تفسير سورة السجدة ايه22 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة السجدة ايه22 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
السجدة
من الاية 22 الى الاية 25
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر). .
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى ; فالله سبحانه و تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم , وإذا لم يصروا على موجبات العذاب . فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض (لعلهم يرجعون). . وتستيقظ فطرتهم , ويردهم ألم العذاب إلى الصواب . ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذين رأيناه في مشهدهم الأليم . فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ?)وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: (إنا من المجرمين منتقمون). . ويا هوله من تهديد . والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب !
الدرس السابع:23 نموذج للتمكين للمؤمنين الصالحين في الأرض
وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين , وعواقب المؤمنين والفاسقين , ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون . ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته . جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى - عليه السلام - الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل ; كما جعل القرآن كتاب محمد [ ص ] هدى للمؤمنين . وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة . وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين , وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:
(ولقد آتينا موسى الكتاب - فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
وتفسير هذه العبارة المعترضة: (فلا تكن في مرية من لقائه)على معنى تثبيت الرسول [ ص ] على الحق الذي جاء به ; وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه ; والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان . . هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي [ ص ] لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج . فإن اللقاء على الحق الثابت , والعقيدة الواحدة , هو الذي يستحق الذكر , والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي [ ص ] من التكذيب والإعراض , ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء . وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآيةوجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). . للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل , وتوقن كما أيقنوا , ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل . ولتقرير طريق الإمامة والقيادة , وهو الصبر واليقين .
أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:
(إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
الدرس الثامن:26 لفت نظر الكافرين لمصارع السابقين
وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين:
أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ? .
من الاية 26 الى الاية 27
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين , وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي . وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها , وضعفها وقوتها . والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين , واطراد تلك السنن , ويتخذ من مصارع القرون , وآثار الماضين , الدارسة الخربة , أو الباقية بعد سكانها موحشة . يتخذ منها معارض للعبرة , وإيقاظ القلوب , وإثارة الحساسية , والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين . كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس . ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم , فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان ; وينسى النظام الثابت في حياة البشر , المطرد على توالي القرون . وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير !
وإن للآثار الخاوية لحديثا رهيبا عميقا , للقلب الشاعر , والحس المبصر , وإن له لرجفة في الأوصال , ورعشة في الضمائر , وهزة في القلوب . ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط . والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم ; وأن تكون مساكن القوم أمامهم , يمرون عليها ويمشون فيها ; ثم لا يستجيش هذا قلوبهم , ولا يهز مشاعرهم , ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله , وتوقي مثل هذا المصير ; ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير:
(إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ?). .
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم , أو يسمعون هذا التحذير , قبل أن يصدق بهم النذير , ويأخذهم النكير !
الدرس التاسع:27 لفت نظرهم إلى آيات الله فيما حولهم
وبعد لمسة البلى والدثور , وما توقعه في الحس من رهبة وروعة , وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة . يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ; ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة , كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات:
أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز , فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ? .
فهذه الأرض الميتة البور , يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي ; فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة . الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم . وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء . . إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها ; والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها ; والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة ; إحساس حب وقربى وانعطاف ; مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع , التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود .
وهكذا يطوف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء , بعدما طوف به في مجالي البلى والدثور , لاستجاشة مشاعره هنا وهناك , وإيقاظه من بلادة الألفة , وهمود العادة ; ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود , وأسرار الحياة , وعبر الأحداث , وشواهد التاريخ .
الدرس العاشر:28 - 30 الرد على استعجالهم العذاب
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل . فيحكي استعجالهم بالعذاب الذي يوعدون ; وشكهم في صدق الإنذار والتحذير . ويرد عليهم مخوفا محذرا من تحقيق ما يستعجلون به , يوم لا ينفعهم إيمان , ولا يمهلون لإصلاح ما فات . ويختم السورة بتوجيه الرسول [ ص ]
من الاية 28 الى آخر السورة
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30)
إلى الإعراض عنهم , وتركهم لمصيرهم المحتوم:
(ويقولون:متى هذا الفتح إن كنتم صادقين . قل:يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون). .
والفتح هو الفصل فيما بين الفريقين من خلاف ; وتحقق الوعيد الذي كان يخدعهم أنه لا يجيئهم من قريب ; وهم غافلون عن حكمة الله في تأخيره إلى أجله الذي قدره , والذي لا يقدمه استعجالهم ولا يؤخره . وما هم بقادرين على دفعه ولا الإفلات منه .
(قل:يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون). .
سواء كان هذا اليوم في الدنيا . إذ يأخذهم الله وهم كافرون , فلا يمهلهم بعده , ولا ينفعهم إيمانهم فيه . أو كان هذا اليوم في الآخرة إذ يطلبون المهلة فلا يمهلون:
وهذا الرد يخلخل المفاصل , ويزعزع القلوب . . ثم يعقبه الإيقاع الأخير في السورة:
(فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون). .
وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار , بعد أن ينفض الرسول [ ص ] يده من أمرهم , ويدعهم لمصيرهم المحتوم .
وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق , بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات , وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذه من كل جانب , وتأخذ عليه كل طريق . .
من الاية 22 الى الاية 25
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر). .
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى ; فالله سبحانه و تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم , وإذا لم يصروا على موجبات العذاب . فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض (لعلهم يرجعون). . وتستيقظ فطرتهم , ويردهم ألم العذاب إلى الصواب . ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذين رأيناه في مشهدهم الأليم . فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ?)وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: (إنا من المجرمين منتقمون). . ويا هوله من تهديد . والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب !
الدرس السابع:23 نموذج للتمكين للمؤمنين الصالحين في الأرض
وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين , وعواقب المؤمنين والفاسقين , ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون . ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته . جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى - عليه السلام - الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل ; كما جعل القرآن كتاب محمد [ ص ] هدى للمؤمنين . وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة . وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين , وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:
(ولقد آتينا موسى الكتاب - فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
وتفسير هذه العبارة المعترضة: (فلا تكن في مرية من لقائه)على معنى تثبيت الرسول [ ص ] على الحق الذي جاء به ; وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه ; والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان . . هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي [ ص ] لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج . فإن اللقاء على الحق الثابت , والعقيدة الواحدة , هو الذي يستحق الذكر , والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي [ ص ] من التكذيب والإعراض , ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء . وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآيةوجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). . للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل , وتوقن كما أيقنوا , ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل . ولتقرير طريق الإمامة والقيادة , وهو الصبر واليقين .
أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:
(إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
الدرس الثامن:26 لفت نظر الكافرين لمصارع السابقين
وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين:
أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ? .
من الاية 26 الى الاية 27
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين , وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي . وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها , وضعفها وقوتها . والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين , واطراد تلك السنن , ويتخذ من مصارع القرون , وآثار الماضين , الدارسة الخربة , أو الباقية بعد سكانها موحشة . يتخذ منها معارض للعبرة , وإيقاظ القلوب , وإثارة الحساسية , والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين . كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس . ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم , فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان ; وينسى النظام الثابت في حياة البشر , المطرد على توالي القرون . وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير !
وإن للآثار الخاوية لحديثا رهيبا عميقا , للقلب الشاعر , والحس المبصر , وإن له لرجفة في الأوصال , ورعشة في الضمائر , وهزة في القلوب . ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط . والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم ; وأن تكون مساكن القوم أمامهم , يمرون عليها ويمشون فيها ; ثم لا يستجيش هذا قلوبهم , ولا يهز مشاعرهم , ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله , وتوقي مثل هذا المصير ; ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير:
(إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ?). .
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم , أو يسمعون هذا التحذير , قبل أن يصدق بهم النذير , ويأخذهم النكير !
الدرس التاسع:27 لفت نظرهم إلى آيات الله فيما حولهم
وبعد لمسة البلى والدثور , وما توقعه في الحس من رهبة وروعة , وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة . يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ; ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة , كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات:
أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز , فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ? .
فهذه الأرض الميتة البور , يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي ; فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة . الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم . وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء . . إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها ; والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها ; والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة ; إحساس حب وقربى وانعطاف ; مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع , التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود .
وهكذا يطوف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء , بعدما طوف به في مجالي البلى والدثور , لاستجاشة مشاعره هنا وهناك , وإيقاظه من بلادة الألفة , وهمود العادة ; ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود , وأسرار الحياة , وعبر الأحداث , وشواهد التاريخ .
الدرس العاشر:28 - 30 الرد على استعجالهم العذاب
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل . فيحكي استعجالهم بالعذاب الذي يوعدون ; وشكهم في صدق الإنذار والتحذير . ويرد عليهم مخوفا محذرا من تحقيق ما يستعجلون به , يوم لا ينفعهم إيمان , ولا يمهلون لإصلاح ما فات . ويختم السورة بتوجيه الرسول [ ص ]
من الاية 28 الى آخر السورة
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30)
إلى الإعراض عنهم , وتركهم لمصيرهم المحتوم:
(ويقولون:متى هذا الفتح إن كنتم صادقين . قل:يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون). .
والفتح هو الفصل فيما بين الفريقين من خلاف ; وتحقق الوعيد الذي كان يخدعهم أنه لا يجيئهم من قريب ; وهم غافلون عن حكمة الله في تأخيره إلى أجله الذي قدره , والذي لا يقدمه استعجالهم ولا يؤخره . وما هم بقادرين على دفعه ولا الإفلات منه .
(قل:يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون). .
سواء كان هذا اليوم في الدنيا . إذ يأخذهم الله وهم كافرون , فلا يمهلهم بعده , ولا ينفعهم إيمانهم فيه . أو كان هذا اليوم في الآخرة إذ يطلبون المهلة فلا يمهلون:
وهذا الرد يخلخل المفاصل , ويزعزع القلوب . . ثم يعقبه الإيقاع الأخير في السورة:
(فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون). .
وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار , بعد أن ينفض الرسول [ ص ] يده من أمرهم , ويدعهم لمصيرهم المحتوم .
وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق , بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات , وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذه من كل جانب , وتأخذ عليه كل طريق . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الرعد ايه22 الى 37 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة السجدة ايه رقم واحد الى ايه21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الصف ايه 13 الى الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الغاشية ايه رقم 12 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 94 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة السجدة ايه رقم واحد الى ايه21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الصف ايه 13 الى الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الغاشية ايه رقم 12 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 94 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى