تفسير سوره الانعام ايه129==136 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سوره الانعام ايه129==136 الشيخ سيد قطب
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129)
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم ; ينفرد بهما الحكيم العليم . .
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد , يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي:
(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). .
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء ; وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير . . بمثل ذلك , وعلى قاعدته , نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . نجعل بعضهم أولياء بعض ; بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة ; وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف , وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير . .
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة , إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة . فإن الظالمين - وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور - يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى ; ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به . إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة - مهما اختلفت الأشكال - هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة , تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس , كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله . .
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا - على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح - إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله . . فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة , واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء . . وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض !
وإننا لنشهد في هذه الفترة - ومنذ قرون كثيرة - تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين - على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها - ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام , وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها .
وهو تجمع رهيب فعلا , تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام , مع القوى المادية والثقافية , مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة . . وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانهوكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). . كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه - [ ص ]: (ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون). . ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله [ ص ] وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين , وعلى المؤمنين . .
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير:
(يا معشر الجن والإنس , ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? قالوا شهدنا على أنفسنا , وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ? الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون
من الاية 130 الى الاية 131
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130)
ما أنزل على الرسل , وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به , يغفر لكم من ذنوبكم , ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين . . فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه !
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس , أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل ; كما أنه للتأنيب والتوبيخ ; فأخذوا في الاعتراف الكامل ; وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه:
(قالوا:شهدنا على أنفسنا):
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول:
(وغرتهم الحياة الدنيا ; وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين);
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة ; وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به ; حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق , الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه , ولا بكلمة الإنكار ! ولا بكلمة الدفاع !
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ; ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً ; وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً !
إن هذ القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة ; وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ; ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد ! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ; ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل ! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد !
(وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين). .
وذلك من عجائب التخييل !
الدرس الثاني:131 - 132 سنة الله في الثواب والعقاب
وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] ومن وراءه من المؤمنين ; وإلى الناس أجمعين ; ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن ; وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار ; وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم , تقص عليهم آيات الله , وتنذرهم لقاء يومهم هذا . . ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه , بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار ; وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم [ أي بشركهم ] إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم ; وتقص عليهم الآيات , وينذرهم المنذرون:
(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى - بظلم - وأهلها غافلون). .
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل , على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها - فقد تضل هذه الفطر - وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك -
من الاية 132 الى الاية 134
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134)
فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات - وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات - فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري .
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام لا واستنقاذ العقل من الانحراف , واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس . وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار .
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله , كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل ; وتقرر أنها - وحدها - لا تعصم من الضلال , ولا تهدي إلى يقين , ولا تصبر على ضغط الشهوات . .
ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين . .
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء . . للمؤمنين وللشياطين سواء:
(ولكل درجات مما عملوا . وما ربك بغافل عما يعملون). .
فللمؤمنين درجات:درجة فوق درجة . وللشياطين درجات:درجة تحت درجة ! وفق الأعمال . والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء: (وما ربك بغافل عما يعملون).
الدرس الثالث:133 - 135 غنى الله عن المخلوقين وقدرته النافذة فيهم
على أن الله - سبحانه - إنما يرسل رسله رحمة بالعباد ; فهو غني عنهم ; وعن إيمانهم به وعبادتهم له . وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة . كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك , وهو القادر على أن يهلكه , وينشئ جيلا آخر يستخلفه:
(وربك الغني ذو الرحمة . إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء . كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين).
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله ; وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله ; وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه . فليس هو سلطاناً أصيلاً , ولا وجودا مختارا . فما لأحد في نشأته ووجوده من يد ; وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة . وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله . كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر . واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله .
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون , ويحرمون ويحللون , ويجادلون في شرع الله بما يشرعون . . وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء , ويذهب بهم أنى شاء , ويستخلف من بعدهم ما يشاء . . كما أنها ايقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة , التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم ; ومن أذى المجرمين وعدائهم . . فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون !
ثم إيقاع تهديدي آخر:
(إن ما توعدون لآت , وما أنتم بمعجزين)
إنكم في يد الله وقبضته , ورهن مشيئته وقدره . فلستم بمفلتين أو مستعصين . . ويوم الحشر الذي شاهدتم
من الاية 135 الى الاية 135
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم ; وإنه لآت لا ريب فيه , ولن تفلتوا يومها , ولن تعجزوا الله القوي المتين . وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف , عميق الإيحاء والتأثير في القلوب:
(قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل , فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار , إنه لا يفلح الظالمون). إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه , والحق الذي وراءه ; ومن القوة التي في الحق , والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول [ ص ] بأنه نافض يديه من أمرهم , واثق مما هو عليه من الحق , واثق من منهجه وطريقه , واثق كذلك مما هم عليه من الضلال , وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون:
(إنه لا يفلح الظالمون). .
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون , الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة , نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة ; كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ; وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم , كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة ; لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية , وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية ; وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله ; وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه ; وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله . .
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية ?
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية "العقيدة في الإسلام ; كما تلخص قضية "الدين" . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة:أن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثم مزاولة لحق الألوهية , يأباه المسلم إلا الله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله , ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين ! والتشريع هو مزاولة للألوهية , والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ; ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين !
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية , والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ; ولكنه كان يواجه قضية العقيدةوالتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . . ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .
الوحدة السادسة عشرة:136 - 153 الموضوع:ربط الحاكمية بالعقيدة وإنكار حاكمية الجاهلية مقدمة الوحدة هذا الشوط الطويل كله - بالإضافة إلى الشوط الذي سبقه والتعقيبات عليه - في سياق سورة مكية , من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة ; والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة - إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي - حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته ; فصان الله هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن , وموضوعات دراسة ; قبل أن يهيىء لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة , ويسلم نفسه لله جملة , ويعبد الله بالطاعة لشريعته في وقبل أن يهيىء لها الدولة ذات السلطان , التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا ; وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه , كما هي طبيعة هذا الدين , وكما هو منهجه , الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار . .
نقول:هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية ; يتناول قضية التشريع والحاكمية . فيدل على طبيعة هذه
من الاية 136 الى الاية 136
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136)
القضية - إنها قضية عقيدية . . ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين . . إنها قضيته الرئيسية . .
وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا , نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته . . لنرى محتوياته على وجه الإجمال . ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك . .
إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد - أي في شأن المال والاجتماع - في جاهليتهم . فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في:
- 1 تقسيمهم ما رزقهم الله من رزق , وأنشأ لهم من زروع وأنعام , إلى قسمين:قسم يجعلونه لله - زاعمين أن هذا مما شرعه الله - وقسم يجعلونه لشركائهم - وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا)!
- 2 أنهم بعد ذلك , يجورون على النصيب الذي قسموه لله . فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائنا , ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء !: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)!
- 3 أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء - وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم - ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع , بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية , وحكم التأثر بالأساطير الدينية من ناحية - وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار . كما قد يتناول الذكور في النذور , كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه الله عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة ! (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم , ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم)!
- 4 أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع ; فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من الله - هكذا يزعمون ! - كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب , ويمنعون أن يذكر اسم الله على بعضها عند الذبح أو الركوب أولا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر الله . مع الزعم بأن هذا كله قد أمر الله به .: (وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - !).
- 5 وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم , ويجعلونه محرما على إناثهم . إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث ! مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى اللهوقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم). .
هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية , والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل - في سورة مكية - للقضاء عليها , وتطهير النفوس والقلوب منها , وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي .
ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة:
لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله -وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى الله بغير علم .
ثم لفت أنظارهم إلى أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات . . هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات . وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام . . والذي يرزق هو وحده الذي يملك , وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال . . وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات , ومن نعمة الله عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشاً , يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره . . كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان . فكيف يتبعون خطوات الشيطان , وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين ?!
بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام , وخلوها من كل منطق , وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة . . وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل:علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ?)فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم ! ويشنع بجريمة الافتراء على الله , وإضلال الناس بغير علم . ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها . .
وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع . ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم . سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله الله للمسلمين .
ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية - الممثلة في الشرك بالله وتحريم ما أحل الله وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند الله - على إرادة الله وقولهم: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء). . فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل , وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس الله: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا)فالشرك كالتحريم بدون شرع الله , كلاهما سمة المكذبين بآيات الله . ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها: (قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا . إن تتبعون إلا الظن , وإن أنتم إلا تخرصون)!
ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة - تماماً كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد - مع استخدام نفس العبارات والأوصاف , بل نفس الألفاظ , للدلالة على أن القضية واحدة:قضية الشرك بالله , وقضية التشريع بغير إذن من اللهقل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا , فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). . ونرى من الآية الى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ , أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم . وهم الذين كذبوا بآيات الله . وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة . فلو أنهم صدقوا بآيات الله وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى الله ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون الله . وما حرموا وحللوا بغير إذن من الله .
وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه الله حقاً . . وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية , في مقدمتها توحيد الله . وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب , فجعلها عنواناً للكل:لقد نهى الله عن الشرك . وأمر بالإحسان للوالدين . ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق .ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق . ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده . وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط . وأمر بالعدل في القول - في الشهادة والحكم - ولو كان ذا قربى . وأمر بالوفاء بعهد الله كله . وجعل هذا جميعه وصية من الله كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي .
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادى الشريعة ; اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق , وتمتزجان هذا الامتزاج ; وتعرضان جملة واحدة , وكتلة واحدة , بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه . . هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل:
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله ; وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام . بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة . . . بل إن شريعته هي عقيدته . . إذ هي الترجمة الواقعية لها . . . كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية , وعرضها في المنهج القرآني . .
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم "الدين" في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة , بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة . . حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهزئين والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة ! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة ! ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين , كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة ! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة . إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة , قروناً طويلة , حتى انتهت مسألة الحاكمية الى هذه الصورة الباهتة , حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين ! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة , إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات , وكل هذه التقريرات ; بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية . ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير . . أصل الحاكمية . . وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي . .
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك , ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك . ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك . . إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . ولا يعرفون طبيعة هذا الدين . . فليقرأوا القرآن كما أنزله الله , وليأخذوا قول الله بجد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون). .
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون , أو هذا الإجراء , أو هذا القول , منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق . . وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك . . كأن الإسلام كله قائم , فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات !
هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين , يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون . بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية . شهادة بأن هذا الدين قائم فيها , لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات . بينما الدين كله متوقف عن "الوجود" أصلاً , ما داملا يتمثل في نظام وأوضاع , الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد .
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله . فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين . . وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم , لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله , وتغتصب سلطانه , وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد . . وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات , ويربطها بقضية الألوهية والعبودية , ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر , وميزان الجاهلية أو الإسلام .
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" لم تكن هي المعركة مع الإلحاد , حتى يكون مجرد "التدين" هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين ! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة "وجود" هذا الدين ! . . لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" هي معركة "الحاكمية " وتقرير لمن تكون . . لذلك خاضها وهو في مكة . خاضها وهو ينشيء العقيدة , ولا يتعرض للنظام والشريعة . خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده , لا يدعيها لنفسه مسلم , ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم . . فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة , يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة . . فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون . بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين !
وحسبنا هذا القدر لنواجه النصوص بالتفصيل .
الدرس الأول 136 - 140 نماذج مستنكرة من التشريع الجاهلي الخاسر
(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون !). .
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام ; فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء . . ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم . إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا , ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا [ وطبيعي أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير ! ] . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله . على النحو الذي تقرره الآية !
عن ابن عباس قال:كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما , جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتهم . وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتم . وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوها لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم , أقروه ولم يردوه . فذلك قوله: (ساء ما يحكمون).
وعن مجاهد قال:يسمون لله جزءا من الحرث , ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه . وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه . وقالوا:"الله عن هذا غني" ! والأنعام:السائبة والبحيرة التي سموا .
وعن قتادة قال:عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه . فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السنة [ يعني الجدب ] استعانوا بما جزأوا لله , وأقروا ما جزأوا لشركائهم . قال الله , (ساء ما يحكمون).
وعن السدي قال:كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله , ويزرعون زرعا فيجعلونه لله . ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك . . فما خرج للآلهة أنفقوه عليها , وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم , وكثر الذي لله , قالوا:"ليس بد لآلهتنا من نفقة " ! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم . وإذا أجدب الذي لله , وكثر الذي لآلهتهم , قالوا:"لو شاء أزكى الذي له" ! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة . قال الله . . لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا:أن يأخذوا مني ولا يعطوني ! فذلك حين يقول: (ساء ما يحكمون).
وعن ابن جرير:وأما قوله: (ساء ما يحكمون)فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه:وقد أساءوا في حكمهم , إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم , ولم يعطوني من نصيب شركائهم , وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم , وذهابهم عن سبيل الحق , بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم , وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى , ما لا يضرهم ولا ينفعهم , حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه !
هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع . وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم . فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء , وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة ! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس ; وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة ! . . وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم , ويفسدوا عليهم دينهم , ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة ! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب , وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى:للإغريق والفرس والرومان , والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا . . . هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية ! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله . وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة . تلتقي في الأصل والقاعدة . فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله . ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف . . فإن هي إلا اشكال . .(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم , وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون).
يقول:وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم . . وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده , إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه !
وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية . العرف الذي وضعه الناس للناس . والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن . . من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس , ومن القرناء الموسوسين من الجن , بالتعاون والموالاة فيما بينهم !
والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين:
(ليردوهم , وليلبسوا عليهم دينهم).
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم ; ينفرد بهما الحكيم العليم . .
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد , يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي:
(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). .
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء ; وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير . . بمثل ذلك , وعلى قاعدته , نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . نجعل بعضهم أولياء بعض ; بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة ; وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف , وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير . .
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة , إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة . فإن الظالمين - وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور - يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى ; ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به . إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة - مهما اختلفت الأشكال - هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة , تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس , كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله . .
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا - على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح - إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله . . فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة , واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء . . وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض !
وإننا لنشهد في هذه الفترة - ومنذ قرون كثيرة - تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين - على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها - ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام , وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها .
وهو تجمع رهيب فعلا , تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام , مع القوى المادية والثقافية , مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة . . وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانهوكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). . كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه - [ ص ]: (ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون). . ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله [ ص ] وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين , وعلى المؤمنين . .
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير:
(يا معشر الجن والإنس , ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? قالوا شهدنا على أنفسنا , وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ? الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون
من الاية 130 الى الاية 131
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130)
ما أنزل على الرسل , وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به , يغفر لكم من ذنوبكم , ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين . . فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه !
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس , أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل ; كما أنه للتأنيب والتوبيخ ; فأخذوا في الاعتراف الكامل ; وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه:
(قالوا:شهدنا على أنفسنا):
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول:
(وغرتهم الحياة الدنيا ; وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين);
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة ; وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به ; حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق , الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه , ولا بكلمة الإنكار ! ولا بكلمة الدفاع !
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ; ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً ; وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً !
إن هذ القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة ; وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ; ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد ! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ; ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل ! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد !
(وغرتهم الحياة الدنيا , وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين). .
وذلك من عجائب التخييل !
الدرس الثاني:131 - 132 سنة الله في الثواب والعقاب
وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] ومن وراءه من المؤمنين ; وإلى الناس أجمعين ; ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن ; وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار ; وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم , تقص عليهم آيات الله , وتنذرهم لقاء يومهم هذا . . ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه , بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار ; وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم [ أي بشركهم ] إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم ; وتقص عليهم الآيات , وينذرهم المنذرون:
(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى - بظلم - وأهلها غافلون). .
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل , على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها - فقد تضل هذه الفطر - وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك -
من الاية 132 الى الاية 134
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134)
فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات - وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات - فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري .
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام لا واستنقاذ العقل من الانحراف , واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس . وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار .
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله , كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل ; وتقرر أنها - وحدها - لا تعصم من الضلال , ولا تهدي إلى يقين , ولا تصبر على ضغط الشهوات . .
ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين . .
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء . . للمؤمنين وللشياطين سواء:
(ولكل درجات مما عملوا . وما ربك بغافل عما يعملون). .
فللمؤمنين درجات:درجة فوق درجة . وللشياطين درجات:درجة تحت درجة ! وفق الأعمال . والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء: (وما ربك بغافل عما يعملون).
الدرس الثالث:133 - 135 غنى الله عن المخلوقين وقدرته النافذة فيهم
على أن الله - سبحانه - إنما يرسل رسله رحمة بالعباد ; فهو غني عنهم ; وعن إيمانهم به وعبادتهم له . وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة . كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك , وهو القادر على أن يهلكه , وينشئ جيلا آخر يستخلفه:
(وربك الغني ذو الرحمة . إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء . كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين).
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله ; وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله ; وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه . فليس هو سلطاناً أصيلاً , ولا وجودا مختارا . فما لأحد في نشأته ووجوده من يد ; وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة . وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله . كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر . واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله .
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون , ويحرمون ويحللون , ويجادلون في شرع الله بما يشرعون . . وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء , ويذهب بهم أنى شاء , ويستخلف من بعدهم ما يشاء . . كما أنها ايقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة , التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم ; ومن أذى المجرمين وعدائهم . . فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون !
ثم إيقاع تهديدي آخر:
(إن ما توعدون لآت , وما أنتم بمعجزين)
إنكم في يد الله وقبضته , ورهن مشيئته وقدره . فلستم بمفلتين أو مستعصين . . ويوم الحشر الذي شاهدتم
من الاية 135 الى الاية 135
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم ; وإنه لآت لا ريب فيه , ولن تفلتوا يومها , ولن تعجزوا الله القوي المتين . وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف , عميق الإيحاء والتأثير في القلوب:
(قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل , فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار , إنه لا يفلح الظالمون). إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه , والحق الذي وراءه ; ومن القوة التي في الحق , والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول [ ص ] بأنه نافض يديه من أمرهم , واثق مما هو عليه من الحق , واثق من منهجه وطريقه , واثق كذلك مما هم عليه من الضلال , وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون:
(إنه لا يفلح الظالمون). .
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون , الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة , نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة ; كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ; وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم , كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة ; لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية , وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية ; وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله ; وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه ; وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله . .
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية ?
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية "العقيدة في الإسلام ; كما تلخص قضية "الدين" . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة:أن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثم مزاولة لحق الألوهية , يأباه المسلم إلا الله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله , ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين ! والتشريع هو مزاولة للألوهية , والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ; ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين !
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية , والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ; ولكنه كان يواجه قضية العقيدةوالتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . . ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .
الوحدة السادسة عشرة:136 - 153 الموضوع:ربط الحاكمية بالعقيدة وإنكار حاكمية الجاهلية مقدمة الوحدة هذا الشوط الطويل كله - بالإضافة إلى الشوط الذي سبقه والتعقيبات عليه - في سياق سورة مكية , من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة ; والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة - إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي - حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته ; فصان الله هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن , وموضوعات دراسة ; قبل أن يهيىء لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة , ويسلم نفسه لله جملة , ويعبد الله بالطاعة لشريعته في وقبل أن يهيىء لها الدولة ذات السلطان , التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا ; وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه , كما هي طبيعة هذا الدين , وكما هو منهجه , الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار . .
نقول:هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية ; يتناول قضية التشريع والحاكمية . فيدل على طبيعة هذه
من الاية 136 الى الاية 136
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136)
القضية - إنها قضية عقيدية . . ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين . . إنها قضيته الرئيسية . .
وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا , نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته . . لنرى محتوياته على وجه الإجمال . ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك . .
إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد - أي في شأن المال والاجتماع - في جاهليتهم . فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في:
- 1 تقسيمهم ما رزقهم الله من رزق , وأنشأ لهم من زروع وأنعام , إلى قسمين:قسم يجعلونه لله - زاعمين أن هذا مما شرعه الله - وقسم يجعلونه لشركائهم - وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا)!
- 2 أنهم بعد ذلك , يجورون على النصيب الذي قسموه لله . فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائنا , ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء !: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)!
- 3 أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء - وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم - ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع , بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية , وحكم التأثر بالأساطير الدينية من ناحية - وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار . كما قد يتناول الذكور في النذور , كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه الله عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة ! (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم , ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم)!
- 4 أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع ; فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من الله - هكذا يزعمون ! - كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب , ويمنعون أن يذكر اسم الله على بعضها عند الذبح أو الركوب أولا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر الله . مع الزعم بأن هذا كله قد أمر الله به .: (وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - !).
- 5 وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم , ويجعلونه محرما على إناثهم . إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث ! مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى اللهوقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم). .
هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية , والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل - في سورة مكية - للقضاء عليها , وتطهير النفوس والقلوب منها , وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي .
ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة:
لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله -وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى الله بغير علم .
ثم لفت أنظارهم إلى أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات . . هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات . وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام . . والذي يرزق هو وحده الذي يملك , وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال . . وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات , ومن نعمة الله عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشاً , يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره . . كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان . فكيف يتبعون خطوات الشيطان , وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين ?!
بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام , وخلوها من كل منطق , وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة . . وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل:علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ?)فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم ! ويشنع بجريمة الافتراء على الله , وإضلال الناس بغير علم . ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها . .
وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع . ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم . سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله الله للمسلمين .
ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية - الممثلة في الشرك بالله وتحريم ما أحل الله وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند الله - على إرادة الله وقولهم: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء). . فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل , وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس الله: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا)فالشرك كالتحريم بدون شرع الله , كلاهما سمة المكذبين بآيات الله . ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها: (قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا . إن تتبعون إلا الظن , وإن أنتم إلا تخرصون)!
ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة - تماماً كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد - مع استخدام نفس العبارات والأوصاف , بل نفس الألفاظ , للدلالة على أن القضية واحدة:قضية الشرك بالله , وقضية التشريع بغير إذن من اللهقل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا , فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). . ونرى من الآية الى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ , أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم . وهم الذين كذبوا بآيات الله . وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة . فلو أنهم صدقوا بآيات الله وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى الله ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون الله . وما حرموا وحللوا بغير إذن من الله .
وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه الله حقاً . . وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية , في مقدمتها توحيد الله . وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب , فجعلها عنواناً للكل:لقد نهى الله عن الشرك . وأمر بالإحسان للوالدين . ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق .ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق . ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده . وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط . وأمر بالعدل في القول - في الشهادة والحكم - ولو كان ذا قربى . وأمر بالوفاء بعهد الله كله . وجعل هذا جميعه وصية من الله كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي .
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادى الشريعة ; اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق , وتمتزجان هذا الامتزاج ; وتعرضان جملة واحدة , وكتلة واحدة , بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه . . هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل:
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). .
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله ; وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام . بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة . . . بل إن شريعته هي عقيدته . . إذ هي الترجمة الواقعية لها . . . كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية , وعرضها في المنهج القرآني . .
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم "الدين" في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة , بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة . . حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهزئين والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة ! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة ! ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين , كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة ! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة . إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة , قروناً طويلة , حتى انتهت مسألة الحاكمية الى هذه الصورة الباهتة , حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين ! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة , إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات , وكل هذه التقريرات ; بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية . ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير . . أصل الحاكمية . . وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي . .
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك , ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك . ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك . . إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . ولا يعرفون طبيعة هذا الدين . . فليقرأوا القرآن كما أنزله الله , وليأخذوا قول الله بجد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون). .
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون , أو هذا الإجراء , أو هذا القول , منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق . . وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك . . كأن الإسلام كله قائم , فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات !
هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين , يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون . بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية . شهادة بأن هذا الدين قائم فيها , لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات . بينما الدين كله متوقف عن "الوجود" أصلاً , ما داملا يتمثل في نظام وأوضاع , الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد .
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله . فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين . . وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم , لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله , وتغتصب سلطانه , وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد . . وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات , ويربطها بقضية الألوهية والعبودية , ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر , وميزان الجاهلية أو الإسلام .
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" لم تكن هي المعركة مع الإلحاد , حتى يكون مجرد "التدين" هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين ! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة "وجود" هذا الدين ! . . لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" هي معركة "الحاكمية " وتقرير لمن تكون . . لذلك خاضها وهو في مكة . خاضها وهو ينشيء العقيدة , ولا يتعرض للنظام والشريعة . خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده , لا يدعيها لنفسه مسلم , ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم . . فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة , يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة . . فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون . بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين !
وحسبنا هذا القدر لنواجه النصوص بالتفصيل .
الدرس الأول 136 - 140 نماذج مستنكرة من التشريع الجاهلي الخاسر
(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون !). .
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام ; فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء . . ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم . إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا , ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا [ وطبيعي أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير ! ] . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله . على النحو الذي تقرره الآية !
عن ابن عباس قال:كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما , جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتهم . وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتم . وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوها لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم , أقروه ولم يردوه . فذلك قوله: (ساء ما يحكمون).
وعن مجاهد قال:يسمون لله جزءا من الحرث , ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه . وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه . وقالوا:"الله عن هذا غني" ! والأنعام:السائبة والبحيرة التي سموا .
وعن قتادة قال:عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه . فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السنة [ يعني الجدب ] استعانوا بما جزأوا لله , وأقروا ما جزأوا لشركائهم . قال الله , (ساء ما يحكمون).
وعن السدي قال:كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله , ويزرعون زرعا فيجعلونه لله . ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك . . فما خرج للآلهة أنفقوه عليها , وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم , وكثر الذي لله , قالوا:"ليس بد لآلهتنا من نفقة " ! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم . وإذا أجدب الذي لله , وكثر الذي لآلهتهم , قالوا:"لو شاء أزكى الذي له" ! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة . قال الله . . لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا:أن يأخذوا مني ولا يعطوني ! فذلك حين يقول: (ساء ما يحكمون).
وعن ابن جرير:وأما قوله: (ساء ما يحكمون)فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه:وقد أساءوا في حكمهم , إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم , ولم يعطوني من نصيب شركائهم , وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم , وذهابهم عن سبيل الحق , بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم , وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى , ما لا يضرهم ولا ينفعهم , حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه !
هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع . وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم . فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء , وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة ! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس ; وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة ! . . وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم , ويفسدوا عليهم دينهم , ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة ! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب , وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى:للإغريق والفرس والرومان , والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا . . . هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية ! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله . وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة . تلتقي في الأصل والقاعدة . فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله . ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف . . فإن هي إلا اشكال . .(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم , وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون).
يقول:وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم . . وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده , إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه !
وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية . العرف الذي وضعه الناس للناس . والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن . . من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس , ومن القرناء الموسوسين من الجن , بالتعاون والموالاة فيما بينهم !
والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين:
(ليردوهم , وليلبسوا عليهم دينهم).
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الانعام ايه 146==153 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 154==الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 109==118 الشيخ سيد قطب
» تفسير سوره الانعام ايه 154==الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير الانعام ايه 22==34 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانعام ايه 35==42 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى