كل مكان !

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض , ولتغليب الحق على الباطل , والمعروف على المنكر , والخير على الشر . . هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه , ووفق منهجه . . فهي التي تقررها الآية التالية:

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , وأولئك هم المفلحون). .

فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير , وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك "دعوة " إلى الخير . ولكن هناك كذلك "أمر" بالمعروف . وهناك "نهي" عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان , فإن "الأمر والنهي" لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .

هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي "دعوة " إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة "تأمر" بالمعروف "وتنهى " عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). . فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي , على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية , وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة , وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره , زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب !

والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير , إذا نظرنا إلى طبيعته , وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم , ومصالح بعضهم ومنافعهم , وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف , ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة , ولا تفلح البشرية , إلا أن يسود الخير , وإلا أن يكون المعروف معروفا , والمنكر منكرا . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .

ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين:الإيمان بالله والأخوة في الله . لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة , وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة , وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به:

(وأولئك هم المفلحون). .

إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير . المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعوانا . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . .
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)

إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد , لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة , لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .

والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي , ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .

هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ; فيحيا فيه هذا التصور , ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية , وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .

هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص , وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة , وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله , وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة , وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر , المندفع في حرارة , المطمئن الواثق المرتاح .

وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله:ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتمثل صفاه في الضمائر ; وتقواه ومراقبته , واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق , والود . الود العذب الجميل , والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا , لولا أنه وقع , لعد من أحلام الحالمين ! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة , ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة ! وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان !

وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .

ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ; وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا , فنزع الله الراية منهم , وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . . فوق ما ينتظرهم من العذاب , يوم تبيض وجوه وتسود وجوه:

(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم:أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون). .

وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية . . فنحن في مشهد هول . هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف . ولكن يتمثل في آدميين أحياء . في وجوه وسمات . . هذه وجوه قد أشرقت بالنور , وفاضت بالبشر , فابيضت من البشر والبشاشة , وهذه وجوه كمدت من الحزن , وغبرت من الغم , واسودت من الكآبة . . وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه . ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب:

(أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون !). .

تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109)

(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).

وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار . . على طريقة القرآن .

وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . . بالإيمان والائتلاف .

وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب , الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه , وتسود وجوه . .

ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة , يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال:

(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق , وما الله يريد ظلما للعالمين . ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور). .

تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . . تلك آيات الله وبيناته لعباده:نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم ; وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها ; وممن له الحق في تقرير القيم , وتقرير المصائر , وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض . ولكل ما في السماوات وما في الأرض . وإليه مصير الأمور . إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق , وأن يجري العدل , وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله . . لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات !

الدرس السادس:110 - 117 وظيفة الأمة المسلمة وعداوة أهل الكتاب لها

بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها ! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها ; ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم , إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم . فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم , ولن ينصروا عليهم . وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة , لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى:

كنتم خير أمة أخرجت للناس . تأمرون بالمعروف , وتنهون عن المنكر , وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى , وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله , وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات , وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه , والله عليم بالمتقين . إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا , وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر , أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون . .

إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا , بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها , ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى:
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111)

(كنتم خير أمة أخرجت للناس , تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر , وتؤمنون بالله . .).

إن التعبير بكلمة "أخرجت" المبني لغير الفاعل , تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة , تخرج هذه الأمة إخراجا ; وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب , ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى , لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص , ولها حساب خاص:

(كنتم خير أمة أخرجت للناس). .

وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ; لتعرف حقيقتها وقيمتها , وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة , ولتكون لها القيادة , بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائما ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح , والتصور الصحيح , والنظام الصحيح , والخلق الصحيح , والمعرفة الصحيحة , والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها , وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائما , وفي مركز القيادة دائما . ولهذا المركز تبعاته , فهو لا يؤخذ ادعاء , ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له . . وهي بتصورها الاعتقادي , وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي , وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلا له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ; ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به , وتدرك مقتضياته وتكاليفه .

وفي أول مقتضيات هذا المكان , أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة , ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . كلا ! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر , وإقامتها على المعروف , مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر:

(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). .

فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة , بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب , وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق , ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ; ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .

ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم , والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر , وللفضيلة والرذيلة , وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .

وهذا ما يحققه الإيمان , بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر , وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .

ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير , الآمرون بالمعروف , الناهون عن المنكر , أن يمضوا في هذا الطريق الشاق , ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته , ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها , ويواجهون هبوط الأرواح , وكلل العزائم , وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان , وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل , وكل سند غير سند الله ينهار !

وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها . ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية , التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة , وغير متحققة فيها صفة الإسلام .

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة , ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول [ ص ] وتوجيهاته نقتطف بعضها:

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ] " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم , فلم ينتهوا , فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم , فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض , ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . " ثم جلس - وكان متكئا - فقال:" لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " أي تعطفوهم وتردوهم .

وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ] " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر , أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه , ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " .

وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها , ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها " .

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " . .

وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر , فأمره ونهاه , فقتله " . .

وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم , وضروراتها لهذا المجتمع أيضا . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .

ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة . .

(ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون). .

وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان . فهو خير لهم . خير لهم في هذه الدنيا , يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية , والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية . إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم , فتقوم أنظمتهم الاجتماعية - من ثم - على غير أساس , عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل , وعلى تفسير كامل للوجود , ولغاية الوجود الإنساني , ومقام الإنسان في هذا الكون . . وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير .

ثم هو بيان كذلك لحالهم , لا يبخس الصالحين منهم حقهم:

(منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون). .

وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم . منهم عبد الله بن سلام , وأسد بن عبيد , وثعلبة بن شعبة , وكعب بن مالك . . وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال - وفي آية تالية بالتفصيل - أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله , حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين:أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده , وأن ينصره . وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل , واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله , أرادها للناس أجمعين .

ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة , ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة:عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين , فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين , وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم , وتفرقهم شيعا وفرقا , وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة .

(لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار , ثم لا ينصرون , ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله , وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).

بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة , ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء , وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين:

(لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون). .

فلن يكون ضررا عميقا ولا أصيلا يتناول أصل الدعوة , ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة , ولن يجليها من الأرض . . إنما هو الأذى العارض في الصدام , والألم الذاهب مع الأيام . . فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال , فالهزيمة مكتوبة عليهم - في النهاية - والنصر ليس لهم على المؤمنين , ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين . . ذلك أنه قد (ضربت عليهم الذلة)وكتبت لهم مصيرا . فهم في كل أرض يذلون , لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها , وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين . ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين ! . . (وباءوا بغضب من الله). . كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . (وضربت عليهم المسكنة)تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم . .

كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى