تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
يونس
من الاية 74 الى الاية 77
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه:
(قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة , التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض , هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .
إنها العلة القديمة الجديدة , التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات , وانتحال شتى المعاذير , ورمي الدعاة بأشنع التهم , والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي "الكبرياء في الأرض" وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير , بكل ما فيها من زيف , وبكل ما فيها من فساد , وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة , واستنارة العقول بالنور الجديد , خطر على القيم الموروثة , وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير , وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام ! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين ; وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها , وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . .
ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير ; وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم , والانقلاب على سلطانهم , والانقضاض على ملكهم , والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان !
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين !
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - [ ص ] - من صدق وسمو , وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة , القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض , فقالوا متبجحين:
وما نحن لك بمؤمنين !
الدرس الرابع:79 - 82 المباراة بين موسى والسحرة وإيمانهم
وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر , وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها , بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها , ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً . وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معتقداتهم الموروثة , وعلى سلطانهم في الأرض , وهو الأساس . . ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة , بعدما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه:
(وقال فرعون:ائتوني بكل ساحر عليم . فلما جاء السحرة قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى:ما جئتم به السحر , إن اللّه سيبطله , إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين , ويحق اللّه الحق بكلماته ولو كره المجرمون). .
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة , لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى: (ما جئتم به السحر). . رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء , لأنه ليس أكثر من تخييل
من الاية 78 الى الاية 80
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80)
وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول , لا تصحبه دعوة , ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات اللّه التي جاءهم بها حقاً من عند اللّه . . وفي قوله:
(إن اللّه سيبطله). .
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه , المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح:
(إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين). .
الذين يضللون الناس بالسحر , أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال:
(ويحق اللّه الحق بكلماته). .
كلماته التكوينية (كن فيكون). .
وهي تعبير عن توجه المشيئة . أو كلماته التي هي آياته وبيناته:
(ولو كره المجرمون). .
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة اللّه , ولا تقف دون آياته .
وقد كان . . وبطل السحر وعلا الحق . . ولكن السياق يختصر المشاهد هنا ; لأنها ليست مقصودة في هذا المجال .
الدرس الخامس:83 - 87 تعذيب آل فرعون لمن آمنوا بموسى
ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم ! . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .
(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه , على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . وإن فرعون لعال في الأرض . وإنه لمن المسرفين . وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا:على اللّه توكلنا , ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين , ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .
ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار , لا مجموعة الشعب الإسرائيلي . وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى , خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب , والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل . وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت , كما كان مسرفاً في الطغيان , لا يقف عند حد , ولا يتحرج من إجراء قاس .
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف , ويطمئن القلوب , ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه:
(وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين). .
فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت . وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على اللّه مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في اللّه , ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد . .
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم:
(فقالوا:على اللّه توكلنا). .
من الاية 81 الى الاية 84
فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84)
ومن ثم توجهوا إلى اللّه بالدعاء:
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين). .
والدعاء بألا يجعلهم اللّه فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم , فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين باللّه دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون ! ويكون هذا استدراجاً لهم من اللّه وفتنة ليلجوا في ضلالهم . فالمؤمنون يدعون اللّه أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين . والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين). .
ودعاؤهم اللّه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين , وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين , لا ينافي الاتكال على اللّه والتقوي به . بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى اللّه . والمؤمن لا يتمنى البلاء , ولكن يثبت عند اللقاء .
وعقب هذا التميز , وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى , وإيمان من آمن بموسى , أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم , وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار ; وكلفهم تطهير بيوتهم , وتزكية نفوسهم , والاستبشار بنصر اللّه:
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات , وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية , ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة , تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة , وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة , ليست خاصة ببني إسرائيل , فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي , وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت , وفسد الناس , وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها , لتطهرها وتزكيها , وتدربها وتنظمها , حتى يأتي وعد اللّه لها .
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ; وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح ; وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .
الدرس السادس:88- 89 موسى يدعو على آل فرعون
واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه , وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير , وأن تكون قد بقيت فيهم بقية , وأن يرجى لهم صلاح . اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه , الذين يملكون المال والزينة , تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين , فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال , وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال , وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب اللّه الدعاء:
من الاية 85 الى الاية 87
فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(وقال موسى:ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم , واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال:قد أجيبت دعوتكما , فاستقيما , ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .
(ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا). .
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك , وإما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها باللّه أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار , وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل اللّه في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس .
ويطلب لوقف هذا الإضلال , ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء , أن يطمس اللّه على هذه الأموال يتدميرها والذهاب بها , بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم , فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب , ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها اللّه قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب , وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان , لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل , ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .
(قال:قد أجيبت دعوتكما). .
كتبت لها الإجابة وقضي الأمر .
(فاستقيما). .
في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل:
(ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .
فيخبطوا على غير علم , ويترددوا في الخطط والتدبيرات , ويقلقوا على المصير , ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل .
الدرس السابع:90 - 92 هلاك فرعون غرقا والآية في إلقاء جثته إلى الشاطىء
والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ .
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر , فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً , حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون . .
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب . والسياق يعرضه مختصراً مجملاً , لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة . بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه , وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه , الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة . وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالىولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء اللّه لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً , ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?!). .
من الاية 88 الى الاية 89
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89)
فهنا يأتي القصص ليصدق ذلك الوعيد:
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر). .
بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا . ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته . .
(فأتبعهم فرعون وجنوده). .
لا اهتداء وإيماناً , ولا دفاعاً مشروعاً . ولكن:
(بغياً وعدواً). .
وتجاوزاً للحد وطغياناً . .
ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة:
(حتى إذا أدركه الغرق). .
وعاين الموت , ولم يعد يملك نجاة . .
قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . .
لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي . . كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة , ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى . فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . فيزيد في استسلام . .
(وأنا من المسلمين). .
المسلَمين !
(آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!). .
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار ? آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار ? آلآن ?!
(فاليوم ننجيك ببدنك). .
لا تأكله الأسماك , ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس . ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك:
(لتكون لمن خلفك آية). .
يتعظون بها ويعتبرون , ويرون عاقبة التصدي لقوة اللّه ووعيده بالتكذيب:
(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون). .
لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم , ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم .
ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها , تستغرق ما حدث في أجيال:
(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق , ورزقناهم من الطيبات , فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
والمبوأ:مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي
من الاية 90 الى الاية 92
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة , لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده , وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال , حتى فسقوا عن أمر اللّه فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم , لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم , وبسبب هذا العلم , واستخدامه في التأويلات الباطلة .
ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان , فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل , ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة , ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة:
(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
فيبقى للقصة جلالها , ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .
وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني , وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى , ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .
الدرس التاسع:94 - 103 قصة قوم يونس والمشيئة في الهدى والضلال
بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها , يبدأ خطاباً إلى الرسول - [ ص ] - تثبيتاً بما حدث للرسل قبله , وبياناً لعلة تكذيب قومه له , أن ليس ما ينقصهم هو الآيات والبينات , إنما هي سنة اللّه في المكذبين من قبلهم , وسنة اللّه في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال . . وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم , فرد عنهم . لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان . . وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله . أن سنة اللّه التي مضت في الأولين ماضية في الآخرين:عذاب وهلاك للمكذبين . ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين . حقاً كتبه اللّه على نفسه . وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك , فلا تكونن من الممترين . ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين . إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم . فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها , إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين . ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ! وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه , ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون . قل:انظروا ماذا في السموات والأرض , وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون , فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل:فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا , كذلك حقا علينا ننج المؤمنين . .
لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل , وهم من أهل الكتاب , وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون , يقرأونها في كتابهم . فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول - [ ص ] - إن كان في شك مما أنزل إليه , من هذا القصص أو غيره , فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله . فلديهم عنه علم , مما يقرأون:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .
من الاية 93 الى الاية 93
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ولكن الرسول - [ ص ] - لم يكن في شك مما أنزل اللّه إليه . أو كما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - " لا أشك ولا أسأل " . ففيم إذن هذا القول له أن يسأل إن كان في شك . والتعقيب عليه: (لقد جاءك الحق من ربك)وفي هذا ما يكفيه لليقين ?
ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء , وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه . وبعد موت خديجة وأبي طالب , واشتداد الأذى على رسول اللّه [ ص ] ومن معه ; وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد . . وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول اللّه - [ ص ] - فيسري عنه ربه بهذا التوكيد , بعد ذلك القصص الموحى . .
ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين:
(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين).
وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع ; لأنه إذا كان الرسول - [ ص ] - مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك , ثم هو لا يسأل ولا يشك , فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق . وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا , وألا يكونوا (من الممترين). .
ثم إنه المنهج الذي يضعه اللّه لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه . . أن تسأل أهل الذكر . . ولو كان من أخص خصائص العقيدة ; لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته , وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين .
ثم أيكون هنالك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله: (فلا تكونن من الممترين)? . . ليس هنالك تعارض لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك بحيث يصبح صفة دائمة . . . . " من الممترين" . . ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين . وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة , ولا تحفز إلى استفادة , ولا تئول إلى يقين .
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه , فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه ? تعليله أن كلمة اللّه وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي , ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه , ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها , فتكون نهايته إلى الضلال , مهما تكن الآيات والبينات , لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات . وعندئذ تكون كلمة اللّه وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم:
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم). .
فلا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه لم يجيء عن اختيار . ولم تعد هنالك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة . ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا . مشهد فرعون حين أدركه الغرق يقول: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . . فيقال لهآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!).
وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن اللّه العامة , وانتهاؤها إلى نهايتها المرسومة , متى تعرض الإنسان لها باختياره , تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من أشعة الأمل في النجاة . ذلك أن يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب:
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانهاً ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين). .
وهو تحضيض ينسحب على الماضي , فيفيد أن مدلوله لم يقع . . (فلولا كانت قرية آمنت)من هذه القرى
من الاية 74 الى الاية 77
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه:
(قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة , التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض , هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .
إنها العلة القديمة الجديدة , التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات , وانتحال شتى المعاذير , ورمي الدعاة بأشنع التهم , والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي "الكبرياء في الأرض" وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير , بكل ما فيها من زيف , وبكل ما فيها من فساد , وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة , واستنارة العقول بالنور الجديد , خطر على القيم الموروثة , وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير , وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام ! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين ; وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها , وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . .
ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير ; وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم , والانقلاب على سلطانهم , والانقضاض على ملكهم , والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان !
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين !
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - [ ص ] - من صدق وسمو , وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة , القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض , فقالوا متبجحين:
وما نحن لك بمؤمنين !
الدرس الرابع:79 - 82 المباراة بين موسى والسحرة وإيمانهم
وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر , وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها , بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها , ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً . وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معتقداتهم الموروثة , وعلى سلطانهم في الأرض , وهو الأساس . . ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة , بعدما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه:
(وقال فرعون:ائتوني بكل ساحر عليم . فلما جاء السحرة قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى:ما جئتم به السحر , إن اللّه سيبطله , إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين , ويحق اللّه الحق بكلماته ولو كره المجرمون). .
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة , لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى: (ما جئتم به السحر). . رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء , لأنه ليس أكثر من تخييل
من الاية 78 الى الاية 80
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80)
وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول , لا تصحبه دعوة , ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات اللّه التي جاءهم بها حقاً من عند اللّه . . وفي قوله:
(إن اللّه سيبطله). .
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه , المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح:
(إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين). .
الذين يضللون الناس بالسحر , أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال:
(ويحق اللّه الحق بكلماته). .
كلماته التكوينية (كن فيكون). .
وهي تعبير عن توجه المشيئة . أو كلماته التي هي آياته وبيناته:
(ولو كره المجرمون). .
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة اللّه , ولا تقف دون آياته .
وقد كان . . وبطل السحر وعلا الحق . . ولكن السياق يختصر المشاهد هنا ; لأنها ليست مقصودة في هذا المجال .
الدرس الخامس:83 - 87 تعذيب آل فرعون لمن آمنوا بموسى
ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم ! . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .
(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه , على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . وإن فرعون لعال في الأرض . وإنه لمن المسرفين . وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا:على اللّه توكلنا , ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين , ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .
ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار , لا مجموعة الشعب الإسرائيلي . وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى , خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب , والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل . وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت , كما كان مسرفاً في الطغيان , لا يقف عند حد , ولا يتحرج من إجراء قاس .
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف , ويطمئن القلوب , ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه:
(وقال موسى:يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين). .
فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت . وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على اللّه مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في اللّه , ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد . .
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم:
(فقالوا:على اللّه توكلنا). .
من الاية 81 الى الاية 84
فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84)
ومن ثم توجهوا إلى اللّه بالدعاء:
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين). .
والدعاء بألا يجعلهم اللّه فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم , فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين باللّه دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون ! ويكون هذا استدراجاً لهم من اللّه وفتنة ليلجوا في ضلالهم . فالمؤمنون يدعون اللّه أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين . والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين). .
ودعاؤهم اللّه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين , وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين , لا ينافي الاتكال على اللّه والتقوي به . بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى اللّه . والمؤمن لا يتمنى البلاء , ولكن يثبت عند اللقاء .
وعقب هذا التميز , وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى , وإيمان من آمن بموسى , أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم , وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار ; وكلفهم تطهير بيوتهم , وتزكية نفوسهم , والاستبشار بنصر اللّه:
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً , واجعلوا بيوتكم قبلة , وأقيموا الصلاة , وبشر المؤمنين). .
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات , وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية , ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة , تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة , وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة , ليست خاصة ببني إسرائيل , فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي , وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت , وفسد الناس , وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها , لتطهرها وتزكيها , وتدربها وتنظمها , حتى يأتي وعد اللّه لها .
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ; وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح ; وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .
الدرس السادس:88- 89 موسى يدعو على آل فرعون
واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه , وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير , وأن تكون قد بقيت فيهم بقية , وأن يرجى لهم صلاح . اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه , الذين يملكون المال والزينة , تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين , فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال , وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال , وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب اللّه الدعاء:
من الاية 85 الى الاية 87
فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(وقال موسى:ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم , واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال:قد أجيبت دعوتكما , فاستقيما , ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .
(ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا). .
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك , وإما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها باللّه أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار , وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل اللّه في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس .
ويطلب لوقف هذا الإضلال , ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء , أن يطمس اللّه على هذه الأموال يتدميرها والذهاب بها , بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم , فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب , ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها اللّه قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب , وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان , لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل , ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .
(قال:قد أجيبت دعوتكما). .
كتبت لها الإجابة وقضي الأمر .
(فاستقيما). .
في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل:
(ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). .
فيخبطوا على غير علم , ويترددوا في الخطط والتدبيرات , ويقلقوا على المصير , ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل .
الدرس السابع:90 - 92 هلاك فرعون غرقا والآية في إلقاء جثته إلى الشاطىء
والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ .
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر , فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً , حتى إذا أدركه الغرق قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون . .
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب . والسياق يعرضه مختصراً مجملاً , لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة . بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه , وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه , الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة . وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالىولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل:لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء اللّه لكل أمة أجل , إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل:أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً , ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ?!). .
من الاية 88 الى الاية 89
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89)
فهنا يأتي القصص ليصدق ذلك الوعيد:
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر). .
بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا . ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته . .
(فأتبعهم فرعون وجنوده). .
لا اهتداء وإيماناً , ولا دفاعاً مشروعاً . ولكن:
(بغياً وعدواً). .
وتجاوزاً للحد وطغياناً . .
ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة:
(حتى إذا أدركه الغرق). .
وعاين الموت , ولم يعد يملك نجاة . .
قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . .
لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي . . كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة , ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى . فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . فيزيد في استسلام . .
(وأنا من المسلمين). .
المسلَمين !
(آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!). .
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار ? آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار ? آلآن ?!
(فاليوم ننجيك ببدنك). .
لا تأكله الأسماك , ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس . ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك:
(لتكون لمن خلفك آية). .
يتعظون بها ويعتبرون , ويرون عاقبة التصدي لقوة اللّه ووعيده بالتكذيب:
(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون). .
لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم , ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم .
ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها , تستغرق ما حدث في أجيال:
(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق , ورزقناهم من الطيبات , فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
والمبوأ:مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي
من الاية 90 الى الاية 92
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة , لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده , وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال , حتى فسقوا عن أمر اللّه فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم , لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم , وبسبب هذا العلم , واستخدامه في التأويلات الباطلة .
ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان , فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل , ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة , ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة:
(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). .
فيبقى للقصة جلالها , ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .
وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني , وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى , ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .
الدرس التاسع:94 - 103 قصة قوم يونس والمشيئة في الهدى والضلال
بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها , يبدأ خطاباً إلى الرسول - [ ص ] - تثبيتاً بما حدث للرسل قبله , وبياناً لعلة تكذيب قومه له , أن ليس ما ينقصهم هو الآيات والبينات , إنما هي سنة اللّه في المكذبين من قبلهم , وسنة اللّه في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال . . وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم , فرد عنهم . لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان . . وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله . أن سنة اللّه التي مضت في الأولين ماضية في الآخرين:عذاب وهلاك للمكذبين . ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين . حقاً كتبه اللّه على نفسه . وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك , فلا تكونن من الممترين . ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين . إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم . فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها , إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين . ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ! وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه , ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون . قل:انظروا ماذا في السموات والأرض , وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون , فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل:فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا , كذلك حقا علينا ننج المؤمنين . .
لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل , وهم من أهل الكتاب , وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون , يقرأونها في كتابهم . فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول - [ ص ] - إن كان في شك مما أنزل إليه , من هذا القصص أو غيره , فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله . فلديهم عنه علم , مما يقرأون:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .
من الاية 93 الى الاية 93
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ولكن الرسول - [ ص ] - لم يكن في شك مما أنزل اللّه إليه . أو كما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - " لا أشك ولا أسأل " . ففيم إذن هذا القول له أن يسأل إن كان في شك . والتعقيب عليه: (لقد جاءك الحق من ربك)وفي هذا ما يكفيه لليقين ?
ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء , وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه . وبعد موت خديجة وأبي طالب , واشتداد الأذى على رسول اللّه [ ص ] ومن معه ; وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد . . وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول اللّه - [ ص ] - فيسري عنه ربه بهذا التوكيد , بعد ذلك القصص الموحى . .
ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين:
(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين).
وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع ; لأنه إذا كان الرسول - [ ص ] - مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك , ثم هو لا يسأل ولا يشك , فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق . وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا , وألا يكونوا (من الممترين). .
ثم إنه المنهج الذي يضعه اللّه لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه . . أن تسأل أهل الذكر . . ولو كان من أخص خصائص العقيدة ; لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته , وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين .
ثم أيكون هنالك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله: (فلا تكونن من الممترين)? . . ليس هنالك تعارض لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك بحيث يصبح صفة دائمة . . . . " من الممترين" . . ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين . وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة , ولا تحفز إلى استفادة , ولا تئول إلى يقين .
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه , فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه ? تعليله أن كلمة اللّه وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي , ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه , ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها , فتكون نهايته إلى الضلال , مهما تكن الآيات والبينات , لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات . وعندئذ تكون كلمة اللّه وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم:
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم). .
فلا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه لم يجيء عن اختيار . ولم تعد هنالك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة . ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا . مشهد فرعون حين أدركه الغرق يقول: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . . فيقال لهآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ?!).
وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن اللّه العامة , وانتهاؤها إلى نهايتها المرسومة , متى تعرض الإنسان لها باختياره , تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من أشعة الأمل في النجاة . ذلك أن يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب:
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانهاً ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ومتعناهم إلى حين). .
وهو تحضيض ينسحب على الماضي , فيفيد أن مدلوله لم يقع . . (فلولا كانت قرية آمنت)من هذه القرى
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة يونس ايه 60 الى 73 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 18 الى 34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 35 الى 42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 18 الى 34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 35 الى 42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى