تفسير سورة الحاقه ايه 25 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحاقه ايه 25 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
من الاية 25 الى الاية 32
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية). . فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة بالله , قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع . . فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان . والنعيم ألوان غير هذا وألوان . .
(وأما من أوتي كتابه بشماله)وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته , وأن إلى العذاب مصيره , فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد , وقفة المتحسر الكسير الكئيب . . (فيقول:يا ليتني لم أوت كتابيه ! ولم أدر ما حسابيه ! يا ليتها كانت القاضية ! ما أغنى عني ماليه ! هلك عني سلطانيه !). .
وهي وقفة طويلة , وحسرة مديدة , ونغمة يائسة , ولهجة بائسة . والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لاتنتهي إلى نهاية , وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية ! وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف , وتقصير بعضها , وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس . وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير . ومن ثم يطول ويطول , في تنغيم وتفصيل . ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف , ولم يؤت كتابه , ولم يدر ما حسابه ; كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية , التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا . . ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعهما أغنى عني ماليه). .(هلك عني سلطانيه). . فلا المال أغنى أو نفع . ولا السلطان بقي أو دفع . . والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف , في تحزن وتحسر . . هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقا بليغا . .
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم , بجلاله وهوله وروعته:
(خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). .
يا للهول الهائل ! ويا للرعب القاتل ! ويا للجلال الماثل !
(خذوه). .
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب , كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو:"إذا قال الله تعالى:خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار" . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة !
(فغلوه). .
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه . . !
(ثم الجحيم صلوه). .
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
(ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها .
من الاية 33 الى الاية 37
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37)
ولعل هذا الإيحاء هو المقصود ! .
فإذا انتهى الأمر , نشرت أسبابه على الحشود:
(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين). .
إنه قد خلا قلبه من الإيمان بالله , والرحمة بالعباد . فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب .
خلا قلبه من الإيمان بالله فهو موات , وهو خرب , وهو بور . وهو خلو من النور . وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد . فكل شيء مؤمن , يسبح بحمد ربه , موصول بمصدر وجوده . أما هو فمقطوع من الله . مقطوع من الوجود المؤمن بالله .
وخلا قلبه من الرحمة بالعباد . والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين . ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه . توحي بأن هناك واجبا اجتماعيا يتحاض عليه المؤمنون . وهو وثيق الصلة بالإيمان . يليه في النص ويليه في الميزان !
فليس له اليوم ها هنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون . .
وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي . فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم , وكان لا يحض على طعام المسكين . فهو هنا مقطوع (فليس له اليوم ها هنا حميم). . وهو ممنوعولا طعام إلا من غسلين). . والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد ! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد ! طعام(لا يأكله إلا الخاطئون). . المذنبون المتصفون بالخطيئة . . وهو منهم في الصميم !
وبعد , فذلك هو الذي يجعله الله مستحقا للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا في الجحيم . وهو أشد دركات جهنم عذابا . . فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ , ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء ? أين ترى يذهب هؤلاء , وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين ? وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين , ذلك العذاب في الجحيم ?
وينتهي هذا المشهد العنيف المثير . الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها . ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية , كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثرا واستجابة . لأن رقعة الأرض واسعة . وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف . والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها , وبما تستجيب له حين يدعوها . والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى , وطبائع أجسى , وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات . ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة . .
الدرس الخامس:38 - 43 القسم على حقيقة مصدر القرآن ورد شبهات الكفار عليه
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة , المتوالية منذ أول السورة , مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة , ومشاهد التدمير الكونية الشاملة , ومشاهد النفوس المكشوفة العارية , ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة . .
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به
من الاية 38 الى الاية 40
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
الرسول الكريم , فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب:
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر , قليلا ما تؤمنون . ولا بقول كاهن , قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين). .
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح , ثابت هذا الثبوت , واقع هذا الوقوع . لا يحتاج إلى قسم أنه حق , صادر عن الحق , وليس شعر شاعر , ولا كهانة كاهن , ولا افتراء مفتر ! لا . فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين:
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). .
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة , وبهذا التهويل بالغيب المكنون , إلى جانب الحاضر المشهود . . والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر . بل مما يدركون . وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة , تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها - كما شاء الله لهم - والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير . والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض , ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود . .
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). .
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها . وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة . فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه , ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود . فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون . ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض . . ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة , وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر - بما لا يقاس - مما وصل إليه . . عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه , ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور !
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين , ويدرك الوعي , بأدواته الميسرة له . . مساكين ! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود . محصورون في عالم ضيق على سعته , صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير . .
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود , والحاضر المشهود ; ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور , والاتصال بالحق الكبير , عن طريق الإيمان والشعور . ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم . . تارة باسم الجاهلية . وتارة باسم العلمانية ! وهذه كتلك سجن كبير . وبؤس مرير . وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور !
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها - بحمق وغرور - حول نفسه في القرنين الماضيين . . يتخلص من تلك القضبان , ويتصل بالنور - عن طريق تجاربه ذاتها - بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا ; وعرف حدوده , وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة . وعاد "العلم يدعو إلى الإيمان" في تواضع تبشرأوائله بالفرج ! أي نعم بالفرج . فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق !
ولقد رأينا عالما مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية , وصاحب جائزة نوبل سنة 1912 ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى:
"أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا , وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته . وإن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا , وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة , فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء" .
"وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة , لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح" . .
ورأينا طبيبا آخر مثل "دي نوي" الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي , وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته , واستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح . . يقول:
"كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه . على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب . فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل . وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي ! وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب" . . .
ورأينا عالما طبيعيا مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول:"إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة , وفقد فيه الأثير كيانه المادي , فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية " .
ويقول في مجموعة "العلم والدين":
"ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة . إذ ليست هذه وجهته . وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة . إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم , حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا . . . فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله - كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه - فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم , أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى , ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول:إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة , وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي , فإذا به , في كثير من الأحيان , لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم , وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله" .
ورأينا عالما مثل "ا . كريسي موريسون" رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلسالبحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا يقول في كتابه:"الإنسان لا يقوم وحده ":
"إننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع , إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية . ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون , لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون" .
"إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده , هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي , ودون قصد ابتداعي .
"وإذا قبلت واقعية القصد , فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازا . ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز ? لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه . والعلم لا يعلل من يتولى إدارته , وكذلك لا يزعم أنه مادي . "
"لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبسا من نوره . . . "
وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية , فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمةفلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). ونظائره المتعددة . وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم ! في تخلف عقلي عن العلم , وفي تخلف روحي عن الدين , وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة ! وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم !
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . .(إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون , ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين). .
ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله [ ص ] قولهم:إنه شاعر . وإنه كاهن . متأثرين في هذا بشبهة سطحية , منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر . وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق , وأن الكاهن كذلك متصل بالجن . فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع ! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة , وطبيعة الشعر أو الكهانة . .
فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع , رائع الأخيلة , جميل الصور والظلال ; ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما . إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت , ونظرة موحدة , ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت , وللكون والحياة كذلك . والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة , قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب , والانطلاق والانكماش , والحب والكره , والتأثرات المتغيرة على كل حال !
هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس , في كلياته وجزئياته , مع تعين مصدره الإلهي . فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر , فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور . . لم يسبق لهم هذا ولم يلحق . . وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه . . هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية ; فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة ! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر .
كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها . فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن . وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة , أو إشارة ملغزة !
وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها , وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا . فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف , فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن:
وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو , ويعلم ما في البر والبحر , وما تسقط من ورقة إلا يعلمها , ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . . أو إلى مثل هذه الصورة: يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها , وما ينزل من السماء وما يعرج فيها , وهو معكم أينما كنتم , والله بما تعملون بصير أو إلى مثل هذه الصورة: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير
كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة:
(إن الله فالق الحب والنوى , يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله . فأنى تؤفكون . فالق الإصباح . وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا , ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر , قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون . وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع , قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء , فأخرجنا منه خضرا , نخرج منه حبا متراكبا , ومن النخل من طلعها قنوان دانية , وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) . .
وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة , ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن . . وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب . . بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء .
فالشبهة واهية سطحية . حتى حين كان القرآن لم يكتمل , ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص , وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد .
وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم , ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين . ولكن الغرض يعمي ويصم . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم . كما يقول القرآن الكريم !
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش , وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم .
من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة , وعن النضر بن الحارث , وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول:
"ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش . وكان ذا سن فيهم ; وقد حضر الموسم . فقال لهم:يا معشر قريش , إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ; فأجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا , فقالوا:فأنت يا أبا عبد شمس فقل , وأقم لنا رأيا نقل به . قال:بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا:نقول:كاهن . قال:لا والله , ما هو بكاهن , لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا:فنقول:مجنون . قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا:فنقول:شاعر . قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر . قالوا:فنقول:ساحر . قال:ما هو بساحر ; لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم . . قالوا:فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال:والله إن لقوله لحلاوة , وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل , وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجه , وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك , فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا لهم أمره . . . "
وحكى عن الثاني [ النضر بن الحارث ] قال:
" فقال يا معشر قريش . إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاما حدثا , أرضاكم فيكم , وأصدقكم حديثا , وأعظمكم أمانة , حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب , وجاءكم بما جاءكم به قلتم:ساحر ! لا والله , ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم . وقلتم كاهن ! لا والله ما هو بكاهن . قد رأينا الكهنة وتخالجهم , وسمعنا سجعهم . وقلتم:شاعر ! لا والله ما هو بشاعر . قد رأينا الشعر , وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه . وقلتم:مجنون ! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه . يا معشر قريش , فانظروا في شأنكم , فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم . . . " .
والمطابقة تكاد تكون تامة - بين قوله وقول عتبة . وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك . ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن !
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء . . وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به . .
فما كان قولهم:ساحر أو كاهن , إلا حيلة ماكرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير . وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون:إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر . ولا بقول كاهن . . إنما هو تنزيل من رب العالمين .
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه , ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر . لا يقوله شاعر , ولا يقوله كاهن , إنما يقوله رسول , يرسل به من عند الله , فيحمله من هناك , من ذلك المصدر الذي أرسله .
من الاية 41 الى الاية 50
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول . أي مرسل به من عند ربه , وليس شاعرا ولا كاهنا يقوله من عند نفسه . أو بمساعدة رئي أو شيطان . . إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله . ويقرر هذا تقريرا حاسما ما جاء بعدهتنزيل من رب العالمين). .
والتعقيب: (قليلا ما تؤمنون). . (قليلا ما تذكرون). . مدلولة نفي الإيمان , ونفي التذكر . وفق تعبيرات اللغة المألوفة . وفي الحديث في وصف رسول الله [ ص ] " إنه كان يقل اللغو " . أي لا يلغو أصلا . . فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر . وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول:إنه شاعر , ولا يقول متذكر متدبر:إنه كاهن . إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير !
الدرس السادس:44 - 47 تهديد من كذب على الله بالعذاب
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب , لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره , وهو صدق الرسول [ ص ] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ:
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين). .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [ ص ] صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه , لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر , يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالا فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات !
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع !
الدرس السابع:48 - 52 حقائق يقينية حول القرآن
وأخيرا تجيء الخاتمة التقريرية بحقيقة هذا الأمر وطبيعته القوية:
(وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين).
فهذا القرآن يذكر القلوب التقية فتذكر . إن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها . فهو يثيرها فيها ويذكرها بها فتتذكرها . فأما الذين لا يتقون فقلوبهم مطموسة غافلة لا تتفتح ولا تتذكر , ولا تفيد من هذا الكتاب شيئا . وإن المتقين ليجدون فيه من الحياة والنور والمعرفة والتذكير ما لا يجده الغافلون .
(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين). . ولكن هذا لا يؤثر في حقيقة هذا الأمر , ولا يغير من هذه الحقيقة . فأمركم أهون من أن يؤثر في حقائق الأمور .
(وإنه لحسرة على الكافرين). . بما يرفع من شأن المؤمنين , ويحط من قدر المكذبين وبما ينتهي إليه من إقرار الحق وإزهاق الباطل الذي يستمسك به الكافرون . ثم إنه حجة عليهم عند الله في اليوم الآخر , يعذبون
من الاية 51 الى آخر السورة
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
به , ويتحسرون لما يصيبهم بسببه . فهو حسرة على الكافرين في الدنيا والآخرة .
(وإنه لحق اليقين). . مع تكذيب المكذبين . حق اليقين . فليس مجرد اليقين , ولكنه الحق في هذا اليقين . وهو تعبير خاص يضاعف المعنى ويضاعف التوكيد . وإن هذا القرآن لعميق في الحق , عميق في اليقين . وإنه ليكشف عن الحق الخالص في كل آية ما يشي بأن مصدره هو الحق الأول الأصيل . .
فهذه هي طبيعة هذا الأمر وحقيقته المستيقنة . لا هو قول شاعر . ولا هو قول كاهن . ولا هو تقول على الله . إنما هو التنزيل من رب العالمين . وهو التذكرة للمتقين . وهو حق اليقين .
هنا يجيء التلقين العلوي للرسول الكريم , في أنسب وقت وأنسب حالة لهذا التلقين:
(فسبح باسم ربك العظيم). .
والتسبيح بما فيه من تنزيه وتمجيد . وبما فيه من اعتراف وتحقيق . وبما فيه من عبودية وخشوع . . . هو الشعور الذي يخالج القلب , بعد هذا التقرير الأخير , وبعد ذلك الاستعراض الطويل , لقدرة الله العظيم , وعظمة الرب الكريم . .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية). . فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة بالله , قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع . . فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان . والنعيم ألوان غير هذا وألوان . .
(وأما من أوتي كتابه بشماله)وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته , وأن إلى العذاب مصيره , فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد , وقفة المتحسر الكسير الكئيب . . (فيقول:يا ليتني لم أوت كتابيه ! ولم أدر ما حسابيه ! يا ليتها كانت القاضية ! ما أغنى عني ماليه ! هلك عني سلطانيه !). .
وهي وقفة طويلة , وحسرة مديدة , ونغمة يائسة , ولهجة بائسة . والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لاتنتهي إلى نهاية , وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية ! وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف , وتقصير بعضها , وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس . وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير . ومن ثم يطول ويطول , في تنغيم وتفصيل . ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف , ولم يؤت كتابه , ولم يدر ما حسابه ; كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية , التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا . . ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعهما أغنى عني ماليه). .(هلك عني سلطانيه). . فلا المال أغنى أو نفع . ولا السلطان بقي أو دفع . . والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف , في تحزن وتحسر . . هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقا بليغا . .
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم , بجلاله وهوله وروعته:
(خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). .
يا للهول الهائل ! ويا للرعب القاتل ! ويا للجلال الماثل !
(خذوه). .
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب , كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو:"إذا قال الله تعالى:خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار" . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة !
(فغلوه). .
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه . . !
(ثم الجحيم صلوه). .
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
(ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه). .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها .
من الاية 33 الى الاية 37
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37)
ولعل هذا الإيحاء هو المقصود ! .
فإذا انتهى الأمر , نشرت أسبابه على الحشود:
(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين). .
إنه قد خلا قلبه من الإيمان بالله , والرحمة بالعباد . فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب .
خلا قلبه من الإيمان بالله فهو موات , وهو خرب , وهو بور . وهو خلو من النور . وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد . فكل شيء مؤمن , يسبح بحمد ربه , موصول بمصدر وجوده . أما هو فمقطوع من الله . مقطوع من الوجود المؤمن بالله .
وخلا قلبه من الرحمة بالعباد . والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين . ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه . توحي بأن هناك واجبا اجتماعيا يتحاض عليه المؤمنون . وهو وثيق الصلة بالإيمان . يليه في النص ويليه في الميزان !
فليس له اليوم ها هنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون . .
وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي . فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم , وكان لا يحض على طعام المسكين . فهو هنا مقطوع (فليس له اليوم ها هنا حميم). . وهو ممنوعولا طعام إلا من غسلين). . والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد ! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد ! طعام(لا يأكله إلا الخاطئون). . المذنبون المتصفون بالخطيئة . . وهو منهم في الصميم !
وبعد , فذلك هو الذي يجعله الله مستحقا للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا في الجحيم . وهو أشد دركات جهنم عذابا . . فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ , ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء ? أين ترى يذهب هؤلاء , وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين ? وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين , ذلك العذاب في الجحيم ?
وينتهي هذا المشهد العنيف المثير . الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها . ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية , كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثرا واستجابة . لأن رقعة الأرض واسعة . وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف . والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها , وبما تستجيب له حين يدعوها . والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى , وطبائع أجسى , وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات . ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة . .
الدرس الخامس:38 - 43 القسم على حقيقة مصدر القرآن ورد شبهات الكفار عليه
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة , المتوالية منذ أول السورة , مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة , ومشاهد التدمير الكونية الشاملة , ومشاهد النفوس المكشوفة العارية , ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة . .
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به
من الاية 38 الى الاية 40
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
الرسول الكريم , فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب:
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر , قليلا ما تؤمنون . ولا بقول كاهن , قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين). .
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح , ثابت هذا الثبوت , واقع هذا الوقوع . لا يحتاج إلى قسم أنه حق , صادر عن الحق , وليس شعر شاعر , ولا كهانة كاهن , ولا افتراء مفتر ! لا . فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين:
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). .
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة , وبهذا التهويل بالغيب المكنون , إلى جانب الحاضر المشهود . . والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر . بل مما يدركون . وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة , تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها - كما شاء الله لهم - والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير . والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض , ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود . .
(فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). .
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها . وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة . فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه , ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود . فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون . ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض . . ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة , وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر - بما لا يقاس - مما وصل إليه . . عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه , ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور !
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين , ويدرك الوعي , بأدواته الميسرة له . . مساكين ! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود . محصورون في عالم ضيق على سعته , صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير . .
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود , والحاضر المشهود ; ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور , والاتصال بالحق الكبير , عن طريق الإيمان والشعور . ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم . . تارة باسم الجاهلية . وتارة باسم العلمانية ! وهذه كتلك سجن كبير . وبؤس مرير . وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور !
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها - بحمق وغرور - حول نفسه في القرنين الماضيين . . يتخلص من تلك القضبان , ويتصل بالنور - عن طريق تجاربه ذاتها - بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا ; وعرف حدوده , وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة . وعاد "العلم يدعو إلى الإيمان" في تواضع تبشرأوائله بالفرج ! أي نعم بالفرج . فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق !
ولقد رأينا عالما مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية , وصاحب جائزة نوبل سنة 1912 ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى:
"أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا , وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته . وإن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا , وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة , فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء" .
"وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة , لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح" . .
ورأينا طبيبا آخر مثل "دي نوي" الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي , وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته , واستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح . . يقول:
"كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه . على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب . فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل . وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي ! وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب" . . .
ورأينا عالما طبيعيا مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول:"إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة , وفقد فيه الأثير كيانه المادي , فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية " .
ويقول في مجموعة "العلم والدين":
"ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة . إذ ليست هذه وجهته . وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة . إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم , حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا . . . فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله - كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه - فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم , أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى , ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول:إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة , وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي , فإذا به , في كثير من الأحيان , لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم , وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله" .
ورأينا عالما مثل "ا . كريسي موريسون" رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلسالبحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا يقول في كتابه:"الإنسان لا يقوم وحده ":
"إننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع , إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية . ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون , لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون" .
"إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده , هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي , ودون قصد ابتداعي .
"وإذا قبلت واقعية القصد , فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازا . ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز ? لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه . والعلم لا يعلل من يتولى إدارته , وكذلك لا يزعم أنه مادي . "
"لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبسا من نوره . . . "
وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية , فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمةفلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). ونظائره المتعددة . وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم ! في تخلف عقلي عن العلم , وفي تخلف روحي عن الدين , وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة ! وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم !
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . .(إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون , ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين). .
ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله [ ص ] قولهم:إنه شاعر . وإنه كاهن . متأثرين في هذا بشبهة سطحية , منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر . وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق , وأن الكاهن كذلك متصل بالجن . فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع ! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة , وطبيعة الشعر أو الكهانة . .
فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع , رائع الأخيلة , جميل الصور والظلال ; ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما . إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت , ونظرة موحدة , ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت , وللكون والحياة كذلك . والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة , قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب , والانطلاق والانكماش , والحب والكره , والتأثرات المتغيرة على كل حال !
هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس , في كلياته وجزئياته , مع تعين مصدره الإلهي . فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر , فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور . . لم يسبق لهم هذا ولم يلحق . . وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه . . هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية ; فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة ! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر .
كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها . فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن . وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة , أو إشارة ملغزة !
وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها , وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا . فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف , فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن:
وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو , ويعلم ما في البر والبحر , وما تسقط من ورقة إلا يعلمها , ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . . أو إلى مثل هذه الصورة: يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها , وما ينزل من السماء وما يعرج فيها , وهو معكم أينما كنتم , والله بما تعملون بصير أو إلى مثل هذه الصورة: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير
كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة:
(إن الله فالق الحب والنوى , يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله . فأنى تؤفكون . فالق الإصباح . وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا , ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر , قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون . وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع , قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء , فأخرجنا منه خضرا , نخرج منه حبا متراكبا , ومن النخل من طلعها قنوان دانية , وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) . .
وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة , ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن . . وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب . . بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء .
فالشبهة واهية سطحية . حتى حين كان القرآن لم يكتمل , ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص , وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد .
وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم , ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين . ولكن الغرض يعمي ويصم . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم . كما يقول القرآن الكريم !
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش , وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم .
من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة , وعن النضر بن الحارث , وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول:
"ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش . وكان ذا سن فيهم ; وقد حضر الموسم . فقال لهم:يا معشر قريش , إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ; فأجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا , فقالوا:فأنت يا أبا عبد شمس فقل , وأقم لنا رأيا نقل به . قال:بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا:نقول:كاهن . قال:لا والله , ما هو بكاهن , لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا:فنقول:مجنون . قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا:فنقول:شاعر . قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر . قالوا:فنقول:ساحر . قال:ما هو بساحر ; لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم . . قالوا:فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال:والله إن لقوله لحلاوة , وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل , وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجه , وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك , فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا لهم أمره . . . "
وحكى عن الثاني [ النضر بن الحارث ] قال:
" فقال يا معشر قريش . إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاما حدثا , أرضاكم فيكم , وأصدقكم حديثا , وأعظمكم أمانة , حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب , وجاءكم بما جاءكم به قلتم:ساحر ! لا والله , ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم . وقلتم كاهن ! لا والله ما هو بكاهن . قد رأينا الكهنة وتخالجهم , وسمعنا سجعهم . وقلتم:شاعر ! لا والله ما هو بشاعر . قد رأينا الشعر , وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه . وقلتم:مجنون ! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه . يا معشر قريش , فانظروا في شأنكم , فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم . . . " .
والمطابقة تكاد تكون تامة - بين قوله وقول عتبة . وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك . ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن !
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء . . وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به . .
فما كان قولهم:ساحر أو كاهن , إلا حيلة ماكرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير . وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون:إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر . ولا بقول كاهن . . إنما هو تنزيل من رب العالمين .
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه , ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر . لا يقوله شاعر , ولا يقوله كاهن , إنما يقوله رسول , يرسل به من عند الله , فيحمله من هناك , من ذلك المصدر الذي أرسله .
من الاية 41 الى الاية 50
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول . أي مرسل به من عند ربه , وليس شاعرا ولا كاهنا يقوله من عند نفسه . أو بمساعدة رئي أو شيطان . . إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله . ويقرر هذا تقريرا حاسما ما جاء بعدهتنزيل من رب العالمين). .
والتعقيب: (قليلا ما تؤمنون). . (قليلا ما تذكرون). . مدلولة نفي الإيمان , ونفي التذكر . وفق تعبيرات اللغة المألوفة . وفي الحديث في وصف رسول الله [ ص ] " إنه كان يقل اللغو " . أي لا يلغو أصلا . . فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر . وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول:إنه شاعر , ولا يقول متذكر متدبر:إنه كاهن . إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير !
الدرس السادس:44 - 47 تهديد من كذب على الله بالعذاب
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب , لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره , وهو صدق الرسول [ ص ] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ:
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين). .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [ ص ] صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه , لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر , يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالا فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات !
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع !
الدرس السابع:48 - 52 حقائق يقينية حول القرآن
وأخيرا تجيء الخاتمة التقريرية بحقيقة هذا الأمر وطبيعته القوية:
(وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين).
فهذا القرآن يذكر القلوب التقية فتذكر . إن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها . فهو يثيرها فيها ويذكرها بها فتتذكرها . فأما الذين لا يتقون فقلوبهم مطموسة غافلة لا تتفتح ولا تتذكر , ولا تفيد من هذا الكتاب شيئا . وإن المتقين ليجدون فيه من الحياة والنور والمعرفة والتذكير ما لا يجده الغافلون .
(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين). . ولكن هذا لا يؤثر في حقيقة هذا الأمر , ولا يغير من هذه الحقيقة . فأمركم أهون من أن يؤثر في حقائق الأمور .
(وإنه لحسرة على الكافرين). . بما يرفع من شأن المؤمنين , ويحط من قدر المكذبين وبما ينتهي إليه من إقرار الحق وإزهاق الباطل الذي يستمسك به الكافرون . ثم إنه حجة عليهم عند الله في اليوم الآخر , يعذبون
من الاية 51 الى آخر السورة
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
به , ويتحسرون لما يصيبهم بسببه . فهو حسرة على الكافرين في الدنيا والآخرة .
(وإنه لحق اليقين). . مع تكذيب المكذبين . حق اليقين . فليس مجرد اليقين , ولكنه الحق في هذا اليقين . وهو تعبير خاص يضاعف المعنى ويضاعف التوكيد . وإن هذا القرآن لعميق في الحق , عميق في اليقين . وإنه ليكشف عن الحق الخالص في كل آية ما يشي بأن مصدره هو الحق الأول الأصيل . .
فهذه هي طبيعة هذا الأمر وحقيقته المستيقنة . لا هو قول شاعر . ولا هو قول كاهن . ولا هو تقول على الله . إنما هو التنزيل من رب العالمين . وهو التذكرة للمتقين . وهو حق اليقين .
هنا يجيء التلقين العلوي للرسول الكريم , في أنسب وقت وأنسب حالة لهذا التلقين:
(فسبح باسم ربك العظيم). .
والتسبيح بما فيه من تنزيه وتمجيد . وبما فيه من اعتراف وتحقيق . وبما فيه من عبودية وخشوع . . . هو الشعور الذي يخالج القلب , بعد هذا التقرير الأخير , وبعد ذلك الاستعراض الطويل , لقدرة الله العظيم , وعظمة الرب الكريم . .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحاقه ايه رقم 1 الى 24 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ص ايه 39 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة هود ايه 116 الى ايه اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يس ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة نوح ايه 26 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة ص ايه 39 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة هود ايه 116 الى ايه اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يس ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة نوح ايه 26 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى