تفسير سورة ال عمران ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة ال عمران ايه 123==134 الشيخ سيد قطب
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
نجدهما في أوانهما المناسب , وفي جوهما المناسب ; حيث يلقيان كل إيقاعاتهما , وكل إيحاءاتهما , في الموعد المناسب ; وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع . . ويتبين - من هذين النصين التمهيديين - كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ; بالتعقيب على الأحداث , وهي ساخنة ! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها , وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ; ولكنها لا تستهدف القلب البشري , والحياة البشرية , بالإحياء والاستجاشة , وبالتربية والتوجيه . كما يستهدفها القرآن الكريم , بمنهجه القويم .
الدرس الثاني:123 - 129 تذكير بمعجزة النصر في بدر
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون - وقد كادوا - وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم . وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين . ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة ! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة , عن المصير الذي انتهت إليه , بسبب ذلك الخلل في الصف , وبسبب ذلك الغبش في التصور . .
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة , يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك , مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة , وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء . وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين , وفي جميع الأحوال:
(ولقد نصركم الله ببدر - وأنتم أذلة - فاتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين:ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ? بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا , يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم , ولتطمئن قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ليقطع طرفا من الذين كفروا , أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون . ولله ما في السماوات وما في الأرض , يغفر لمن يشاء , ويعذب من يشاء والله غفور رحيم). .
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر . لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف , خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان , لحماية القافلة التي كانت معه , مزودين بالعدة والعتاد , والحرص على الأموال , والحمية للكرامة . وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة , لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة , إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة . وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم , ومنافقون لهم مكانتهم , ويهود يتربصون بهم . . وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة , وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة !
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف:
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
(ولقد نصركم الله ببدر . وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون). .
إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات . وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله , الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان . فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال .
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر . . ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم , كأنهم اللحظة فيها:
(إذ تقول للمؤمنين:ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ? بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين). .
وكانت هذه كلمات رسول الله [ ص ] يوم بدر , للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين , وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر , لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح ! وقد أبلغهم الرسول [ ص ] ما بلغه يومها ربه , لتثبيت قلوبهم وأقدامهم , وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم . . وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد . . إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم , والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة:
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) . .
فالأن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه , وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر , وتطمئن به وتثبت . أما النصر فمنه مباشرة , ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة:
(ما جعله الله إلا بشرى لكم , ولتطمئن قلوبكم به , وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). .
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله , كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة:قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة , وإرادته الفاعلة , وقدره المباشر . وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة . وإنما هي أداة تحركها المشيئة . وتحقق بها ما تريده .
(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). .
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي , وعلى تنقيتها من كل شائبة , وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة . . لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب . بين قلب المؤمن وقدر الله . بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط . كما هي في عالم الحقيقة . .
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن , المؤكدة بشتى أساليب التوكيد , استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين , على نحو بديع , هادىء , عميق , مستنير .
عرفوا أن الله هو الفاعل - وحده - وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب , وبذل الجهد , والوفاء بالتكاليف . . فاستيقنوا الحقيقة , وأطاعوا الأمر , في توازن شعوري وحركي عجيب !
وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127)
ولكن هذا إنما جاء مع الزمن , ومع الأحداث , ومع التربية بالأحداث , والتربية بالتعقيب على الأحداث . . كهذا التعقيب , ونظائره الكثيرة , في هذه السورة . .
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول [ ص ] يعدهم الملائكة مددا من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة - حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا . . ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل - من وراء نزول الملائكة - وهو الله . الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته , ويتحقق النصر بفعله وإذنه .
(الله العزيز الحكيم). .
فهو(العزيز)القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر . وهو(الحكيم)الذي يجري قدره وفق حكمته , والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة . .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون). .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول [ ص ] ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه , وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله , وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا). .
فينقص من عددهم بالقتل , أو ينقص من أرضهم بالفتح , أو ينقص من سلطانهم بالقهر , أو ينقص من أموالهم بالغنيمة , أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
(أو يكبتهم فينقلبوا خائبين). .
أي يصرفهم مهزومين أذلاء , فيعودوا خائبين مقهورين .
(أو يتوب عليهم). .
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة , وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم , فيتوب الله عليهم من كفرهم , ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
(أو يعذبهم فإنهم ظالمون). .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر , وظلمهم بفتنة المسلمين , وظلمهم بالفساد في الأرض , وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله , وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر , ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر:من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين , ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك
يْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)
يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء , إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها:طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم , ثم ينفضوا أيديهم من النتائج , وأجرهم من الله على الوفاء , وعلى الولاء , وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: (ليس لك من الأمر شيء)فسيرد في السياق قول بعضهم: (هل لنا من الأمر من شيء ?). . وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم:إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث , وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ويختم هذا التذكير ببدر , وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور , بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير:وهو أن الأمر لله في الكون كله , ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء , والله غفور رحيم). .
فهي المشيئة المطلقة , المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد , بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد , في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل , وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة:
(والله غفور رحيم). .
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته , بالعودة إليه , ورد الأمر كله له , وأداء الواجب المفروض , وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
الدرس الثالث:130 - 136 تحريم الربا ودعوة إلى محاسن الأخلاق قبيل المعركة
وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى , التي المعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء , والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة , واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين:الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ? - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين). .
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ; لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ; ورده كله إلى محور واحد:محور العبادة لله والعبودية له , والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها , وفي كل شأن من شؤونها , وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله , كلما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها , وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب , والسيطرة على الأهواء والشهوات , وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات , وكل توجيه من هذه التوجيهات , يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة , وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة , واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). .
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص , ويتداروا به , ليقولوا:إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع , وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد: (وذروا ما بقي من الربا). . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف , لنقول:إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة , والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت , أيا كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية , ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها , وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية , كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب:
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله , ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية , وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ; وهناك النار التي أعدت للكافرين ! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله , وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين , ليس عبثا ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى , ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . . ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية , وويلاته البشعة في حياة الإنسانية . فلنرجع إلى هذا البيان هناك , لندرك معنى الفلاح هنا , واقترانه بترك النظام الربوي المقيت !
ثم يجيء التوكيد الأخير:
(وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول , وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره . وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله [ ص ] وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول , بوصفها وسيلة الفلاح , وموضع الرجاء فيه . .
ثم لقد سبق في سورة البقرة - في الجزء الثالث - أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا , والحديث عن الصدقة . بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم:النظام الربوي . والنظام التعاوني . . فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء . .
فبعد النهي عن أكل الربا , والتحذير من النار التي أعدت للكافرين , والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح . . بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة ; وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين). . ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: (الذين ينفقون في السراء والضراء)- فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة - ثم تجيء بقية الصفات والسمات:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين:الذين ينفقون في السراء والضراء . والكاظمين الغيظ . والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله , فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ? - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . .)
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية . . يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم). . (وجنة عرضها السماوات والأرض). . سارعوا فهي هناك:المغفرة والجنة . . (أعدت للمتقين). .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين:
(الذين ينفقون في السراء والضراء). .
فهم ثابتون على البذل , ماضون على النهج , لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص ; ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها , المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال , إلا دافع أقوى من شهوة المال , وربقة الحرص , وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق , الذي تشف به الروح وتخلص , وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها , كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة , وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس). .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل , بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري , تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري , وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب , فهو الانطلاق من ذلك الوقر , والرفرفة في آفاق النور , والبرد في القلب , والسلام في الضمير .
(والله يحب المحسنين). .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله "يحب" المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير , الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين , ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي , ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله , وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي
نجدهما في أوانهما المناسب , وفي جوهما المناسب ; حيث يلقيان كل إيقاعاتهما , وكل إيحاءاتهما , في الموعد المناسب ; وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع . . ويتبين - من هذين النصين التمهيديين - كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ; بالتعقيب على الأحداث , وهي ساخنة ! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها , وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ; ولكنها لا تستهدف القلب البشري , والحياة البشرية , بالإحياء والاستجاشة , وبالتربية والتوجيه . كما يستهدفها القرآن الكريم , بمنهجه القويم .
الدرس الثاني:123 - 129 تذكير بمعجزة النصر في بدر
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون - وقد كادوا - وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم . وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين . ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة ! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة , عن المصير الذي انتهت إليه , بسبب ذلك الخلل في الصف , وبسبب ذلك الغبش في التصور . .
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة , يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك , مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة , وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء . وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين , وفي جميع الأحوال:
(ولقد نصركم الله ببدر - وأنتم أذلة - فاتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين:ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ? بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا , يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم , ولتطمئن قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ليقطع طرفا من الذين كفروا , أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون . ولله ما في السماوات وما في الأرض , يغفر لمن يشاء , ويعذب من يشاء والله غفور رحيم). .
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر . لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف , خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان , لحماية القافلة التي كانت معه , مزودين بالعدة والعتاد , والحرص على الأموال , والحمية للكرامة . وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة , لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة , إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة . وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم , ومنافقون لهم مكانتهم , ويهود يتربصون بهم . . وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة , وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة !
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف:
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
(ولقد نصركم الله ببدر . وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون). .
إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات . وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله , الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان . فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال .
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر . . ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم , كأنهم اللحظة فيها:
(إذ تقول للمؤمنين:ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ? بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين). .
وكانت هذه كلمات رسول الله [ ص ] يوم بدر , للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين , وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر , لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح ! وقد أبلغهم الرسول [ ص ] ما بلغه يومها ربه , لتثبيت قلوبهم وأقدامهم , وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم . . وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد . . إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم , والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة:
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) . .
فالأن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه , وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر , وتطمئن به وتثبت . أما النصر فمنه مباشرة , ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة:
(ما جعله الله إلا بشرى لكم , ولتطمئن قلوبكم به , وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). .
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله , كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة:قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة , وإرادته الفاعلة , وقدره المباشر . وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة . وإنما هي أداة تحركها المشيئة . وتحقق بها ما تريده .
(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). .
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي , وعلى تنقيتها من كل شائبة , وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة . . لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب . بين قلب المؤمن وقدر الله . بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط . كما هي في عالم الحقيقة . .
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن , المؤكدة بشتى أساليب التوكيد , استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين , على نحو بديع , هادىء , عميق , مستنير .
عرفوا أن الله هو الفاعل - وحده - وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب , وبذل الجهد , والوفاء بالتكاليف . . فاستيقنوا الحقيقة , وأطاعوا الأمر , في توازن شعوري وحركي عجيب !
وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127)
ولكن هذا إنما جاء مع الزمن , ومع الأحداث , ومع التربية بالأحداث , والتربية بالتعقيب على الأحداث . . كهذا التعقيب , ونظائره الكثيرة , في هذه السورة . .
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول [ ص ] يعدهم الملائكة مددا من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة - حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا . . ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل - من وراء نزول الملائكة - وهو الله . الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته , ويتحقق النصر بفعله وإذنه .
(الله العزيز الحكيم). .
فهو(العزيز)القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر . وهو(الحكيم)الذي يجري قدره وفق حكمته , والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة . .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون). .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول [ ص ] ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه , وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله , وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا). .
فينقص من عددهم بالقتل , أو ينقص من أرضهم بالفتح , أو ينقص من سلطانهم بالقهر , أو ينقص من أموالهم بالغنيمة , أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
(أو يكبتهم فينقلبوا خائبين). .
أي يصرفهم مهزومين أذلاء , فيعودوا خائبين مقهورين .
(أو يتوب عليهم). .
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة , وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم , فيتوب الله عليهم من كفرهم , ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
(أو يعذبهم فإنهم ظالمون). .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر , وظلمهم بفتنة المسلمين , وظلمهم بالفساد في الأرض , وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله , وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر , ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر:من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين , ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك
يْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)
يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء , إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها:طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم , ثم ينفضوا أيديهم من النتائج , وأجرهم من الله على الوفاء , وعلى الولاء , وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: (ليس لك من الأمر شيء)فسيرد في السياق قول بعضهم: (هل لنا من الأمر من شيء ?). . وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم:إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث , وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ويختم هذا التذكير ببدر , وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور , بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير:وهو أن الأمر لله في الكون كله , ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء , والله غفور رحيم). .
فهي المشيئة المطلقة , المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد , بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد , في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل , وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة:
(والله غفور رحيم). .
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته , بالعودة إليه , ورد الأمر كله له , وأداء الواجب المفروض , وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
الدرس الثالث:130 - 136 تحريم الربا ودعوة إلى محاسن الأخلاق قبيل المعركة
وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى , التي المعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء , والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة , واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين:الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ? - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين). .
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ; لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ; ورده كله إلى محور واحد:محور العبادة لله والعبودية له , والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها , وفي كل شأن من شؤونها , وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله , كلما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها , وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب , والسيطرة على الأهواء والشهوات , وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات , وكل توجيه من هذه التوجيهات , يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة , وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة , واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). .
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص , ويتداروا به , ليقولوا:إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع , وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد: (وذروا ما بقي من الربا). . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف , لنقول:إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة , والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت , أيا كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية , ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها , وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية , كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب:
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله , ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية , وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ; وهناك النار التي أعدت للكافرين ! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله , وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين , ليس عبثا ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى , ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . . ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية , وويلاته البشعة في حياة الإنسانية . فلنرجع إلى هذا البيان هناك , لندرك معنى الفلاح هنا , واقترانه بترك النظام الربوي المقيت !
ثم يجيء التوكيد الأخير:
(وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول , وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره . وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله [ ص ] وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول , بوصفها وسيلة الفلاح , وموضع الرجاء فيه . .
ثم لقد سبق في سورة البقرة - في الجزء الثالث - أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا , والحديث عن الصدقة . بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم:النظام الربوي . والنظام التعاوني . . فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء . .
فبعد النهي عن أكل الربا , والتحذير من النار التي أعدت للكافرين , والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح . . بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة ; وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين). . ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: (الذين ينفقون في السراء والضراء)- فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة - ثم تجيء بقية الصفات والسمات:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين:الذين ينفقون في السراء والضراء . والكاظمين الغيظ . والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله , فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ? - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . .)
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية . . يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم). . (وجنة عرضها السماوات والأرض). . سارعوا فهي هناك:المغفرة والجنة . . (أعدت للمتقين). .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين:
(الذين ينفقون في السراء والضراء). .
فهم ثابتون على البذل , ماضون على النهج , لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص ; ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها , المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال , إلا دافع أقوى من شهوة المال , وربقة الحرص , وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق , الذي تشف به الروح وتخلص , وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها , كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة , وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس). .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل , بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري , تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري , وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب , فهو الانطلاق من ذلك الوقر , والرفرفة في آفاق النور , والبرد في القلب , والسلام في الضمير .
(والله يحب المحسنين). .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله "يحب" المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير , الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين , ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي , ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله , وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة ال عمران ايه 103==111 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 135==144 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 112== 120 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 121==122 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران 135==144 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ال عمران ايه 145==153 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى