تفسير سورة ابراهيم ايه13 الى ايه 30 الشسخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة ابراهيم ايه13 الى ايه 30 الشسخ سيد قطب
من الاية 13 الى الاية 17
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
ولحساب منهجه وتصوره . . لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل , وإن كانوا طغاة متجبرين:
من الاية 18 الى الاية 18
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18)
إنه مشهد عجيب , يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة(غليظ)في تفظيع المشهد , تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
الدرس الرابع:18 - 20 صورة عن خسارة الكفار وقدرة الله المطلقة
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلا مصورا في مشهد يضرب الذين كفروا , ولفتة إلى قدرة الله على أن يذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد . . ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى , وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض , مخايلا بالساحة الأخرى:
(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد). .
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود , يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى , لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها , ولا الانتفاع به أصلا . يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك , فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا .
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار . فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان , ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث , وتصل الباعث بالله . . مفككة كالهباء والرماد , لا قوام لها ولا نظام . فليس المعول عليه هو العمل , ولكن باعث العمل . فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية .
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة , وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر . ويلتقي معها التعقيب:
(ذلك هو الضلال البعيد). .
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف . . إلى بعيد !!
ثم يلتقي مع مشهد الرماد المتطاير ظل آخر في الآية التالية , التي يلتفت فيها السياق من مصائر المكذبين السابقين إلى المكذبين من قريش , يهددهم بإذهابهم والإتيان بخلق جديد:
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق . إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز). .
والانتقال من حديث الإيمان والكفر , ومن قضية الرسل والجاهلية إلى مشهد السماوات والأرض . . هو انتقال طبيعي في المنهج القرآني كما أنه انتقال طبيعي في مشاعر الفطرة البشرية يدل على ربانية هذا المنهج القرآني . .
إن بين فطرة الكائن الإنساني وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة ! . . إن فطرته تتلاقى مباشرة مع السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه إليه والتقاط إيقاعاته ودلالاته !
والذين يرون هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الإيقاعات وهذه الإيحاءات هم أفراد معطلو الفطرة . في كيانهم خلل تعطلت به أجهزة الاستقبال الفطرية . كما تصاب الحواس بالتعطل نتيجة لآفة تصيبها . . كما تصاب العين بالعمى , والأذن بالصم , واللسان بالبكم ! . . إنهم أجهزة تالفة لا تصلح للتلقي ; ومن باب
من الاية 19 الى الاية 20
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
أولى لا تصلح للقيادة والزعامة ! . . ومن هؤلاء كل أصحاب التفكير المادي - الذي يسمونه "المذاهب العلمية " كذبا وافتراء . . إن العلم لا يتفق مع تعطل أجهزة الاستقبال الفطرية وفساد أجهزة الاتصال الإنسانية بالكون كله ! إنهم الذين يسميهم القرآن بالعمي . . وما يمكن أن تقام الحياة الإنسانية على مذهب أو رأي أو نظام يراه أعمى !!!
إن خلق السماوات والأرض بالحق يوحي بالقدرة كما يوحي بالثبات . فالحق ثابت مستقر حتى في جرسه اللفظي . . ذلك في مقابل الرماد المتطاير إلى بعيد . وفي مقابل الضلال البعيد .
وفي ضوء مصير المعاندين الجبارين في معركة الحق والباطل يجيء التهديد:
(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد). .
والقادر على خلق السماوات والأرض , قادر على استخلاف جنس غير هذا الجنس في الأرض . واستخلاف قوم مكان قوم من أقوام هذا الجنس . وظل الذهاب بالقوم يتسق من بعيد مع ظل الرماد المتطاير الذاهب إلى الفناء .
(وما ذلك على الله بعزبز). .
وخلق السماوات والأرض شاهد . ومصارع المكذبين من قبل شاهدة . والرماد المتطاير شاهد من بعيد ! ألا إنه الإعجاز في تنسيق المشاهد والصور والظلال في هذا القرآن !
الدرس الخامس:21 - 23 مشهد ذل وخزي الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة
ثم نرقي إلى أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق . فلقد كنا منذ لحظة مع الجبارين المعاندين . ولقد خاب كل جبار عنيد . وكانت صورته في جهنم تخايل له من ورائه وهو بعد في الدنيا . فالآن نجدهم هناك , حيث يتابع السياق خطواته بالرواية الكبرى - رواية البشرية ورسلها - في المشهد الأخير . وهو مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين . وبين الشيطان والجميع:
(وبرزوا لله جميعا - فقال الضعفاء للذين استكبروا:إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ? قالوا ; لو هدانا الله لهديناكم . سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر:إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم ; وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم , ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم .)
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام).
لقد انتقلت الرواية . . رواية الدعوة والدعاة , والمكذبين والطغاة . . انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:
(وبرزوا لله جميعا). .
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين . ومعهم الشيطان . . ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات . . برزوا(جميعا)مكشوفين . وهم مكشوفون لله دائما . ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون
من الاية 21 الى الاية 22
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
لا يحجبهم حجاب , ولا يسترهم ساتر , ولا يقيهم واق . . برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار , وبدأ الحوار:
(فقال الضعفاء للذين استكبروا:إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ?). .
والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ; وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذرا , بل هو الجريمة ; فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا , وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها . والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية , ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد , تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . اما الضمير . أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها , إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال !
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة , وفي التفكير , وفي السلوك ? من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله , والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ? لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة , ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما . . كلا , إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . . إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !
إن المستضعفين كثرة , والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ? وماذا الذي يخضعها ? إنما يخضعها ضعف الروح , وسقوط الهمة , وقلة النخوة , والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان !
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان !
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء . . وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !!
والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:
(إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء)? . .
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ?!
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة , وتعريضهم إياهم للعذاب ? إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال !
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
(قالوا:لو هدانا الله لهديناكم ! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص !). .
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
(لو هدانا الله لهديناكم). .
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ? إننا لم نهتد ونضللكم . ولو هدانا الله لقدناكمإلى الهدى معنا , كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال ! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها , ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار . وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله . . والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: إن الله لا يأمر بالفحشاء . . ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي , فيعلنونهم بأن لاجدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر . فقد حق العذاب , ولا راد له من صبر أو جزع , وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ; وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء , ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)!
لقد قضي الأمر , وانتهى الجدل , وسكت الحوار . . وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان . . هاتف الغواية , وحادي الغواة . . نراه الساعة يلبس مسوح الكهان , أو مسوح الشيطان ! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء , بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
(وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم . وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم .)
الله ! الله ! أما إن الشيطان حقا لشيطان ! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار . .
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور , وأغرى بالعصيان , وزين الكفر , وصدهم عن استماع الدعوة . . هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة , حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن , وبعد فوات الأوان:
(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم !
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له , وليس له عليهم من سلطان , سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم , ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم , فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي !
ثم يؤنبهم , ويدعوهم لتأنيب أنفسهم . يؤنبهم على أن أطاعوه !:
(فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!
ثم يخلي بهم , وينفض يده منهم , وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم , ووسوس لهم أن لا غالب لهم ; فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا , كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي). .
وما بيننا من صلة ولا ولاء !
ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
(إني كفرت بما أشركتمون من قبل)!
ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
إبراهيم
من الاية 23 الى الاية 24
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)
(إن الظالمين لهم عذاب أليم)!
فيا للشيطان ! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه , ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه !
وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة , الأمة الفائزة , الأمة الناجية:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام). .
ويسدل الستار . .
فيا له من مشهد ! ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة !
الدرس السادس:24 تمثيل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
وفي ظل هذه القصة بفصولها جميعا . في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ). .
وفي الآخرة حيث شاهدنا ذلك المشهد الفريد:مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان , مع ذلك الحوار العجيب . .
في ظل تلك القصة ومصائر الأمة الطيبة , والفرقة الخبيثة , يضرب الله مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة , لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة , فتكون خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار:
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة , أصلها ثابت وفرعها في السماء , تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها , ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . .)
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ; ويضل الله الظالمين ; ويفعل الله ما يشاء). .
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة , اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . . هو مشهد مأخوذ من جو السياق , ومن قصة النبيين والمكذبين , ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص . وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح , وهي تؤتي أكلها كل فترة , أكلا جنيا طيبا . . نبيا من الأنبياء . . يثمر إيمانا وخيرا وحيوية . .
ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقا , وأعرض مساحة , وأعمق حقيقة .
إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة . ثابتة سامقة مثمرة . . ثابتة لا تزعزعها الأعاصير , ولا تعصف بها رياح الباطل ; ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية , تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها , لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن . .
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ; قد تهيج وتتعالى وتتشابك ; ويخيل إلى بعض
إبراهيم
من الاية 25 الى الاية 27
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ (27)
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة , وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض , فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب , ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة , ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية , فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال .
إن الخير بخير ! وإن الشر بشر !
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون). .
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض , ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة .
وفي ظل الشجرة الثابتة , التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه , فيرسمها:أصلها ثابت مستقر في الأرض , وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر , قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات .
في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: (ويضل الله الظالمين). . فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق !
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر , الثابتة في الفطر , المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة . ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول ; وبوعده للحق بالنصر في الدنيا , والفوز في الآخرة . . وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة , لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل , ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب .
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم [ والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب ] وبعدهم عن النور الهادي , واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله . . يضلهم وفق سنته التي تنتهي . بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود .
(ويفعل الله ما يشاء). .
بإرادته المطلقة , التي تختار الناموس , فلا تتقيد به ولكنها ترضاه . حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة , ولا يقوم في طريقها عائق ; والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات . وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء , والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات , والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة , تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى . . حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل , وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير , وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار .
تعقيب على الوحدة الأولى
والآن نقف وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية . وهي الحقائق التيأشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني , ونرى أنها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة:
إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير . . إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول , يقوده رسل الله الكرام , داعين بحقيقة واحدة , جاهرين بدعوة واحدة , سائرين على منهج واحد . . كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة , وربوبية واحدة ; وكلهم لا يدعون مع الله أحدا , ولا يتوكل على أحد غيره , ولا يلجأ إلى ملجأ سواه , ولا يعرف له سندا إلا إياه .
وأمر الاعتقاد في الله الواحد - إذن - ليس كما يزعم "علماء الدين المقارن" أنه تطور وترقي من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ; ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد ; وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري , وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد . . .
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ; ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ; ولا في دين واحد من الأديان السماوية . كما يقص علينا الحكيم الخبير .
ولو قال أولئك "العلماء":إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول ; وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين . حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت , بفعل توالي رسالات التوحيد ; وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير . . . لو قال أولئك "العلماء" قولا كهذا لساغ . . ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون ! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير ; وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند الله ; إنما كان اجتهادا من البشر , ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء . . ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ; ويسمى مع ذلك "علما" ينخدع به الكثيرون !
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا "العلم" فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه , ويخترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة ; وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه , ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير . .
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة , وعقيدة واحدة . وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم , وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة , مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان , مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل , فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل !
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا ! . . إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان . . إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ; ولكنها وضع اعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات . .
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ; ومن تأليه غير الله . أو من ربوبية غير الله - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة ; أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى !
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة , وإخلاص الدين لله - أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية , أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية ; وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية . وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص , يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي ; وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد , ومن ناحية القيادة , ومن ناحية الولاء . . الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان . .
وعندما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية ; كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له . . فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام !
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام ! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر . فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة , أو تعدد الأرباب , ومن ثم يدين فيه العباد للعباد . والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ; ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد . .
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي , في أول الأمر وهو في دور التكوين , ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه , وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . . لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح , فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام . . ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام ! . . إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح ; ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد !
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها , فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت , لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام ! . . إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة , وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة . .
(وقال الذين كفروا لرسلهم:لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا). .
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم , أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص . إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم , ويندمجوا في تجمعهم , ويذوبوا في هذا التجمع . أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم . .
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي , ولا أن يذوبوا فيه , ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي . . ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام . . ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا ! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم !!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي , لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه . . وليس في ذلك اختيار . . إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . . هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده ; وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال . وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين ; والفصل بينهم وبين قومهم بالحق , لا يقع ولا يكون , إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم ; وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم . . فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي , ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته . . وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين . . وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله , وهم واعون مقدرون . .
وأخيرا . . نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان , وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان . . جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق , الواثق المطمئن , الرصين المكين:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض , يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم , ويؤخركم إلى أجل مسمى ?). .
. . .(قالت لهم رسلهم:إن نحن إلا بشر مثلكم , ولكن الله يمن على من يشاء من عباده , وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله , وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون). .
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية الموحدة ; ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ; ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم , من وراء الزمان والمكان , ومن وراء الأجناس والأقوام !
ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام , والحق الكامن في كيان هذا الوجود:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ?). .
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ?). .
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق , إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد , وما ذلك على الله بعزيز). .
وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة , والحق الكامن في الوجود كله . ويبدو أنه حق واحد موصول بالله الحق , ثابت وطيد عميق الجذور: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء). . وأن ما عداه هو الباطل الزائل (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار). .
إبراهيم
من الاية 28 الى الاية 30
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
كذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم ; وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده:
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون). .
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد , لا تبلغ الإشارة مداه , ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه . . .
الوحدة الثانية:28 - 52 الموضوع:نعم الله بين الشكر والكفر وإبراهيم الشاكر المنيب مقدمة الوحدة
يبدأ هذا الشوط الثاني من نهاية الشوط الأول , قائما عليه , متناسقا معه , مستمدا منه .
لقد تضمن الشوط الأول رسالة الرسول [ ص ] ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . ورسالة موسى - عليه السلام - لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور , ويذكرهم بأيام الله . فبين لهم وذكرهم بنعمة الله عليهم , وأعلن لهم ما تأذن الله به:لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد . . ثم عرض عليهم قصة النبوات والمكذبين . بدأها ثم توارى عن السياق ; وتابعت القصة أدوارها ومشاهدها حتى انتهت بالكافرين إلى ذلك الموقف , الذي يستمعون فيه من الشيطان عظته البليغة ! حيث لا تنفع العظات !
فالآن يعود السياق إلى المكذبين من قوم محمد [ ص ] بعد ما عرض عليهم ذلك الشريط الطويل - أولئك الذين أنعم الله عليهم - فيما أنعم - برسول يخرجهم من الظلمات إلى النور , ويدعوهم ليغفر الله لهم , فإذا هم يكفرون النعمة , ويردونها , ويستبدلون بها الكفر , يؤثرونه على الرسول وعلى دعوة الإيمان . .
ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بالتعجيب من أمر هؤلاء الذين يبدلون نعمة الله كفرا , ويقودون قومهم إلى دار البوار , كما قاد من قبلهم أتباعهم إلى النار . في قصة الرسل والكفار .
ثم يستطرد إلى بيان نعم الله على البشر في أضخم المشاهد الكونية البارزة 0 ويقدم نموذجا لشكر النعمة:إبراهيم الخليل - بعد أن يأمر الذين آمنوا بلون من ألوان الشكر هو الصلاة والبر بعباد الله - قبل أن يأتي يوم لا تربو فيه الأموال . يوم لا بيع فيه ولا خلال .
فأما الذين كفروا فليسوا بمتروكين عن غفلة ولا إهمال , إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . . وأما وعد الله لرسله فهو واقع مهما يمكر الذين كفروا وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . .
وهكذا يتماسك الشوط الثاني مع الشوط الأول ويتناسق .
الدرس الأول:28 - 31 جريمة الذين بدلوا نعمة الله كفرا وتوجيه للمؤمنين
(ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار , جهنم يصلونها , وبئس القرار ?!)
(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله . قل:تمتعوا فإن مصيركم إلى النار). .
ألم تر إلى هذا الحال العجيب . حال الذين وهبوا نعمة الله , ممثلة في رسول وفي دعوة إلى الإيمان , وفي قيادة إلى المغفرة , وإلى مصير في الجنة . . فإذا هم يتركون هذا كله ويأخذون بدله(كفرا)! أولئك هم السادة القادة من كبراء قومك - مثلهم مثل السادة القادة من كل قوم - وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم , وأنزلوهم بها - كما شاهدنا منذ قليل في الأقوام من قبل ! - وبئس ما أحلوهم من مستقر , وبئس القرار فيها من قرار !
ألم تر إلى تصرف القوم العجيب , بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم - وقد عرضه القرآن عليهم عرض رؤية في مشاهد تلك القصة التي مضى بها الشوط الأول من السورة . عرضه كأنه وقع فعلا . وإنه لواقع . وما يزيد النسق القرآني على أن يعرض ما تقرر وقوعه في صورة الواقع المشهود .
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفرا . وكانت دعوته إلى التوحيد , فتركوها:
(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله). .
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته , ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه , ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه !
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل .
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله , باتخاذ هذه الأنداد من دون الله . فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان . لا في زمن الجاهلية الأولى , ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق , في أية صورة من صور الانحراف , فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم , وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم , ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم , ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله . . عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة . ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى . ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر , تأمر بما لم يأمر الله به , وتنهى عما لم ينه عنه الله . فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله , وفي واقع الحياة !
فيا أيها الرسول(قل)للقومتمتعوا). . تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله . والعاقبة معروفة: (فإن مصيركم إلى النار). .
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد).
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم . . بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . . وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة . وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا . . عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة , ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين , ولتمكن للمؤمنين في الأرض , ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . . ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي , عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته , غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة . .
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين). .
نون العظمة ونون التوكيد . . كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد . لنهلكن المتجبرين المهددين , المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد . .
(ولنسكننكم الأرض من بعدهم). .
لا محاباة ولا جزافا , إنما هي السنة الجارية العادلة:
(ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). .
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي , فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر . وخاف وعيد , فحسب حسابه , واتقى أسبابه , فلم يفسد في الأرض , ولم يظلم في الناس . فهو من ثم يستحق الاستخلاف , ويناله باستحقاق .
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر - فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف , ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف . ودعا كلاهما بالنصر والفتح . . وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت , ومن ورائه عذاب غليظ). .
والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض . ولكنه يقف هذا الموقف , ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها , وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم . يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها , ولا يكاد يسيغه , لقذارته ومرارته , والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات ! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان , ولكنه لا يموت , ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ . .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
ولحساب منهجه وتصوره . . لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل , وإن كانوا طغاة متجبرين:
من الاية 18 الى الاية 18
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18)
إنه مشهد عجيب , يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة(غليظ)في تفظيع المشهد , تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
الدرس الرابع:18 - 20 صورة عن خسارة الكفار وقدرة الله المطلقة
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلا مصورا في مشهد يضرب الذين كفروا , ولفتة إلى قدرة الله على أن يذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد . . ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى , وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض , مخايلا بالساحة الأخرى:
(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد). .
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود , يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى , لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها , ولا الانتفاع به أصلا . يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك , فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا .
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار . فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان , ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث , وتصل الباعث بالله . . مفككة كالهباء والرماد , لا قوام لها ولا نظام . فليس المعول عليه هو العمل , ولكن باعث العمل . فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية .
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة , وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر . ويلتقي معها التعقيب:
(ذلك هو الضلال البعيد). .
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف . . إلى بعيد !!
ثم يلتقي مع مشهد الرماد المتطاير ظل آخر في الآية التالية , التي يلتفت فيها السياق من مصائر المكذبين السابقين إلى المكذبين من قريش , يهددهم بإذهابهم والإتيان بخلق جديد:
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق . إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز). .
والانتقال من حديث الإيمان والكفر , ومن قضية الرسل والجاهلية إلى مشهد السماوات والأرض . . هو انتقال طبيعي في المنهج القرآني كما أنه انتقال طبيعي في مشاعر الفطرة البشرية يدل على ربانية هذا المنهج القرآني . .
إن بين فطرة الكائن الإنساني وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة ! . . إن فطرته تتلاقى مباشرة مع السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه إليه والتقاط إيقاعاته ودلالاته !
والذين يرون هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الإيقاعات وهذه الإيحاءات هم أفراد معطلو الفطرة . في كيانهم خلل تعطلت به أجهزة الاستقبال الفطرية . كما تصاب الحواس بالتعطل نتيجة لآفة تصيبها . . كما تصاب العين بالعمى , والأذن بالصم , واللسان بالبكم ! . . إنهم أجهزة تالفة لا تصلح للتلقي ; ومن باب
من الاية 19 الى الاية 20
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
أولى لا تصلح للقيادة والزعامة ! . . ومن هؤلاء كل أصحاب التفكير المادي - الذي يسمونه "المذاهب العلمية " كذبا وافتراء . . إن العلم لا يتفق مع تعطل أجهزة الاستقبال الفطرية وفساد أجهزة الاتصال الإنسانية بالكون كله ! إنهم الذين يسميهم القرآن بالعمي . . وما يمكن أن تقام الحياة الإنسانية على مذهب أو رأي أو نظام يراه أعمى !!!
إن خلق السماوات والأرض بالحق يوحي بالقدرة كما يوحي بالثبات . فالحق ثابت مستقر حتى في جرسه اللفظي . . ذلك في مقابل الرماد المتطاير إلى بعيد . وفي مقابل الضلال البعيد .
وفي ضوء مصير المعاندين الجبارين في معركة الحق والباطل يجيء التهديد:
(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد). .
والقادر على خلق السماوات والأرض , قادر على استخلاف جنس غير هذا الجنس في الأرض . واستخلاف قوم مكان قوم من أقوام هذا الجنس . وظل الذهاب بالقوم يتسق من بعيد مع ظل الرماد المتطاير الذاهب إلى الفناء .
(وما ذلك على الله بعزبز). .
وخلق السماوات والأرض شاهد . ومصارع المكذبين من قبل شاهدة . والرماد المتطاير شاهد من بعيد ! ألا إنه الإعجاز في تنسيق المشاهد والصور والظلال في هذا القرآن !
الدرس الخامس:21 - 23 مشهد ذل وخزي الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة
ثم نرقي إلى أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق . فلقد كنا منذ لحظة مع الجبارين المعاندين . ولقد خاب كل جبار عنيد . وكانت صورته في جهنم تخايل له من ورائه وهو بعد في الدنيا . فالآن نجدهم هناك , حيث يتابع السياق خطواته بالرواية الكبرى - رواية البشرية ورسلها - في المشهد الأخير . وهو مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين . وبين الشيطان والجميع:
(وبرزوا لله جميعا - فقال الضعفاء للذين استكبروا:إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ? قالوا ; لو هدانا الله لهديناكم . سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر:إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم ; وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم , ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم .)
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام).
لقد انتقلت الرواية . . رواية الدعوة والدعاة , والمكذبين والطغاة . . انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:
(وبرزوا لله جميعا). .
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين . ومعهم الشيطان . . ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات . . برزوا(جميعا)مكشوفين . وهم مكشوفون لله دائما . ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون
من الاية 21 الى الاية 22
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
لا يحجبهم حجاب , ولا يسترهم ساتر , ولا يقيهم واق . . برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار , وبدأ الحوار:
(فقال الضعفاء للذين استكبروا:إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ?). .
والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ; وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذرا , بل هو الجريمة ; فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا , وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها . والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية , ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد , تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . اما الضمير . أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها , إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال !
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة , وفي التفكير , وفي السلوك ? من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله , والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ? لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة , ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما . . كلا , إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . . إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !
إن المستضعفين كثرة , والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ? وماذا الذي يخضعها ? إنما يخضعها ضعف الروح , وسقوط الهمة , وقلة النخوة , والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان !
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان !
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء . . وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !!
والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:
(إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء)? . .
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ?!
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة , وتعريضهم إياهم للعذاب ? إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال !
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
(قالوا:لو هدانا الله لهديناكم ! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص !). .
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
(لو هدانا الله لهديناكم). .
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ? إننا لم نهتد ونضللكم . ولو هدانا الله لقدناكمإلى الهدى معنا , كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال ! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها , ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار . وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله . . والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: إن الله لا يأمر بالفحشاء . . ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي , فيعلنونهم بأن لاجدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر . فقد حق العذاب , ولا راد له من صبر أو جزع , وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ; وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء , ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)!
لقد قضي الأمر , وانتهى الجدل , وسكت الحوار . . وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان . . هاتف الغواية , وحادي الغواة . . نراه الساعة يلبس مسوح الكهان , أو مسوح الشيطان ! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء , بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
(وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم . وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم .)
الله ! الله ! أما إن الشيطان حقا لشيطان ! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار . .
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور , وأغرى بالعصيان , وزين الكفر , وصدهم عن استماع الدعوة . . هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة , حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن , وبعد فوات الأوان:
(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم !
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له , وليس له عليهم من سلطان , سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم , ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم , فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي !
ثم يؤنبهم , ويدعوهم لتأنيب أنفسهم . يؤنبهم على أن أطاعوه !:
(فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!
ثم يخلي بهم , وينفض يده منهم , وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم , ووسوس لهم أن لا غالب لهم ; فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا , كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي). .
وما بيننا من صلة ولا ولاء !
ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
(إني كفرت بما أشركتمون من قبل)!
ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
إبراهيم
من الاية 23 الى الاية 24
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)
(إن الظالمين لهم عذاب أليم)!
فيا للشيطان ! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه , ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه !
وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة , الأمة الفائزة , الأمة الناجية:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام). .
ويسدل الستار . .
فيا له من مشهد ! ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة !
الدرس السادس:24 تمثيل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
وفي ظل هذه القصة بفصولها جميعا . في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ). .
وفي الآخرة حيث شاهدنا ذلك المشهد الفريد:مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان , مع ذلك الحوار العجيب . .
في ظل تلك القصة ومصائر الأمة الطيبة , والفرقة الخبيثة , يضرب الله مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة , لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة , فتكون خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار:
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة , أصلها ثابت وفرعها في السماء , تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها , ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . .)
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ; ويضل الله الظالمين ; ويفعل الله ما يشاء). .
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة , اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . . هو مشهد مأخوذ من جو السياق , ومن قصة النبيين والمكذبين , ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص . وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح , وهي تؤتي أكلها كل فترة , أكلا جنيا طيبا . . نبيا من الأنبياء . . يثمر إيمانا وخيرا وحيوية . .
ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقا , وأعرض مساحة , وأعمق حقيقة .
إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة . ثابتة سامقة مثمرة . . ثابتة لا تزعزعها الأعاصير , ولا تعصف بها رياح الباطل ; ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية , تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها , لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن . .
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ; قد تهيج وتتعالى وتتشابك ; ويخيل إلى بعض
إبراهيم
من الاية 25 الى الاية 27
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ (27)
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة , وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض , فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب , ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة , ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية , فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال .
إن الخير بخير ! وإن الشر بشر !
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون). .
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض , ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة .
وفي ظل الشجرة الثابتة , التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه , فيرسمها:أصلها ثابت مستقر في الأرض , وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر , قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات .
في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: (ويضل الله الظالمين). . فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق !
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر , الثابتة في الفطر , المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة . ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول ; وبوعده للحق بالنصر في الدنيا , والفوز في الآخرة . . وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة , لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل , ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب .
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم [ والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب ] وبعدهم عن النور الهادي , واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله . . يضلهم وفق سنته التي تنتهي . بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود .
(ويفعل الله ما يشاء). .
بإرادته المطلقة , التي تختار الناموس , فلا تتقيد به ولكنها ترضاه . حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة , ولا يقوم في طريقها عائق ; والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات . وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء , والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات , والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة , تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى . . حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل , وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير , وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار .
تعقيب على الوحدة الأولى
والآن نقف وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية . وهي الحقائق التيأشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني , ونرى أنها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة:
إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير . . إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول , يقوده رسل الله الكرام , داعين بحقيقة واحدة , جاهرين بدعوة واحدة , سائرين على منهج واحد . . كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة , وربوبية واحدة ; وكلهم لا يدعون مع الله أحدا , ولا يتوكل على أحد غيره , ولا يلجأ إلى ملجأ سواه , ولا يعرف له سندا إلا إياه .
وأمر الاعتقاد في الله الواحد - إذن - ليس كما يزعم "علماء الدين المقارن" أنه تطور وترقي من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ; ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد ; وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري , وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد . . .
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ; ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ; ولا في دين واحد من الأديان السماوية . كما يقص علينا الحكيم الخبير .
ولو قال أولئك "العلماء":إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول ; وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين . حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت , بفعل توالي رسالات التوحيد ; وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير . . . لو قال أولئك "العلماء" قولا كهذا لساغ . . ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون ! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير ; وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند الله ; إنما كان اجتهادا من البشر , ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء . . ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ; ويسمى مع ذلك "علما" ينخدع به الكثيرون !
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا "العلم" فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه , ويخترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة ; وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه , ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير . .
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة , وعقيدة واحدة . وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم , وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة , مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان , مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل , فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل !
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا ! . . إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان . . إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ; ولكنها وضع اعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات . .
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ; ومن تأليه غير الله . أو من ربوبية غير الله - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة ; أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى !
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة , وإخلاص الدين لله - أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية , أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية ; وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية . وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص , يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي ; وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد , ومن ناحية القيادة , ومن ناحية الولاء . . الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان . .
وعندما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية ; كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له . . فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام !
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام ! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر . فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة , أو تعدد الأرباب , ومن ثم يدين فيه العباد للعباد . والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ; ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد . .
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي , في أول الأمر وهو في دور التكوين , ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه , وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . . لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح , فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام . . ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام ! . . إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح ; ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد !
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها , فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت , لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام ! . . إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة , وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة . .
(وقال الذين كفروا لرسلهم:لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا). .
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم , أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص . إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم , ويندمجوا في تجمعهم , ويذوبوا في هذا التجمع . أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم . .
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي , ولا أن يذوبوا فيه , ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي . . ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام . . ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا ! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم !!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي , لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه . . وليس في ذلك اختيار . . إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . . هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده ; وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال . وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين ; والفصل بينهم وبين قومهم بالحق , لا يقع ولا يكون , إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم ; وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم . . فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي , ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته . . وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين . . وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله , وهم واعون مقدرون . .
وأخيرا . . نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان , وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان . . جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق , الواثق المطمئن , الرصين المكين:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض , يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم , ويؤخركم إلى أجل مسمى ?). .
. . .(قالت لهم رسلهم:إن نحن إلا بشر مثلكم , ولكن الله يمن على من يشاء من عباده , وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله , وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون). .
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية الموحدة ; ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ; ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم , من وراء الزمان والمكان , ومن وراء الأجناس والأقوام !
ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام , والحق الكامن في كيان هذا الوجود:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ?). .
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ?). .
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق , إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد , وما ذلك على الله بعزيز). .
وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة , والحق الكامن في الوجود كله . ويبدو أنه حق واحد موصول بالله الحق , ثابت وطيد عميق الجذور: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء). . وأن ما عداه هو الباطل الزائل (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار). .
إبراهيم
من الاية 28 الى الاية 30
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
كذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم ; وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده:
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون). .
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد , لا تبلغ الإشارة مداه , ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه . . .
الوحدة الثانية:28 - 52 الموضوع:نعم الله بين الشكر والكفر وإبراهيم الشاكر المنيب مقدمة الوحدة
يبدأ هذا الشوط الثاني من نهاية الشوط الأول , قائما عليه , متناسقا معه , مستمدا منه .
لقد تضمن الشوط الأول رسالة الرسول [ ص ] ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . ورسالة موسى - عليه السلام - لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور , ويذكرهم بأيام الله . فبين لهم وذكرهم بنعمة الله عليهم , وأعلن لهم ما تأذن الله به:لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد . . ثم عرض عليهم قصة النبوات والمكذبين . بدأها ثم توارى عن السياق ; وتابعت القصة أدوارها ومشاهدها حتى انتهت بالكافرين إلى ذلك الموقف , الذي يستمعون فيه من الشيطان عظته البليغة ! حيث لا تنفع العظات !
فالآن يعود السياق إلى المكذبين من قوم محمد [ ص ] بعد ما عرض عليهم ذلك الشريط الطويل - أولئك الذين أنعم الله عليهم - فيما أنعم - برسول يخرجهم من الظلمات إلى النور , ويدعوهم ليغفر الله لهم , فإذا هم يكفرون النعمة , ويردونها , ويستبدلون بها الكفر , يؤثرونه على الرسول وعلى دعوة الإيمان . .
ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بالتعجيب من أمر هؤلاء الذين يبدلون نعمة الله كفرا , ويقودون قومهم إلى دار البوار , كما قاد من قبلهم أتباعهم إلى النار . في قصة الرسل والكفار .
ثم يستطرد إلى بيان نعم الله على البشر في أضخم المشاهد الكونية البارزة 0 ويقدم نموذجا لشكر النعمة:إبراهيم الخليل - بعد أن يأمر الذين آمنوا بلون من ألوان الشكر هو الصلاة والبر بعباد الله - قبل أن يأتي يوم لا تربو فيه الأموال . يوم لا بيع فيه ولا خلال .
فأما الذين كفروا فليسوا بمتروكين عن غفلة ولا إهمال , إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . . وأما وعد الله لرسله فهو واقع مهما يمكر الذين كفروا وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . .
وهكذا يتماسك الشوط الثاني مع الشوط الأول ويتناسق .
الدرس الأول:28 - 31 جريمة الذين بدلوا نعمة الله كفرا وتوجيه للمؤمنين
(ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار , جهنم يصلونها , وبئس القرار ?!)
(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله . قل:تمتعوا فإن مصيركم إلى النار). .
ألم تر إلى هذا الحال العجيب . حال الذين وهبوا نعمة الله , ممثلة في رسول وفي دعوة إلى الإيمان , وفي قيادة إلى المغفرة , وإلى مصير في الجنة . . فإذا هم يتركون هذا كله ويأخذون بدله(كفرا)! أولئك هم السادة القادة من كبراء قومك - مثلهم مثل السادة القادة من كل قوم - وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم , وأنزلوهم بها - كما شاهدنا منذ قليل في الأقوام من قبل ! - وبئس ما أحلوهم من مستقر , وبئس القرار فيها من قرار !
ألم تر إلى تصرف القوم العجيب , بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم - وقد عرضه القرآن عليهم عرض رؤية في مشاهد تلك القصة التي مضى بها الشوط الأول من السورة . عرضه كأنه وقع فعلا . وإنه لواقع . وما يزيد النسق القرآني على أن يعرض ما تقرر وقوعه في صورة الواقع المشهود .
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفرا . وكانت دعوته إلى التوحيد , فتركوها:
(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله). .
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته , ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه , ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه !
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل .
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله , باتخاذ هذه الأنداد من دون الله . فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان . لا في زمن الجاهلية الأولى , ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق , في أية صورة من صور الانحراف , فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم , وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم , ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم , ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله . . عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة . ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى . ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر , تأمر بما لم يأمر الله به , وتنهى عما لم ينه عنه الله . فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله , وفي واقع الحياة !
فيا أيها الرسول(قل)للقومتمتعوا). . تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله . والعاقبة معروفة: (فإن مصيركم إلى النار). .
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد).
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم . . بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . . وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة . وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا . . عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة , ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين , ولتمكن للمؤمنين في الأرض , ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . . ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي , عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته , غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة . .
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين). .
نون العظمة ونون التوكيد . . كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد . لنهلكن المتجبرين المهددين , المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد . .
(ولنسكننكم الأرض من بعدهم). .
لا محاباة ولا جزافا , إنما هي السنة الجارية العادلة:
(ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). .
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي , فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر . وخاف وعيد , فحسب حسابه , واتقى أسبابه , فلم يفسد في الأرض , ولم يظلم في الناس . فهو من ثم يستحق الاستخلاف , ويناله باستحقاق .
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر - فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف , ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف . ودعا كلاهما بالنصر والفتح . . وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت , ومن ورائه عذاب غليظ). .
والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض . ولكنه يقف هذا الموقف , ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها , وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم . يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها , ولا يكاد يسيغه , لقذارته ومرارته , والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات ! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان , ولكنه لا يموت , ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة طه ايه13\\38
» تفسير سورة هود ايه13\\\20
» تفسير سورة يس ايه13====28
» تفسير سورة الرعد ايه 38 الى اخر السورة الشسخ سيد قطب
» تفسير سورة الاعراف ايه149==171 الشسخ سيد قطب
» تفسير سورة هود ايه13\\\20
» تفسير سورة يس ايه13====28
» تفسير سورة الرعد ايه 38 الى اخر السورة الشسخ سيد قطب
» تفسير سورة الاعراف ايه149==171 الشسخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى