منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار السبت مايو 26, 2012 7:06 am

من الاية 33 الى الاية 33

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)

والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله , فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:

من الاية 34 الى الاية 34

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34)

إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء , وإلى إقامة مقاذر إنسانية , يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس , فيلقي فيها بالفضلات , تحت سمع الجماعة وبصرها !

إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج , بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة , في صور آدمية ذليلة .

وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف , الذي يصل الأرض بالسماء , ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .

الدرس الرابع:34 طبيعة هذا القرآن

ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه:

(ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات , ومثلا من الذين خلوا من قبلكم , وموعظة للمتقين). .

فهو آيات مبينات , لا تدع مجالا للغموض والتأويل , والانحراف عن النهج القويم .

وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال .

وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم .

والأحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب , الذي يربط القلوب بالله , الذي نزل هذا القرآن . .

الوحدة الثالثة:35 - 45 الموضوع:نور الله وبيوت الله وتسبيح المخلوقات لله وخسارة أعمال الكفار


(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا). .

وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ; فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له , وأجر عمله له , ليوفي منه ما كاتب عليه ; ويجب له نصيب في الزكاة: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش , ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال:إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ; فلم يكن كلا على الناس ; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها , ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى , وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ; بما هو أشد وأنكى .

وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة , احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ; وخص هذه الحالة بنص خاص:

(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم).

فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر , ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة , بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .

قال السدي:أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول , رأس المنافقين , وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها , إرادة الثواب منه , والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ; فذكره أبو بكر للنبي [ ص ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي:من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .

هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية , وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ; ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .

ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن , يحمي البيوت الشريفة ; لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة , إن لم تجد هذا الكلأ المباح !

من الاية 35 الى الاية 38

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

الدرس الأول:35 - 38 نور الله وبيوت الله وصفات جنود الله

في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم , وشهوة العين والفرج , ورغبة التجريح والتشهير , ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة , وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية:بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة , والنهي عن مثيرات الفتنة , وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان , ومنع البغاء , وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم , ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق .

وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ , ومن اضطراب في المقاييس , وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ ص ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .

بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري , حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الأفق الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض , وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق , وكله نور:

(الله نور السماوات والأرض). .

وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء , فيغمر الكون كله , ويفيض على المشاعر والجوارح , وينسكب في الحنايا والجوانح ; وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ; وحتى تعانقهوترشفه العيون والبصائر ; وحتى تنزاح الحجب , وتشف القلوب , وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض الغامر , ويتطهر كل شيء في بحر النور , ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله , فإذا هو انطلاق ورفرفة , ولقاء ومعرفة , وامتزاج وألفة , وفرح وحبور . وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود , تتصل فيه السماوات بالأرض , والأحياء بالجماد , والبعيد بالقريب ; وتلتقي فيه الشعاب والدروب , والطوايا والظواهر , والحواس والقلوب . .

(الله نور السماوات والأرض). .

النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها , ويودعها ناموسها . . ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى , عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة - إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا "مادة " لها إلا النور ! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونيات , تنطلق - عند تحطيمها - في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون . كان يدركها كلما شف ورف , وانطلق إلى آفاق النور . ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله [ ص ] ففاض بها وهو عائد من الطائف , نافض كفيه من الناس , عائذ بوجه ربه يقول:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " . وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج . فلما سألته عائشة:هل رأيت ربك ? قال . " نور . أنى أراه " .

ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما , ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد . فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي , عاد يقارب مداه , ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود , في مثل قريب محسوس:

مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . المصباح في زجاجة . الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية , يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار . نور على نور . .

وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود ; ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس , حين يقصر عن تملي الأصل . وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير .

ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة . وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة , يوضع فيها المصباح , فتحصر نوره وتجمعه , فيبدو قويا متألقا: (كمشكاة فيها مصباح). . (المصباح في زجاجة). . تقيه الريح , وتصفي نوره , فيتألق ويزداد . . (الزجاجة كأنها كوكب دري). . فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير , كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير , الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير . . وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج . إلى المصباح:

(يوقد من شجرة مباركة زيتونة)ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون . ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل . إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة . ظلال الوادي المقدس في الطور , وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب . وفي القرآن إشارة لها وظلال حولهاSadوشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين). وهي شجرة معمرة , وكل ما فيها مما ينفع الناس . زيتها وخشبهاوورقها وثمرها . . ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير . فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة . إنما هي مثل مجرد للتقريب: (لا شرقية ولا غربية). . وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود , إنما هو زيت آخر عجيب: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار). . فهو من الشفافية بذاته , ومن الإشراق بذاته , حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ; (ولو لم تمسسه نار). . (نور على نور). . وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !

إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض . النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه . إنما هي محاولة لوصل القلوب به , والتطلع إلى رؤياه: (يهدي الله لنوره من يشاء). . ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه . فهو شائع في السماوات والأرض , فائض في السماوات والأرض . دائم في السماوات والأرض . لا ينقطع , ولا يحتبس , ولا يخبو . فحيثما توجه إليه القلب رآه . وحيثما تطلع إليه الحائر هداه . وحيثما اتصل به وجد الله .

إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك , وهو العليم بطاقة البشر:

(ويضرب الله الأمثال للناس , والله بكل شيء عليم). .

ذلك النور الطليق , الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض , يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله , تتطلع إليه وتذكره وتخشاه , وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة:

(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه , يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله , والله يرزق من يشاء بغير حساب). .

وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا , على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة , والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله .

تلك البيوت (أذن الله أن ترفع)- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة , وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله: (ويذكر فيها اسمه). وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة , المسبحة الواجفة , المصلية الواهبة . قلوب الرجال الذين (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة , وأداء حق العباد في الزكاة: (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار). . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .

وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله:

(ليجزيهم الله أحسن ما عملوا , ويزيدهم من فضله). .

ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله: (والله يرزق من يشاء بغير حساب)من فضله الذي لا حدود له ولا قيود .

من الاية 39 الى الاية 40

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)

الدرس الثاني:39 - 40 خسارة أعمال الكافر

في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض , المتبلور في بيوت الله , المشرق في قلوب أهل الإيمان . . يعرض السياق مجالا آخر . مجالا مظلما لا نور فيه . مخيفا لا أمن فيه . ضائعا لا خير فيه . ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار:

(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة , يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا , ووجد الله عنده فوفاه حسابه . والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي , يغشاه موج من فوقه موج , من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض , إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). .

والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين , حافلين بالحركة والحياة .

في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة , يلتمع التماعا كاذبا , فيتبعه صاحبه الظامى ء , وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة . فهذا السائر وراء السراب , الظامىء الذي يتوقع الشراب , الغافل عما ينتظره هناك . . يصل . فلا يجد ماء يرويه , إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال , المرعبة التي تقطع الأوصال , وتورث الخبال: (ووجد الله عنده)! الله الذي كفر به وجحده , وخاصمه وعاداه . وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه , وهو ذاهل غافل على غير استعداد . فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار ?

(فوفاه حسابه). . هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة , (والله سريع الحساب). . تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع !

وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي . موج من فوقه موج . من فوقه سحاب . وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض , حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام !

إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون . وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى . ومخافة لا أمن فيها ولا قرار . . (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). . ونور الله هدى في القلب ; وتفتح في البصيرة ; واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ; والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض . فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها , وفي مخالفة لا أمن فيها , وفي ضلال لا رجعة منه . ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ; لأنه لا عمل بغير عقيدة , ولا صلاح بغير إيمان . إن هدى الله هو الهدى . وإن نور الله هو النور .

الدرس الثالث:41 - 42 تسبيح المخلوقات لله وملكية الله للوجود

ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس , يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح . مشهد يتمثل فيه الوجود كله , بمن فيه وما فيه , شاخصا يسبح لله:إنسه وجنه , أملاكه وأفلاكه , أحياؤه وجماده . . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه , في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه:

(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض , والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). .

إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله , وعن يمينه وعن شماله , ومن فوقه ومن تحته ; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . . إخوان له من خلق الله , لهم طبائع شتى , وصور شتى ,

من الاية 41 الى الاية 44

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44)

وأشكال شتى . ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله , ويتوجهون إليه , ويسبحون بحمده: (والله عليم بما يفعلون). .

والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله , وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض , وهم يسبحون بحمده وتقواه ; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه , فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه . ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله: (كل قد علم صلاته وتسبيحه). . والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ; وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة .

وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه , مسبحا بحمده , قائما بصلاته ; وإنه لكذلك في فطرته , وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه . وإن الإنسان ليدرك - حين يشف - هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله . وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه . . كذلك كان محمد بن عبد الله - صلاة الله وسلامه عليه - إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه . وكذلك كان داود - عليه السلام - يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير .

(ولله ملك السماوات والأرض , وإلى الله المصير). .

فلا اتجاه إلا إليه , ولا ملجأ من دونه , ولا مفر من لقائه , ولا عاصم من عقابه , وإلى الله المصير .

الدرس الرابع:43 مشهد المطر والسحاب

ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ; وفيها متعة للنظر , وعبرة للقلب , ومجال للتأمل في صنع الله وآياته , وفي دلائل النور والهدى والإيمان:

ألم تر أن الله يزجي سحابا , ثم يؤلف بينه , ثم يجعله ركاما , فترى الودق يخرج من خلاله . وينزل من السماء من جبال فيها من برد , فيصيب به من يشاء , ويصرفه عمن يشاء , يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . .

والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة , وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع . كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه , وبعثه إلى التأمل والعبرة , وتدبر ما وراءها من صنع الله .

إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان . ثم تؤلف بينه وتجمعه , فإذا هو ركام بعضه فوق بعض . فإذا ثقل خرج منه الماء , والوبل الهاطل , وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة , فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة . . ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها , فإذا المشهد مشهد الجبال حقا , بضخامتها , ومساقطها , وارتفاعاتها وانخفاضاتها . وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس , إلا بعد ما ركبوا الطائرات .

وهذه الجبال مسخرة بأمر الله , وفق ناموسه الذي يحكم الكون ; ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء , ويصرفه عمن يشاء . . وتكملة المشهد الضخم: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض , على طريقة التناسق في التصوير .

الدرس الخامس:44 تقليب الليل والنهار

ثم مشهد كوني ثالث:مشهد الليل والنهار:

(يقلب الله الليل والنهار . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). .
من الاية 45 الى الاية 45

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)

والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله . والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير ; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد , وانفعال جديد . فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري , وهو يتأملها أول مرة . وهي هي لم تتغير ; ولم تفقد جمالها وروعتها . إنما القلب البشري هو الذي صدىء وهمد , فلم يعد يخفق لها . وكم ذا نفقد من حياتنا , وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود , حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة . أو وحسنا هو الجديد !

والقرآن يجدد حسنا الخامد , ويوقظ حواسنا الملول . ويلمس قلبنا البارد . ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة . نقف أمام كل ظاهرة نتأملها , ونسألها عما وراءها من سر دفين , ومن سحر مكنون . ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا , ونتدبر حكمته في صنعته , ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود .

إن الله - سبحانه - يريد أن يمن علينا , بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ; فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة . فنظل نجد الكون مرات لا تحصى . وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ; ونستمتع به من جديد .

وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع . وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته , مستمدة من النبع الذي يستمد منه , قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه . فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة , وصلة ومعرفة , وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب !

وإننا لنجد نور الله هناك . فالله نور السماوات والأرض . . نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير , والقلب المتفتح , والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير .

لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة , ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة , كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين , فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد . أو برصيد قليل هزيل . .

الدرس السادس:45 إعجاز الله في الكون وفي مخلوقاته

ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون , واستثارة تطلعنا إليها ; فيعرض نشأة الحياة , من أصل واحد , وطبيعة واحدة , ثم تنوعها , مع وحدة النشأة والطبيعة:

(والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه , ومنهم من يمشي على رجلين , ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير). .

وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة , حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء , قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا , وهو الماء , وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع , وتفرعت الأجناس . .

ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها , ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته , لا عن فلتة ولا مصادفة: يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون
من الاية 46 الى الاية 47

لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)

قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها: (إن الله على كل شيء قدير).

وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام , والأصول والأنواع , والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد , ليوحي بالتدبير المقصود , والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ; وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .

الوحدة الرابعة:46 - 57 الموضوع:التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين موضوع الوحدة

بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور , في مشاهد الكون الكبير . . يعود سياق السورة إلى موضوعهاالأصيل . موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة , لتتطهر قلوبها وتشرق , وتتصل بنور الله في السماوات والأرض .

ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .

فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين , الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله [ ص ] وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم . أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض , والتمكين في الدين , والأمن في المقام , جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله . وطاعتهم لله ورسوله . وذلك على الرغم من عداء الكافرين . وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير . .

الدرس الأول:46 - 53 رفض المنافقين حكم الله وقبول المؤمنين ذلك

(لقد أنزلنا آيات مبينات . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .

فآيات الله مبينة كاشفة ; تجلو نور الله , وتكشف عن ينابيع هداه . وتحدد الخير والشر , والطيب والخبيث . وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ; وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام . فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة , لا يخشى منها صاحب حق على حقه ; ولا يلتبس فيها حق بباطل , ولا حلال بحرام .

(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). . والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد . غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقا , ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره , فاتصل به , وسار على الدرب , حتى يصل - بمشيئة الله - ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال . حسب مشيئة الله في الهدى والضلال .

ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس . فريق المنافقين , الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:

(ويقولون:آمنا بالله وبالرسول وأطعنا . ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك . وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون). .

إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك . والإسلام عقيدة متحركة , لا تطيق السلبية . فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع . ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون . مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة , لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل .

وهؤلاء كانوا يقولون: (آمنا بالله وبالرسول وأطعنا). . يقولونها بأفواههم , ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم . فيتولون ناكصين ; يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: (وما أولئك بالمؤمنين)فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم . والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي . إنما هو تكيف في النفس , وانطباع في القلب , وعمل في الواقع , ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . .

من الاية 48 الى الاية 49

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله [ ص ] على شريعة الله التي جاء بها:

(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين). .

فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق , ولا ينحرف مع الهوى , ولا يتأثر بالمودة والشنآن . وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله [ ص ] ويأبون أن يجيئوا إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .

هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان , ثم يسلك هذا السلوك الملتوي , إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان . المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر , فيتظاهرون بالإسلام . ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله , ولا أن يحكم فيهم قانونه , فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين)فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله . إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه !

إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سييء الأدب معتم , لم يتأدب بأدب الإسلام , ولم يشرق قلبه بنور الإيمان .

ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب:

(أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?). .

والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .

والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !

والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?

إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء , فلا يظلم أحد منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة .

وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة , وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة
من الاية 50 الى الاية 52

أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

إنما هي العدالة المطلقة , التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله , ولا يحققها حكم غير حكمه .

من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون , الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ; ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا , ولا يرتابون في عدالته أصلا (بل أولئك هم الظالمون). .

فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور:

(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا:سمعنا وأطعنا . وأولئك هم المفلحون). .

فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق . .

(وأولئك هم المفلحون). . المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .

(ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون). .

وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام . فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي , مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه . والتقوى أعم من الخشية , فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه , وإجلالا له , وحياء منه , إلى جانب الخوف والخشية .

ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون .

وأدب الطاعة لله ورسوله , مع خشية الله وتقواه , أدب رفيع , ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور الله , واتصاله به , وشعوره بهيبته . كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلائه . فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله , ولا تستمد منها , هي ذلة يأباها الكريم , وينفر منها طبع المؤمن , ويستعلي عليها ضميره . فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار .

وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:

من الاية 53 الى الاية 54

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . قل:لا تقسموا . طاعة معروفة . إن الله خبير بما تعملون . قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا . وما على الرسول إلا البلاغ المبين). .

ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله [ ص ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن والله يعلم إنهم لكاذبون . فهو يرد عليهم متهكما , ساخرا من أيمانهم . (قل:لا تقسموا . طاعة معروفة). . لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به:لا تحلف لي على صدقك . فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل .

ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون). . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون !

لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !

(قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). .

(فإن تولوا)وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)فليس مسؤولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول .

الدرس الثاني:55 - 57 وعد المؤمنين بالتمكين وانتصار الدين

وبعد استعراض أمر المنافقين , والانتهاء منه على هذا النحو . . يدعهم السياق وشأنهم , ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين , يبين جزاء الطاعة المخلصة , والإيمان العامل , في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). .

ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ ص ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?

إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ ص ] من عند الله .

فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا)والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .

من الاية 55 الى الاية 57

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .

فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?

إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .

إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !

وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .

آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع ا
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى