منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب Empty تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء أبريل 18, 2012 7:10 pm

من الاية 189 الى الاية 189

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه , فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان , لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان !

الدرس التاسع:189

ثم جولة جديدة في قضية التوحيد . تأخذ في أولها صورة القصة , لتصوير خطوات الإنحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس . وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم . . ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها , وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير . وتختم بتوجيه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله , وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده , وليه وناصره:

الدرس التاسع:189 - 195 خطوات الإنحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس

(هو الذي خلقكم من نفس واحدة , وجعل منها زوجها ليسكن إليها , فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به , فلما أثقلت دعوا الله ربهما:لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون ! أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ? ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ?)

(وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم , سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم , فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ? أم لهم أيد يبطشون بها ? أم لهم أعين يبصرون بها ? أم لهم آذان يسمعون بها ? قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). .

إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال ; ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير ! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى ; وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد !

الدرس التاسع:189 -195 تفيد اشراك الزوجين وغيرهما من المشركين

(هو الذي خلقكم من نفس واحدة , وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به , فلما أثقلت دعوا الله ربهما:لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين). .

إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها . . أن يتوجهوا إلى الله ربهم , معترفين له بالربوبية الخالصة , عند الخوف وعند الطمع . . والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة , وتركيب الزوجية وطبيعتها:

(هو الذي خلقكم من نفس واحدة , وجعل منها زوجها ليسكن إليها). .

فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها , وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى . وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها . . وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان . ووظيفة الزوجية في تكوينه . وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً . يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني , وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً , ويوم أن كانت الوثنيات - ولا تزال - تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .

والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار . ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب , وينتج فيه المحصول البشري الثمين , ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه . ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة . كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً , وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف , أو تكراراً للاختصاصات والوظائف ; كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء !

وبعد ذلك تبدأ القصة . . تبدأ من المرحلة الأولى . .

فلما تغشاها حملت حملاًخفيفا فمرت به . .

والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين . . (فلما تغشاها). . تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن ; وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين . إيحاء "للإنسان" بالصورة "الإنسانية " في المباشرة . وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة ! . . كذلك تصوير الحمل في أول أمره . .(خفيفاً). . تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه .

ثم تأتي المرحلة الثانية:

(فلما أثقلت دعوا الله ربهما:لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين). .

لقد تبين الحمل , وتعلقت به قلوب الزوجين , وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً . . إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم , وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب . . وعند الطمع تستيقظ الفطرة , فتتوجه إلى الله , تعترف له بالربوبية وحده , وتطمع في فضله وحده , لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود . لذلك (دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين). .

(فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون !). .

إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء . . إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين . فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها "عبد الحارث" . . والحارث اسم لإبليس . ليولد صحيحاً ويعيش ; ففعلت وأغرت آدم معها ! وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي . . ذلك أن التصور الإسرائيلي المسيحي - كما حرفوا ديانتهم - هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء , وهو مخالف تماماً للتصور الإسلامي الصحيح .

ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني . . فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية . . ولقد كان المشركون على عهد رسول الله [ ص ] وقبله , ينذرون بعض أبنائهم للآلهة , أو لخدمة معابد الآلهة ! تقرباً وزلفى إلى الله ! ومع توجههم في أول الأمر لله , فإنهم بعد دحرجة من قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون لهذه الآلهة أبناءهم لتعيش وتصح وتوقى المخاطر ! كما يجعل الناس اليوم نصيباً في أبدان أبنائهم للأولياء والقديسين . كأن يستبقوا شعر الغلام لا يحلق أول مرة إلا على ضريح ولي أو قديس . أو أن يستبقوه فلا ختان حتى يختن هناك . مع أن هؤلاء الناس اليوم يعترفون بالله الواحد . ثم
من الاية 190 الى الاية 190

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

يتبعون هذا الاعتراف بهذه الاتجاهات المشركة . والناس هم الناس !

(فتعالى الله عما يشركون !).

وتنزه عن الشرك الذي يعتقدون ويزاولون !

على أننا نرى في زماننا هذا صنوفاً وألواناً من الشرك ; ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له , ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص .

إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها "القوم" ويسمونها "الوطن " , ويسمونها "الشعب" . . إلى آخر ما يسمون . وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون . ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله - سبحانه - في خلقه , وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة ! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع !

إن الناس يعترفون بالله ربا . ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً , بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها "مقدسة " . تخالف في سبيلها أوامر الله وشرائعه , بل تنبذ نبذاً . فكيف تكون الآلهة ? وكيف يكون الشرك ? وكيف يكون نصيب الشركاء في الأبناء . . إن لم يكن هو هذا الذي تزاوله الجاهلية الحديثة !!

ولقد كانت الجاهلية القديمة اكثر أدباً مع الله . . لقد كانت تتخذ من دونه آلهة تقدم لها هذه التقدمات من الشرك في الأبناء والثمار والذبائح لتقرب الناس من الله زلفى ! فكان الله في حسها هو الأعلى . فأما الجاهلية الحديثة فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله عندها . فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً !

إننا نخدع أنفسنا حين نقف بالوثنية عند الشكل الساذج للأصنام والآلهة القديمة , والشعائر التي كان الناس يزاولونها في عبادتها واتخاذها شفعاء عند الله . . إن شكل الأصنام والوثنية فقط هو الذي تغير . كما أن الشعائر هي التي تعقدت , واتخذت لها عنوانات جديدة . . أما طبيعة الشرك وحقيقته فهي القائمة من وراء الأشكال والشعائر المتغيرة . .

وهذا ما ينبغي ألا يخدعنا عن الحقيقة !

إن الله - سبحانه - يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة . ولكن "الوطن" أو "الإنتاج" يأمر بأن تخرج المرأة وتتبرج وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق في صورة فتيات الجيشا في اليابان الوثنية ! فمن الإله الذي تتبع أوامره ? أهو الله سبحانه ? أم إنها الآلهة المدعاة ?

إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة . . ولكن "القومية " أو "الوطن" يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع ; وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة ! . . فمن هو الإله الذي تتبع أوامره ? أهو الله - سبحانه - أم هي الآلهة المدعاة ?!

إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة . ولكن عبداً من العبيد - أو مجموعة من "الشعب" - تقول:كلا ! إن العبيد هم الذين يشرعون وشريعتهم هي الحاكمة . . فمن هو الإله الذي تتبع اوامره ? أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة ?!

إنها أمثلة لما يجري في الأرض كلها اليوم ; ولما تتعارف عليه البشرية الضالة . . أمثلة تكشف عن حقيقة الوثنية السائدة , وحقيقة الأصنام المعبودة , المقامة اليوم بديلاً من تلك الوثنية الصريحة , ومن تلك الأصنام المنظورة ! ويجب ألا تخدعنا الأشكال المتغيرة للوثنية والشرك عن حقيقتها الثابتة !!!
من الاية 191 الى الاية 192

أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)

ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة ; وتلك الجاهلية الصريحة ; ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري - أيّاً كانت طفولته - فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم , وصور فيه مدارج الشرك في النفس:

(أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ? ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ?). .

إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد ! وآلهتهم المدعاة - كلها - لا تخلق شيئاً بل هي تخلق ! فكيف يشركون بها ? كيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ?

وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد . فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية . . وآلهتهم المدعاة - كلها - لا قوة لها ولا سلطان ; فهم لا يستطيعون نصرهم , ولا نصر أنفسهم ! فكيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ?

ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة , فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة ! إنهم يقيمون لهم أصناماً أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به ; ويجعلون لها شركاً في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم . . فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئاً ? ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصراً ?

إن العقل البشري - لو خلي بينه وبين هذا الواقع - لا يقره , ولا يرضاه ! ولكنها الشهوات والأهواء والتضليل والخداع . . هي التي تجعل البشرية بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن ترتد إلى هذه الجاهلية - في صورتها الجديدة - فتشرك ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون , ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون !

إن هذه البشرية لفي حاجة اليوم - كما كانت في حاجة بالأمس - إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى . في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام ; ومن يخرجها من الظلمات إلى النور ; ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية الجديدة ; بل من هذا السخف الجديد الذي تلج فيه ; كما أنقذها هذا الدين أول مرة !

إن صيغة التعبير القرآنية توحي بأنه كان يعني كذلك تقريعهم على اتخاذ آلهة من البشر:

(أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ? ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ?). .

فهذه الواو والنون تشير إلى أن من بين هذه الآلهة على الأقل بشراً من "العقلاء" الذين يعبر عنهم بضمير "العاقل" ! . . وما علمنا أن العرب في وثنيتهم كانوا يشركون بآلهة من البشر - بمعنى أنهم يعتقدون بألوهيتهم أو يقدمون الشعائر التعبدية لهم - إنما هم كانوا يشركون بأمثال هؤلاء من ناحية أنهم يتلقون منهم الشرائع الاجتماعية والأحكام في النزاعات - أي الحاكمية الأرضية - وأن القرآن يعبر عن هذا بالشرك , ويسوي بينه وبين شركهم الآخر بالأوثان والأصنام سواء . وهذا هو الاعتبار الإسلامي لهذا اللون من الشرك . فهو شرك كشرك الاعتقاد والشعائر لا فرق بينه وبينه , كما اعتبر الذين يتقبلون الشرائع والأحكام من الأحبار والرهبان مشركين . مع أنهم لم يكونوا يعتقدون بألوهيتهم ولم يكونوا يقدمون لهم الشعائر كذلك . . فكله شرك وخروج عن التوحيد الذي يقوم عليه دين الله ; والذي تعبر عنه شهادة أن لا إله إلا الله . . مما يتفق تماماً مع ما قررناه من شرك الجاهلية الحديثة !
من الاية 193 الى الاية 194

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)

ولما كان الحديث عن قصة الانحراف في النفس - ذلك المتمثل في قصة الزوجين - هو حديث كل شرك ! والمقصود به هو تنبيه أولئك الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , إلى سخف ما هم عليه من الشرك , واتخاذ تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً بل هي تخلق , ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصرا , سواء أكانت من البشر أم من غيرهم , فهي كلها لا تخلق ولا تنصر - لما كان هذا هو اتجاه السياق القرآني , فإنه ينتقل من القصة ومن أسلوب الحكاية في الفقرة السابقة , إلى مواجهة مشركي العرب وإلى أسلوب الخطاب انتقالاً مباشراً , كأنه امتداد للحديث السابق عليه عن تلك الآلهة !

وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم , سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم . فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ? أم لهم أيد يبطشون بها ? أم لهم أعين يبصرون بها ? أم لهم آذان يسمعون بها ? .

لقد كانت وثنية مشركي العرب وثنية ساذجة - كما أسلفنا - سخيفة في ميزان العقل البشري في أية مرحلة من مراحله ! ومن ثم كان القرآن ينبه فيهم هذا العقل ; وهو يواجههم بسخافة ما يزاولونه من الشرك بمثل هذه الآلهة .

إن أصنامهم هذه الساذجة بهيئتها الظاهرة:ليس لها أرجل تمشي بها , وليس لها أيد تبطش بها . وليس لها أعين تبصر بها , وليس لها آذان تسمع بها . . هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم . فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه الأحجار الهامدة ?

فأما ما يرمزون إليه بهذه الأصنام من الملائكة حيناً , ومن الآباء والأجداد حيناً . . فهم عباد أمثالهم من خلق الله مثلهم . لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون , ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون !

والازدواج في عقائد مشركي العرب بين الأصنام الظاهرة , والرموز الباطنة هو - فيما نحسب - سبب مخاطبتهم هكذا عن هذه الآلهة:مرة بضمير العاقل ملحوظاً فيها ما وراء الأصنام من الرمز , ومرة بالإشارة المباشرة إلى الأصنام ذاتها , وأنها فاقدة للحياة والحركة ! وهي في مجموعها ظاهرة البطلان في منطق العقل البشري ذاته , الذي يوقظه القرآن , ويرفعه عن هذه الغفلة المزرية !

الدرس العاشر:195 - 198 الإعتصام بالله وتحدي الكفار

وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله [ ص ]:أن يتحداهم ويتحدى آلهتهم العاجزة - كلها - وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله - وحده - له:

(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا , وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). .

إنها كلمة صاحب الدعوة , في وجه الجاهلية . . ولقد قالها رسول الله [ ص ] كما أمره ربه ; وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة:

(قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون). .

لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي . . وقال لهم:ألا يألوا جهداً في جمع كيدهم وكيد آلهتهم ; بلا إمهال ولا إنظار ! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه , ويحتمي به من كيدهم جميعاً:
من الاية 195 الى الاية 198

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198)

(إن وليي الله , الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين). .

فأعلن بها عمن إليه يرتكن . إنه يرتكن إلى الله . . الذي نزل الكتاب . . فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه ; كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين . . وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه .

وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله [ ص ] - في كل مكان وفي كل زمان:

(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون). .(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين).

إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض ; وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض . .

إنها في ذاتها واهية واهنة , مهما بدت قوية قادرةSadيا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له:إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له , وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب !). .(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون !). .

وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله . فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن ? وماذا تساوي في حسه ; حتى لو قدرت على أذاه ?!إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاها . لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها _ سبحانه وتعالى _ ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه . . ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب . واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين !

لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد , والمشركون يتناولونه بالأذى ; ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه , حتى تركوه وما يعرف له فم من عين ! . . كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله [ ص ]:" رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! . . . " كان يعرف في قراره نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه ! لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه ; كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه !

ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول , وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته ! . . كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله:"والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك ! " . . كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله . فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله .

ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول , وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك , لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فكيف عنه الأذى , وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله . وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه . . كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره:" لأنا في جوار من هو أعز منك ! " . . وكان يرد على عتبة إذ قال له:" يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها ! " . . يقول:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله ! " . . كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد . وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه , ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله " . .

هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد [ ص ] في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم:

(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين). .

ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين . وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ?

كان ما يعرفه التاريخ ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله . وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون . وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين , الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع , وبعزمة في الله لا تلين !

إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة , وإلا بمثل هذه العزمة , وإلا بمثل ذلك اليقين:

(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين). .

لقد أمر رسول الله [ ص ] أن يتحدى المشركين . فتحداهم . وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم:

(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون). .

(وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا , وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). .

وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة . . فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة . .

إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض ! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون . حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم .

وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع , وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر ! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر . . الوطن . والقوم . والإنتاج . والآلة . وحتمية التاريخ ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة ! والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر , التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر . . هي من الذين يقول الله فيهمSadولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس , لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام بل هم أضل , أولئك هم الغافلون)!

إن صاحب الدعوة إلى الله , إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة . . وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه [ ص ] أن يقول:

(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). . فإنما هم هم . . في كل أرض وفي كل حين !!!
من الاية 199 الى الاية 200

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

الوحدة الحادية عشرة:199 - 206 توجيهات ربانية للمؤمنين مقدمة الوحدة تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة , من الله سبحانه إلى أوليائه . . رسول الله [ ص ] والذين آمنوا معه . . وهم بعد في مكة ; وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة . . هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة , وفي مواجهة هذه البشرية الضالة , تدعو صاحب الدعوة [ ص ] إلى السماحة واليسر , والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها , بغير تعقيد ولا تشديد . والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم , ولا يجادلهم , ولا يحفلهم . . فإذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه بالعناد والصد , ونفخ الشيطان في هذا الغضب , فليستعذ بالله ليهدأ ويطمئن ويصبرSadخذ العفو , وأمر بالعرف , وأعرض عن الجاهلين . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). .

ثم يعرفه بطبيعة أولئك الجاهلين ; والوسوسة التي وراءهم والتي تمدهم في الغي والضلال . ويذكر طرفاً من سلوكهم مع رسول الله [ ص ] وطلبهم الخوارق ; ليوجهه إلى ما يقول لهم , ليعرفهم بطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول , وليصحح لهم تصوراتهم عنها وعنه وعن علاقته بربه الكريمSadوإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا:لولا اجتبيتها ! قل:إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي . هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .

وبمناسبة هذه الإشارة إلى ما أوحاه إليه ربه من القرآن , يجيء توجيه المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن ; وأدب ذكر الله ; مع التنبيه إلى مداومة هذا الذكر , وعدم الغفلة عنه . فإن الملائكة الذين لا يخطئون يذكرون ويسبحون ويسجدون , فما أولى البشر الخطائين أن لا يغفلوا عن الذكر والتسبيح والسجودSadوإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون). .

الدرس الأول:199 - 201 دعوة إلى السماحة واليسر والإستغفار والتوبة

(خذ العفو , وأمر بالعرف , وأعرض عن الجاهلين , وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله , إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). .

خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة , ولا تطلب إليهم الكمال , ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق . واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم . . كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية . فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح . ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار . وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة . فالإغضاء عن الضعف البشري , والعطف عليه , والسماحة معه , واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء . ورسول الله [ ص ] راع وهاد ومعلم ومرب . فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء . . وكذلك كان [ ص ] . . لم يغضب لنفسه قط . فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء ! . . وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله [ ص ] . فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر , وسماحة طبع , ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله . .

(وأمر بالعرف). . وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ; والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة . والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك , وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف ! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين . .

(وأعرض عن الجاهلين). . من الجهالة ضد الرشد , والجهالة ضد العلم . . وهما قريب من قريب . . والإعراض يكون بالترك والإهمال ; والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال ; والمرور بها مر الكرام ; وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب , وإضاعة الوقت والجهد . . وقد ينتهي السكوت عنهم , والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها , بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد . فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم , فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير . إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو , ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون !

وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس !

ولكن رسول الله [ ص ] بشر . وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى . . وإذا قدر عليها رسول الله [ ص ] فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة . . وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس , وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام ! . . لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله ; لينفثئ غضبه , ويأخذ على الشيطان طريقه:

(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم). .

وهذا التعقيب: (إنه سميع عليم). . يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم ; عليم بما تحمله نفسك من أذاهم . . وفي هذا ترضية وتسرية للنفس . . فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم ! وماذا تبتغي نفس بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين ?!

ثم يتخذ السياق القرآني طريقاً آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول , وذكر الله عند
من الاية 201 الى الاية 203

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم:

(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). .

وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة , وحقائق عميقة , يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل . . إن اختتام الآية بقوله: (فإذا هم مبصرون)ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية . ليس لها ألفاظ تقابلها هناك . . إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة . ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه . . تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه . . تذكر المتقين . فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم ; وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: (فإذا هم مبصرون). . إن مس الشيطان عمى , وإن تذكر الله إبصار . . إن مس الشيطان ظلمة , وإن الاتجاه إلى الله نور . . إن مس الشيطان تجلوه التقوى , فما للشيطان على المتقين من سلطان . .

الدرس الثاني:202 - 203 رد على طلب الكفار تغيير الآيات والقرآن بصائر

ذلك شأن المتقين: (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). . جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين ; وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين , يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون . . فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين:

(وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا:لولا اجتبيتها . قل:إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي , هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .

وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن . . وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً . . إنهم يزيدون لهم في الضلال , لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون ! وهم من ثم يحمقون ويجهلون ! ويظلون فيما هم فيه سادرين .

ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله [ ص ] والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:

(وإذا لم تأتهم بآية قالوا:لولا اجتبيتها !). .

أي . . لولا ألححت على ربك حتى ينزلها ! . . أو هلا فعلتها أنت من نفسك ? ألست نبياً ?! . .

إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته ; كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه ; وأنه يتلقى منه ما يعطيه ; ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه ; ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه . . والله يأمره أن يبين لهم:

(قل:إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي). .

فلا أقترح , ولا أبتدع , ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي . ولا آتي إلا ما يأمرني به . .

لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم , ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:

كذلك يؤمر رسول الله [ ص ] أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به , وحقيقته التي يغفلون عنها , ويطلبون الخوارق المادية , وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه:

(هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .

إنه هذا القرآن . . بصائر تهدي , ورحمة تفيض . . لمن يؤمن به , ويغتنم هذا الخير العميم . .

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب - في جاهليتهم - يعرضون عنه , ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل , في طفولة البشرية , وفي الرسالات المحلية غير العالمية , والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها , ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها , فكيف بمن بعدهم من الأجيال , وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة !

إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه . . من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان . . لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان !

فهذا جانبه التعبيري . . ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه - بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني , ويتفاخرون به في أسواقهم ! - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر . تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً . والذين يزاولون فن التعبير من البشر , ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه , هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز . . سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون . . فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون . . وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون !

ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد . . يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة ! - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب , وثقل فوقها الركام , تنتفض قلوبهم أحياناً ; وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان ; وهم يستمعون إلى هذا القرآن !

إن الذين يقولون كثيرون . . وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات . . ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول ! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب ! . . ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة -: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). . لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم ! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب ! غير أن هذا القرآن يظل - مع ذلك كله - غلاباً . . وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر , حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها , وتستولي على الحس الداخلي للسامعين , وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون !

ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه . . وما تتسع صفحات عابرة - في ظلال القرآن - للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه . . فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد !

وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات ?!

منهج هذا القرآن العجيب , في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود . . وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها , لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد , ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها ; ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه , ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه !

منهج هذا القرآن العجيب , وهو يتناول قضايا هذا الوجود , فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبهوعقله بالتسليم المطلق , والتجاوب الحي , والرؤية الواضحة . وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة , ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة , ويوجهها الوجهة الصحيحة .

منهج هذا القرآن العجيب , وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة , ومرحلة مرحلة ; ويصعد بها - في هينة ورفق , وفي حيوية كذلك وحرارة , وفي وضوح وعلى بصيرة - درجات السلم في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة . . في المعرفة والرؤية , وفي الانفعال والاستجابة , وفي التكيف والاستقامة , وفي اليقين والثقة , وفي الراحة والطمأنينة . . إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة . .

منهج هذا القرآن العجيب , وهو يلمس الفطرة الإنسانية , من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة ! أو أن يكون هذا وتر استجابة ! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب . ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق , وهو أقرب إليه من حبل الوريد !

ذلك المنهج ? . . أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج . . وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً . .(قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي , لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي , ولو جئنا بمثله مدداً). . (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام , والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). .

إن الذي يكتب هذه الكلمات , قضى - ولله الحمد والمنة - في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً . يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب ; في شتى حقول المعرفة الإنسانية - ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه - ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب . . ويرى . . يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن ; وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة , وتلك النقر الصغيرة . . وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً !

في النظرة الكلية في هذا الوجود , وطبيعته , وحقيقته , وجوانبه , وأصله , ونشأته , وما وراءه من أسرار ; وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها "فلسفة " البشر ! . .

في النظرة الكلية إلى "الإنسان" ونفسه , وأصله , ونشأته , ومكنونات طاقاته , ومجالات نشاطه ; وطبيعة تركيبه , وانفعالاته , واستجاباته , وأحواله وأسراره . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع ! والعقائد والأديان . .

في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية ; وجوانب النشاط الواقعي فيها ; ومجالات الارتباط والاحتكاك , والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . .

وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها ! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة !

إنني لم أجد نفسي مرة واحدة - في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية - في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن - فيما عدا قول رسول الله [ ص ] وهو من آثار هذه القرآن - بل إن اي قول آخر ليبدو هزيلاً - حتى لو كان صحيحاً - إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب . .

إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات ; والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات . . وما بي أن أثني على هذا الكتاب . . ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء !

لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد . . جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية - لا من قبل ولا من بعد - جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد , الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن . .

لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ - بمشيئة الله وقدره - هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر . وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً . . وهي معجزة واقعة مشهودة . . أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة . . .

ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة , والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام , تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب , ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه , وتوجيهاته وإيحاءاته . . كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية . حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى , التي تفوقه في الإمكانيات المادية - بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة - ولكنها لا تطاوله في "الحضارة الإنسانية " !

إن الناس اليوم - في الجاهلية الحديثة ! - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن ! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن ! . . فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة , وجهالتهم العميقة - كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك - دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب ! . . فأما أهل الجاهلية الحاضرة , فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور "العلم البشري" الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة . وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم ; ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل . وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب , وتجدد الحاجات , وتعقدها كذلك ! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي ; الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم ; وعن محاولة إلهاء أهله عنه ; وإبعادهم عن توجيهه المباشر . بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة:أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين , ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب , عكوف الجيل الأول , لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته ! . . هو كيد مطرد مصرّ لئيم خبيث . . ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين - وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين ! - وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين ; ولتدارس قرآن غير قرآنه ; يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها , ويرد إليه كل اختلاف , وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة ; كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون !!!

إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم . لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم ! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم , ومن الجهل المزري , ومن التعاليم المغرورة , ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث !

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية . والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه , وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه ! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير:

(هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .

بصائر تكشف وتنير . وهدى يرشد ويهدي . ورحمة تغمر وتفيض . . (لقوم يؤمنون)فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم . .

الدرس الثالث:204 الإستماع والإنصات للقرآن

ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين:

وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون . .

فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآنSadكتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه , لتنذر به وذكرى للمؤمنين). .

وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرئ القرآن . . بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة . حين يجهر الإمام بالقرآن ; فيجب أن يستمع المأموم وينصت , ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية . ولا ينازع الإمام القرآن ! وذلك كالذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن , وقال الترمذي عنه:هذا حديث حسن , وصححه أبو حاتم الرازي , من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله [ ص ] انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:" هل قرأ أحد منكم معي آنفاً به " قال رجل:نعم يا رسول الله . قال:" إني أقول:ما لي أنازع القرآن " فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله [ ص ] فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله [ ص ] وكالذي رواه ابن جرير في التفسير:حدثنا أبو كريب , حدثنا المحاربي , عن داود بن أبي هند , عن بشير بن جابر قال:صلى ابن
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى