تفسير سورة يونس ايه 60 الى 73 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة يونس ايه 60 الى 73 الشيخ سيد قطب
من الاية 60 الى الاية 60
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60)
القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .
إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود ; وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر , وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق ; وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم ! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ; كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان !
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم "المسلمين" - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه . أو كانوا يقولون عنه:شريعة اللّه !
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه . . وذلك في قوله تعالىوقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون). . فهم كانوا يقولون:إن اللّه يشاء هذا , ولا يشاء هذا . . افتراء على اللّه . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم "مسلمين" يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون:شريعة اللّه !
واللّه يجبههم هنا بالافتراء , ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه:
(وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ?). .
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على اللّه الكذب وتنتظمهم جميعاً . . فما ظنهم يا ترى ? ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة !! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية !
إن اللّه لذو فضل على الناس , ولكن أكثرهم لا يشكرون . .
واللّه ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم ; وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره ; والنواميس التي تحكم هذه المصادر , وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله , والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال . . وكله في الكون وفيهم من رزق اللّه . .
واللّه ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ; ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم ; الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ; ومشاعر واتجاهات ; والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة ; كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه .
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك . . فإذا هم يحيدون عن منهج اللّه وشرعه ; وإذا
من الاية 61 الى الاية 61
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)
هم يشركون به غيره . . ثم يشقون في النهاية بهذا كله . . يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور !
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة . . إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء . . إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول ! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب . ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية , فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية . ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله , وإلى العدل في الجزاء , وإلى غلبة الخير , وإلى حسن المصير . .
وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل , تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب !
الدرس الثامن:61 - 67 اطلاع الله على كل شيء وطمأنينة أولياء الله أمام الأعداء
لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر , المحيط بكل مضمر وظاهر , الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق , ليخرج منها إلى طمأنة الرسول [ ص ] ومن معه بأنهم في رعايته وولايته , لا يضرهم المكذبون , الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون:
وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل , إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ; وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة , لا تبديل لكلمات الله , ذلك هو الفوز العظيم . ولا يحزنك قولهم , إن العزة لله جميعاً , هو السميع العليم , ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض , وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء , إن يتبعون إلا الظن , وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً , إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق:
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . شعور مطمئن ومخيف معاً , مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه , شاهدً أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته , وبكل هيبته , وبكل جبروته , وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها ! إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها:
(وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . .)
إنه ليس شمول العلم وحده , ولكن شمول الرعاية , ثم شمول الرقابة . .
(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .
يونس
من الاية 62 الى الاية 66
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة , ويخشع القلب إجلالاً وتقوى , حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ; ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .
وفي ظل هذا الأنس , وفي طمأنينة هذا القرب . . يأتي الإعلان الجاهر:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . لا تبديل لكلمات الله . ذلك هو الفوز العظيم). .
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون ? وهم أولياء الله , المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:
(الذين آمنوا وكانوا يتقون). .
كيف يخافون وكيف يحزنون , وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه ? وعلام يحزنون ومم يخافون , والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ? إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله -:
(ذلك هو الفوز العظيم). .
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام , من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء !
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي [ ص ] وهو أولى الأولياء , بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين , وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه:
(ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً . هو السميع العليم). .
ويفرد الله بالعزة هنا , ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه . فيفرده بالعزة جميعاً - وهي أصلاً لله وحده , والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعاً , ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس . أما الرسول [ ص ] فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه . فلا يحزن لما يقولون . والله معه وهو السميع العليم . الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد . وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة , وفي عصاة وتقاة , فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:
(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض). .
وهذه حكمة ذكر(من)هنا لا "ما" لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء). .
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ; وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة:
إن يتبعون إلا الظن . وإن هم إلا يخرصون . . .
من الاية 67 الى الاية 67
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار:
(هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .
والمالك للحركة وللسكون , الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس , ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ! ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون , قادر على الناس , قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - [ ص ] - في مقدمة أوليائه . ومن معه من المؤمنين . .
(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .
يسمعون فيتدبرون ما يسمعون .
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .
فهذا الليل الذي يسكنون فيه , وهذا النهار الذي يبصرون به , هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و "العلم" .
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية !
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم "العلوم الحديثة ! " لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة , وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها , متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق !
والافتراء على اللّه بالشركاء يكون بنسبة ولد للّه - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات اللّه .
الدرس التاسع:68 - 70 تكذيب المشركين في إشراكهم بالله
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:
(قالوا:اتخذ اللّه ولداً , سبحانه هو الغني , له ما في السماوات وما في الأرض , إن عندكم من سلطان بهذا , أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .
وعقيدة أن للّه - سبحانه - ولداً , عيقدة ساذجة , منشؤها قصور في التصور , يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية , والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية ; والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء , وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه .
فالبشر يموتون , والحياة باقية إلى أجل معلوم , فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر , والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية , تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء اللّه - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم , ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ,
من الاية 68 الى الاية 68
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68)
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه , والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض , حتى ينقضي الأجل , ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً .
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية , فلا الحاجة إلى الامتداد , ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة , ولا الحاجة إلى النصير , ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى . .
ومن ثم تنتفي حكمة الولد , لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها , يتحقق بالولد . وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية: (قالوا اتخذ اللّه ولداً). . هو:
(سبحانه ! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض).
(سبحانه ! . .)تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور . (هو الغنى). . بكل معاني الغنى , عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات , فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . (له ما في السماوات وما في الأرض). فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى اللّه سبحانه عن العبث !
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية , مما جد عند المتكلمين , وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها !
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم , وحاجتهم إلى الولد , وتصورهم لهذه الحاجة , وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض , ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام , بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع , وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً , لأن البرهان قوة , وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:
(إن عندكم من سلطان بهذا). .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? . .
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم , لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين
من الاية 69 الى الاية 70
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
الخالق والمخلوق , ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة . وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان ; وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان , إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة !
أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة , وحكاية الخطيئة , ومنها نشأت مسألة الاعتراف , ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [ بزعمهم ] . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي , ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء , انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه ! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . اللّه خالق أزلي باق , لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز , ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى اللّه . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .
عقيدة بسيطة واضحة , لا تدع مجالاً لتأويل فاسد , ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات , ولا في سحب وضباب !
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة , وكلهم مكلف بها , وكلهم حفيظ عليها . وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض , نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه .
(قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون). .
لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن اللّه الصحيحة , المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع , وتنمية الحياة , ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية , ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت , منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .
(متاع في الدنيا . ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .
مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة . إنما يعقبه (العذاب الشديد)ثمرة للانحراف عن سنن اللّه الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .
الوحدة الثالثة:71 - 103 الموضوع:إهلاك الكافرين واستخلاف الآخرين من خلال القصص القرآني مقدمة الوحدة الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية , وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم , واستخلاف من بعدهم لاختبارهم: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين , ثم جعناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون . .
كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولاً فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسطولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).
فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين , فيسوق طرفاً من قصة نوح مع قومه , وطرفاً من قصة موسى مع فرعون وملئه , تتحقق فيهما عاقبة التكذيب , والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها , وإبلاغها رسالته , وتحذيرها عاقبة المخالفة .
كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب , فرفع عنها ونجت منه بالإيمان . . وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين , لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون . ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين .
وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول - [ ص ] - أن يعلن عاقبة الذين يفترون على اللّه الكذب وينسبون إليه شركاءقل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون , متاع في الدنيا , ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). وذلك بعد تطمين الرسول: (ولا يحزنك قولهم . إن العزة للّه جميعاً)وبأن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
واستمر السياق بتكليف جديد:أن يقص عليهم - [ ص ] - نبأ نوح فيما يختص بتحديه لقومه ثم ما كان من نجاته ومن آمنوا معه واستخلافهم في الأرض , وهلاك المكذبين وهم أقوى وأكثر عدداً .
والمناسبة ظاهرة لإيراد هذا القصص بالنسبة لسياق السورة , وبالنسبة لهذه المعاني القريبة قبلها . والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه ; ويتكرر في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق , والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع , وقد يعرض غيرها من القصة الواحدة في موضع آخر , لأن هذا الموضع تناسبه حلقة أخرى من القصة . وسنرى فيما يعرض من قصتي نوح وموسى ويونس هنا وفي طريقة العرض مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي - [ ص ] - والقلة المؤمنة معه , واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان . كما سنجد المناسبة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه .
الدرس الأول:71 - 73 مشهد من قصة نوح
واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت , فأجمعوا أمركم وشركاءكم , ثم لا يكن أمركم عليكم غمة , ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر , إن أجري إلا على اللّه , وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك , وجعلناهم خلائف , وأغرقنا الذين كذبوا بآيانتا , فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . .
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح , هي الحلقة الأخيرة:حلقة التحدي الأخير , بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان , ولا التفصيلات في تلك الحلقة , لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده , ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة , وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة , لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع .
(واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون). .
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق , فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ; وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه:
(فعلى اللّه توكلت). .
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .
(فأجمعوا أمركم وشركاءكم). .
وتدبروا مصادر أمركم وموارده , وخذوا أهبتكم متضامنين:
ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم , وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض , ولا تردد فيه ولا رجعة .
(ثم اقضوا إلي). .
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم , بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه . .
(ولا تنظرون). .
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد , فكل استعدادي , هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .
إنه التحدي الصريح المثير , الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته , واثق كل الوثوق من عدته , حتى ليغري خصومه بنفسه , ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?
كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى , وتتضاءل أمامها الكثرة , ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !
إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً , وليس كذلك تهوراً , وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان .
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !
ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه , ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .
واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح . فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب ,
(فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على اللّه . وأمرت أن أكون من المسلمين). .
يونس
من الاية 71 الى الاية 71
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71)
فإن أعرضتم عني وابتعدتم , فأنتم وشأنكم , فما كنت أسألكم أجراً على الهداية , فينقض أجري بتوليكم:
(إن أجري إلا على اللّه). .
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي , فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه:
(وأمرت أن أكون من المسلمين). .
وأنا عندما أمرت به . . من المسلمين . .
فماذا كان ?
(فكذبوه . فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف . وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا). .
هكذا باختصار . نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون . واستخلافهم في الأرض على قلتهم . وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:
(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين). .
لينظر من ينظر (عاقبة المنذرين)المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين .
ويجعل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه , لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة . فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة , بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار ; واستخلافها في الأرض , تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها , وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان .
هذه سنة اللّه في الأرض . وهذا وعده لأوليائه فيها . . فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة , فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق , وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين , وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق . . واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته , ولا يسلمهم كذلك لأعدائه . . ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق . .
الدرس الثاني:74 إشارة إلى الرسل من بعد نوح
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح , وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:
ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل , كذلك نطبع على قلوب المعتدين . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول:إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم , لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم , أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم , طبيعتهم واحدة , وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم , ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون
من الاية 72 الى الاية 73
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)
حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى , ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل , تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:
(كذلك نطبع على قلوب المعتدين). .
حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر , فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .
الدرس الثالث:75 - 77 اتهام آل فرعون لموسى بأنه ساحر مفسد
فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي , وينهيها عند غرق فرعون وجنوده , على نطاق أوسع مما في قصة نوح , ملماً بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول - [ ص ] - وموقف القلة المؤمنة التي معه .
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى , مقسمة إلى خمسة مواقف , يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . . وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو:
(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا , فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:إن هذا لسحر مبين . قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم , أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون . قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .
والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف . ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها , والإجمال في هذا الموضع يغني . والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات اللّه:
(فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين). .
(فلما جاءهم الحق من عندنا). .
بهذا التحديد . . (من عندنا). . ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند اللّه:
(قالوا:إن هذا لسحر مبين). .
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل . . (إن هذا لسحر مبين). . كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور ! فهكذا قال مشركو قريش , كما حكي عنهم في مطلع السورة , على تباعد الزمان والمكان , وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن !
(قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون). .
وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني . فكأنه قال لهم:أتقولون للحق لما جاءكم:هذا سحر ? أسحر هذا ? وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر , وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر . فالسحر لا يستهدف هداية الناس , ولا يتضمن عقيدة , وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ; ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض , ويحقق مثل هذا الاتجاه ; وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60)
القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .
إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود ; وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر , وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين ! " - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق ; وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم ! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ; كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان !
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم "المسلمين" - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه . أو كانوا يقولون عنه:شريعة اللّه !
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه . . وذلك في قوله تعالىوقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون). . فهم كانوا يقولون:إن اللّه يشاء هذا , ولا يشاء هذا . . افتراء على اللّه . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم "مسلمين" يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون:شريعة اللّه !
واللّه يجبههم هنا بالافتراء , ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه:
(وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ?). .
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على اللّه الكذب وتنتظمهم جميعاً . . فما ظنهم يا ترى ? ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة !! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية !
إن اللّه لذو فضل على الناس , ولكن أكثرهم لا يشكرون . .
واللّه ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم ; وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره ; والنواميس التي تحكم هذه المصادر , وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله , والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال . . وكله في الكون وفيهم من رزق اللّه . .
واللّه ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ; ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم ; الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ; ومشاعر واتجاهات ; والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة ; كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه .
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك . . فإذا هم يحيدون عن منهج اللّه وشرعه ; وإذا
من الاية 61 الى الاية 61
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)
هم يشركون به غيره . . ثم يشقون في النهاية بهذا كله . . يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور !
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة . . إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء . . إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول ! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب . ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية , فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية . ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله , وإلى العدل في الجزاء , وإلى غلبة الخير , وإلى حسن المصير . .
وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل , تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب !
الدرس الثامن:61 - 67 اطلاع الله على كل شيء وطمأنينة أولياء الله أمام الأعداء
لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر , المحيط بكل مضمر وظاهر , الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق , ليخرج منها إلى طمأنة الرسول [ ص ] ومن معه بأنهم في رعايته وولايته , لا يضرهم المكذبون , الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون:
وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل , إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ; وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة , لا تبديل لكلمات الله , ذلك هو الفوز العظيم . ولا يحزنك قولهم , إن العزة لله جميعاً , هو السميع العليم , ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض , وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء , إن يتبعون إلا الظن , وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً , إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق:
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . شعور مطمئن ومخيف معاً , مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه , شاهدً أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته , وبكل هيبته , وبكل جبروته , وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها ! إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها:
(وما تكون في شأن , وما تتلو منه من قرآن , ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . .)
إنه ليس شمول العلم وحده , ولكن شمول الرعاية , ثم شمول الرقابة . .
(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .
يونس
من الاية 62 الى الاية 66
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة , ويخشع القلب إجلالاً وتقوى , حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ; ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .
وفي ظل هذا الأنس , وفي طمأنينة هذا القرب . . يأتي الإعلان الجاهر:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . لا تبديل لكلمات الله . ذلك هو الفوز العظيم). .
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون ? وهم أولياء الله , المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:
(الذين آمنوا وكانوا يتقون). .
كيف يخافون وكيف يحزنون , وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه ? وعلام يحزنون ومم يخافون , والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ? إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله -:
(ذلك هو الفوز العظيم). .
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام , من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء !
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي [ ص ] وهو أولى الأولياء , بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين , وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه:
(ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً . هو السميع العليم). .
ويفرد الله بالعزة هنا , ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه . فيفرده بالعزة جميعاً - وهي أصلاً لله وحده , والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعاً , ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس . أما الرسول [ ص ] فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه . فلا يحزن لما يقولون . والله معه وهو السميع العليم . الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد . وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة , وفي عصاة وتقاة , فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:
(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض). .
وهذه حكمة ذكر(من)هنا لا "ما" لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء). .
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ; وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة:
إن يتبعون إلا الظن . وإن هم إلا يخرصون . . .
من الاية 67 الى الاية 67
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار:
(هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .
والمالك للحركة وللسكون , الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس , ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ! ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون , قادر على الناس , قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - [ ص ] - في مقدمة أوليائه . ومن معه من المؤمنين . .
(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون). .
يسمعون فيتدبرون ما يسمعون .
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .
فهذا الليل الذي يسكنون فيه , وهذا النهار الذي يبصرون به , هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و "العلم" .
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية !
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم "العلوم الحديثة ! " لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة , وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها , متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق !
والافتراء على اللّه بالشركاء يكون بنسبة ولد للّه - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات اللّه .
الدرس التاسع:68 - 70 تكذيب المشركين في إشراكهم بالله
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:
(قالوا:اتخذ اللّه ولداً , سبحانه هو الغني , له ما في السماوات وما في الأرض , إن عندكم من سلطان بهذا , أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .
وعقيدة أن للّه - سبحانه - ولداً , عيقدة ساذجة , منشؤها قصور في التصور , يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية , والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية ; والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء , وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه .
فالبشر يموتون , والحياة باقية إلى أجل معلوم , فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر , والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية , تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء اللّه - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم , ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ,
من الاية 68 الى الاية 68
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68)
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه , والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض , حتى ينقضي الأجل , ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً .
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية , فلا الحاجة إلى الامتداد , ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة , ولا الحاجة إلى النصير , ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى . .
ومن ثم تنتفي حكمة الولد , لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها , يتحقق بالولد . وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية: (قالوا اتخذ اللّه ولداً). . هو:
(سبحانه ! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض).
(سبحانه ! . .)تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور . (هو الغنى). . بكل معاني الغنى , عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات , فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . (له ما في السماوات وما في الأرض). فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى اللّه سبحانه عن العبث !
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية , مما جد عند المتكلمين , وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها !
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم , وحاجتهم إلى الولد , وتصورهم لهذه الحاجة , وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض , ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام , بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع , وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً , لأن البرهان قوة , وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:
(إن عندكم من سلطان بهذا). .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? . .
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم , لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين
من الاية 69 الى الاية 70
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
الخالق والمخلوق , ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة . وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان ; وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان , إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة !
أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة , وحكاية الخطيئة , ومنها نشأت مسألة الاعتراف , ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [ بزعمهم ] . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي , ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء , انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه ! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . اللّه خالق أزلي باق , لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز , ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى اللّه . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .
عقيدة بسيطة واضحة , لا تدع مجالاً لتأويل فاسد , ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات , ولا في سحب وضباب !
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة , وكلهم مكلف بها , وكلهم حفيظ عليها . وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض , نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه .
(قل:إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون). .
لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن اللّه الصحيحة , المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع , وتنمية الحياة , ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية , ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت , منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .
(متاع في الدنيا . ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). .
مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة . إنما يعقبه (العذاب الشديد)ثمرة للانحراف عن سنن اللّه الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .
الوحدة الثالثة:71 - 103 الموضوع:إهلاك الكافرين واستخلاف الآخرين من خلال القصص القرآني مقدمة الوحدة الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية , وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم , واستخلاف من بعدهم لاختبارهم: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات , وما كانوا ليؤمنوا , كذلك نجزي القوم المجرمين , ثم جعناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون . .
كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولاً فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسطولكل أمة رسول , فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).
فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين , فيسوق طرفاً من قصة نوح مع قومه , وطرفاً من قصة موسى مع فرعون وملئه , تتحقق فيهما عاقبة التكذيب , والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها , وإبلاغها رسالته , وتحذيرها عاقبة المخالفة .
كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب , فرفع عنها ونجت منه بالإيمان . . وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين , لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون . ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين .
وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول - [ ص ] - أن يعلن عاقبة الذين يفترون على اللّه الكذب وينسبون إليه شركاءقل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون , متاع في الدنيا , ثم إلينا مرجعهم , ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). وذلك بعد تطمين الرسول: (ولا يحزنك قولهم . إن العزة للّه جميعاً)وبأن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
واستمر السياق بتكليف جديد:أن يقص عليهم - [ ص ] - نبأ نوح فيما يختص بتحديه لقومه ثم ما كان من نجاته ومن آمنوا معه واستخلافهم في الأرض , وهلاك المكذبين وهم أقوى وأكثر عدداً .
والمناسبة ظاهرة لإيراد هذا القصص بالنسبة لسياق السورة , وبالنسبة لهذه المعاني القريبة قبلها . والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه ; ويتكرر في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق , والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع , وقد يعرض غيرها من القصة الواحدة في موضع آخر , لأن هذا الموضع تناسبه حلقة أخرى من القصة . وسنرى فيما يعرض من قصتي نوح وموسى ويونس هنا وفي طريقة العرض مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي - [ ص ] - والقلة المؤمنة معه , واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان . كما سنجد المناسبة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه .
الدرس الأول:71 - 73 مشهد من قصة نوح
واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت , فأجمعوا أمركم وشركاءكم , ثم لا يكن أمركم عليكم غمة , ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر , إن أجري إلا على اللّه , وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك , وجعلناهم خلائف , وأغرقنا الذين كذبوا بآيانتا , فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . .
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح , هي الحلقة الأخيرة:حلقة التحدي الأخير , بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان , ولا التفصيلات في تلك الحلقة , لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده , ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة , وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة , لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع .
(واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون). .
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق , فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ; وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه:
(فعلى اللّه توكلت). .
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .
(فأجمعوا أمركم وشركاءكم). .
وتدبروا مصادر أمركم وموارده , وخذوا أهبتكم متضامنين:
ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم , وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض , ولا تردد فيه ولا رجعة .
(ثم اقضوا إلي). .
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم , بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه . .
(ولا تنظرون). .
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد , فكل استعدادي , هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .
إنه التحدي الصريح المثير , الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته , واثق كل الوثوق من عدته , حتى ليغري خصومه بنفسه , ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?
كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى , وتتضاءل أمامها الكثرة , ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !
إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً , وليس كذلك تهوراً , وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان .
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !
ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه , ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .
واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح . فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب ,
(فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على اللّه . وأمرت أن أكون من المسلمين). .
يونس
من الاية 71 الى الاية 71
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71)
فإن أعرضتم عني وابتعدتم , فأنتم وشأنكم , فما كنت أسألكم أجراً على الهداية , فينقض أجري بتوليكم:
(إن أجري إلا على اللّه). .
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي , فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه:
(وأمرت أن أكون من المسلمين). .
وأنا عندما أمرت به . . من المسلمين . .
فماذا كان ?
(فكذبوه . فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف . وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا). .
هكذا باختصار . نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون . واستخلافهم في الأرض على قلتهم . وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:
(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين). .
لينظر من ينظر (عاقبة المنذرين)المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين .
ويجعل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه , لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة . فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة , بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار ; واستخلافها في الأرض , تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها , وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان .
هذه سنة اللّه في الأرض . وهذا وعده لأوليائه فيها . . فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة , فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق , وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين , وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق . . واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته , ولا يسلمهم كذلك لأعدائه . . ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق . .
الدرس الثاني:74 إشارة إلى الرسل من بعد نوح
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح , وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:
ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل , كذلك نطبع على قلوب المعتدين . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول:إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم , لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم , أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم , طبيعتهم واحدة , وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم , ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون
من الاية 72 الى الاية 73
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)
حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى , ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل , تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:
(كذلك نطبع على قلوب المعتدين). .
حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر , فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .
الدرس الثالث:75 - 77 اتهام آل فرعون لموسى بأنه ساحر مفسد
فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي , وينهيها عند غرق فرعون وجنوده , على نطاق أوسع مما في قصة نوح , ملماً بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول - [ ص ] - وموقف القلة المؤمنة التي معه .
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى , مقسمة إلى خمسة مواقف , يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . . وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو:
(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا , فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:إن هذا لسحر مبين . قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم , أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون . قالوا:أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا , وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين). .
والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف . ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها , والإجمال في هذا الموضع يغني . والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات اللّه:
(فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين). .
(فلما جاءهم الحق من عندنا). .
بهذا التحديد . . (من عندنا). . ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند اللّه:
(قالوا:إن هذا لسحر مبين). .
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل . . (إن هذا لسحر مبين). . كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور ! فهكذا قال مشركو قريش , كما حكي عنهم في مطلع السورة , على تباعد الزمان والمكان , وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن !
(قال موسى:أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون). .
وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني . فكأنه قال لهم:أتقولون للحق لما جاءكم:هذا سحر ? أسحر هذا ? وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر , وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر . فالسحر لا يستهدف هداية الناس , ولا يتضمن عقيدة , وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ; ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض , ويحقق مثل هذا الاتجاه ; وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة يونس ايه 18 الى 34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 35 الى 42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 35 الى 42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 1 الى 4 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 42 الى59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يونس ايه 74 الى93 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى