منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الاعراف ايه149==171 الشسخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة الاعراف ايه149==171 الشسخ سيد قطب Empty تفسير سورة الاعراف ايه149==171 الشسخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الثلاثاء أبريل 17, 2012 3:18 pm

من الاية 149 الى الاية 149

وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)

بهذه النكسة - الى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهى ! قالوا قولتهم هذه:

(لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين). .

وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم - إلى ذلك الحين - بقية من استعداد صالح . فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد - فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم ! - فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته . . وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح . .

الدرس الخامس:150 - 154 موسى وهارون وعقاب عابدي العجل

كل ذلك وموسى - عليه السلام - بين يدي ربه , في مناجاة وكلام , لا يدري ما أحدث القوم بعده . . إلا أن ينبئه ربه . . وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر:

ولما رجع موسى الى قومه غضبان أسفاً . قال:بئسما خلفتموني من بعدي ! أعجلتم أمر ربكم ? وألقى الألواح , وأخذ برأس أخيه يجره إليه . قال:ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني . فلا تشمت بي الأعداء , ولا تجعلني مع القوم الظالمين . قال:رب اغفر لي ولأخي , وأدخلنا في رحمتك , وأنت أرحم الراحمين . .

لقد عاد موسى الى قومه غضبان أشد الغضب . يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله . . يبدو في قوله لقومه:

(بئسما خلفتموني من بعدي ! أعجلتم أمر ربكم ?). .

ويبدو في فعله إذ يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه .

(وأخذ برأس أخيه يجره إليه !). .

وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية . والنقلة بعيدة:

(بئسما خلفتموني من بعدي). .

تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال , وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار !

(أعجلتم أمر ربكم ?). .

أي استعجلتم قضاءه وعقابه ! أو ربما كان يعني:استعجلتم موعده وميقاته !

(وألقى الألواح , وأخذ برأس أخيه يجره إليه). .

وهي حركة تدل على شدة الانفعال . . فهذه الألواح هي التي كانت تحمل كلمات ربه . وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه . وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه . وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب !

فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة , ليسكن من غضبه , ويكشف له عن طبيعة موقفه , وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم:

(قال:ابن أم , إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني !). .

وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم الى العجل الذهب ; حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس:

ابن أم . . بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة .
من الاية 150 الى الاية 153

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153)

(إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). . بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه .

(فلا تشمت بي الأعداء). . وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة , حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون !

(ولا تجعلني مع القوم الظالمين). .

القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق , فأنا لم أضل ولم أكفر معهم , وأنا بريء منهم !

عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان . وعندئذ يتوجه الى ربه , يطلب المغفرة له ولأخيه , ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين:

(قال:رب اغفر لي ولأخي , وأدخلنا في رحمتك , وأنت أرحم الراحمين). .

وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانه ! ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى , على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني:

(إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . وكذلك نجزي المفترين . والذين عملوا السيئات , ثم تابوا من بعدها وآمنوا , إن ربك من بعدها لغفور رحيم). .

إنه حكم ووعد . . إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . . ذلك مع قيام القاعدة الدائمة:إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته . . وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة ; وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة . . وهكذا كان . فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة ; ويسامحهم الله المرة بعد المرة . حتى انتهوا الى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة:

(وكذلك نجزي المفترين). .

كل المفترين الى يوم الدين . . فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله , من بني إسرائيل , ومن غير بني إسرائيل . .

ووعد الله صادق لا محالة . وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة . وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض ; ويستعلون بنفوذهم على الأمميين - أو كما يقولون عنهم في التلمود:"الجوييم" ! - وأنهم يملكون سلطان المال , وسلطان أجهزة الإعلام ; وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون ; وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية ; والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم . . . إلى آخر ما نراه في هذا الزمان . . فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم , ولا لما كتبه عليهم . . فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر ; ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب . . إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلا لأن الناس لم يعد لهم دين ! ولم يعودوا مسلمين ! . . إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية ; ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الاسلامية ! وهم من ثم يخيبون ويفشلون ; وتأكلهم إسرائيل ! غير أن هذه حال لن تدوم ! إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد , والمنهج الوحيد , والراية الوحيدة , التي غلبوا بها ألف عام , والتي بها يغلبون , وبغيرها يغلبون ! إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة "الاسلامية " ! والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض "الاسلامية " . . ولكن هذا كله لن يدوم . . ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة . . وسيفيء أخلاف المسلمين
من الاية 154 الى الاية 154

وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

إلى سلاح أسلافهم المسلمين . . ومن يدري فقد تصحو البشرية كلها يوماً على طغيان اليهود ! لتحقق وعيد الله لهم , وتردهم إلى الذلة التي كتبها الله عليهم . . فإن لم تصح البشرية فسيصحوا أخلاف المسلمين . . هذا عندنا يقين . .

الدرس السادس:154 موسى يأخذ الألواح

وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله , تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد:

(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح , وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون). .

والتعبير القرآني يشخص الغضب , فكأنما هو حي , وكأنما هو مسلط على موسى , يدفعه ويحركه . . حتى إذا(سكت)عنه , وتركه لشأنه ! عاد موسى إلى نفسه , فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه . . ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى , وأن فيها رحمة , لمن يخشون ربهم ويرهبونه ; فتتفتح قلوبهم للهدى , وينالون به الرحمة . . والهدى ذاته رحمة . فليس أشقى من القلب الضال , الذي لا يجد النور . وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين . . ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى ; وتوقظها من الغفلة , وتهيئها للاستجابة والاستقامة . . إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة . ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب ?

الدرس السابع:155 - 157 موسى يستغفر لقومه بعد الرجفة

ويمضي السياق بالقصة , فإذا نحن أمام مشهد جديد . المشهد الثاني عشر . مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه:

واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا . فلما أخذتهم الرجفة قال:رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ? إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا , وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة , إنا هدنا إليك . قال:عذابي أصيب به من أشاء , ورحمتي وسعت كل شيء , فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل , يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث , ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . .

وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات . وربما كان لإعلان التوبة , وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة - وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو:أن يقتلوا أنفسهم , فيقتل المطيع منهم من عصى ; وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك ; وقبل كفارتهم - وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم . أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم , فصيغة العبارة: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً . . لميقاتنا). تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار . .

ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين ? لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا . ذلك أنهم - كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة , ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح . . وهي شاهدة
من الاية 155 الى الاية 155

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

بطبيعة بني إسرائيل , التي تشمل خيارهم وشرارهم , ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار . وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار !

فأما موسى - عليه السلام - فقد توجه الى ربه , يتوسل اليه , ويطلب المغفرة والرحمة , ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة:

(فلما أخذتهم الرجفة قال:رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي). .

فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد , يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه ; وأن يرد عنهم فتنته , وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم:

(أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ?). .

وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام . زيادة في طلب استبعاد الهلاك . . أي:رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا .

(إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء). .

يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع ; ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء ; فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين ! . وهذا هو الشأن في كل فتنة:أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين , ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء:

(أنت ولينا). .

فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك , ونيل مغفرتك ورحمتك:

(فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين). .

(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة , إنا هدنا إليك).

رجعنا إليك , والتجأنا إلى حماك , وطلبنا نصرتك .

وهكذا قدم موسى - عليه السلام - لطلب المغفرة والرحمة , بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه , وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه . فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم ; ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام .

ثم يجيئه الجواب:

(قال:عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء). .

تقريراً لطلاقة المشيئة , التي تضع الناموس اختياراً , وتجريه اختياراً:وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً , لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته , لأنه هكذا أراد . . فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب . . وبذلك تجري مشيئته . . أما رحمته فقد وسعت كل شيء ; وهي تنال من يستحقها عنده كذلك . . وبذلك تجري مشيئته , ولا تجري مشيئته - سبحانه - بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل , إذ يطلع
من الاية 156 الى الاية 157

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء . . بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه , والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله !

(فسأكتبها للذين يتقون , ويؤتون الزكاة , والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ; يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات , ويحرم عليهم الخبائث , ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون).

وإنه لنبأ عظيم , يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي , على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد . جاءهم الخبر اليقين ببعثه , وبصفاته , وبمنهج رسالته , وبخصائص ملته . فهو (النبي الأمي), وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر , وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث , وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم , فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم , ويخرجون زكاة أموالهم , ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ; ويعظمونه ويوقرونه , وينصرونه ويؤيدونه , ويتبعون النور الهادي الذي معه (أولئك هم المفلحون). .

وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل - على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه , وعن حامل رايته , وعن طريق أتباعه , وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة , بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .

وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير , إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين !

إنها الجريمة عن علم وعن بينة ! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية ; وأنهم أصروا عليها ودأبوا ; وما يزالون يصرون ويدأبون !

والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم !

والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة , وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة , يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود !

ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته ; وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة !

ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل
من الاية 158 الى الاية 158

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ; ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد [ المستقلة ! ] لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر "الغيبية " لأنها "علمية ! " و "تطوّر" الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في "حرية ! " , و "تطوّر" كذلك الفقه الإسلامي , وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره . كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية !!

إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين , الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !

الدرس الثامن:158 التفات لتقرير عموم رسالة محمد [ ص ]

وقبل أن يمضي السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة , يقف عند هذا البلاغ المبكر , يوجه الخطاب إلى النبي الأمي [ ص ] يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً , تصديقاً لوعد الله القديم:

(قل:يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً , الذي له ملك السماوات والأرض , لا إله إلا هو يحيي ويميت . فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته , واتبعوه لعلكم تهتدون). .

إنها الرسالة الأخيرة , فهي الرسالة الشاملة , التي لا تختص بقوم ولا أرض ولاجيل . . ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة , تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة . وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية . حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها , قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها , وجاءت للبشر جميعاً , لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان . وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً . ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد الله - إلا تعليم الله . فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس ! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً:

(قل:يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً). .

وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله [ ص ] أن يواجه برسالته الناس جميعاً , هي آية مكية في سورة مكية . . وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب , الذين يزعمون أن محمداً [ ص ] لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها , وأنه إنمابدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً , ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب , ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها . . كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف ! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله . وما يزالون ماضين فيها !

وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله . وأن يكون "المستشرقون" الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله . . إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم , المحاربين لهم ولعقيدتهم ,أساتذة لهم , يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه , ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه , ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم "مثقفون ! " . .

ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول [ ص ] أن يعلن رسالته للناس جميعاً . فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعا بربهم الحق سبحانه:

(الذي له ملك السماوات والأرض , لا إله إلا هو . يحيي ويميت). .

إنه [ ص ] رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله - وهم من هذا الوجود - والذي يتفرد بالألوهية وحده , فالكل له عبيد . والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت . .

والذي يملك الوجود كله , والذي له الألوهية على الخلائق وحده , والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً . هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه , الذي يبلغه إليهم رسوله . . فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم , لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له , وطاعتهم لرسوله:

(فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته , واتبعوه لعلكم تهتدون). .

وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات:

إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام . . ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض , لا إله إلا هو , يحيي ويميت). . فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة . كما سبقه التعريف برسالة النبي [ ص ] إلى الناس جميعاً .

ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه - يؤمن بالله وكلماته . . ومع أن هذه بديهية , إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها . فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه , ووضوحه في نفسه , ويقينه منه . لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه (الذي يؤمن بالله وكلماته). . وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه . .

ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه . وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه , واتباعه كذلك في سنته وعمله . وهو ما يقرره قول الله سبحانه: واتبعوه لعلكم تهتدون . . فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله [ ص ] إلا باتباعه فيه . ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي . . وهو الإسلام . .

إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة . . إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير . . كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس . . إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله [ ص ] فيما يبلغه عن ربه , وفيما يشرعه ويسنه . . والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب . ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب . ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله . ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله . . فهذا هو دين الله . . وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة: (واتبعوه لعلكم تهتدون)بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى , لكان في قوله: (فآمنوا بالله ورسوله)الكفاية !
من الاية 159 الى الاية 160

وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

الدرس التاسع:159 عصيان بني إسرائيل وإشارة إلى نبع الماء من الحجر

ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل . . ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى - عليه السلام - وابتهالاته . ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة , فعادوا إلى قومهم مؤمنين . وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة , يقرر حقيقة عن قوم موسى . . أنهم لم يكونوا جميعاً ضالين:

(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). .

هكذا كانوا على عهد موسى ; وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى . . ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام , لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله [ ص ] وفي أولهم الصحابي الجليل:عبدالله بن سلام رضي الله عنه . الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي , وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام .

وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة:

(وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً ; وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه:أن اضرب بعصاك الحجر , فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم . وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). .

إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه - بعد أن كفروا فعبدوا العجل , ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله , فتاب عليهم . وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة , فأخذتهم الرجفة , ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم . . تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة - أي جماعة كبيرة - ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب - وهو إسرائيل - وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية:

(وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً). .

وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم , فلا يعتدي بعضهم على بعض .

(وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه:أن اضرب بعصاك الحجر , فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . .)

وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة ; وإنزال المن - وهو نوع من العسل البري - والسلوى , وهو طائر السماني ; وتيسيره لهم ضماناً لطعامهم بعد ضمان شرابهم:

(وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى). .

وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم , حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم:

(كلوا من طيبات ما رزقناكم). .

والرعاية واضحة في هذا كله ; ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والإستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق:من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى . ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة . ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى:

(وما ظلمونا , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). .

من الاية 161 الى الاية 170

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162) واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم ; بالمعصية عن أمر الله والإلتواء عن طريقه . . وما يبلغون بهذا الإلتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله - سبحانه - فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين . وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته ; وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته . إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والإلتواء , في الدنيا وفي الآخرة سواء .

الدرس العاشر:161 - 162 تبديل بني إسرائيل لأوامر الله

والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم ; وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق:

وإذ قيل لهم:اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا:حطة , وأدخلوا الباب سجداً , نغفر لكم خطيئاتكم , سنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم , فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون . .

لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل ; وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل . ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم . . ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق ! ها هم أولاء يعصون الأمر , ويبدلون القول ! ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها - أي مدينة كبيرة - لا يعين القرآن اسمها - لأنه لايزيد في مغزى القصة شيئاً - وتباح لهم خيراتها جميعاً , على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها ; وعلى أن يدخلوا بابها سجداً , إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء - وذلك كما دخل رسول الله [ ص ] مكة في عام الفتح ساجداً على ظهر دابته - وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم . . فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها , ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها . . لماذا ? تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة:

(فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم). .

عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذاباً . . السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام ! . .

(فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون). .

وهكذا كان ظلم فريق منهم - أي كفرهم - ظلماً لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله . .

ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة . لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه . فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله , وتحقيق النذر , ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة .

الدرس الحادي عشر:163 قصة أصحاب السبت

ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة . . وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها ! ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه , لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع:

واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر , إذ يعدون في السبت , إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون . وإذ قالت أمة منهم:لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ? قالوا:معذرة إلى ربكم , ولعلهم يتقون . فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء , وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم:كونوا قردة خاسئين . وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب , إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم . .
من الاية 171 الى الاية 171

وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل , إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله [ ص ] في المدينة . . والآيات من هنا إلى قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة)آيات مدنية . نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها ; وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع , تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى . .

يأمر الله سبحانه رسوله [ ص ] أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم . وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال ; ويذكرهم بعصيانهم القديم , وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا ; وما جره عليهم جميعاً من كتابة الذل عليهم والغضب أبداً . . اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي , فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .

ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر ; فهي معروفة للمخاطبين ! فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية . . وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة ; ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش , فجعل لهم السبت . . ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع ; وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع . . وكان ذلك ضرورياً لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً ; ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية , لتعتاد الصمود والثبات . فضلاً على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ; ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض . . وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء . . فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى ! ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض . . إنما يختلف شكل الابتلاء , ولا تتغير فحواه !

ولم يصمد فريق من بني إسرائيل - في هذه المرة - للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم . . لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل , قريبة المأخذ , سهلة الصيد . فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم ! فإذا مضى السبت , وجاءتهم أيام الحل . لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة , كما كانوا يجدونها يوم الحرم ! . . وهذا ما أمر رسول الله [ ص ] أن يذكرهم به ; ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا:

(واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر . إذ يعدون في السبت . إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون).

فأما كيف وقع لهم هذا , وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة , وتداورهم هذه المداورة . . فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عندما يشاء الله . . والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم "قوانين الطبيعة " ! والأمر في التصور الإسلامي - وفي الواقع - ليس على هذا النحو . . إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون , وأودعه القوانين التي يسير عليها بمشيئته الطليقة . ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها . . لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة . . وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون . . وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين ; فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين . . فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفاً لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر . . ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجريفيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة . فهي لا تجري جرياناً آلياً لا تدخل لقدر الله فيه . . وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشأ الله أن تجري بغير ذلك . . وعلى أساس أن كل ما يقع - سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها - إنما يقع بقدر من الله خاص , فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر . . ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة - كما يظن الذين لا يعلمون ! - ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير !

على أية حال , لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل . . فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء , فتتهاوى عزائمهم , وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم , فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت ! وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب , وتقل التقوى , ويصبح التعامل مع مجرد النصوص , ويراد التفلت من ظاهر النصوص ! . . إن القانون لا تحرسه نصوصه , ولا يحميه حراسه . إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته , فتحرس هي القانون وتحميه . وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه ! ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية ! ولن تستطيع الدولة - كائناً ما كان الإرهاب فيها - أن تضع على رأس كل فرد حارساً يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته ; ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس , ومراقبتهم له في السر والعلن . .

من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية . وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله . . ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها . وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها !

وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت , الذي حرم عليهم الصيد فيه . . وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوّطون عليه في يوم السبت ; حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه ; وقالوا:إنهم لم يصطادوه في السبت , فقد كان في الماء - وراء الحواجيز - غير مصيد !

وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله ! فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله ! وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال !

بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر:ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة , وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه ? وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب ?

(وإذ قالت أمة منهم:لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ?).

فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم , ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم . بعدما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد ; بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله .

(قالوا:معذرة إلى ربكم , ولعلهم يتقون). .

فهو واجب لله نؤديه:واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والتخويف من انتهاك الحرمات , لنبلغإلى الله عذرنا , ويعلم أن قد أدينا واجبنا . ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى .

وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق . . أو ثلاث أمم . . فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة , وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث , مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة ! فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام , إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة !

وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم:أمة عاصية محتالة . وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة . وأمة تدع المنكر وأهله , وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي . . وهي طرائق متعددة من التصور والحركة , تجعل الفرق الثلاث أمماً ثلاثاً !

فلما لم يجد النصح , ولم تنفع العظة , وسدر السادرون في غيهم , حقت كلمة الله , وتحققت نذره . فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء . وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه . فأما الفرقة الثالثة - أوالأمة الثالثة - فقد سكت النص عنها . . ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي , ووقفت عند حدود الإنكار السلبي . فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب:

فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء , وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم:كونوا قردة خاسئين . .

لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين , جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر , الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق ; وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر - كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية ! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم , حين تنازلوا عن أخص خصائصها - وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة - وانتكسوا إلى عالم "الحيوان" حين تخلوا عن خصائص "الإنسان" . فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان !

أما كيف صاروا قردة ? وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة ? هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه ? أم تناسلوا وهم قردة ? . . . إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير . . . فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم ; وليس وراءه عن رسول الله [ ص ] شيء . . فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه .

لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء ; كما يجري بها التحوير والتغيير . . كلمة "كن" .

(قلنا لهم:كونوا قردة خاسئين). .

فكانوا قردة مهينين . كما جرى القول الذي لا راد له ; ولا يعجز قائله عن شيء سبحانه !

ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع - إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه - بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي ; وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه:

(وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . إن ربك لسريع العقاب , وإنه لغفور رحيم). .

فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره ; فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب . والذي سيظل نافذاً في عمومه , فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى