تفسير سورة الاعراف ايه172==188 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاعراف ايه172==188 الشيخ سيد قطب
الأعراف
من الاية 172 الى الاية 172
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر , وتكمن فيها خصائصهم كلها , لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب , أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال:" مسح ربك ظهر آدم , فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم , وأشهدهم على أنفسهم: (ألست بربكم ? قالوا:بلى)" . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير:إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ? وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ? وكيف خاطبهم: (ألست بربكم)وكيف أجابوا: (بلى شهدنا)? . . فالجواب عليه:أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . .). . (ثم استوى على العرش). . (يمحو الله ما يشاء ويثبت). . (والسماوات مطويات بيمينه). .(وجاء ربك والملك صفاً صفاً). . (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم). . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه , لا مناص من التسليم بوقوعه , دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء , ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه , هي محاولة مضللة , لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله , وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه , حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها , ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير:قال قائلون من السلف والخلف:إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا:ولهذا قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم)ولم يقل:من آدم . . (من ظهورهم). . ولم يقل من ظهره . .(ذرياتهم)أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل , وقرناً بعد قرن , كقوله تعالى: وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال: (ويجعلكم خلفاء الأرض). . وقال: (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). . ثم قال: (وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى !)أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا:والشهادة تارة تكون بالقول كقوله: (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر). . أي حالهم شاهد عليهم بذلك , لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالىوإنه على ذلك لشهيد). . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله: (وآتاكم من كل ما سألتموه). . قالوا:ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا , كما قال من قال , لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل:إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده , فالجواب:أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم , فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال: (أن تقولوا). . أي لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا). أي التوحيد . . (غافلين , أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا). . . [ الآية ] .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي:في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله [ ص ] . " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية . " على هذه الملة " - فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه , كما تولد بهيمة جمعاء , هل تحسون فيها من جدعاء ? " .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال:قال رسول الله - [ ص ]:" يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء , فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم , وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - حدثنا يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , أخبرني السري بن يحيى , أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال:غزوت مع رسول الله [ ص ] أربع غزوات , قال:فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة , فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فاشتد عليه , ثم قال:" ما بال أقوام يتناولون الذرية ? " . فقال رجل:يا رسول الله . أليسوا أبناء المشركين ? فقال:" إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة , فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها , فأبواها يهودانها وينصرانها " . . قال الحسن:لقد قال في كتابه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم). . . الآية .
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم . . الآيات على وجهه لا على سبيل الحال . لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه . وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه . . ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير , وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية . . والله أعلم أي ذلك كان . .
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده . وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة ; يخرج بها كل مولود إلى الوجود ; فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها ! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال . وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة "الإنسان" وحده ; ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله - وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله . موصولة به غير منقطعة عنه , محكومة بذات الناموس الذي يحكمه - بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة . .
من الاية 173 الى الاية 173
أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود , واضح الأثر في شكل الكون , وتنسيقه , وتناسق أجزائه , وانتظام حركته , واطراد قوانينه , وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين . . وأخيراً - حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر - وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته , وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها . .
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون , وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته - في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة - ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني - الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية - في تقرير هذا الناموس . إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس . واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة , على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق . والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة , الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه . كما أنه لايدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه , واعترافه بوحدانيته , وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به ; وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله - بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة - سارٍ كذلك في كيان الإنسان - بوصفه من كائنات هذا الكون - مستقر في فطرته , لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به ; فهو مدرك بالفطرة , مستقر في صميمها , تستشعره بذاتها , وتتصرف وفقه , ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد , فتنحرف عن إدراكها الذاتي له , وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها , بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم .
هذا الناموس - بذاته - هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها . ميثاق مودع في كيانها . مودع في كل خلية حية منذ نشأتها . وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات . وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد , ذي المشيئة الواحدة , المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها . فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها - سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار - لا سبيل إلى أن يقول أحد:إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد , وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد . أو يقول:إنني خرجت إلى هذا الوجود , فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول ! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة:
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا من قبل , وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ? .
ولكن الله - سبحانه - رحمة منه بعباده , لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا , وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الإنحراف - كما قال رسول الله [ ص ] بفعل شياطين الجن والإنس ; الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف ! . .
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا ; كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به ; حتى يرسل إليهم الرسل , ويفصل لهم الآيات , لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف ,
من الاية 174 الى الاية 175
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات . ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ; ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها . ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة:
(وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون). .
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله ; وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك . فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب ; وردها إلى بارئها الوحيد , الذي فطرها على عقيدة التوحيد . ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير .
الدرس الثاني:175 - 178 قصة من انسلخ من آيات الله
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة , ونقض لعهد الله المأخوذ عليها , ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته , فكانت في متناول نظره وفكره ; ولكنه انسلخ منها , وتعرى عنها ولصق بالأرض , واتبع الهوى ; فلم يستمسك بالميثاق الأول , ولا بالآيات الهادية ; فاستولى عليه الشيطان ; وأمسى مطروداً من حمى الله , لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار . .
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة ! إنما يصوره في مشهد حي متحرك , عنيف الحركة , شاخص السمات , بارز الملامح , واضح الانفعالات ; يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة , إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية :
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها , فأتبعه الشيطان , فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه , فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث , أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون !). .
إنه مشهد من المشاهد العجيبة , الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته , ويخلع عليه من فضله , ويكسوه من علمه , ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ; فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة , انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ? . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ; ويتجرد من الغطاء الواقي , والدرع الحامي ; وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ; ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ; فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق , ولا يحميه منه حام ; فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . . إذا نحن بهذا المخلوق , لاصقا بالأرض , ملوثا بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب , يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ; والخيال شاخص يتبعها
من الاية 176 الى الاية 178
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع . . سمع التعليق المرهوب الموحي , على المشهد كله:
(ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون). .
ذلك مثلهم ! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان , هابطون عن مكان "الإنسان" إلى مكان الحيوان . . مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين . . وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ; وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم , فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين !
(ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون !). .
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً ? وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى ? وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى ? وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا ? من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي , ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها , ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض , الحائر القلق , اللاهث لهاث الكلب أبداً !!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد ; إلا هذا القرآن العجيب الفريد !!
وبعد . . فهل هو نبأ يتلى ? أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً . فهو من هذا الجانب خبر يروى ?
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحاً في فلسطين - قبل دخول بني إسرائيل - وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره ; على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير , أن يكون واحدة منها ; ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها ; ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر . . فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل [ بلعام بن باعوراء ] , وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة . وروي أنه كان من العرب [ أمية بن الصلت ] . وروي أنه كان من المعاصرين لبعثة الرسول [ ص ] [ أبو عامر الفاسق ] وروي أنه كان معاصراً لموسى عليه السلام . وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول , وقولهم لموسى - عليه السلام - ما حكاه القرآن الكريم: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان [ اسم الله العظيم ] الذي يدعو به فيجاب ; كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبياً . . ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى . .
لذلك رأينا - على منهجنا في ظلال القرآن - ألا ندخل في شيء من هذا كله . بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء . ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله [ ص ] عنه شيء . وأن نأخذ من النبأ ما وراءه . فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها . . وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ; ما أكثر الذين يعطون علم دين الله , ثم لا يهتدون به , إنما يتخذون هذا العلم وسيلةلتحريف الكلم عن مواضعه . واتباع الهوى به . . هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا .
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها . ويعلن غيرها . ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة , والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل ! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً !
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول:إن التشريع حق من حقوق الله - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية . ومن ادعى الألوهية فقد كفر . ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ! . . ومع ذلك . . مع علمه بهذه الحقيقة , التي يعلمها من الدين بالضرورة , فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع , ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . . ممن حكم عليهم هو بالكفر ! ويسميهم "المسلمين" ! ويسمي ما يزاولونه إسلاما لا إسلام بعده ! . . ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ; ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر . . ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس , ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه . .
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ? وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: (ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث !). . ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته . ولكنه - سبحانه - لم يشأ , لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه , ولم يتبع الآيات . .
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله ; فلم ينتفع بهذا العلم ; ولم يستقم على طريق الإيمان . وانسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان !
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع ?
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها . ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً . والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه ; فهو منطلق فيه أبداً !
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة . . حتى إنه لتمر فترات كثيرة , وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله . فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله , ممن لا ينسلخون من آيات الله , ولا يخلدون إلى الأرض ; ولا يتبعون الهوى ; ولا يستذلهم الشيطان ; ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان ! . . فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده ; وما هو بمحصور في قصة وقعت , في جيل من الزمان !
وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله , كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها . ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى , ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة ; وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً ; وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو . فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة !
ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه ; أو كمن يعضبالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة ! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم ! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا !
اللهم اعصمنا , وثبت أقدامنا , وأفرغ علينا صبراً , وتوفنا مسلمين . .
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى . .
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها ; وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى . .
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية , ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ; ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً . .
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة "نظرية " للدراسة . . فهذا مجرد علم لا ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً . . إنه علم بارد لا يعصم من الهوى , ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً . ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها !
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في "النظام الإسلامي" ولا في "الفقه الإسلامي" ولا في "الاقتصاد الإسلامي" ولا في "العلوم الكونية " ولا في "العلوم النفسية " ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية !
إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية ; تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل ; وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع ; وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول ; وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً .
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر ; يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر , لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء , وثقلة الأبدان , وإغواء الشيطان !
ويقدمه ميزانا للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم , وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم ; فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه ; وما رفضه هذا الميزان كان خاطئا يجب الإقلاع عنه .
ويقدمه منهجا للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة . وفق خطاه هو ووفق تقديراته . . وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم , وأصول شريعتهم , وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم . ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية , وعلومهم الكونية والنفسية , وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية . . يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها , وجدية الشريعة وواقعيتها ; واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها .
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية . . أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة , فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ; ولا يقدم للحياة البشرية خيرا !
ويقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب على ذلك المثل الشاخص في ذلك المشهد , للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها , بأن الهدى هدى الله . فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً ; ومن أضله الله فهو الخاسر الذي لا يربح شيئاً:
(من يهد الله فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون). .
والله سبحانه يهدي من يجاهد ليهتدي , كما قال تعالى في السورة الأخرى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). . وكما قال: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). . وكما قالونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها). .
كذلك يضل الله من يبغي الضلال لنفسه ويعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان , ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها . وذلك كما جاء في الآية التالية في السياقولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس , لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها , أولئك كالأنعام بل هم أضل , أولئك هم الغافلون). . وكما قال تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً). . وكما قال: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم , ولا ليهديهم طريقاً , إلا طريق جهنم خالدين فيها . . .)
ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال , والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية , والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً . .
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني , هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال . . وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها . ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل . . ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به , وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره .
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر اللّه بهداية من يجاهد للهدى . وأن يجري قدر اللّه كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه اللّه من عقل وما أعطاه من أجهزه الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون , وفي رسالات الرسل , الموحية بالهدى .
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة اللّه ولا يتحقق سواها , ويقع ما يقع بقدر اللّه لا بقوة سواه . وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن اللّه شاءه هكذا . وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر اللّه . فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور , كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر اللّه ينشىء الأحداث . . وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه , ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً . .
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة , حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل , وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر , على سبيل الاحتجاج والجدل !
وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا:
(من يهد اللّه فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون).
من الاية 179 الى الاية 179
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
يقرر أن من يهديه الله - وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة - فهو المهتدي حقاً , الواصل يقيناً , الذي يعرف الطريق , ويسير على الصراط , ويصل إلى الفلاح في الآخرة . . وأن الذي يضله الله - وفق سنته تلك - فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً . . مهما ملك , ومهما أخذ ; فكل ذلك هباء أو هواء ! وإنه لكذلك إذا نظرنا إليه من زاوية أن هذا الضال قد خسر نفسه . وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه ?!
الدرس الثالث:179 صفات أهل جهنم من هم في الدنيا
ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية:
ولقد ذرانا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام , بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون . .
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم ! وهم مهيأون لها ! فما بالهم كذلك ?
هنالك اعتباران:
الاعتبار الأول:أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني:أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية:
(لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها). .
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون:
(أولئك كالأنعام , بل هم أضل , أولئك هم الغافلون). .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة ; والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ; ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ; ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك , وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا !
الدرس الرابع:180 دعاء الله بأسمائه الحسنى
وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد ; واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها . . يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين - الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا
من الاية 180 الى الاية 181
وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يواجهون دعوة الإسلام بالشرك - الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها , فيسمون بها الشركاء المزعومين:
(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها , وذروا الذين يلحدون في أسمائه , سيجزون ما كانوا يعملون). .
والإلحاد هو الإنحراف أو التحريف . . وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى , فسموا بها آلهتهم المدعاة . . حرفوا اسم(الله)فسموا به "اللات" . واسم(العزيز)فسموا به "العزى " . . فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده . وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها , دون تحريف ولا ميل ; وأن يدعوا المحرفين المنحرفين ; فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد . فأمرهم موكول إلى الله ; وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه . . وياله من وعيد ! . .
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله ; لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية , ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة . . إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره . . ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق . كالذين يدّعون له الولد . وكالذين يدّعون أن مشيئته - سبحانه - مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية ! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر - وهو سبحانه ليس كمثله شيء - وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء , وفي تصريف نظام الكون , وفي حساب الناس في الآخرة . ولكنه ليس إلهاً في الأرض , ولا في حياة الناس , فليس له - في زعمهم - أن يشرع لحياة الناس ; إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم . أو بعضهم آلهة بعض ! . . وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته . . والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله ; والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون !
الدرس الخامس:181 - 183 ملامح الصالحين والمكذبين
ثم يمضي السياق يفصل صنوف الخلق . . بعدما ذكر منهم من قبل أولئك الذين ذرأهم الله لجهنم (لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . .)ومنهم هؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها . . ثم إن منهم أمة يستمسكون بالحق , ويدعون الناس إليه , ويحكمون به ولا ينحرفون عنه . . وأمة - على الضد - ينكرون الحق , ويكذبون بآيات الله ! فأما الأولون فيقرر وجودهم في الأرض وجوداً ثابتاً لا شك فيه ; وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون , ويزيغ عنه الزائغون ; وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين . وأما الآخرون فيكشف عن مصير لهم مخيف , وكيد لله إزاءهم متين:
(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق , وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين). .
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائماً - وفي أحلك الظروف - تلك الجماعة - التي يسميها الله(أمة)بالمصطلح الإسلامي للأمة وهي:الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها ; وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة - فهذه الأمة الثابتة على الحق ; العاملة به في كل حين , هي الحارسة لأمانة الله في الأرض , الشاهدة بعهده على الناس , التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل .
ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة:
(يهدون بالحق , وبه يعدلون). .
إن صفة هذه الأمة - التي لا ينقطع وجودها من الأرض أياً كان عددها - أنهم (يهدون بالحق). . فهم دعاة إلى الحق , لا يسكتون عن الدعوة به , وإليه , ولا يتقوقعون على أنفسهم ; ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه . ولكنهم يهدون به غيرهم . فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق , المتنكرين لذلك العهد ; ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق ; إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه .
(وبه يعدلون). . فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم , تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق . . فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس . ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرّف ! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله . يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه . ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه . ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة . ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه . ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه . . . وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس , ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق . . وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به . .
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس ! صلبة لا تقبل التمييع ! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة . . وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودا لا تكل , وحملات لا تنقطع , ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته , كل الوسائل وكل الأجهزة , وكل التجارب . . هم يسحقون سحقاً وحشياً كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض ! وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه , يحرفون الكلم عن مواضعه , ويحلون ما حرم الله , ويميعون ما شرعه , ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه ! وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية , المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع , ورفع شعاراتها , أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها ! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا تمكن إعادته , ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين , ثم ليقولوا لهم - في ظل هذا التخدير -:إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة , لا شريعة ونظاماً , وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم ! هذا والإ فإن على هذا الدين أن "يتطور" فيصبح محكوماً بواقع البشر , يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين . وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم - الذي كان إسلامياً - نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين , لتحل محل ذلك الدين القديم ! وينزّلون لها قرآناً يتلى ويدرس , ليحل محل ذلك القرآن القديم ! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات - كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين - كوسيلة أخيرة , حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به ; فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور , مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد , كي لا يفيق , بعد اللقمة والجنس , ليستمع إلى هدى , أو يفيء إلى دين !
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به . . المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج , وجميع الوسائل بلا حساب ; والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام
من الاية 182 الى الاية 183
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
العالمية ; والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية ; والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوماً واحداً لولا هذه الكفالة العالمية !
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية . والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق - على قلة العدد وضعف العدة - ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية . . والله غالب على أمره .
(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون , وأملي لهم إن كيدي متين). .
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته . . هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله . . إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون . ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين . . فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين ! . . إنهم يتولى بعضهم بعضاً ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى ! . . إنها سنة الله مع المكذبين . . يرخى لهم العنان , ويملى لهم في العصيان والطغيان , استدراجاً لهم في طريق الهلكة , وإمعاناً في الكيد لهم والتدبير . ومن الذي يكيد ? إنه الجبار ذو القوة المتين ! ولكنهم غافلون ! والعاقبة للمتقين . الذين يهدون بالحق وبه يعدلون . .
الدرس السادس:184 - 185 دعوة للتفكير للإيمان بالله والرسول
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ; وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ; وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول , وهم غافلون:
أو لم يتفكروا ? ما بصاحبهم من جنة , إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ? وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? فبأي حديث بعده يؤمنون ? . .
إن القرآن يهزهم من غفوتهم , ويوقظهم من غفلتهم , ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها , بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا ; إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها:
أو لم يتفكروا ? ما بصاحبهم من جنة , إن هو إلا نذير مبين . .
لقد كانوا يقولون عن الرسول [ ص ] في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير:إن محمداً به جنة . وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب , غير المعهود في أساليب البشر العاديين !
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون ! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله [ ص ] وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق , وأبي سفيان بن حرب , وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة , ليالي ثلاثاً , وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن
من الاية 184 الى الاية 184
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184)
ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي [ ص ] وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي [ ص ] وما معه من القرآن ; وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود:إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر ; إنما هم كانوا يستكبرون عنه ; ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ; التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم !
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ; كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم , عن الصلة بين التنبؤ والجنون ! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ; ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور ! . . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد , إنما يقوله عن جنة به ; وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول , لأنه مجنون !
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاًعن السواء ; وشهدوا له بالأمانة والصدق , كما شهدوا له بالحكمة ; وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه !
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله , المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة ? . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ? . . كلا:
(ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين). .
لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين , ولا تشتبه حاله بحال المجانين .
ثم . . (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ?). .
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب . . والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم , يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام ; وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه , والإبداع الذي يشهد به , والإعجاز الذي يدل على البارىء الواحد القدير . . والنظر إلى ما خلق الله من شيء - وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء - يدهش القلب ويحير الفكر , ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله , وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور .
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به ; ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة ? لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى ? لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها ? ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد , الصادر عن الإرادة الواحدة , التي يجري بها قدر مطرد مقصود ?
من الاية 185 الى الاية 186
أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْ
من الاية 172 الى الاية 172
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر , وتكمن فيها خصائصهم كلها , لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب , أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال:" مسح ربك ظهر آدم , فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم , وأشهدهم على أنفسهم: (ألست بربكم ? قالوا:بلى)" . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير:إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ? وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ? وكيف خاطبهم: (ألست بربكم)وكيف أجابوا: (بلى شهدنا)? . . فالجواب عليه:أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . .). . (ثم استوى على العرش). . (يمحو الله ما يشاء ويثبت). . (والسماوات مطويات بيمينه). .(وجاء ربك والملك صفاً صفاً). . (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم). . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه , لا مناص من التسليم بوقوعه , دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء , ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه , هي محاولة مضللة , لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله , وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه , حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها , ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير:قال قائلون من السلف والخلف:إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا:ولهذا قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم)ولم يقل:من آدم . . (من ظهورهم). . ولم يقل من ظهره . .(ذرياتهم)أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل , وقرناً بعد قرن , كقوله تعالى: وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال: (ويجعلكم خلفاء الأرض). . وقال: (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). . ثم قال: (وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى !)أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا:والشهادة تارة تكون بالقول كقوله: (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر). . أي حالهم شاهد عليهم بذلك , لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالىوإنه على ذلك لشهيد). . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله: (وآتاكم من كل ما سألتموه). . قالوا:ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا , كما قال من قال , لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل:إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده , فالجواب:أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم , فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال: (أن تقولوا). . أي لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا). أي التوحيد . . (غافلين , أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا). . . [ الآية ] .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي:في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله [ ص ] . " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية . " على هذه الملة " - فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه , كما تولد بهيمة جمعاء , هل تحسون فيها من جدعاء ? " .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال:قال رسول الله - [ ص ]:" يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء , فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم , وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - حدثنا يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , أخبرني السري بن يحيى , أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال:غزوت مع رسول الله [ ص ] أربع غزوات , قال:فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة , فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فاشتد عليه , ثم قال:" ما بال أقوام يتناولون الذرية ? " . فقال رجل:يا رسول الله . أليسوا أبناء المشركين ? فقال:" إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة , فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها , فأبواها يهودانها وينصرانها " . . قال الحسن:لقد قال في كتابه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم). . . الآية .
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم . . الآيات على وجهه لا على سبيل الحال . لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه . وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه . . ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير , وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية . . والله أعلم أي ذلك كان . .
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده . وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة ; يخرج بها كل مولود إلى الوجود ; فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها ! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال . وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة "الإنسان" وحده ; ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله - وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله . موصولة به غير منقطعة عنه , محكومة بذات الناموس الذي يحكمه - بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة . .
من الاية 173 الى الاية 173
أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود , واضح الأثر في شكل الكون , وتنسيقه , وتناسق أجزائه , وانتظام حركته , واطراد قوانينه , وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين . . وأخيراً - حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر - وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته , وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها . .
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون , وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته - في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة - ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني - الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية - في تقرير هذا الناموس . إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس . واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة , على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق . والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة , الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه . كما أنه لايدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه , واعترافه بوحدانيته , وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به ; وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله - بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة - سارٍ كذلك في كيان الإنسان - بوصفه من كائنات هذا الكون - مستقر في فطرته , لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به ; فهو مدرك بالفطرة , مستقر في صميمها , تستشعره بذاتها , وتتصرف وفقه , ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد , فتنحرف عن إدراكها الذاتي له , وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها , بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم .
هذا الناموس - بذاته - هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها . ميثاق مودع في كيانها . مودع في كل خلية حية منذ نشأتها . وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات . وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد , ذي المشيئة الواحدة , المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها . فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها - سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار - لا سبيل إلى أن يقول أحد:إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد , وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد . أو يقول:إنني خرجت إلى هذا الوجود , فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول ! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة:
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا:إنما أشرك آباؤنا من قبل , وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ? .
ولكن الله - سبحانه - رحمة منه بعباده , لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا , وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الإنحراف - كما قال رسول الله [ ص ] بفعل شياطين الجن والإنس ; الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف ! . .
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا ; كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به ; حتى يرسل إليهم الرسل , ويفصل لهم الآيات , لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف ,
من الاية 174 الى الاية 175
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات . ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ; ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها . ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة:
(وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون). .
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله ; وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك . فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب ; وردها إلى بارئها الوحيد , الذي فطرها على عقيدة التوحيد . ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير .
الدرس الثاني:175 - 178 قصة من انسلخ من آيات الله
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة , ونقض لعهد الله المأخوذ عليها , ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته , فكانت في متناول نظره وفكره ; ولكنه انسلخ منها , وتعرى عنها ولصق بالأرض , واتبع الهوى ; فلم يستمسك بالميثاق الأول , ولا بالآيات الهادية ; فاستولى عليه الشيطان ; وأمسى مطروداً من حمى الله , لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار . .
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة ! إنما يصوره في مشهد حي متحرك , عنيف الحركة , شاخص السمات , بارز الملامح , واضح الانفعالات ; يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة , إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية :
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها , فأتبعه الشيطان , فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه , فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث , أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون !). .
إنه مشهد من المشاهد العجيبة , الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته , ويخلع عليه من فضله , ويكسوه من علمه , ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ; فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة , انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ? . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ; ويتجرد من الغطاء الواقي , والدرع الحامي ; وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ; ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ; فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق , ولا يحميه منه حام ; فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . . إذا نحن بهذا المخلوق , لاصقا بالأرض , ملوثا بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب , يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ; والخيال شاخص يتبعها
من الاية 176 الى الاية 178
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع . . سمع التعليق المرهوب الموحي , على المشهد كله:
(ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون). .
ذلك مثلهم ! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان , هابطون عن مكان "الإنسان" إلى مكان الحيوان . . مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين . . وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ; وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم , فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين !
(ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون !). .
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً ? وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى ? وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى ? وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا ? من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي , ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها , ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض , الحائر القلق , اللاهث لهاث الكلب أبداً !!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد ; إلا هذا القرآن العجيب الفريد !!
وبعد . . فهل هو نبأ يتلى ? أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً . فهو من هذا الجانب خبر يروى ?
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحاً في فلسطين - قبل دخول بني إسرائيل - وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره ; على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير , أن يكون واحدة منها ; ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها ; ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر . . فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل [ بلعام بن باعوراء ] , وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة . وروي أنه كان من العرب [ أمية بن الصلت ] . وروي أنه كان من المعاصرين لبعثة الرسول [ ص ] [ أبو عامر الفاسق ] وروي أنه كان معاصراً لموسى عليه السلام . وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول , وقولهم لموسى - عليه السلام - ما حكاه القرآن الكريم: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان [ اسم الله العظيم ] الذي يدعو به فيجاب ; كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبياً . . ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى . .
لذلك رأينا - على منهجنا في ظلال القرآن - ألا ندخل في شيء من هذا كله . بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء . ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله [ ص ] عنه شيء . وأن نأخذ من النبأ ما وراءه . فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها . . وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ; ما أكثر الذين يعطون علم دين الله , ثم لا يهتدون به , إنما يتخذون هذا العلم وسيلةلتحريف الكلم عن مواضعه . واتباع الهوى به . . هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا .
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها . ويعلن غيرها . ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة , والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل ! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً !
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول:إن التشريع حق من حقوق الله - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية . ومن ادعى الألوهية فقد كفر . ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ! . . ومع ذلك . . مع علمه بهذه الحقيقة , التي يعلمها من الدين بالضرورة , فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع , ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . . ممن حكم عليهم هو بالكفر ! ويسميهم "المسلمين" ! ويسمي ما يزاولونه إسلاما لا إسلام بعده ! . . ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ; ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر . . ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس , ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه . .
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ? وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: (ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث !). . ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته . ولكنه - سبحانه - لم يشأ , لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه , ولم يتبع الآيات . .
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله ; فلم ينتفع بهذا العلم ; ولم يستقم على طريق الإيمان . وانسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان !
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع ?
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها . ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً . والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه ; فهو منطلق فيه أبداً !
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة . . حتى إنه لتمر فترات كثيرة , وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله . فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله , ممن لا ينسلخون من آيات الله , ولا يخلدون إلى الأرض ; ولا يتبعون الهوى ; ولا يستذلهم الشيطان ; ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان ! . . فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده ; وما هو بمحصور في قصة وقعت , في جيل من الزمان !
وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله , كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها . ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى , ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة ; وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً ; وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو . فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة !
ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه ; أو كمن يعضبالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة ! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم ! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا !
اللهم اعصمنا , وثبت أقدامنا , وأفرغ علينا صبراً , وتوفنا مسلمين . .
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى . .
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها ; وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى . .
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية , ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ; ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً . .
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة "نظرية " للدراسة . . فهذا مجرد علم لا ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً . . إنه علم بارد لا يعصم من الهوى , ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً . ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها !
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في "النظام الإسلامي" ولا في "الفقه الإسلامي" ولا في "الاقتصاد الإسلامي" ولا في "العلوم الكونية " ولا في "العلوم النفسية " ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية !
إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية ; تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل ; وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع ; وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول ; وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً .
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر ; يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر , لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء , وثقلة الأبدان , وإغواء الشيطان !
ويقدمه ميزانا للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم , وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم ; فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه ; وما رفضه هذا الميزان كان خاطئا يجب الإقلاع عنه .
ويقدمه منهجا للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة . وفق خطاه هو ووفق تقديراته . . وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم , وأصول شريعتهم , وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم . ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية , وعلومهم الكونية والنفسية , وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية . . يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها , وجدية الشريعة وواقعيتها ; واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها .
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية . . أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة , فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ; ولا يقدم للحياة البشرية خيرا !
ويقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب على ذلك المثل الشاخص في ذلك المشهد , للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها , بأن الهدى هدى الله . فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً ; ومن أضله الله فهو الخاسر الذي لا يربح شيئاً:
(من يهد الله فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون). .
والله سبحانه يهدي من يجاهد ليهتدي , كما قال تعالى في السورة الأخرى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). . وكما قال: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). . وكما قالونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها). .
كذلك يضل الله من يبغي الضلال لنفسه ويعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان , ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها . وذلك كما جاء في الآية التالية في السياقولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس , لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها , أولئك كالأنعام بل هم أضل , أولئك هم الغافلون). . وكما قال تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً). . وكما قال: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم , ولا ليهديهم طريقاً , إلا طريق جهنم خالدين فيها . . .)
ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال , والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية , والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً . .
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني , هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال . . وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها . ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل . . ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به , وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره .
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر اللّه بهداية من يجاهد للهدى . وأن يجري قدر اللّه كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه اللّه من عقل وما أعطاه من أجهزه الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون , وفي رسالات الرسل , الموحية بالهدى .
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة اللّه ولا يتحقق سواها , ويقع ما يقع بقدر اللّه لا بقوة سواه . وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن اللّه شاءه هكذا . وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر اللّه . فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور , كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر اللّه ينشىء الأحداث . . وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه , ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً . .
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة , حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل , وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر , على سبيل الاحتجاج والجدل !
وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا:
(من يهد اللّه فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون).
من الاية 179 الى الاية 179
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
يقرر أن من يهديه الله - وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة - فهو المهتدي حقاً , الواصل يقيناً , الذي يعرف الطريق , ويسير على الصراط , ويصل إلى الفلاح في الآخرة . . وأن الذي يضله الله - وفق سنته تلك - فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً . . مهما ملك , ومهما أخذ ; فكل ذلك هباء أو هواء ! وإنه لكذلك إذا نظرنا إليه من زاوية أن هذا الضال قد خسر نفسه . وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه ?!
الدرس الثالث:179 صفات أهل جهنم من هم في الدنيا
ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية:
ولقد ذرانا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام , بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون . .
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم ! وهم مهيأون لها ! فما بالهم كذلك ?
هنالك اعتباران:
الاعتبار الأول:أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني:أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية:
(لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها). .
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون:
(أولئك كالأنعام , بل هم أضل , أولئك هم الغافلون). .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة ; والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ; ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ; ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك , وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا !
الدرس الرابع:180 دعاء الله بأسمائه الحسنى
وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد ; واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها . . يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين - الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا
من الاية 180 الى الاية 181
وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يواجهون دعوة الإسلام بالشرك - الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها , فيسمون بها الشركاء المزعومين:
(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها , وذروا الذين يلحدون في أسمائه , سيجزون ما كانوا يعملون). .
والإلحاد هو الإنحراف أو التحريف . . وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى , فسموا بها آلهتهم المدعاة . . حرفوا اسم(الله)فسموا به "اللات" . واسم(العزيز)فسموا به "العزى " . . فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده . وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها , دون تحريف ولا ميل ; وأن يدعوا المحرفين المنحرفين ; فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد . فأمرهم موكول إلى الله ; وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه . . وياله من وعيد ! . .
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله ; لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية , ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة . . إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره . . ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق . كالذين يدّعون له الولد . وكالذين يدّعون أن مشيئته - سبحانه - مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية ! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر - وهو سبحانه ليس كمثله شيء - وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء , وفي تصريف نظام الكون , وفي حساب الناس في الآخرة . ولكنه ليس إلهاً في الأرض , ولا في حياة الناس , فليس له - في زعمهم - أن يشرع لحياة الناس ; إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم . أو بعضهم آلهة بعض ! . . وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته . . والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله ; والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون !
الدرس الخامس:181 - 183 ملامح الصالحين والمكذبين
ثم يمضي السياق يفصل صنوف الخلق . . بعدما ذكر منهم من قبل أولئك الذين ذرأهم الله لجهنم (لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . .)ومنهم هؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها . . ثم إن منهم أمة يستمسكون بالحق , ويدعون الناس إليه , ويحكمون به ولا ينحرفون عنه . . وأمة - على الضد - ينكرون الحق , ويكذبون بآيات الله ! فأما الأولون فيقرر وجودهم في الأرض وجوداً ثابتاً لا شك فيه ; وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون , ويزيغ عنه الزائغون ; وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين . وأما الآخرون فيكشف عن مصير لهم مخيف , وكيد لله إزاءهم متين:
(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق , وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين). .
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائماً - وفي أحلك الظروف - تلك الجماعة - التي يسميها الله(أمة)بالمصطلح الإسلامي للأمة وهي:الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها ; وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة - فهذه الأمة الثابتة على الحق ; العاملة به في كل حين , هي الحارسة لأمانة الله في الأرض , الشاهدة بعهده على الناس , التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل .
ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة:
(يهدون بالحق , وبه يعدلون). .
إن صفة هذه الأمة - التي لا ينقطع وجودها من الأرض أياً كان عددها - أنهم (يهدون بالحق). . فهم دعاة إلى الحق , لا يسكتون عن الدعوة به , وإليه , ولا يتقوقعون على أنفسهم ; ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه . ولكنهم يهدون به غيرهم . فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق , المتنكرين لذلك العهد ; ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق ; إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه .
(وبه يعدلون). . فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم , تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق . . فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس . ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرّف ! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله . يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه . ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه . ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة . ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه . ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه . . . وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس , ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق . . وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به . .
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس ! صلبة لا تقبل التمييع ! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة . . وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودا لا تكل , وحملات لا تنقطع , ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته , كل الوسائل وكل الأجهزة , وكل التجارب . . هم يسحقون سحقاً وحشياً كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض ! وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه , يحرفون الكلم عن مواضعه , ويحلون ما حرم الله , ويميعون ما شرعه , ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه ! وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية , المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع , ورفع شعاراتها , أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها ! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا تمكن إعادته , ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين , ثم ليقولوا لهم - في ظل هذا التخدير -:إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة , لا شريعة ونظاماً , وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم ! هذا والإ فإن على هذا الدين أن "يتطور" فيصبح محكوماً بواقع البشر , يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين . وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم - الذي كان إسلامياً - نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين , لتحل محل ذلك الدين القديم ! وينزّلون لها قرآناً يتلى ويدرس , ليحل محل ذلك القرآن القديم ! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات - كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين - كوسيلة أخيرة , حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به ; فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور , مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد , كي لا يفيق , بعد اللقمة والجنس , ليستمع إلى هدى , أو يفيء إلى دين !
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به . . المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج , وجميع الوسائل بلا حساب ; والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام
من الاية 182 الى الاية 183
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
العالمية ; والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية ; والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوماً واحداً لولا هذه الكفالة العالمية !
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية . والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق - على قلة العدد وضعف العدة - ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية . . والله غالب على أمره .
(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون , وأملي لهم إن كيدي متين). .
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته . . هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله . . إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون . ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين . . فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين ! . . إنهم يتولى بعضهم بعضاً ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى ! . . إنها سنة الله مع المكذبين . . يرخى لهم العنان , ويملى لهم في العصيان والطغيان , استدراجاً لهم في طريق الهلكة , وإمعاناً في الكيد لهم والتدبير . ومن الذي يكيد ? إنه الجبار ذو القوة المتين ! ولكنهم غافلون ! والعاقبة للمتقين . الذين يهدون بالحق وبه يعدلون . .
الدرس السادس:184 - 185 دعوة للتفكير للإيمان بالله والرسول
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ; وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ; وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول , وهم غافلون:
أو لم يتفكروا ? ما بصاحبهم من جنة , إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ? وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? فبأي حديث بعده يؤمنون ? . .
إن القرآن يهزهم من غفوتهم , ويوقظهم من غفلتهم , ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها , بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا ; إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها:
أو لم يتفكروا ? ما بصاحبهم من جنة , إن هو إلا نذير مبين . .
لقد كانوا يقولون عن الرسول [ ص ] في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير:إن محمداً به جنة . وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب , غير المعهود في أساليب البشر العاديين !
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون ! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله [ ص ] وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق , وأبي سفيان بن حرب , وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة , ليالي ثلاثاً , وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن
من الاية 184 الى الاية 184
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184)
ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي [ ص ] وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي [ ص ] وما معه من القرآن ; وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود:إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر ; إنما هم كانوا يستكبرون عنه ; ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ; التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم !
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ; كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم , عن الصلة بين التنبؤ والجنون ! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ; ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور ! . . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد , إنما يقوله عن جنة به ; وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول , لأنه مجنون !
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاًعن السواء ; وشهدوا له بالأمانة والصدق , كما شهدوا له بالحكمة ; وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه !
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله , المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة ? . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ? . . كلا:
(ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين). .
لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين , ولا تشتبه حاله بحال المجانين .
ثم . . (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ?). .
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب . . والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم , يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام ; وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه , والإبداع الذي يشهد به , والإعجاز الذي يدل على البارىء الواحد القدير . . والنظر إلى ما خلق الله من شيء - وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء - يدهش القلب ويحير الفكر , ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله , وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور .
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به ; ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة ? لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى ? لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها ? ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد , الصادر عن الإرادة الواحدة , التي يجري بها قدر مطرد مقصود ?
من الاية 185 الى الاية 186
أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْ
مواضيع مماثلة
» تفسير سور الاعراف ايه 129==140 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 141==148 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه رقم1==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه109== 128 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 141==148 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه رقم1==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه109== 128 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى