تفسير سوره الانعام ايه 146==153 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سوره الانعام ايه 146==153 الشيخ سيد قطب
من الاية 146 الى الاية 147
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان - أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة ; وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط . وحرم كذلك شحم البقر والغنم - إلا شحم الظهر , أو الدهن الملتف بالأمعاء , أو ما اختلط منه بالعظم . . وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه:
(وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم , وإنا لصادقون).
والنص يبين سبب هذا التحريم , وهو سبب خاص باليهود , ويؤكد أن هذا هو الصدق , لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل , وهو يعقوب جدهم , هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه . . لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب . ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا , فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات .
(فإن كذبوك فقل:ربكم ذو رحمة واسعة , ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين). .
فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا , وبمن كان مؤمنا من عباده , وبغيرهم من خلقه . فرحمته - سبحانه - تسع المحسن والمسيء ; وهو لا يعجل على من استحق العقاب ; حلما منه ورحمة . فإن بعضهم قد يثوب إلى الله . . ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه , وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم .
وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس . والله الذي خلق قلوب البشر ; يخاطبها بهذا وذاك ; لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب .
الدرس الخامس:148 - 149 تكذيب المشركين في إفترائهم على الله
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم , وسد الذرائع في وجوههم , يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليه شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم . . إنهم يقولون:إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال . فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء:
(سيقول الذين أشركوا:لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا , ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ? إن تتبعون إلا الظن , وإن أنتم إلا تخرصون . قل:فلله الحجة البالغة , فلو شاء لهداكم أجمعين):
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة . . . وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل , فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية . . ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد , ما اشتد هذا الجدل , وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه .
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه , فنجد قضية واضحة بسيطة محددة:
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء). . فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم , وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله , وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل . . يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم . فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا . .
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة ?
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم , وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله . وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد:
من الاية 148 الى الاية 149
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا). .
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر , وتوقظ من الغفلة , وتوجه إلى العبرة . .
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر . . إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات . . وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً . . فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه , فكيف يعلمونه ? وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه:
(قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ? إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون). .
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً , فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية , ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه ?
هذا هو فصل القول في هذه القضية . . إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه . إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه , ليكيفوا أنفسهم على حسبها . . وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه , ويشرح صدورهم للإسلام . . وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ - في واقعها العملي - يسيرة واضحة , بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته !
إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى , أو يقهرهم على الهدى . أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر . . . ولكنه - سبحانه - شاء غير هذا ! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال , ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى , وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته . . وجرت سنته بما شاء . .
(قل:فلله الحجة البالغة , فلو شاء لهداكم أجمعين).
قضية واضحة , مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري . فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي . . ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة . لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها . .
إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها , وأسلوب التعبير عنها كذلك . الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل . والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن . والحقيقة التي وراء هذا المدى , لا بد أن تتناول بمنهج آخر . . هو كما قلنا من قبل:منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي . ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً .
وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً ; تحدده أوامر ونواه واضحة . فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة , يرتادها العقل بغير دليل , ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود .
الدرس السادس:150 مطالبة الكفار لشهادة الله على أحكامهم
وأخيراً يوجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع , كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة:
في أوائل السورة قال له:
(قل:أي شيء أكبر شهادة ? قل الله . شهيد بيني وبينكم , وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن
من الاية 150 الى الاية 150
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? قل:لا أشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون). .
وهنا قال له:
(قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). .
إنها مواجهة هائلة , ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله ; وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله ! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله , ولا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون له أنداداً تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا:
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض , وجعل الظلمات والنور , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون). .
هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله ! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم ? ولماذا يعدهم مكذبين بآياته ; غير مؤمنين بالآخرة , مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا أنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية , فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية , واتخاذ شريعته وحدها قانونا , وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر . .
كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة , ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة , لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله , ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر . ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره , وفي شريعته وحكمه . .
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون !
هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به , بالتكذيب بآياته , وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك "مسلم" أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل "مسلم" كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .
من الاية 151 الى الاية 151
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
الدرس السابع:151 - 153 الوصايا العشر وصراط الله المستقيم وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات , يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر , لتقوم عليها المحرمات والنواهي , لمن استسلم لها وأسلم:
قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم:ألا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحسانا , ولا تقتلوا أولادكم من إملاق , نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن , حتى يبلغ أشده , وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . . .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد , وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة , وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات , وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات , مرتبطة بعهد الله , كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا , فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم ; وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ; ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية ; بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
(قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). .
قل:تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم(ربكم)الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه , وموضع سلطانه . فالذي يحرم هو "الرب" والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
(ألا تشركوا به شيئاً). .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ; وترجع إليها التكاليف والفرائض , وتستمد منها الحقوق والواجبات . . القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي ; وقبل الدخول في التكاليف والفرائض , وقبل الدخول في النظام والأوضاع ; وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم ; لا يشركون معه أحداً في ألوهيته , ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ; ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ; ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك , وتنقية العقل من أوشاب الخرافة , وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية , وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشدالإنكار كله له ; حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله , ولا رب لهم إلا الله , ولا حاكم لهم إلا الله , ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر , من عبادة أو خلق أو عمل . .
من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة:
ألا تشركوا به شيئاً . .
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا , لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه:
(قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا , والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). .
يجب أن نذكر هذه الآية , وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً . . إنه الشرك في الاعتقاد , كما أنه الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر , والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر , لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية , قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة , وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام , يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية ; أولاستنكار انحلال أخلاقي ; أو لمخالفة من المخالفات القانونية . ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية , وموقعها من العقيدة الإسلامية ! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية , ولا يستنكرون المنكر الأكبر ; وهو قيام الحياة في غير التوحيد ; أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية , أوصاهم ألا يشركوا به شيئا . في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا !
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة , وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ; وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات , واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
(وبالوالدين إحسانا . ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم). .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء , وأوصى الآباء بالأبناء ; وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة , والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم:إنه هو الذي يكفل لهم الرزق , فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ; ولا تجاه الأولاد في ضعفهم , ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً . .
(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن). .
ولما وصاهم الله بالأسرة , وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدةالنظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة , ولا استقامة مجتمع , في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش:كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها , فتكون هذه واحدة منها بعينها . وإلا فقتل النفس فاحشة , وأكل مال اليتيم فاحشة , والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص(الفواحش)هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع , لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج , والتهتك , والاختلاط المثير , والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة , والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن . منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف ! وكلها مما يحطم قوام الأسرة , وينخر في جسم الجماعة , فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد , ويحقر من اهتماماتهم , ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية , كان التعبير: ولا تقربوا . . للنهي عن مجرد الاقتراب , سداً للذرائع , واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراماً , وكانت الحركات المثيرة , والضحكات المثيرة , والإشارت المثيرة , ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة ! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود , ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق , وهو اللطيف الخبير . .
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين , وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة , من يزينون للناس الشهوات , ومن يطلقون الغرائر من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام !
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة:الشرك , والزنا , وقتل النفس . . ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة ; والثانية جريمة قتل للجماعة , والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة , منتهية حتماً إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبىء بالمصير المرتقب لأمم ينخرفيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات , مجتمع مهدد بالدمار . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات , لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن قتل(النفس)عامة . فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس(النفس)في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية: (. . . أنه من قتل نفساً , بغير نفس أو فساد في الأرض , فكأنما قتل الناس جميعاً , ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها , وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها , وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته , لا يُؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته , ولم يتركه للتقدير والتأويل . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة , وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة !
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة . فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع , لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف , يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس , وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس !
كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس !
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية , وتلك في آية , وبينهما هذا الإيقاع .
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده). .
واليتيم ضعيف في الجماعة , بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ; حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ; فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة , وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه:
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده).
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه , حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله , ويحسن القيام عليه . وبذلك
من الاية 152 الى الاية 152
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً ; وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك , بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون , وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها -).
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ; لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية , وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة , وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات , وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: (قالوا:يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)?!
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء , وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة , للدلالة على طبيعة هذا الدين , وتسويته بين العقيدة والشريعة , وبين العبادة والمعاملة , في أنها كلها من مقومات هذا الدين , المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى). .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع , على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ; بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ; وفي قوة القرابة سند لضعفه ; وفي سعة رقعتها كمال لوجوده , وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم , أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل , على هدى من الاعتصام بالله وحده , ومراقبة الله وحده , اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى , وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ; وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله:
(وبعهد الله أوفوا). .
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر , المأخوذ على فطرة البشر , بحكم خلقتها متصلة بمبدعها , شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). .
من الاية 153 الى الاية 153
وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل , وهو يذكر عهد الله كله , ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .
. . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله , وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . . صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل:
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى:
(أفغير الله أبتغي حكماً , وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً). .
وانتهى هذه النهاية , بهذا الإيقاع العريض العميق . .
وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع , كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام , والذبائح والنذور , إلى كل القضايا العقيدية الأساسية , ليدل على أنها من هذه القضايا . التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة ; وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل ; وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد .
إنه صراط واحد - صراط الله - وسبيل واحدة تؤدي إلى الله . . أن يفرد الناس الله - سبحانه - بالربوبية , ويدينوا له وحده بالعبودية ; وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده ; وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية . .
هذا هو صراط الله ; وهذا هو سبيله . . وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله .
(ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل . والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل . .
الوحدة السابعة عشرة:154 - 165 الموضوع:تقرير حقائق إعتقادية حول الربوبية والحاكمية والرسالة والبعث
مقدمة الوحدة
لم ينقطع تدفق السياق في الموضوع الأساسي الذي يعالجه شطر السورة الأخير - وهو موضوع الحاكمية والتشريع وعلاقتهما بالدين والعقيدة - وهذا الشوط الجديد هو امتداد في العرض , وامتداد في الحشد , لتقرير هذه الحقيقة .
وهو يتحدث عن المبادىء الأساسية في العقيدة - بصدد التشريع والحاكمية - كما كان الشطر الأول من السورة يتحدث عن هذه المبادىء في صدد قضية الدين والعقيدة . ذلك ليقرر أن قضية التشريع والحاكمية هي كذلك قضية الدين والعقيدة . وعلى ذات المستوى الذي يعرض به المنهج القرآني هذه الحقيقة . ومما يلاحظ أن السياق يستخدم في شطر السورة الثاني ذات المؤثرات والموحيات والمشاهد والتعبيرات التي حشدها في الشطر الأول منها:
يتحدث عن الكتب والرسل والوحي والآيات التي يطلبونها .
ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها .
ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها .
ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول [ ص ] وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم . ويوجه الرسول [ ص ] إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة .
ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعاً , والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان - أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة ; وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط . وحرم كذلك شحم البقر والغنم - إلا شحم الظهر , أو الدهن الملتف بالأمعاء , أو ما اختلط منه بالعظم . . وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه:
(وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم , وإنا لصادقون).
والنص يبين سبب هذا التحريم , وهو سبب خاص باليهود , ويؤكد أن هذا هو الصدق , لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل , وهو يعقوب جدهم , هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه . . لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب . ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا , فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات .
(فإن كذبوك فقل:ربكم ذو رحمة واسعة , ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين). .
فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا , وبمن كان مؤمنا من عباده , وبغيرهم من خلقه . فرحمته - سبحانه - تسع المحسن والمسيء ; وهو لا يعجل على من استحق العقاب ; حلما منه ورحمة . فإن بعضهم قد يثوب إلى الله . . ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه , وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم .
وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس . والله الذي خلق قلوب البشر ; يخاطبها بهذا وذاك ; لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب .
الدرس الخامس:148 - 149 تكذيب المشركين في إفترائهم على الله
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم , وسد الذرائع في وجوههم , يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليه شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم . . إنهم يقولون:إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال . فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء:
(سيقول الذين أشركوا:لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا , ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ? إن تتبعون إلا الظن , وإن أنتم إلا تخرصون . قل:فلله الحجة البالغة , فلو شاء لهداكم أجمعين):
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة . . . وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل , فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية . . ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد , ما اشتد هذا الجدل , وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه .
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه , فنجد قضية واضحة بسيطة محددة:
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء). . فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم , وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله , وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل . . يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم . فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا . .
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة ?
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم , وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله . وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد:
من الاية 148 الى الاية 149
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا). .
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر , وتوقظ من الغفلة , وتوجه إلى العبرة . .
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر . . إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات . . وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً . . فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه , فكيف يعلمونه ? وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه:
(قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ? إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون). .
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً , فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية , ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه ?
هذا هو فصل القول في هذه القضية . . إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه . إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه , ليكيفوا أنفسهم على حسبها . . وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه , ويشرح صدورهم للإسلام . . وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ - في واقعها العملي - يسيرة واضحة , بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته !
إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى , أو يقهرهم على الهدى . أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر . . . ولكنه - سبحانه - شاء غير هذا ! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال , ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى , وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته . . وجرت سنته بما شاء . .
(قل:فلله الحجة البالغة , فلو شاء لهداكم أجمعين).
قضية واضحة , مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري . فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي . . ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة . لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها . .
إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها , وأسلوب التعبير عنها كذلك . الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل . والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن . والحقيقة التي وراء هذا المدى , لا بد أن تتناول بمنهج آخر . . هو كما قلنا من قبل:منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي . ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً .
وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً ; تحدده أوامر ونواه واضحة . فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة , يرتادها العقل بغير دليل , ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود .
الدرس السادس:150 مطالبة الكفار لشهادة الله على أحكامهم
وأخيراً يوجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع , كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة:
في أوائل السورة قال له:
(قل:أي شيء أكبر شهادة ? قل الله . شهيد بيني وبينكم , وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن
من الاية 150 الى الاية 150
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? قل:لا أشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون). .
وهنا قال له:
(قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). .
إنها مواجهة هائلة , ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله ; وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله ! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله , ولا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون له أنداداً تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا:
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض , وجعل الظلمات والنور , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون). .
هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله ! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم ? ولماذا يعدهم مكذبين بآياته ; غير مؤمنين بالآخرة , مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا أنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية , فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية , واتخاذ شريعته وحدها قانونا , وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر . .
كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة , ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة , لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله , ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر . ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره , وفي شريعته وحكمه . .
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون !
هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به , بالتكذيب بآياته , وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك "مسلم" أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل "مسلم" كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .
من الاية 151 الى الاية 151
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
الدرس السابع:151 - 153 الوصايا العشر وصراط الله المستقيم وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات , يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر , لتقوم عليها المحرمات والنواهي , لمن استسلم لها وأسلم:
قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم:ألا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحسانا , ولا تقتلوا أولادكم من إملاق , نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن , حتى يبلغ أشده , وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . . .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد , وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة , وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات , وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات , مرتبطة بعهد الله , كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا , فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم ; وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ; ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية ; بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
(قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). .
قل:تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم(ربكم)الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه , وموضع سلطانه . فالذي يحرم هو "الرب" والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
(ألا تشركوا به شيئاً). .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ; وترجع إليها التكاليف والفرائض , وتستمد منها الحقوق والواجبات . . القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي ; وقبل الدخول في التكاليف والفرائض , وقبل الدخول في النظام والأوضاع ; وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم ; لا يشركون معه أحداً في ألوهيته , ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ; ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ; ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك , وتنقية العقل من أوشاب الخرافة , وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية , وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشدالإنكار كله له ; حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله , ولا رب لهم إلا الله , ولا حاكم لهم إلا الله , ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر , من عبادة أو خلق أو عمل . .
من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة:
ألا تشركوا به شيئاً . .
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا , لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه:
(قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا , والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). .
يجب أن نذكر هذه الآية , وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً . . إنه الشرك في الاعتقاد , كما أنه الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر , والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر , لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية , قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة , وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام , يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية ; أولاستنكار انحلال أخلاقي ; أو لمخالفة من المخالفات القانونية . ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية , وموقعها من العقيدة الإسلامية ! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية , ولا يستنكرون المنكر الأكبر ; وهو قيام الحياة في غير التوحيد ; أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية , أوصاهم ألا يشركوا به شيئا . في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا !
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة , وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ; وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات , واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
(وبالوالدين إحسانا . ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم). .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء , وأوصى الآباء بالأبناء ; وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة , والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم:إنه هو الذي يكفل لهم الرزق , فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ; ولا تجاه الأولاد في ضعفهم , ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً . .
(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن). .
ولما وصاهم الله بالأسرة , وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدةالنظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة , ولا استقامة مجتمع , في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش:كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها , فتكون هذه واحدة منها بعينها . وإلا فقتل النفس فاحشة , وأكل مال اليتيم فاحشة , والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص(الفواحش)هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع , لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج , والتهتك , والاختلاط المثير , والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة , والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن . منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف ! وكلها مما يحطم قوام الأسرة , وينخر في جسم الجماعة , فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد , ويحقر من اهتماماتهم , ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية , كان التعبير: ولا تقربوا . . للنهي عن مجرد الاقتراب , سداً للذرائع , واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراماً , وكانت الحركات المثيرة , والضحكات المثيرة , والإشارت المثيرة , ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة ! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود , ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق , وهو اللطيف الخبير . .
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين , وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة , من يزينون للناس الشهوات , ومن يطلقون الغرائر من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام !
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة:الشرك , والزنا , وقتل النفس . . ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة ; والثانية جريمة قتل للجماعة , والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة , منتهية حتماً إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبىء بالمصير المرتقب لأمم ينخرفيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات , مجتمع مهدد بالدمار . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات , لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن قتل(النفس)عامة . فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس(النفس)في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية: (. . . أنه من قتل نفساً , بغير نفس أو فساد في الأرض , فكأنما قتل الناس جميعاً , ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها , وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها , وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته , لا يُؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته , ولم يتركه للتقدير والتأويل . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة , وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة !
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة . فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع , لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف , يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس , وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس !
كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس !
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية , وتلك في آية , وبينهما هذا الإيقاع .
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده). .
واليتيم ضعيف في الجماعة , بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ; حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ; فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة , وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه:
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده).
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه , حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله , ويحسن القيام عليه . وبذلك
من الاية 152 الى الاية 152
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً ; وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك , بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون , وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها -).
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ; لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية , وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة , وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات , وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: (قالوا:يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)?!
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء , وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة , للدلالة على طبيعة هذا الدين , وتسويته بين العقيدة والشريعة , وبين العبادة والمعاملة , في أنها كلها من مقومات هذا الدين , المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى). .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع , على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ; بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ; وفي قوة القرابة سند لضعفه ; وفي سعة رقعتها كمال لوجوده , وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم , أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل , على هدى من الاعتصام بالله وحده , ومراقبة الله وحده , اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى , وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ; وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله:
(وبعهد الله أوفوا). .
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر , المأخوذ على فطرة البشر , بحكم خلقتها متصلة بمبدعها , شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). .
من الاية 153 الى الاية 153
وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل , وهو يذكر عهد الله كله , ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .
. . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله , وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . . صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل:
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى:
(أفغير الله أبتغي حكماً , وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً). .
وانتهى هذه النهاية , بهذا الإيقاع العريض العميق . .
وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع , كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام , والذبائح والنذور , إلى كل القضايا العقيدية الأساسية , ليدل على أنها من هذه القضايا . التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة ; وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل ; وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد .
إنه صراط واحد - صراط الله - وسبيل واحدة تؤدي إلى الله . . أن يفرد الناس الله - سبحانه - بالربوبية , ويدينوا له وحده بالعبودية ; وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده ; وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية . .
هذا هو صراط الله ; وهذا هو سبيله . . وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله .
(ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل . والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل . .
الوحدة السابعة عشرة:154 - 165 الموضوع:تقرير حقائق إعتقادية حول الربوبية والحاكمية والرسالة والبعث
مقدمة الوحدة
لم ينقطع تدفق السياق في الموضوع الأساسي الذي يعالجه شطر السورة الأخير - وهو موضوع الحاكمية والتشريع وعلاقتهما بالدين والعقيدة - وهذا الشوط الجديد هو امتداد في العرض , وامتداد في الحشد , لتقرير هذه الحقيقة .
وهو يتحدث عن المبادىء الأساسية في العقيدة - بصدد التشريع والحاكمية - كما كان الشطر الأول من السورة يتحدث عن هذه المبادىء في صدد قضية الدين والعقيدة . ذلك ليقرر أن قضية التشريع والحاكمية هي كذلك قضية الدين والعقيدة . وعلى ذات المستوى الذي يعرض به المنهج القرآني هذه الحقيقة . ومما يلاحظ أن السياق يستخدم في شطر السورة الثاني ذات المؤثرات والموحيات والمشاهد والتعبيرات التي حشدها في الشطر الأول منها:
يتحدث عن الكتب والرسل والوحي والآيات التي يطلبونها .
ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها .
ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها .
ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول [ ص ] وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم . ويوجه الرسول [ ص ] إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة .
ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعاً , والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى .
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 154==الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه129==136 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 154==الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه129==136 الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى