تفسير سورة الرعد ايه22 الى 37 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الرعد ايه22 الى 37 الشيخ سيد قطب
من الاية 22 الى الاية 24
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه , ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء , ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله , ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب , الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
(وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية). .
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل , وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله , التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل , وتزكي نفس آخذها من الغل ; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سرا وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة , وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة , وتنفذ الشريعة , ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
ويدرأون بالحسنة السيئة . .
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس , وتوجهها إلى الخير ; وتطفيء جذوة الشر , وترد نزغ الشيطان , ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة . .
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع , ويحتاج الشر إلى الدفع , فلا مكان لمقابلتها بالحسنة , لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف , واستشارة الألباب , والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
(أولئك لهم عقبى الدار:جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ; والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم , فنعم عقبى الدار). .
(أولئك)في مقامهم العالي لهم عقبى الدار:جنات عدن للإقامة والقرار .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم , وتلاقي أحبابهم , وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم , في حركة رائجة غادية:
(يدخلون عليهم من كل باب). .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا:
(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا . ولا بصيرة لهم فيبصروا . وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب:
من الاية 25 الى الاية 26
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26)
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك لهم اللعنة , ولهم سوء الدار). .
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ; وينقضون من بعده كل عهد , فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس . والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله , وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
(أولئك). . المبعدون المطرودون (لهم اللعنة)والطرد في مقابل التكريم هناك (ولهم سوء الدار)ولا حاجة إلى ذكرها , فقد عرفت بمقابلها هناك !
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم . مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء . ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض , وهو الذي أعطاهم إياه:
(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع). .
الدرس الثاني:27 - 32 صورة الكفار العمي وصورة أخرى لأصحاب القلوب المطمئنة
ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق , ومن هو أعمى . فالآن يحكي السياق شيئا عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون , والذين لا يكفيهم هذا القرآن , فإذا هم يطلبون آية . وقد حكى السياق شيئا كهذا في شطر السورة الأول , وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذرا والآيات عند الله . وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال . ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله , لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها . هذا القرآن العميق التأثير , حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض , ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية . وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم , وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم , وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين:
(ويقول الذين كفروا:لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل:إن الله يضل من يشاء , ويهدي إليه من أناب:الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . ألا بذكر الله تطمئن القلوب . الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)
(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك , وهم يكفرون بالرحمن . قل:هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت , وإليه متاب)
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد . ولقد استهزى ء برسل من قبلك , فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم . فكيف كان عقاب ? . .
من الاية 27 الى الاية 29
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
إن الرد على طلبهم آية خارقة , أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان , فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس , وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس:
(قل:إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب). .
فالله يهدي من ينيبون إليه . فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلا لهداه . والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال , فيضلهم الله . فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه , أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد . .
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة . في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام:
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله). .
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله , والأنس بجواره , والأمن في جانبه وفي حماه . تطمئن من قلق الوحدة , وحيرة الطريق . بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير . وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء , مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء . وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). .
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم , فاتصلت بالله . يعرفونها , ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلا الآخرين الذين لم يعرفوها , لأنها لا تنقل بالكلمات , إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام , ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس . فكل ما حوله صديق , إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله . ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون , لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون . ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ? ولم يذهب ? ولم يعاني ما يعاني في الحياة ? ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة , عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله , مطمئنا إلى حماه , مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله , فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). .
هؤلاء المنيبون إلى الله , المطمئنون بذكر الله , يحسن الله مآبهم عنده , كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة:
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). .
من الاية 30 الى الاية 30
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
طوبى [ على وزن كبرى من طاب يطيب ] للتفخيم والتعظيم . وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة . .
أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات . ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريبا , فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل . فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله:
(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم , لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك , وهم يكفرون بالرحمن . قل:هو ربي لا إله إلا , هو عليه توكلت , وإليه متاب). .
والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن , العظيم الرحمة , الذي تطمئن القلوب بذكره , واستشعار رحمته الكبرى . وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك , فلهذا أرسلناك . فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده , وأنك تائب إليه وراجع , لا تتجه إلى أحد سواه .
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب , الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض , أو يكلم به الموتى , لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات , ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون , وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين:
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد). .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة , بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض , إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ?!
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة , يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام , واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال , وهو تاريخ الأمم والأجيال ; وقطعوا ما هو أصلب من الأرض , وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة , أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها , وتحول الأرض عن جمودها , وتحول الموتى عن الموات !
(بل لله الأمر جميعا). .
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ; وأن يدعوا الأمر لله , فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى , فلهدى الناس جميعا على نحو
من الاية 31 الى الاية 32
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .
فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم , فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب , وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .
(أو تحل قريبا من دارهم). .
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ; وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .
(حتى يأتي وعد الله). .
الذي أعطاهم إياه , وأمهلهم إلى انتهاء أجله:
(إن الله لا يخلف الميعاد). .
فهو آت لا ريب فيه , فملاقون فيه ما وعدوه .
والأمثلة حاضرة , وفي مصارع الغابرين عبرة , بعد الإنظار والإمهال:
ولقد استهزى ء برسل من قبلك , فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ? .
وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب . فلقد كان عقابا تتحدث به الأجيال !!!
الدرس الثالث:33 - 35 نقض الشرك بالله وعذاب المشركين في مقابل نعيم المؤمنين
والقضية الثانية هي قضية الشركاء . وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك . وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس , المجازي لها بما كسبت في الحياة . وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة . وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام !
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ? وجعلوا لله شركاء . قل:سموهم . أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? أم بظاهر من القول ? بل زين للذين كفروا مكرهم , وصدوا عن السبيل , ومن يضلل الله فما له من هاد . لهم عذاب في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أشق , وما لهم من الله من واق). .
(مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها . تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار). .
والله سبحانه رقيب على كل نفس , مسيطر عليها في كل حال , عالم بما كسبت في السر والجهر . ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية - على طريقة القرآن - صورة ترتعد لها الفرائص:
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت). .
فلتتصور كل نفس أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت . ومن ? إنه الله ! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق , إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات .
من الاية 33 الى الاية 34
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34)
أفذلك كذلك ? ثم يجعلون لله شركاء ?! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب .
(وجعلوا لله شركاء). .
الله القائم على كل نفس بما كسبت , لا تفلت منه ولا تروغ .
(قل:سموهم)! فإنهم نكرات مجهولة . وقد تكون لهم أسماء . ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها .
(أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ?). . يا للتهكم ! أم إنكم أنتم بشر تعلمون ما لا يعلمه الله ? فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض , وغاب هذا عن علم الله ?! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها . ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال , حين يقول الله أن ليست هناك آلهة , فيدعون وجودها وقد نفاه الله !
(أم بظاهر من القول ?).
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول . وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول ?!
وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل:
(بل زين للذين كفروا مكرهم , وصدوا عن السبيل , ومن يضلل الله فما له من هاد). .
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى , فحقت عليهم سنة الله , وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب , وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل , فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم . ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد , لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد .
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب:
(لهم عذاب في الحياة الدنيا).
إن أصابتهم قارعة فيها , وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع . وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب , وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب . ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب . . .
(ولعذاب الآخرة أشق). .
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود .
(وما لهم من الله من واق).
يحميهم من أخذه , ومن نكاله . فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب . .
وعلى الضفة الأخرى(المتقون). . في مقابل (وما لهم من الله من واق). المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في مأمن من العذاب . بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها: (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها)فهو المتاع والاسترواح - ومشهد الظل الدائم والثمر الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح - في مقابل المشقة هناكمن الاية 35 الى الاية 37
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37)
ذلك العذاب وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء:
(تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار). .
الدرس الرابع:36 - 40 إثبات الوحي والرسالة والوحدانية وذم إنكار الكفار
ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول [ ص ] ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله , وهو المرجع الأخير , أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة ; ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته . فليقف عندما أنزل عليه , لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة . أما الذين يطلبون منه آية , فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ .
والذين آتيانهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك , ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به , إليه أدعو , وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا , ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق . ولقد أرسلنا رسلا من قبلك , وجعلنا لهم أزواجا وذرية , وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله . لكل أجل كتاب . يمحو الله ما يشاء , ويثبت , وعنده أم الكتاب . وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك , فإنما عليك البلاغ , وعلينا الحساب . .
إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه , يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد ; كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها , ودرسها مع الإكبار والتقدير , وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعا . فمن ثم يفرحون ويؤمنون . والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق , وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له . .
(ومن الأحزاب من ينكر بعضه). .
الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين . . ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه , لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه:
(قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به . إليه أدعو , وإليه مآب). .
فله وحده العبادة , وإليه وحده الدعوة , وله وحده المآب .
وقد أمر الرسول [ ص ] أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب , وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه , سواء فرح به أهل الكتاب كله , أم أنكر فريق منهم بعضه . ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير , نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماما , وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة:
(وكذلك أنزلناه حكما عربيا). .
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق). .
فالذي جاءك هو العلم اليقين , وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين . وهذا التهديد الموجه إلى الرسول [ ص ] أبلغ في تقرير هذه الحقيقة , التي لا تسامح في الانحراف عنها , حتى ولو كان من الرسول , وحاشاه عليه الصلاة والسلام .
وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشرا:
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه , ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء , ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله , ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب , الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
(وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية). .
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل , وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله , التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل , وتزكي نفس آخذها من الغل ; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سرا وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة , وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة , وتنفذ الشريعة , ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
ويدرأون بالحسنة السيئة . .
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس , وتوجهها إلى الخير ; وتطفيء جذوة الشر , وترد نزغ الشيطان , ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة . .
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع , ويحتاج الشر إلى الدفع , فلا مكان لمقابلتها بالحسنة , لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف , واستشارة الألباب , والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
(أولئك لهم عقبى الدار:جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ; والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم , فنعم عقبى الدار). .
(أولئك)في مقامهم العالي لهم عقبى الدار:جنات عدن للإقامة والقرار .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم , وتلاقي أحبابهم , وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم , في حركة رائجة غادية:
(يدخلون عليهم من كل باب). .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا:
(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا . ولا بصيرة لهم فيبصروا . وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب:
من الاية 25 الى الاية 26
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26)
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك لهم اللعنة , ولهم سوء الدار). .
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ; وينقضون من بعده كل عهد , فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس . والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله , وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
(أولئك). . المبعدون المطرودون (لهم اللعنة)والطرد في مقابل التكريم هناك (ولهم سوء الدار)ولا حاجة إلى ذكرها , فقد عرفت بمقابلها هناك !
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم . مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء . ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض , وهو الذي أعطاهم إياه:
(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع). .
الدرس الثاني:27 - 32 صورة الكفار العمي وصورة أخرى لأصحاب القلوب المطمئنة
ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق , ومن هو أعمى . فالآن يحكي السياق شيئا عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون , والذين لا يكفيهم هذا القرآن , فإذا هم يطلبون آية . وقد حكى السياق شيئا كهذا في شطر السورة الأول , وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذرا والآيات عند الله . وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال . ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله , لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها . هذا القرآن العميق التأثير , حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض , ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية . وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم , وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم , وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين:
(ويقول الذين كفروا:لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل:إن الله يضل من يشاء , ويهدي إليه من أناب:الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . ألا بذكر الله تطمئن القلوب . الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)
(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك , وهم يكفرون بالرحمن . قل:هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت , وإليه متاب)
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد . ولقد استهزى ء برسل من قبلك , فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم . فكيف كان عقاب ? . .
من الاية 27 الى الاية 29
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
إن الرد على طلبهم آية خارقة , أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان , فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس , وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس:
(قل:إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب). .
فالله يهدي من ينيبون إليه . فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلا لهداه . والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال , فيضلهم الله . فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه , أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد . .
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة . في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام:
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله). .
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله , والأنس بجواره , والأمن في جانبه وفي حماه . تطمئن من قلق الوحدة , وحيرة الطريق . بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير . وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء , مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء . وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). .
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم , فاتصلت بالله . يعرفونها , ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلا الآخرين الذين لم يعرفوها , لأنها لا تنقل بالكلمات , إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام , ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس . فكل ما حوله صديق , إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله . ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون , لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون . ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ? ولم يذهب ? ولم يعاني ما يعاني في الحياة ? ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة , عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله , مطمئنا إلى حماه , مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله , فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). .
هؤلاء المنيبون إلى الله , المطمئنون بذكر الله , يحسن الله مآبهم عنده , كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة:
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). .
من الاية 30 الى الاية 30
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
طوبى [ على وزن كبرى من طاب يطيب ] للتفخيم والتعظيم . وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة . .
أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات . ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريبا , فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل . فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله:
(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم , لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك , وهم يكفرون بالرحمن . قل:هو ربي لا إله إلا , هو عليه توكلت , وإليه متاب). .
والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن , العظيم الرحمة , الذي تطمئن القلوب بذكره , واستشعار رحمته الكبرى . وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك , فلهذا أرسلناك . فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده , وأنك تائب إليه وراجع , لا تتجه إلى أحد سواه .
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب , الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض , أو يكلم به الموتى , لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات , ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون , وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين:
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد). .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة , بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض , إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ?!
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة , يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام , واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال , وهو تاريخ الأمم والأجيال ; وقطعوا ما هو أصلب من الأرض , وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة , أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها , وتحول الأرض عن جمودها , وتحول الموتى عن الموات !
(بل لله الأمر جميعا). .
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ; وأن يدعوا الأمر لله , فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى , فلهدى الناس جميعا على نحو
من الاية 31 الى الاية 32
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .
فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم , فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب , وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .
(أو تحل قريبا من دارهم). .
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ; وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .
(حتى يأتي وعد الله). .
الذي أعطاهم إياه , وأمهلهم إلى انتهاء أجله:
(إن الله لا يخلف الميعاد). .
فهو آت لا ريب فيه , فملاقون فيه ما وعدوه .
والأمثلة حاضرة , وفي مصارع الغابرين عبرة , بعد الإنظار والإمهال:
ولقد استهزى ء برسل من قبلك , فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ? .
وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب . فلقد كان عقابا تتحدث به الأجيال !!!
الدرس الثالث:33 - 35 نقض الشرك بالله وعذاب المشركين في مقابل نعيم المؤمنين
والقضية الثانية هي قضية الشركاء . وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك . وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس , المجازي لها بما كسبت في الحياة . وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة . وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام !
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ? وجعلوا لله شركاء . قل:سموهم . أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? أم بظاهر من القول ? بل زين للذين كفروا مكرهم , وصدوا عن السبيل , ومن يضلل الله فما له من هاد . لهم عذاب في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أشق , وما لهم من الله من واق). .
(مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها . تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار). .
والله سبحانه رقيب على كل نفس , مسيطر عليها في كل حال , عالم بما كسبت في السر والجهر . ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية - على طريقة القرآن - صورة ترتعد لها الفرائص:
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت). .
فلتتصور كل نفس أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت . ومن ? إنه الله ! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق , إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات .
من الاية 33 الى الاية 34
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34)
أفذلك كذلك ? ثم يجعلون لله شركاء ?! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب .
(وجعلوا لله شركاء). .
الله القائم على كل نفس بما كسبت , لا تفلت منه ولا تروغ .
(قل:سموهم)! فإنهم نكرات مجهولة . وقد تكون لهم أسماء . ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها .
(أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ?). . يا للتهكم ! أم إنكم أنتم بشر تعلمون ما لا يعلمه الله ? فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض , وغاب هذا عن علم الله ?! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها . ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال , حين يقول الله أن ليست هناك آلهة , فيدعون وجودها وقد نفاه الله !
(أم بظاهر من القول ?).
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول . وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول ?!
وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل:
(بل زين للذين كفروا مكرهم , وصدوا عن السبيل , ومن يضلل الله فما له من هاد). .
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى , فحقت عليهم سنة الله , وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب , وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل , فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم . ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد , لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد .
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب:
(لهم عذاب في الحياة الدنيا).
إن أصابتهم قارعة فيها , وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع . وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب , وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب . ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب . . .
(ولعذاب الآخرة أشق). .
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود .
(وما لهم من الله من واق).
يحميهم من أخذه , ومن نكاله . فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب . .
وعلى الضفة الأخرى(المتقون). . في مقابل (وما لهم من الله من واق). المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في مأمن من العذاب . بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها: (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها)فهو المتاع والاسترواح - ومشهد الظل الدائم والثمر الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح - في مقابل المشقة هناكمن الاية 35 الى الاية 37
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37)
ذلك العذاب وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء:
(تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار). .
الدرس الرابع:36 - 40 إثبات الوحي والرسالة والوحدانية وذم إنكار الكفار
ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول [ ص ] ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله , وهو المرجع الأخير , أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة ; ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته . فليقف عندما أنزل عليه , لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة . أما الذين يطلبون منه آية , فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ .
والذين آتيانهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك , ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به , إليه أدعو , وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا , ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق . ولقد أرسلنا رسلا من قبلك , وجعلنا لهم أزواجا وذرية , وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله . لكل أجل كتاب . يمحو الله ما يشاء , ويثبت , وعنده أم الكتاب . وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك , فإنما عليك البلاغ , وعلينا الحساب . .
إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه , يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد ; كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها , ودرسها مع الإكبار والتقدير , وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعا . فمن ثم يفرحون ويؤمنون . والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق , وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له . .
(ومن الأحزاب من ينكر بعضه). .
الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين . . ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه , لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه:
(قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به . إليه أدعو , وإليه مآب). .
فله وحده العبادة , وإليه وحده الدعوة , وله وحده المآب .
وقد أمر الرسول [ ص ] أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب , وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه , سواء فرح به أهل الكتاب كله , أم أنكر فريق منهم بعضه . ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير , نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماما , وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة:
(وكذلك أنزلناه حكما عربيا). .
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق). .
فالذي جاءك هو العلم اليقين , وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين . وهذا التهديد الموجه إلى الرسول [ ص ] أبلغ في تقرير هذه الحقيقة , التي لا تسامح في الانحراف عنها , حتى ولو كان من الرسول , وحاشاه عليه الصلاة والسلام .
وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشرا:
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة السجدة ايه22 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرعد ايه رقم 1 الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير الرعد ايه 11 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرعد ايه43\\\\ ايه 6 سورة ابراهبم
» تفسير سورة الرعد ايه رفم 1\\\6
» تفسير سورة الرعد ايه رقم 1 الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير الرعد ايه 11 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرعد ايه43\\\\ ايه 6 سورة ابراهبم
» تفسير سورة الرعد ايه رفم 1\\\6
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى