تفسير الرعد ايه 11 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير الرعد ايه 11 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
من الاية 11 الى الاية 12
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
الله , أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ; لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء:
(وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال). .
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم , وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم . .
الدرس الرابع:12 - 16 خضوع المخلوقات لله وإثبات الوحدانية وذم كفر الكافرين
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر , موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه . واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس , متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع . وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق . وتظل النفس فيه في ترقب وحذر , وفي تأثر وانفعال:
هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا . وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء , وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال . له دعوة الحق , والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه , وما هو ببالغه , وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها , وظلالهم , بالغدو والآصال . قل:من رب السماوات والأرض ? قل:الله . قل:أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل:هل يستوي الأعمى والبصير . أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل:الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار . .
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة , وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان . وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس - سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئا ! والسياق يحشدها هنا ; ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع , والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب . ويضم إليها هيئة أخرى:هيئة ملهوف يتطلب الماء , باسطا كفيه ليبلغه , فاتحا فاه يتلقف منه قطرة . .
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا . إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد , وتلفه في جو من الرهبة والترقب , والخوف والطمع , والضراعة والارتجاف , في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر , نفيا للشركاء المدعاة , وإرهابا من عقبى الشرك بالله .
(هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا). .
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية , فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص , وجعل لها خصائصها وظواهرها . ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه , فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب , ولأنه قد يتحول إلى صاعقة , ولأنه قد يكون نذيرا بسيل مدمر كما علمتكم تجاربكم . وتطمعون في الخير من ورائه , فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات , المجري للأنهار .
وينشيء السحاب الثقال . .
الرعد
من الاية 13 الى الاية 13
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
وهو كذلك الذي ينشيء السحاب - والسحاب اسم جنس واحدته سحابة - الثقال بالماء . فوفق ناموسه في خلقه هذا الكون وتركيبه تتكون السحب , وتهطل الأمطار . ولو لم يجعل خلفة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار . ومعرفة كيف تتكون السحب , وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها , ولا شيئا من دلالتها . فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله . ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله ! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه , ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه !
والرعد . . الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد . . هذا الصوت المقرقع المدوي . إنه أثر من آثار الناموس الكوني , الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون , فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام . كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان . . وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا , ويكون الرعد(يسبح)فعلا بحمد الله . فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل !
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق , وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي . وفيه الملائكة تسبح من خيفته , وفيه دعاء لله , ودعاء للشركاء . وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . . ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء . .
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال . . بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء . والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ; والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم , لعلمه أن لا خير في إمهالهم , فاستحقوا الهلاك . .
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق , وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه . . في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال:
(وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)!
وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق , الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل , ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته [ وللخوف إيقاعه في هذا المجال ] فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ?!
وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه . ودعوة الله هي وحدها الحق ; وما عداها باطل ذاهب , لا ينال صاحبه منه إلا العناء:
(له دعوة الحق , والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه , وما دعاء الكافرين إلا في ضلال). .
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف . . فدعوة واحدة هي الحق , وهي التي تحق , وهي التي تستجاب .
من الاية 14 الى الاية 15
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونة ورحمته وهداه . وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء . . ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء ? انظروا هذا واحد منهم . ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه . وفمه مفتوح يلهث بالدعاء . يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه . وما هو ببالغه . بعد الجهد واللهفة والعناء . وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء:
(وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء ? في جو البرق والرعد والسحاب الثقال , التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار !
وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله , ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء , إذا كل من في الكون يعنو لله . وكلهم محكومون بإرادته , خاضعون لسنته , مسيرون وفق ناموسه . المؤمن منهم يخضع طاعة وإيمانا , وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما , فما يملك أحد أن يخرج على إرادة الله , ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة:
(ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها , وظلالهم , بالغدو والآصال). .
ولأن الجو جو عبادة ودعاء , فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو أقصى رمز للعبودية , ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض , ظلالهم كذلك . ظلالهم بالغدو في الصباح , وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال . يضم هذه الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال . وهي في ذاتها حقيقة , فالظلال تبع للشخوص . ثم تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد , فإذا هو عجب . وإذا السجود مزدوج:شخوص وظلال ! وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء . كلها تسجد لله . . وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله !
وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية . فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم , وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء:
(قل:من رب السماوات والأرض ? قل:الله . قل:أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل:الله خالق كل شيء , وهو الواحد القهار). .
سلهم - وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته - رضي أم كره -: (من رب السماوات والأرض ?). . وهو سؤال لا ليجيبوا عنه , فقد أجاب السياق من قبل . إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا: قل:الله . . ثم سلهم: (أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ?). . سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء . سلهم والقضية واضحة , والفرق بين الحق والباطل واضح:وضوح الفارق بين الأعمى والبصير , وبين الظلمات والنور . وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين ; فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض . وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين , فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين .
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله , خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله . فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك , فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء ? فهم معذورون إذن إن
من الاية 16 الى الاية 16
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
كان الأمر كذلك , في اتخاذ الشركاء , فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق , التي بها يستحق المعبود العبادة ; وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه !
وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله , ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا , وما هي بخالقة شيئا , إنما هي مخلوقة . وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة . وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير . .
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع , حيث لا معارضة ولا جدال , بعد هذا السؤال:
(قل:الله خالق كل شيء . وهو الواحد القهار). .
فهي الوحدانية في الخلق , وهي الوحدانية في القهر - أقصى درجات السلطان - وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله ; وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء . . وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع . . فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول , إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات , حتى يأخذه الهلاك ?!
وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء . بين (خوفا وطمعا)وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال - و(الثقال)هنا , بعد إشارتها إلى الماء , تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف - وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته . وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع . وبين السماوات والأرض , وسجود من فيهن طوعا وكرها . وبين الشخوص والظلال . وبين الغدو والآصال . وبين الأعمى والبصير . وبين الظلمات والنور . وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا , ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . . . وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب .
الدرس الخامس:17 - 18 ضرب الأمثال للحق والباطل وافتراق مصير المحسنين عن مصير الكافرين
ثم نمضي مع السياق . يضرب مثلا للحق والباطل . للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح . للخير الهاديء والشر المتنفج . والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار . ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء . وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق .
أنزل من السماء ماء , فسالت أودية بقدرها , فاحتمل السيل زبدا رابيا:ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله . كذلك يضرب ا لله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء , وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . .
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ; ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام , الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . . وأن تسيل هذه الأودية بقدرها , كل بحسبه , وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء . . وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . . وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية , وهو يلم في طريقه غثاء , فيطفو على وجهه في صورة الزبد
من الاية 17 الى الاية 18
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة , أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص , فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث , ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح , ينفع الناس . (كذلك يضرب الله الأمثال)وكذلك يقرر مصائر الدعوات , ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار , المدبر للكون والحياة , العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
فمن استجاب لله فله الحسنى . والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به . وما هو بمفتد , إنما هو الحساب الذي يسوء , وإنما هي جهنم لهم مهاد . ويا لسوء المهاد !:
(للذين استجابوا لربهم الحسنى , والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به , أولئك لهم سوء الحساب , ومأواهم جهنم . وبئس المهاد). .
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون . وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب . .
ومع جهنم وبئس المهاد . . على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء . .
الوحدة الثانية:19 - 43 الموضوع:تقرير حقائق حول الوحدانية والوحي والبعث
من الاية 19 الى الاية 20
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
مقدمة الوحدة بعد المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب , وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول , يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية , وتصويرية دقيقة رفيقة , حول قضية الوحي والرسالة , وقضية التوحيد والشركاء , ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد . . وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة .
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر , فالأول علم والثاني عمى . وفي طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء . يتلوها مشهد من مشاهد القيامة , وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين . فلمسة في بسط الرزق وتقديره وردهما إلى الله . فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله . فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى . فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم أو تحل قريبا من دارهم . فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة . فلمسة من مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين . يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول [ ص ] بتركهم للمصير المعلوم !
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول , تحضر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني , وهي على استعداد وتفتح لتلقيها ; وأن شطري السورة متكاملان ; وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة .
الدرس الأول 19 - 26 صفات المؤمنين أولي الألباب مقابل صفات الكفار والعمي
والقضية الأولى هي قضية الوحي . وقد أثيرت في صدر السورة . وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد . .
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . .
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا , إنما المقابل هو الأعمى ! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان:مبصرون فهم يعلمون , وعمي فهم لا يعلمون ! والعمى عمى البصيرة , وانطماس المدارك , واستغلال القلوب , وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح , وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
إنما يتذكر أولو الألباب . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر , وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
من الاية 21 الى الاية 21
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21)
(الذين يوفون بعهد الله , ولا ينقضون الميثاق). .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد , وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود , ووحدة الخالق صاحب الإرادة , وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه , ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه , مع العمل الصالح والسلوك القويم , والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود , لأن رعايتها فريضة ; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس , لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب). .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة , والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا , ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل , لأن هذا التفصيل يطول , وهو غير مقصود , إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي , والطاعة المطلقة التي لا تتفلت , والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
(ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب). .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم). .
والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . . . الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبرعلى النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . . كله ابتغاء وجه ربهم , لا تحرجا من أن يقول الناس:جذعوا . ولا تجملا ليقول الناس:صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعا لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله , والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
وأقاموا الصلاة . .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
الله , أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ; لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء:
(وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال). .
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم , وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم . .
الدرس الرابع:12 - 16 خضوع المخلوقات لله وإثبات الوحدانية وذم كفر الكافرين
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر , موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه . واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس , متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع . وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق . وتظل النفس فيه في ترقب وحذر , وفي تأثر وانفعال:
هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا . وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء , وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال . له دعوة الحق , والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه , وما هو ببالغه , وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها , وظلالهم , بالغدو والآصال . قل:من رب السماوات والأرض ? قل:الله . قل:أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل:هل يستوي الأعمى والبصير . أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل:الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار . .
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة , وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان . وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس - سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئا ! والسياق يحشدها هنا ; ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع , والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب . ويضم إليها هيئة أخرى:هيئة ملهوف يتطلب الماء , باسطا كفيه ليبلغه , فاتحا فاه يتلقف منه قطرة . .
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا . إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد , وتلفه في جو من الرهبة والترقب , والخوف والطمع , والضراعة والارتجاف , في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر , نفيا للشركاء المدعاة , وإرهابا من عقبى الشرك بالله .
(هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا). .
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية , فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص , وجعل لها خصائصها وظواهرها . ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه , فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب , ولأنه قد يتحول إلى صاعقة , ولأنه قد يكون نذيرا بسيل مدمر كما علمتكم تجاربكم . وتطمعون في الخير من ورائه , فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات , المجري للأنهار .
وينشيء السحاب الثقال . .
الرعد
من الاية 13 الى الاية 13
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
وهو كذلك الذي ينشيء السحاب - والسحاب اسم جنس واحدته سحابة - الثقال بالماء . فوفق ناموسه في خلقه هذا الكون وتركيبه تتكون السحب , وتهطل الأمطار . ولو لم يجعل خلفة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار . ومعرفة كيف تتكون السحب , وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها , ولا شيئا من دلالتها . فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله . ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله ! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه , ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه !
والرعد . . الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد . . هذا الصوت المقرقع المدوي . إنه أثر من آثار الناموس الكوني , الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون , فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام . كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان . . وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا , ويكون الرعد(يسبح)فعلا بحمد الله . فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل !
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق , وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي . وفيه الملائكة تسبح من خيفته , وفيه دعاء لله , ودعاء للشركاء . وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . . ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء . .
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال . . بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء . والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ; والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم , لعلمه أن لا خير في إمهالهم , فاستحقوا الهلاك . .
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق , وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه . . في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال:
(وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)!
وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق , الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل , ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته [ وللخوف إيقاعه في هذا المجال ] فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ?!
وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه . ودعوة الله هي وحدها الحق ; وما عداها باطل ذاهب , لا ينال صاحبه منه إلا العناء:
(له دعوة الحق , والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه , وما دعاء الكافرين إلا في ضلال). .
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف . . فدعوة واحدة هي الحق , وهي التي تحق , وهي التي تستجاب .
من الاية 14 الى الاية 15
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونة ورحمته وهداه . وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء . . ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء ? انظروا هذا واحد منهم . ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه . وفمه مفتوح يلهث بالدعاء . يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه . وما هو ببالغه . بعد الجهد واللهفة والعناء . وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء:
(وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء ? في جو البرق والرعد والسحاب الثقال , التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار !
وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله , ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء , إذا كل من في الكون يعنو لله . وكلهم محكومون بإرادته , خاضعون لسنته , مسيرون وفق ناموسه . المؤمن منهم يخضع طاعة وإيمانا , وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما , فما يملك أحد أن يخرج على إرادة الله , ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة:
(ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها , وظلالهم , بالغدو والآصال). .
ولأن الجو جو عبادة ودعاء , فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو أقصى رمز للعبودية , ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض , ظلالهم كذلك . ظلالهم بالغدو في الصباح , وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال . يضم هذه الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال . وهي في ذاتها حقيقة , فالظلال تبع للشخوص . ثم تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد , فإذا هو عجب . وإذا السجود مزدوج:شخوص وظلال ! وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء . كلها تسجد لله . . وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله !
وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية . فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم , وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء:
(قل:من رب السماوات والأرض ? قل:الله . قل:أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل:الله خالق كل شيء , وهو الواحد القهار). .
سلهم - وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته - رضي أم كره -: (من رب السماوات والأرض ?). . وهو سؤال لا ليجيبوا عنه , فقد أجاب السياق من قبل . إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا: قل:الله . . ثم سلهم: (أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ?). . سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء . سلهم والقضية واضحة , والفرق بين الحق والباطل واضح:وضوح الفارق بين الأعمى والبصير , وبين الظلمات والنور . وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين ; فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض . وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين , فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين .
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله , خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله . فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك , فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء ? فهم معذورون إذن إن
من الاية 16 الى الاية 16
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
كان الأمر كذلك , في اتخاذ الشركاء , فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق , التي بها يستحق المعبود العبادة ; وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه !
وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله , ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا , وما هي بخالقة شيئا , إنما هي مخلوقة . وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة . وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير . .
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع , حيث لا معارضة ولا جدال , بعد هذا السؤال:
(قل:الله خالق كل شيء . وهو الواحد القهار). .
فهي الوحدانية في الخلق , وهي الوحدانية في القهر - أقصى درجات السلطان - وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله ; وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء . . وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع . . فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول , إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات , حتى يأخذه الهلاك ?!
وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء . بين (خوفا وطمعا)وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال - و(الثقال)هنا , بعد إشارتها إلى الماء , تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف - وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته . وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع . وبين السماوات والأرض , وسجود من فيهن طوعا وكرها . وبين الشخوص والظلال . وبين الغدو والآصال . وبين الأعمى والبصير . وبين الظلمات والنور . وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا , ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . . . وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب .
الدرس الخامس:17 - 18 ضرب الأمثال للحق والباطل وافتراق مصير المحسنين عن مصير الكافرين
ثم نمضي مع السياق . يضرب مثلا للحق والباطل . للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح . للخير الهاديء والشر المتنفج . والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار . ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء . وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق .
أنزل من السماء ماء , فسالت أودية بقدرها , فاحتمل السيل زبدا رابيا:ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله . كذلك يضرب ا لله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء , وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . .
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ; ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام , الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . . وأن تسيل هذه الأودية بقدرها , كل بحسبه , وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء . . وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . . وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية , وهو يلم في طريقه غثاء , فيطفو على وجهه في صورة الزبد
من الاية 17 الى الاية 18
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة , أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص , فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث , ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح , ينفع الناس . (كذلك يضرب الله الأمثال)وكذلك يقرر مصائر الدعوات , ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار , المدبر للكون والحياة , العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
فمن استجاب لله فله الحسنى . والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به . وما هو بمفتد , إنما هو الحساب الذي يسوء , وإنما هي جهنم لهم مهاد . ويا لسوء المهاد !:
(للذين استجابوا لربهم الحسنى , والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به , أولئك لهم سوء الحساب , ومأواهم جهنم . وبئس المهاد). .
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون . وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب . .
ومع جهنم وبئس المهاد . . على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء . .
الوحدة الثانية:19 - 43 الموضوع:تقرير حقائق حول الوحدانية والوحي والبعث
من الاية 19 الى الاية 20
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
مقدمة الوحدة بعد المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب , وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول , يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية , وتصويرية دقيقة رفيقة , حول قضية الوحي والرسالة , وقضية التوحيد والشركاء , ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد . . وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة .
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر , فالأول علم والثاني عمى . وفي طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء . يتلوها مشهد من مشاهد القيامة , وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين . فلمسة في بسط الرزق وتقديره وردهما إلى الله . فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله . فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى . فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم أو تحل قريبا من دارهم . فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة . فلمسة من مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين . يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول [ ص ] بتركهم للمصير المعلوم !
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول , تحضر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني , وهي على استعداد وتفتح لتلقيها ; وأن شطري السورة متكاملان ; وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة .
الدرس الأول 19 - 26 صفات المؤمنين أولي الألباب مقابل صفات الكفار والعمي
والقضية الأولى هي قضية الوحي . وقد أثيرت في صدر السورة . وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد . .
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . .
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا , إنما المقابل هو الأعمى ! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان:مبصرون فهم يعلمون , وعمي فهم لا يعلمون ! والعمى عمى البصيرة , وانطماس المدارك , واستغلال القلوب , وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح , وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
إنما يتذكر أولو الألباب . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر , وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
من الاية 21 الى الاية 21
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21)
(الذين يوفون بعهد الله , ولا ينقضون الميثاق). .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد , وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود , ووحدة الخالق صاحب الإرادة , وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه , ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه , مع العمل الصالح والسلوك القويم , والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود , لأن رعايتها فريضة ; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس , لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب). .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة , والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا , ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل , لأن هذا التفصيل يطول , وهو غير مقصود , إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي , والطاعة المطلقة التي لا تتفلت , والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
(ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب). .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم). .
والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . . . الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبرعلى النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . . كله ابتغاء وجه ربهم , لا تحرجا من أن يقول الناس:جذعوا . ولا تجملا ليقول الناس:صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعا لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله , والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
وأقاموا الصلاة . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الرعد ايه رقم 1 الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرعد ايه22 الى 37 الشيخ سيد قطب
» تفسير الرعد ايه 6\\\\14
» تفسير الرعد ايه 14\\\\19
» تفسير سورة الرعد ايه رفم 1\\\6
» تفسير سورة الرعد ايه22 الى 37 الشيخ سيد قطب
» تفسير الرعد ايه 6\\\\14
» تفسير الرعد ايه 14\\\\19
» تفسير سورة الرعد ايه رفم 1\\\6
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى