تفسير سور الاعراف ايه 129==140 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سور الاعراف ايه 129==140 الشيخ سيد قطب
من الاية 129 الى الاية 130
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
هلاك الطاغوت وأهله , واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده . فيدفع قومه دفعاُ إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد . . وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم . ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم ! وليس جزافاً بلا غاية . وليس خلوداً بلا توقيت . إنه استخلاف للامتحان: (فينظر كيف تعملون). . وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون . ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان , ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم .
الدرس السابع:130 - 137 أخذ آل فرعون بالعذاب ثم بالغرق ونجاة بني إسرائيل
ويدع السياق موسى وقومه ; ويسدل عليهم الستار , ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس:مشهد فرعون وآله , يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان ; ويحقق وعد موسى لقومه , ورجاءه في ربه ; ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة , وتساق القصة كلها لتصديقه .
ويبدأ المشهد هوناً ; ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً , فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة , فدمرت كل شيء , وعصفت بكل شيء , وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية , وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى , وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده ; وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . آيات مفصلات . . فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ; وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل . . بما صبروا . . ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون . .
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم ; ونفذ فرعون وعيده وتهديده , فقتل الرجال واستحيا النساء . ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب , ويرجون فرج الله , ويصبرون على الابتلاء . . وعندئذ . . عندما نمحص الموقف:إيمان يقابله الكفر . وطغيان يقابله الصبر . وقوة أرضية تتحدى الله . . عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين:
(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون). .
إنها إشارة التحذير الأولى . . الجدب ونقص الثمرات . . و(السنين)تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط . وهي في أرض مصر , المخصبة المثمرة المعطاء , تبدو ظاهرة تلفت النظر , وتهز القلب , وتثير القلق , وتدعو إلى اليقظة والتفكر ; لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت - بفسقهم عن دين الله - فيطيعونه , لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ; ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ; ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ; ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية . . لأن هذه العلاقة من عالم الغيب . . وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس - الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه - شيئاً ! وإذا رأوا شيئاً من
من الاية 131 الى الاية 137
فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137)
عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة ; وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة , التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده - حتى وهم يكفرون ويفجرون . كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم ; وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون , كما تصرف حياة الناس ; والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً . . الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى , ولا يمضي عبثاً , إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة . . وهذه هي "العقلية العلمية " الحقيقية . وهي عقلية لا تنكر "غيب الله" لأنه لا تعارض بين "العلمية " الحقيقية و"الغيبية " ; ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة , لأن وراءها الله الفعال لما يريد ; الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض , والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض . .
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله , وبغيهم وظلمهم لعباد الله . . وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات . . في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء , ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون !
لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم . ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم ! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم .
(فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه). .
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله , فإنها لا ترى يده - سبحانه - في تصريف هذا الوجود ; ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث . وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة . فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة . لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط ; وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة ; لا تلتقي عند قاعدة , ولا تجتمع وفق نظام - وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية "العلمية ! " عن معاكسة "الطبيعة ! " لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات ! وكما يقول الذين يمضون مع هذه "العلمية " المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث . . وهم ينكرون قدر الله . . وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه "مسلم" وهو ينكر أصول الإيمان بالله !
وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث . الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها . والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم , ومن تحت رأسهم !
وأصل "التطير" في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه . . فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرا , جاء إلى عش طائر فهيجه عنه , فإذا طار عن يمينه - وهو السانح - استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده . وإذا طار الطائر عن شماله - وهو البارح - تشاءم به ورجع عما عزم عليه ! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي ; وأحل محله التفكير "العلمي" - العلمي الصحيح - وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود ; وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها ;وأقام الأمور على أسس "علمية " يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده ; وتوضع في موضعها الصحيح , في إطار المشيئة الإلهية الطليقة , وقدره النافذ المحيط:
(ألا إنما طائرهم عند الله ; ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد . . إنه من أمر الله . . ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء . . وتصيبهم السيئة للابتلاء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). . ويصيبهم النكال للجزاء . . ولكن أكثرهم لا يعلمون . . كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم "العقلية العلمية " ! وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم "الاشتراكية العلمية " كذلك !!! وكلهم جهال . . وكلهم لا يعلمون !
ويمضي آل فرعون في عتوهم , تأخذهم العزة بالإثم ; ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداُ:
(وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين). .
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ; ولا يرده برهان ; ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر , لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعاً للطريق على البرهان ! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق ; وتجبههم البينة , ويطاردهم الدليل . . بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم . . كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل !
عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة:
(فأرسلنا عليهم الطوفان , والجراد , والقمل , والضفادع والدم . . آيات مفصلات . .)
للإنذار والابتلاء . . آيات مفصلات . . واضحة الدلالة , منسقة الخطوات , تتبع الواحدة منها الأخرى , وتصدق اللاحقة منها السابقة .
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة , التي جاءتهم مفرقة . واحدة واحدة . وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ; ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها , وإذا رفع عنهم هذا(الرجز), أي العذاب , الذي لا قبل لهم بدفعه:
(ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك - بما عهد عندك - لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك , ولنرسلن معك بني إسرائيل). .
وفي كل مرة ينقضون عهدهم , ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم:
(فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون). .
جمع السياق الآيات كلها , كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة , وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ; ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة ; لايفيد منها شيئاً , ولا يجد فيها عبرة . .
فأما كيف وقعت هذه الآيات , فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله [ ص ] عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه "الظلال" نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ; والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها , حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ; وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . .
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس , وعن سعيد بن جبير , وعن قتادة , وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها:
"حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن المغيرة , عن سعيد بن جبير قال:لما أتى موسى فرعون قال له:أرسل معي بني إسرائيل , فأبى عليه , فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً , فخافوا أن يكون عذاباً , فقالوا لموسى:ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فلم يؤمنوا , ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ; فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا:هذا ما كنا نتمنى ! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ , فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لايبقي الزرع . فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم الجراد , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ! فداسوا وأحرزوا في البيوت , فقالوا:قد أحرزنا ! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا:ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه فكشف عنهم , فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون , إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون:ما تلقى أنت وقومك من هذا ! فقال:وما عسى أن يكون كيد هذا ?! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع , ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم , فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار , أو ما كان في أوعيتهم , وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا:إنا قد ابتلينا بالدم , وليس لنا شراب ! فقال:إنه قد سحركم ! فقالوا:من أين سحرنا , ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً ? فأتوه فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم , فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل " .
والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره , في وقت معين , ابتلاء لقوم معينين ; وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم ; وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم , يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده , ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر ; وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله ! . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلطالآفات على زروعهم , فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة ! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات , - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة ! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء , قال لهم أصحاب "العلمية ! " الكاذبة:هذا الاتجاه خرافة "غيبية ! " وتندروا عليهم وسخروا منهم ! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين !
ثم تجيء الخاتمة - وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء - وتقع الواقعة . ويدمر الله على فرعون وملئه - بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه - ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين , بعد إهلاك الطغاة المتجبرين:
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم , بأنهم كذبوا بآياتنا , وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا , ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق , ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور . ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ; فلا يعرض لشيء من التفصيل . . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس !
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم . .
ضربة واحدة , فإذا هم هالكون . ومن التعالي والتطاول والاستكبار , إلى الهويّ في الأعماق والأغوار , جزاء وفاقاً:
(بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). .
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها , وبين هذا المصير المقدور . ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة , ولا تمضي فلتات عابرة , كما يظن الغافلون !
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر , ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام , وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث , ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول "قبل" و"بعد" لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول:إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون , كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما "قبل" عنده وما "بعد" ?!والصفحة كلها معروضة له سواء , مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ; وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون , وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة , وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان , وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام , في ومضة عين , أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة , المطاردة من الشرك وأهله ; ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته , ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض , فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
الوحدة التاسعة:138 - 171 الموضوع:مشاهد من قصة بني إسرائيل في عهد موسى وبعده مقدمة الوحدة
في هذا الدرس تمضي قصة موسى - عليه السلام - في حلقة أخرى . . مع قومه بني إسرائيل ; بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم ; وأغرق فرعون وملأه ; ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون . . إن موسى - عليه السلام - لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه ; فقد انتهت المعركة مع الطاغوت . . ولكنه يواجه معركة أخرى - لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً - إنه يواجه المعركة مع "النفس البشرية ! " يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس ; ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل ; وملأها بالالتواء من ناحية ; وبالقسوة من ناحية ; وبالجبن من ناحية ; وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية . وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً . . فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً ; ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب , والحركة في الظلام , مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء !
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً ; عاشوا في ظل الإرهاب ; وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك . عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم . فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي , عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال .
وفسدت نفوسهم ; وفسدت طبيعتهم ; والتوت فطرتهم ; وانحرفت تصوراتهم ; وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب , وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر . . وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان . .
لقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينظر بنور الله , فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها ; وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس:" ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم " . . كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس . وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله . فالناس في مملكة الله أعزاء , ويجب أن يكونوا أعزاء ; وألا يضربهم الحكام فيذلوهم , لأنهم ليسوا عبيداً للحكام . . إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله . .
ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا . بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء ! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون ! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني ; ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني . . ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام , يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر . . فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهراً على ظهر ناقة , ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه ! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي
من الاية 138 الى الاية 140
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
لنفوس الأقباط في مصر , وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم , فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم ; وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح .
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة - بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر - وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس , وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل ; وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية ; وتواجه موسى - عليه السلام - بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل !
وسنرى متاعب موسى - عليه السلام - في المحاولة الضخمة التي يحاولها ; وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلا , حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلا , وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره !
وسنرى من خلال متاعب موسى - عليه السلام - متاعب كل صاحب دعوة , يواجه نفوساً طال عليها الأمد , وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت - وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها , ثم طال عليها الأمد , فبهتت صورتها , وعادت شكلا لا روح فيه !
إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف . ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك . . يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات , وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ; ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة , والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة !
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة , في هذه الصورة المفصلة المكررة . لترى فيها هذه التجربة . كما قلنا من قبل . ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل .
الدرس الأول:138- 141 بنو إسرائيل يطلبون عبادة الأصنام
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا:يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال:إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرُ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال:أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ? وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب:يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم , وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم ; بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم . . إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ; ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين - الذي أهلك عدوهم ; وشق لهم البحر ; وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ; ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين , عاكفين على أصنام لهم , مستغرقين في طقوسهم الوثنية ; وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد , أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد !
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر , فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا:يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)!
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة , ضعيفة الروح , ما تكاد تهتدي حتى تضل , وما تكاد ترتفع حتى تنحط , وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد , وتصلب عن الحق , وقساوة في الحس والشعور ! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك , ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين ! وهؤلاء كانوا وثنيين , وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ?). . ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم:رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة ! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل ! . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين , لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه ! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب:
(قال:إنكم قوم تجهلون). .
ولم يقل تجهلون ماذا ? ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل . . الجهل من الجهالة ضد المعرفة , والجهل من الحماقة ضد العقل ! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة ; وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد ; وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر ; وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس , وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله , أو يعرض عن ذلك كله , إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا "العلم" كما يدعيه الكثيرون !
ويمضي موسى - عليه السلام - يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون , بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم , فأرادوا أن يقلدوهم:
(إن هؤلاء متبر ما هم فيه , وباطل ما كانوا يعملون). .
إن ما هم فيه من شرك , وعكوف على الآلهة , وحياة تقوم على هذا الشرك , وتتعدد فيها الأرباب , ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة , ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط . . إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة . . إن هذا كله هالك باطل ; ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف !
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى - عليه السلام - على ربه والغضب له - سبحانه - والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم - وهي حاضرة ظاهرة -:
(قال:أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ?)
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
هلاك الطاغوت وأهله , واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده . فيدفع قومه دفعاُ إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد . . وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم . ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم ! وليس جزافاً بلا غاية . وليس خلوداً بلا توقيت . إنه استخلاف للامتحان: (فينظر كيف تعملون). . وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون . ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان , ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم .
الدرس السابع:130 - 137 أخذ آل فرعون بالعذاب ثم بالغرق ونجاة بني إسرائيل
ويدع السياق موسى وقومه ; ويسدل عليهم الستار , ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس:مشهد فرعون وآله , يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان ; ويحقق وعد موسى لقومه , ورجاءه في ربه ; ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة , وتساق القصة كلها لتصديقه .
ويبدأ المشهد هوناً ; ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً , فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة , فدمرت كل شيء , وعصفت بكل شيء , وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية , وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى , وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده ; وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . آيات مفصلات . . فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ; وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل . . بما صبروا . . ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون . .
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم ; ونفذ فرعون وعيده وتهديده , فقتل الرجال واستحيا النساء . ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب , ويرجون فرج الله , ويصبرون على الابتلاء . . وعندئذ . . عندما نمحص الموقف:إيمان يقابله الكفر . وطغيان يقابله الصبر . وقوة أرضية تتحدى الله . . عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين:
(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون). .
إنها إشارة التحذير الأولى . . الجدب ونقص الثمرات . . و(السنين)تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط . وهي في أرض مصر , المخصبة المثمرة المعطاء , تبدو ظاهرة تلفت النظر , وتهز القلب , وتثير القلق , وتدعو إلى اليقظة والتفكر ; لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت - بفسقهم عن دين الله - فيطيعونه , لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ; ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ; ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ; ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية . . لأن هذه العلاقة من عالم الغيب . . وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس - الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه - شيئاً ! وإذا رأوا شيئاً من
من الاية 131 الى الاية 137
فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137)
عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة ; وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة , التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده - حتى وهم يكفرون ويفجرون . كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم ; وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون , كما تصرف حياة الناس ; والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً . . الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى , ولا يمضي عبثاً , إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة . . وهذه هي "العقلية العلمية " الحقيقية . وهي عقلية لا تنكر "غيب الله" لأنه لا تعارض بين "العلمية " الحقيقية و"الغيبية " ; ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة , لأن وراءها الله الفعال لما يريد ; الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض , والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض . .
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله , وبغيهم وظلمهم لعباد الله . . وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات . . في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء , ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون !
لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم . ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم ! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم .
(فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه). .
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله , فإنها لا ترى يده - سبحانه - في تصريف هذا الوجود ; ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث . وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة . فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة . لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط ; وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة ; لا تلتقي عند قاعدة , ولا تجتمع وفق نظام - وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية "العلمية ! " عن معاكسة "الطبيعة ! " لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات ! وكما يقول الذين يمضون مع هذه "العلمية " المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث . . وهم ينكرون قدر الله . . وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه "مسلم" وهو ينكر أصول الإيمان بالله !
وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث . الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها . والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم , ومن تحت رأسهم !
وأصل "التطير" في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه . . فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرا , جاء إلى عش طائر فهيجه عنه , فإذا طار عن يمينه - وهو السانح - استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده . وإذا طار الطائر عن شماله - وهو البارح - تشاءم به ورجع عما عزم عليه ! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي ; وأحل محله التفكير "العلمي" - العلمي الصحيح - وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود ; وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها ;وأقام الأمور على أسس "علمية " يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده ; وتوضع في موضعها الصحيح , في إطار المشيئة الإلهية الطليقة , وقدره النافذ المحيط:
(ألا إنما طائرهم عند الله ; ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد . . إنه من أمر الله . . ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء . . وتصيبهم السيئة للابتلاء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). . ويصيبهم النكال للجزاء . . ولكن أكثرهم لا يعلمون . . كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم "العقلية العلمية " ! وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم "الاشتراكية العلمية " كذلك !!! وكلهم جهال . . وكلهم لا يعلمون !
ويمضي آل فرعون في عتوهم , تأخذهم العزة بالإثم ; ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداُ:
(وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين). .
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ; ولا يرده برهان ; ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر , لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعاً للطريق على البرهان ! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق ; وتجبههم البينة , ويطاردهم الدليل . . بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم . . كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل !
عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة:
(فأرسلنا عليهم الطوفان , والجراد , والقمل , والضفادع والدم . . آيات مفصلات . .)
للإنذار والابتلاء . . آيات مفصلات . . واضحة الدلالة , منسقة الخطوات , تتبع الواحدة منها الأخرى , وتصدق اللاحقة منها السابقة .
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة , التي جاءتهم مفرقة . واحدة واحدة . وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ; ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها , وإذا رفع عنهم هذا(الرجز), أي العذاب , الذي لا قبل لهم بدفعه:
(ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك - بما عهد عندك - لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك , ولنرسلن معك بني إسرائيل). .
وفي كل مرة ينقضون عهدهم , ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم:
(فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون). .
جمع السياق الآيات كلها , كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة , وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ; ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة ; لايفيد منها شيئاً , ولا يجد فيها عبرة . .
فأما كيف وقعت هذه الآيات , فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله [ ص ] عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه "الظلال" نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ; والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها , حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ; وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . .
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس , وعن سعيد بن جبير , وعن قتادة , وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها:
"حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن المغيرة , عن سعيد بن جبير قال:لما أتى موسى فرعون قال له:أرسل معي بني إسرائيل , فأبى عليه , فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً , فخافوا أن يكون عذاباً , فقالوا لموسى:ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فلم يؤمنوا , ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ; فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا:هذا ما كنا نتمنى ! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ , فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لايبقي الزرع . فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم الجراد , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ! فداسوا وأحرزوا في البيوت , فقالوا:قد أحرزنا ! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا:ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه فكشف عنهم , فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون , إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون:ما تلقى أنت وقومك من هذا ! فقال:وما عسى أن يكون كيد هذا ?! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع , ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم , فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار , أو ما كان في أوعيتهم , وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا:إنا قد ابتلينا بالدم , وليس لنا شراب ! فقال:إنه قد سحركم ! فقالوا:من أين سحرنا , ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً ? فأتوه فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم , فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل " .
والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره , في وقت معين , ابتلاء لقوم معينين ; وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم ; وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم , يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده , ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر ; وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله ! . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلطالآفات على زروعهم , فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة ! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات , - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة ! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء , قال لهم أصحاب "العلمية ! " الكاذبة:هذا الاتجاه خرافة "غيبية ! " وتندروا عليهم وسخروا منهم ! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين !
ثم تجيء الخاتمة - وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء - وتقع الواقعة . ويدمر الله على فرعون وملئه - بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه - ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين , بعد إهلاك الطغاة المتجبرين:
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم , بأنهم كذبوا بآياتنا , وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا , ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق , ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور . ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ; فلا يعرض لشيء من التفصيل . . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس !
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم . .
ضربة واحدة , فإذا هم هالكون . ومن التعالي والتطاول والاستكبار , إلى الهويّ في الأعماق والأغوار , جزاء وفاقاً:
(بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). .
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها , وبين هذا المصير المقدور . ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة , ولا تمضي فلتات عابرة , كما يظن الغافلون !
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر , ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام , وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث , ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول "قبل" و"بعد" لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول:إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون , كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما "قبل" عنده وما "بعد" ?!والصفحة كلها معروضة له سواء , مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ; وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون , وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة , وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان , وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام , في ومضة عين , أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة , المطاردة من الشرك وأهله ; ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته , ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض , فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
الوحدة التاسعة:138 - 171 الموضوع:مشاهد من قصة بني إسرائيل في عهد موسى وبعده مقدمة الوحدة
في هذا الدرس تمضي قصة موسى - عليه السلام - في حلقة أخرى . . مع قومه بني إسرائيل ; بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم ; وأغرق فرعون وملأه ; ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون . . إن موسى - عليه السلام - لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه ; فقد انتهت المعركة مع الطاغوت . . ولكنه يواجه معركة أخرى - لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً - إنه يواجه المعركة مع "النفس البشرية ! " يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس ; ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل ; وملأها بالالتواء من ناحية ; وبالقسوة من ناحية ; وبالجبن من ناحية ; وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية . وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً . . فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً ; ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب , والحركة في الظلام , مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء !
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً ; عاشوا في ظل الإرهاب ; وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك . عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم . فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي , عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال .
وفسدت نفوسهم ; وفسدت طبيعتهم ; والتوت فطرتهم ; وانحرفت تصوراتهم ; وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب , وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر . . وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان . .
لقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينظر بنور الله , فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها ; وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس:" ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم " . . كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس . وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله . فالناس في مملكة الله أعزاء , ويجب أن يكونوا أعزاء ; وألا يضربهم الحكام فيذلوهم , لأنهم ليسوا عبيداً للحكام . . إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله . .
ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا . بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء ! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون ! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني ; ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني . . ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام , يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر . . فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهراً على ظهر ناقة , ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه ! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي
من الاية 138 الى الاية 140
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
لنفوس الأقباط في مصر , وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم , فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم ; وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح .
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة - بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر - وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس , وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل ; وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية ; وتواجه موسى - عليه السلام - بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل !
وسنرى متاعب موسى - عليه السلام - في المحاولة الضخمة التي يحاولها ; وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلا , حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلا , وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره !
وسنرى من خلال متاعب موسى - عليه السلام - متاعب كل صاحب دعوة , يواجه نفوساً طال عليها الأمد , وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت - وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها , ثم طال عليها الأمد , فبهتت صورتها , وعادت شكلا لا روح فيه !
إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف . ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك . . يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات , وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ; ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة , والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة !
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة , في هذه الصورة المفصلة المكررة . لترى فيها هذه التجربة . كما قلنا من قبل . ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل .
الدرس الأول:138- 141 بنو إسرائيل يطلبون عبادة الأصنام
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا:يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال:إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرُ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال:أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ? وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب:يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم , وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم ; بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم . . إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ; ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين - الذي أهلك عدوهم ; وشق لهم البحر ; وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ; ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين , عاكفين على أصنام لهم , مستغرقين في طقوسهم الوثنية ; وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد , أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد !
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر , فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا:يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)!
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة , ضعيفة الروح , ما تكاد تهتدي حتى تضل , وما تكاد ترتفع حتى تنحط , وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد , وتصلب عن الحق , وقساوة في الحس والشعور ! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك , ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين ! وهؤلاء كانوا وثنيين , وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ?). . ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم:رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة ! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل ! . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين , لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه ! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب:
(قال:إنكم قوم تجهلون). .
ولم يقل تجهلون ماذا ? ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل . . الجهل من الجهالة ضد المعرفة , والجهل من الحماقة ضد العقل ! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة ; وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد ; وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر ; وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس , وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله , أو يعرض عن ذلك كله , إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا "العلم" كما يدعيه الكثيرون !
ويمضي موسى - عليه السلام - يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون , بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم , فأرادوا أن يقلدوهم:
(إن هؤلاء متبر ما هم فيه , وباطل ما كانوا يعملون). .
إن ما هم فيه من شرك , وعكوف على الآلهة , وحياة تقوم على هذا الشرك , وتتعدد فيها الأرباب , ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة , ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط . . إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة . . إن هذا كله هالك باطل ; ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف !
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى - عليه السلام - على ربه والغضب له - سبحانه - والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم - وهي حاضرة ظاهرة -:
(قال:أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ?)
مواضيع مماثلة
» تفسير الاعراف ايه 189==205 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 141==148 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاعراف ايه172==188 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه رقم1==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه109== 128 الشيخ سيد قطب
» تفسير الاعراف ايه 141==148 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاعراف ايه172==188 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه رقم1==108 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الاعراف ايه109== 128 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى