تفسير سورة يونس ايه 18 الى 34 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة يونس ايه 18 الى 34 الشيخ سيد قطب
من الاية 18 الى الاية 20
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20)
أبدله من تلقاء نفسي , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به , فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون). .
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ; ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . قل:أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون . وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا , ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون . ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه , فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين).
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف , وهكذا كان سلوكهم مع الرسول !!!
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا:ائت بقرآن غير هذا أو بدله). .
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد , إنما يصدر عن عبث وهزل ; وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله !
إن هذا القرآن دستور حياة شامل , منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ,
ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق , ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه , أو يطلب تبديل بعض أجزائه .
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله ; كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة , ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآنا آخر , أو يؤلف جزءا مكان جزء ?!
قال:ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . .
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله , وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .
(قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ?).
إنه وحي من الله , وتبليغه لكم أمر من الله كذلك . ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته , ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم . فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس . قل لهم هذا . وقل لهم:إنك لبثت فيهم عمرا كاملا من قبل الرسالة . أربعين سنة . فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن . لأنك لم تكن تملكه . لم يكن قد أوحي إليك . ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمرا كاملا ?
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئا إلا البلاغ . .
وقل لهم:ما كان لي أن أفتري على الله الكذب , وأن أقول:إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلما ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله:
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ?). .وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين , وهي التكذيب بآيات الله , فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله:
(إنه لا يفلح المجرمون). .
ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض . غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد . .
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم , ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله , قل:أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون .
والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف . وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضررا ولا نفعا , ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله:
ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . .
(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ?). .
فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون ! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجودا في السماوات ولا في الأرض ?!
إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه . يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون:
(سبحانه وتعالى عما يشركون).
وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه , يعقب على هذا الشرك , بأنه عارض . والفطرة في أصلها كانت على التوحيد , ثم جد الخلاف بعد حين:
(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا). .
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعا إلى أجل يستوفونه , وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:
(ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون).
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:
(ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم . وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم . وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم . غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية . وطبيعة معجزتها . فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل , إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل .
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه , ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:
(فقل:إنما الغيب لله . فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد . . وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية . فإن محمدا [ ص ] وهو أعظم الأنبياء المرسلين , لا يملك من أمر الغيب شيئا , فالغيب كله لله . ولا يملك من أمر الناس شيئا , فأمرهم موكول إلى الله . . وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية , ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة .
من الاية 21 الى الاية 21
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
الدرس السادس:21 - 23 لجوء الناس إلى الله عند الشدة ونسيانه عند الرخاء
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون , يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر , حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلا مما يقع في الحياة يصدق ذلك , فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا . قل:الله أسرع مكراً , إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر , حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف , وجاءهم الموج من كل مكان , وظنوا أنهم أحيط بهم , دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة , ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن , مجلوة دائما بجلاء الإيمان . .
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا). .
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها , وقالوا:إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك , فجاءت محمدا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا , ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه ! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .
(قل:الله أسرع مكرا . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف , والمكر المكشوف إبطاله مضمون:
(إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .
فلا شيء منه يخفى , ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون , فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من مثل هذا النص , فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .
ثم ذلك المشهد الحي , الذي يعرض كأنه يقع , وتشهده العيون , وتتابعه المشاعر , وتخفق معه القلوب . يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:
(هو الذي يسيركم في البر والبحر). .
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك .
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:
(حتى إذا كنتم في الفلك). .
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء . .
(وجرين بهم بريح طيبة). .
من الاية 22 الى الاية 22
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:
(وفرحوا بها). .
وفي هذا الرخاء الآمن , وفي هذا السرور الشامل , تقع المفاجأة , فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:
(جاءتها ريح عاصف).
يا للهول !
(وجاءهم الموج من كل مكان). .
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها , ولاطمها الموج وشالها وحطها , ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم . . وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:
(وظنوا أنهم أحيط بهم). .
فلا مجال للنجاة . .
عندئذ فقط , وفي وسط هذا الهول المتلاطم , تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب , وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات , وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه:
(دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)!
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج , وتهدأ الأنفاس اللاهثة , وتسكن القلوب الطائرة , وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ , ويوقن الناس بالحياة , وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?
(فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق !). .
هكذا بغتة ومفاجأة !
إنه مشهد كامل , لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس , ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين:
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم). .
سواء كان بغيا على النفس خاصة , بإيرادها موارد التهلكة , والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ; أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة .
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه , واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا , قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .
يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به , ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض , وربوبية الله وحدها في حياة البشر , هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة , ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد , ودنس المستنقع , وامتهان الكرامة , وفساد المجتمع , ودناءة الحياة !
من الاية 23 الى الاية 24
فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا). .
لا تزيدون عليه !
(ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك , بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .
الدرس السابع:24 - 25 زوال الدنيا بالقياس إلى دار السلام في الآخرة
وما قيمة (متاع الحياة الدنيا)هذا وما حقيقته ? يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة , وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم , ويمر عليها الأحياء دون انتباه:
(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت , وظن أهلها أنهم قادرون عليها . . أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). .
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها , حين يرضون بها , ويقفون عندها , ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى . .
هذا هو الماء ينزل من السماء , وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر . وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج . وأهلها مزهوون بها , يظنون أنها بجهدهم ازدهرت , وبإرادتهم تزينت , وأنهم أصحاب الأمر فيها , لا يغيرها عليهم مغير , ولا ينازعهم فيها منازع .
وفي وسط هذا الخصب الممرع , وفي نشوة هذا الفرح الملعلع , وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق . .
(أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس). .
في ومضة , وفي جملة , وفي خطفة . . وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان .
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس , ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع .
هذه هي . لا أمن فيها ولا اطمئنان , ولا ثبات فيها ولا استقرار , ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار .
هذه هي . .
(واللّه يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة , وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس . . ودار السلام التي يدعو إليها الله , ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها . حينما تنفتح بصيرته , ويتطلع إلى دار السلام .
الوحدة الثانية:26 - 70 الموضوع:لمسات وحدانية وآيات كونية على الحقائق الإعتقادية مقدمة الوحدة
هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة , تنتهي كلها إلى هدف واحد:مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول , واليقين باليوم الآخر . والعدل فيه .
لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها , وتأخذ بها إلى أقطار الكون , في جولة واسعة شاملة . جولة من الأرض إلى السماء . ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس . ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب . ومن الدنيا إلى الآخرة . . في سياق . .
وفي الدرس الماضي لمسات من هذه , وجولات من هذه . . ولكنها في هذا الدرس أظهر . . فمن معرض الحشر , إلى مشاهد الكون , إلى ذات النفس , إلى التحدي بالقرآن , إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين . ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد , إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس , إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء , إلى بعض آيات الله في الكون , إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب . .
إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة , لا تملك فطرة سليمة التلقي , صحيحة الاستجابة , ألا تستجيب لها , وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة , ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود . .
لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم ! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين !
الدرس الأول:26 - 30 بين نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة , ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون .
من الاية 25 الى الاية 27
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئه بمثلها وترهقهم ذلة , مالهم من الله من عاصم , كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
كانت آخر آية في الدرس السابقوالله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله , وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .
فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد , وأحسنوا العمل , وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم , وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا , وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة:
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة). .
وهم ناجون من كربات يوم الحشر , ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق:
(ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة). .
والقتر:الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة:الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه , فالنجاة من هذا كله غنيمة , وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه . .
(أولئك). . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق (أصحاب الجنة)وملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).
(والذين كسبوا السيئات). .
فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة ! هؤلاء ينالهم عدل الله , فلا يضاعف لهم الجزاء , ولا يزاد عليهم السوء . ولكن:
(جزاء سيئة بمثلها). . (وترهقهم ذلة). .
تغشاهم وتركبهم وتكربهم .
(ما لهم من الله من عاصم). .
يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم , نفاذا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق , ويخالف الناموس . . ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب:
(كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما). .
كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه ! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته , تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم . .
(أولئك). . المبعدون في هذا الظلام والقتام (أصحاب النار). . ملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).
ولكن أين الشركاء والشفعاء ? وكيف لم يعصموهم من دون الله ? هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب:
(ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:مكانكم أنتم وشركاؤكم . فزيلنا بينهم . وقال شركاؤهم:
من الاية 28 الى الاية 30
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30)
ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت , وردوا إلى الله مولاهم الحق . وضل عنهم ما كانوا يفترون). .
هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة , مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله , ولن يملكوا لهم خلاصا ولا نجاة .
هؤلاء هم محشورون جميعا . . الكفار والشركاء . . وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله , ولكن القرآن يسميهم(شركاءهم)تهكما من جهة , وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوما شركاء لله .
هؤلاء هم جميعا كفارا وشركاء . يصدر إليهم الأمر:
(مكانكم أنتم وشركاؤكم). .
قفوا حيث أنتم . ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم ! فالأمر يومئذ للنفاذ . ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف:
(فزيلنا بينهم). .
وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة . جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله , أو من دون الله , وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا , فهم إذن لم يشتركوا في الجناية , ويشهدون الله وحده على ما يقولون:
(وقال شركاؤهم:ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين). .
هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون . هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم . ويجعلون الله وحده شهيدا , ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه !
عندئذ , وفي هذا الموقف المكشوف , تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل , وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة:
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت . .
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع , وما عداه باطل:
(وردوا إلى الله مولاهم الحق). .
وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم , فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود:
(وضل عنهم ما كانوا يفترون). .
وهكذا يتجلى المشهد الحي , في ساحة الحشر , بكل حقائقه , وبكل وقائعه , وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل , فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد , ولا براهين الجدل الطويل !
الدرس الثاني:31 - 36 اعتراف الكفار بأن الأمور بيد الله وذمهم على الخضوع لغير الله
ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل , ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه . إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه , وإلى أنفسهم التي يعلمونها , وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة . بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:
(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت
من الاية 31 الى الاية 33
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33)
ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون:الله . فقل:أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق , فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ?). .
ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله , ولا أنه الخالق , والرازق , والمدبر . إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى , أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله . فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم , ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال .
(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ?). .
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع , ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها , ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم . وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض . وهو أوسع من ذلك بكثير . وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض , يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل . وكله من رزق الله المسخر للإنسان . فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق . ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق . ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق !
(أم من يملك السمع والأبصار ?). .
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها , ويصححها أو يمرضها , ويصرفها إلى العمل أو يلهيها , ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره . . ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار . وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه . وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر , ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة . وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات , أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات , لعالم وحده يدير الرؤوس , عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث ! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان , لا يقاس في شيء إلى صنع الله . بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون !
(ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ?). .
وكانوا يعدون الساكن هو الميت , والنامي أو المتحرك هو الحي . فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة , والحبة من النبتة , وخروج الفرخ من البيضة , والبيضة من الفرخ . . إلى آخر هذه المشاهدات . وهو عندهم عجيب . وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء ; بما فيها من حياة كامنة واستعداد . فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله . .
وإن وقفة أمام الحبة والنواة , تخرج منهما النبتة والنخلة , أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان , لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش !
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ? وأين كان يكمن العود ? وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق ? . . وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء , والساق السامقة والعراجين والألياف ? وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة , والبلح والتمر , والرطب والبسر . . . ?
وأين في البيضة كان الفرخ ? وأين يكمن كان العظم واللحم , والزغب والريش , واللون والشيات , والرفرفة والصوات . . . ?
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب ? أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي ? أين كانت نبرات الصوت , ونظرات العين , ولفتات الجيد , واستعدادات الأعصاب , ووراثات الجنس والعائلة والوالدين ? وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات ?
وهل يكفي أن نقول:إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة , لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله ?
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة , وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي , وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة , ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظه . وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي , وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق , لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها . وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار . وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله , يهب الحياة !
(ومن يدبر الأمر ?). .
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر ? من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ? ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق ? ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر , والتي لا تخطى ء مرة ولا تحيد ? ومن ومن ?
(فسيقولون الله). .
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله , أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار . ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله , فيتوجهون بالشعائر إلى سواه , كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله .
(فقل:أفلا تتقون ?). .
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض , والذي يملك السمع والأبصار , والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي , والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه ? إن الذي يملك هذا كله لهو الله , وهو الرب الحق دون سواه:
(فذلكم الله ربكم الحق). .
والحق واحد لا يتعدد , ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل , وقد ضل التقدير:
(فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون). .
وكيف توجهون بعيدا عن الحق وهو واضح بين تراه العيون ?
بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجه اللازمة , ولا يقومون بمقتضياته الواجبة , قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون:
من الاية 34 الى الاية 34
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
(كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون). .
لا لأنه يمنعهم من الإيمان . فهذه دلائله قائمة في الكون , وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم . ولكن لأنهم هم يحيدون عن طريق الموصل إلى الإيمان , ويجحدون المقدمات التي في أيديهم , ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم , ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم .
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله , وهل للشركاء فيها من نصيب .
(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده . فأنى تؤفكون ? قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل:الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى ? فما لكم ? كيف تحكمون ?). .
وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى . ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى , فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر . ثم لا يطلب إليهم الجواب , إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات .
(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ?). .
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته , ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء . . ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق ; ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض , ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم , ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم , وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه . إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم . وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته . ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق , وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت . والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:
(قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده). .
وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها:
(فأنى تؤفكون). .
فتوجهون بعيدا عن الحق إلى الإفك وتضلون ?
(قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ?). .
فينزل كتاباً , ويرسل رسولاً , ويضع نظاماً , ويشرع شريعة , وينذر ويوجه إلى الخير ; ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس ; ويوقظ القلوب الغافلة , ويحرك المدارك المعطلة . كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق ? وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم , ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم . فليقررها لهم الرسول [ ص ] وليأخذهم بها:
(قل:الله يهدي للحق). .
ومن هذه تنشأ قضية جديدة , جوابها مقرر:
(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ? أم من لا يهدي إلا أن يهدى ?). .
والجواب مقرر . فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع , ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره . .
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20)
أبدله من تلقاء نفسي , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به , فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون). .
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ; ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . قل:أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون . وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا , ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون . ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه , فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين).
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف , وهكذا كان سلوكهم مع الرسول !!!
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا:ائت بقرآن غير هذا أو بدله). .
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد , إنما يصدر عن عبث وهزل ; وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله !
إن هذا القرآن دستور حياة شامل , منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ,
ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق , ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه , أو يطلب تبديل بعض أجزائه .
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله ; كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة , ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآنا آخر , أو يؤلف جزءا مكان جزء ?!
قال:ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . .
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله , وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .
(قل:لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ?).
إنه وحي من الله , وتبليغه لكم أمر من الله كذلك . ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته , ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم . فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس . قل لهم هذا . وقل لهم:إنك لبثت فيهم عمرا كاملا من قبل الرسالة . أربعين سنة . فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن . لأنك لم تكن تملكه . لم يكن قد أوحي إليك . ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمرا كاملا ?
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئا إلا البلاغ . .
وقل لهم:ما كان لي أن أفتري على الله الكذب , وأن أقول:إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلما ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله:
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ?). .وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين , وهي التكذيب بآيات الله , فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله:
(إنه لا يفلح المجرمون). .
ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض . غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد . .
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم , ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله , قل:أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون .
والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف . وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضررا ولا نفعا , ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله:
ويقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند الله . .
(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ?). .
فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون ! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجودا في السماوات ولا في الأرض ?!
إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه . يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون:
(سبحانه وتعالى عما يشركون).
وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه , يعقب على هذا الشرك , بأنه عارض . والفطرة في أصلها كانت على التوحيد , ثم جد الخلاف بعد حين:
(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا). .
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعا إلى أجل يستوفونه , وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:
(ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون).
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:
(ويقولون:لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل:إنما الغيب لله , فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم . وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم . وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم . غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية . وطبيعة معجزتها . فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل , إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل .
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه , ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:
(فقل:إنما الغيب لله . فانتظروا إني معكم من المنتظرين). .
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد . . وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية . فإن محمدا [ ص ] وهو أعظم الأنبياء المرسلين , لا يملك من أمر الغيب شيئا , فالغيب كله لله . ولا يملك من أمر الناس شيئا , فأمرهم موكول إلى الله . . وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية , ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة .
من الاية 21 الى الاية 21
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
الدرس السادس:21 - 23 لجوء الناس إلى الله عند الشدة ونسيانه عند الرخاء
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون , يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر , حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلا مما يقع في الحياة يصدق ذلك , فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا . قل:الله أسرع مكراً , إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر , حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف , وجاءهم الموج من كل مكان , وظنوا أنهم أحيط بهم , دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة , ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن , مجلوة دائما بجلاء الإيمان . .
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم , إذا لهم مكر في آياتنا). .
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها , وقالوا:إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك , فجاءت محمدا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا , ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه ! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .
(قل:الله أسرع مكرا . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف , والمكر المكشوف إبطاله مضمون:
(إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). .
فلا شيء منه يخفى , ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون , فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من مثل هذا النص , فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .
ثم ذلك المشهد الحي , الذي يعرض كأنه يقع , وتشهده العيون , وتتابعه المشاعر , وتخفق معه القلوب . يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:
(هو الذي يسيركم في البر والبحر). .
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك .
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:
(حتى إذا كنتم في الفلك). .
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء . .
(وجرين بهم بريح طيبة). .
من الاية 22 الى الاية 22
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:
(وفرحوا بها). .
وفي هذا الرخاء الآمن , وفي هذا السرور الشامل , تقع المفاجأة , فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:
(جاءتها ريح عاصف).
يا للهول !
(وجاءهم الموج من كل مكان). .
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها , ولاطمها الموج وشالها وحطها , ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم . . وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:
(وظنوا أنهم أحيط بهم). .
فلا مجال للنجاة . .
عندئذ فقط , وفي وسط هذا الهول المتلاطم , تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب , وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات , وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه:
(دعوا الله مخلصين له الدين:لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)!
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج , وتهدأ الأنفاس اللاهثة , وتسكن القلوب الطائرة , وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ , ويوقن الناس بالحياة , وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?
(فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق !). .
هكذا بغتة ومفاجأة !
إنه مشهد كامل , لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس , ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين:
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم). .
سواء كان بغيا على النفس خاصة , بإيرادها موارد التهلكة , والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ; أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة .
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه , واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا , قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .
يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به , ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض , وربوبية الله وحدها في حياة البشر , هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة , ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد , ودنس المستنقع , وامتهان الكرامة , وفساد المجتمع , ودناءة الحياة !
من الاية 23 الى الاية 24
فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا). .
لا تزيدون عليه !
(ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). .
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك , بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .
الدرس السابع:24 - 25 زوال الدنيا بالقياس إلى دار السلام في الآخرة
وما قيمة (متاع الحياة الدنيا)هذا وما حقيقته ? يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة , وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم , ويمر عليها الأحياء دون انتباه:
(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت , وظن أهلها أنهم قادرون عليها . . أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). .
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها , حين يرضون بها , ويقفون عندها , ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى . .
هذا هو الماء ينزل من السماء , وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر . وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج . وأهلها مزهوون بها , يظنون أنها بجهدهم ازدهرت , وبإرادتهم تزينت , وأنهم أصحاب الأمر فيها , لا يغيرها عليهم مغير , ولا ينازعهم فيها منازع .
وفي وسط هذا الخصب الممرع , وفي نشوة هذا الفرح الملعلع , وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق . .
(أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس). .
في ومضة , وفي جملة , وفي خطفة . . وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان .
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس , ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع .
هذه هي . لا أمن فيها ولا اطمئنان , ولا ثبات فيها ولا استقرار , ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار .
هذه هي . .
(واللّه يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة , وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس . . ودار السلام التي يدعو إليها الله , ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها . حينما تنفتح بصيرته , ويتطلع إلى دار السلام .
الوحدة الثانية:26 - 70 الموضوع:لمسات وحدانية وآيات كونية على الحقائق الإعتقادية مقدمة الوحدة
هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة , تنتهي كلها إلى هدف واحد:مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول , واليقين باليوم الآخر . والعدل فيه .
لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها , وتأخذ بها إلى أقطار الكون , في جولة واسعة شاملة . جولة من الأرض إلى السماء . ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس . ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب . ومن الدنيا إلى الآخرة . . في سياق . .
وفي الدرس الماضي لمسات من هذه , وجولات من هذه . . ولكنها في هذا الدرس أظهر . . فمن معرض الحشر , إلى مشاهد الكون , إلى ذات النفس , إلى التحدي بالقرآن , إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين . ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد , إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس , إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء , إلى بعض آيات الله في الكون , إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب . .
إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة , لا تملك فطرة سليمة التلقي , صحيحة الاستجابة , ألا تستجيب لها , وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة , ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود . .
لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم ! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين !
الدرس الأول:26 - 30 بين نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة , ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون .
من الاية 25 الى الاية 27
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئه بمثلها وترهقهم ذلة , مالهم من الله من عاصم , كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
كانت آخر آية في الدرس السابقوالله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله , وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .
فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد , وأحسنوا العمل , وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم , وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا , وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة:
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة). .
وهم ناجون من كربات يوم الحشر , ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق:
(ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة). .
والقتر:الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة:الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه , فالنجاة من هذا كله غنيمة , وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه . .
(أولئك). . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق (أصحاب الجنة)وملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).
(والذين كسبوا السيئات). .
فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة ! هؤلاء ينالهم عدل الله , فلا يضاعف لهم الجزاء , ولا يزاد عليهم السوء . ولكن:
(جزاء سيئة بمثلها). . (وترهقهم ذلة). .
تغشاهم وتركبهم وتكربهم .
(ما لهم من الله من عاصم). .
يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم , نفاذا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق , ويخالف الناموس . . ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب:
(كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما). .
كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه ! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته , تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم . .
(أولئك). . المبعدون في هذا الظلام والقتام (أصحاب النار). . ملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).
ولكن أين الشركاء والشفعاء ? وكيف لم يعصموهم من دون الله ? هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب:
(ويوم نحشرهم جميعا , ثم نقول للذين أشركوا:مكانكم أنتم وشركاؤكم . فزيلنا بينهم . وقال شركاؤهم:
من الاية 28 الى الاية 30
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30)
ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت , وردوا إلى الله مولاهم الحق . وضل عنهم ما كانوا يفترون). .
هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة , مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله , ولن يملكوا لهم خلاصا ولا نجاة .
هؤلاء هم محشورون جميعا . . الكفار والشركاء . . وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله , ولكن القرآن يسميهم(شركاءهم)تهكما من جهة , وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوما شركاء لله .
هؤلاء هم جميعا كفارا وشركاء . يصدر إليهم الأمر:
(مكانكم أنتم وشركاؤكم). .
قفوا حيث أنتم . ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم ! فالأمر يومئذ للنفاذ . ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف:
(فزيلنا بينهم). .
وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة . جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله , أو من دون الله , وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا , فهم إذن لم يشتركوا في الجناية , ويشهدون الله وحده على ما يقولون:
(وقال شركاؤهم:ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين). .
هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون . هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم . ويجعلون الله وحده شهيدا , ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه !
عندئذ , وفي هذا الموقف المكشوف , تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل , وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة:
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت . .
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع , وما عداه باطل:
(وردوا إلى الله مولاهم الحق). .
وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم , فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود:
(وضل عنهم ما كانوا يفترون). .
وهكذا يتجلى المشهد الحي , في ساحة الحشر , بكل حقائقه , وبكل وقائعه , وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل , فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد , ولا براهين الجدل الطويل !
الدرس الثاني:31 - 36 اعتراف الكفار بأن الأمور بيد الله وذمهم على الخضوع لغير الله
ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل , ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه . إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه , وإلى أنفسهم التي يعلمونها , وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة . بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:
(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت
من الاية 31 الى الاية 33
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33)
ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون:الله . فقل:أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق , فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ?). .
ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله , ولا أنه الخالق , والرازق , والمدبر . إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى , أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله . فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم , ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال .
(قل:من يرزقكم من السماء والأرض ?). .
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع , ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها , ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم . وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض . وهو أوسع من ذلك بكثير . وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض , يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل . وكله من رزق الله المسخر للإنسان . فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق . ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق . ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق !
(أم من يملك السمع والأبصار ?). .
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها , ويصححها أو يمرضها , ويصرفها إلى العمل أو يلهيها , ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره . . ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار . وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه . وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر , ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة . وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات , أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات , لعالم وحده يدير الرؤوس , عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث ! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان , لا يقاس في شيء إلى صنع الله . بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون !
(ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ?). .
وكانوا يعدون الساكن هو الميت , والنامي أو المتحرك هو الحي . فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة , والحبة من النبتة , وخروج الفرخ من البيضة , والبيضة من الفرخ . . إلى آخر هذه المشاهدات . وهو عندهم عجيب . وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء ; بما فيها من حياة كامنة واستعداد . فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله . .
وإن وقفة أمام الحبة والنواة , تخرج منهما النبتة والنخلة , أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان , لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش !
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ? وأين كان يكمن العود ? وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق ? . . وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء , والساق السامقة والعراجين والألياف ? وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة , والبلح والتمر , والرطب والبسر . . . ?
وأين في البيضة كان الفرخ ? وأين يكمن كان العظم واللحم , والزغب والريش , واللون والشيات , والرفرفة والصوات . . . ?
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب ? أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي ? أين كانت نبرات الصوت , ونظرات العين , ولفتات الجيد , واستعدادات الأعصاب , ووراثات الجنس والعائلة والوالدين ? وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات ?
وهل يكفي أن نقول:إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة , لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله ?
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة , وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي , وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة , ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظه . وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي , وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق , لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها . وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار . وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله , يهب الحياة !
(ومن يدبر الأمر ?). .
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر ? من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ? ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق ? ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر , والتي لا تخطى ء مرة ولا تحيد ? ومن ومن ?
(فسيقولون الله). .
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله , أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار . ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله , فيتوجهون بالشعائر إلى سواه , كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله .
(فقل:أفلا تتقون ?). .
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض , والذي يملك السمع والأبصار , والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي , والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه ? إن الذي يملك هذا كله لهو الله , وهو الرب الحق دون سواه:
(فذلكم الله ربكم الحق). .
والحق واحد لا يتعدد , ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل , وقد ضل التقدير:
(فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون). .
وكيف توجهون بعيدا عن الحق وهو واضح بين تراه العيون ?
بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجه اللازمة , ولا يقومون بمقتضياته الواجبة , قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون:
من الاية 34 الى الاية 34
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
(كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون). .
لا لأنه يمنعهم من الإيمان . فهذه دلائله قائمة في الكون , وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم . ولكن لأنهم هم يحيدون عن طريق الموصل إلى الإيمان , ويجحدون المقدمات التي في أيديهم , ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم , ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم .
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله , وهل للشركاء فيها من نصيب .
(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده . فأنى تؤفكون ? قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل:الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى ? فما لكم ? كيف تحكمون ?). .
وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى . ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى , فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر . ثم لا يطلب إليهم الجواب , إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات .
(قل:هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ?). .
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته , ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء . . ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق ; ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض , ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم , ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم , وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه . إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم . وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته . ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق , وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت . والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:
(قل:الله يبدأ الخلق ثم يعيده). .
وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها:
(فأنى تؤفكون). .
فتوجهون بعيدا عن الحق إلى الإفك وتضلون ?
(قل:هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ?). .
فينزل كتاباً , ويرسل رسولاً , ويضع نظاماً , ويشرع شريعة , وينذر ويوجه إلى الخير ; ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس ; ويوقظ القلوب الغافلة , ويحرك المدارك المعطلة . كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق ? وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم , ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم . فليقررها لهم الرسول [ ص ] وليأخذهم بها:
(قل:الله يهدي للحق). .
ومن هذه تنشأ قضية جديدة , جوابها مقرر:
(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ? أم من لا يهدي إلا أن يهدى ?). .
والجواب مقرر . فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع , ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة يونس ايه 35 الى 42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 60 الى 73 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 60 الى 73 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى