تفسير سورة فصلت ايه رقم 1 الى ايه 15 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة فصلت ايه رقم 1 الى ايه 15 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 2
حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
تعريف سورة فصلت
قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة . . الألوهية الواحدة . والحياة الآخرة . والوحي بالرسالة . يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية .
وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق , واستدلال عليها . وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق , وتحذير من التكذيب بها , وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة , وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة . وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ; بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة . . . كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون .
فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد , فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . وقل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين). . ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها: ألا تعبدوا إلا الله . . وفي وسطها يرد: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر , واسجدوا لله الذي خلقهن). . وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها: (ويوم يناديهم أين شركائي ? قالوا:آذناك ما منا من شهيد). .
وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون). . وتختم بقولهألا إنهم في مرية من لقاء ربهم , ألا إنه بكل شيء محيط). . كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعاً . بل إن هذا الطريق أشد توكيداً لهذه القضية وتشخيصاً .
وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي . فهي تفتتح به في تفصيل: (حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب , فاعمل إننا عاملون . قل:إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . .). . . وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآنوقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). . ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيهإن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم , وإنه لكتاب عزيز , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك:إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا:لولا فصلت آياته ? أأعجمي وعربي ? قل:هو للذين آمنوا هدى وشفاء , والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر , وهو عليهم عمى . أولئك ينادون من مكان بعيد . . .). .
وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قولهومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً , وقال:إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة . ادفع بالتي هي أحسن , فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا , وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله , إنه هو السميع العليم). .
هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة . تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام . وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين . وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين . وأخيراً تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق ; وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد .
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير: قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . . ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ; فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى , إنه على كل شيء قدير). . أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة , وتعرض على أصحابها عارية من كل ستارلا يسأم الإنسان من دعاء الخير , وإن مسه الشر فيؤوس قنوط , ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن:هذا لي , وما أظن الساعة قائمة , ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى , فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه , وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض). .
ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق , وقالوا:من أشد منا قوة ? أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة , وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى , فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة: يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم:لم شهدتم علينا ? قالوا:أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وهو خلقكم أول مرة , وإليه ترجعون . . ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعينوقال الذين كفروا:ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس , نجعلهما تحت أقدامنا , ليكونا من الأسفلين !). .
وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة . ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة , ويصور طابعها , ويرسم ظلالها . . والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض , وفي أغوار النفس , وفي مصارع البشر , وفي عالم القيامة , وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق . .
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين , متماسكي الحلقات . .
الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه . وتليها قصة خلق السماء والأرض . فقصة عاد وثمود . فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود . ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال , فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس . يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . ومن آثار هذا قولهم:لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس ! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا:ربنا الله ثم استقاموا . وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة . ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية . . وبذلك ينتهي هذا الشوط .
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة , والأرض الخاشعة , والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات . ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه , وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب . ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه . ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب . وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها . وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات , وما تكنه الأرحام من أنسال . ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء . يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها . ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر , غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب .
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير . .
والآن نبدأ في التفصيل . . .
الدرس الأول:1 انزال القرآن وإنكار موقف الكفار منه ودعوتهم إلى الإيمان
(حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب . فاعمل إننا عاملون . قل إنما أنا بشر مثلكم , يوحى إليّ أنماَ إلهكم إله واحد , فاستقيموا إليه واستغفروه ; وويل للمشركين , الذين لا يؤتون الزكاة , وهم بالآخرة هم كافرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون). .
سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى . وتكرار هذا الافتتاح: ا . ميم . . يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري , لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه ; فهو ينسى إذا طال عليه الأمد ; وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه . والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات , وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء .
(تنزيل من الرحمن الرحيم). . وكأن (حا . ميم)اسم للسورة . أو لجنس القرآن . إذ أنها من جنس الأحرف التي صيغ منها لفظ هذا القرآن . وهي تقع مبتدأ . . و(تنزيل من الرحمن الرحيم)خبر المبتدأ .
وذكر الرحمن الرحيم عند ذكر تنزيل الكتاب ; يشير إلى الصفة الغالبة في هذا التنزيل . صفة الرحمة .
من الاية 3 الى الاية 5
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
وما من شك أن تنزيل هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين . رحمة لمن آمنوا به واتبعوه ورحمة كذلك لغيرهم . لا من الناس وحدهم , ولكن للأحياء جميعاً . فقد سن منهجاً ورسم خطة تقوم على الخير للجميع . وأثر في حياة البشرية , وتصوراتها , ومدركاتها , وخط سيرها ; ولم يقتصر في هذا على المؤمنين به إنما كان تأثيره عالمياً ومطرداً منذ أن جاء إلى العالمين . والذين يتتبعون التاريخ البشري بإنصاف ودقة ; ويتتبعونه في معناه الإنساني العام , الشامل لجميع أوجه النشاط الإنساني , يدركون هذه الحقيقة , ويطمئنون إليها . وكثيرون منهم قد سجلوا هذا واعترفوا به في وضوح .
(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون). .
والتفصيل المحكم , وفق الأغراض والأهداف , ووفق أنواع الطبائع والعقول , ووفق البيئات والعصور , ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة . . التفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب . وقد فصلت هذه الآيات وفق تلك الاعتبارات . فصلت قرآناً عربياً (لقوم يعلمون). . لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز .
وقام هذا القرآن يؤدي وظيفته:
(بشيراً ونذيراً). .
يبشر المؤمنين العاملين , وينذر المكذبين المسيئين , ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار , بأسلوبه العربي المبين . لقوم لغتهم العربية . ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب:
(فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلاً , ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر . وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). .
وأحياناً كانوا يسمعون , وكأنهم لا يسمعون , لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم ; فكأنهم صم لا يسمعون !
(وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب , فاعمل إننا عاملون). .
قالوا هذا إمعاناً في العناد , وتيئيساً للرسول [ ص ] ليكف عن دعوتهم , لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته , على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين !
قالوا:قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك . وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك . ومن بيننا وبينك حجاب , فلا اتصال بيننا وبينك . فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا . أو إنهم قالوا غير مبالين:نحن لا نبالي قولك وفعلك , وإنذارك ووعيدك . فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا . لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل . وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين .
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول [ ص ] ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو , لا يكف عن الدعوة , ولا ييأس من التيئيس , ولا يستبطىء وعد الله ولا وعيده للمكذبين . كان يمضي مأموراً أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده ; فما هو إلا بشر يتلقى الوحي , فيبلغ به , ويدعو الناس إلى الله الواحد . وإلى الاستقامة على الطريق , وينذر المشركين كما أمر أن يفعل . والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئاً , فهو ليس إلا بشراً مأموراً:
من الاية 6 الى الاية 8
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (
(قل:إنما أنا بشر مثلكم , يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ; فاستقيموا إليه واستغفروه , وويل للمشركين). .
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم ! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال , والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف , واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار , دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة , ومن عظمة في احتمال هذه المشقة , إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق !
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة , ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول !
إن أقصى ما كان الرسول [ ص ] يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول:
(وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون). .
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة , لم نقف عليها , فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة . وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال , وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون , غير محدود , وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك . وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف .
الدرس الثاني:9 - 12 خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم يمضي الداعية يكشف لهم عن شناعة الجرم الذي يرتكبونه بالشرك والكفر . يمضي بهم في المجال الكوني العريض . مجال السماوات والأرض , والكون الذي هم بالقياس إليه شيء ضئيل هزيل . يمضي بهم في هذا المجال ليكشف لهم عن سلطان الله الذي يكفرون به في فطرة هذا الكون الذي هم جزء منه . ثم ليخرجهم من الزاوية الضيقة الصغيرة التي ينظرون منها إلى هذه الدعوة , حيث يرون أنفسهم وذواتهم كبيرة كبيرة ; ويشغلهم النظر إليها وإلى اختيار محمد [ ص ] من دونهم . والحرص على مكانتهم ومصالحهم . . إلى آخر هذه الاعتبارات الصغيرة . . يشغلهم هذا عن النظر إلى الحقيقة الضخمة التي جاءهم بها محمد , وفصلها هذا القرآن . الحقيقة التي تتصل بالسماوات والأرض ; وتتصل بالبشرية كلها في جميع أعصارها ; وتتصل بالحق الكبير الذي يتجاوز زمانهم ومكانهم وشخوصهم ; وتتصل بالكون كله في الصميم:
قل:أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين , وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها , وبارك فيها , وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان , فقال لها وللأرض:ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا:أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها , وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . .
قل لهم:إنكم إذ تكفرون . إذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار . إنما تأتون أمراً عظيماً , مستنكراً قبيحاً , إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها . وبارك فيها . وقدر فيها أقواتها .
من الاية 9 الى الاية 9
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
والذي خلق السماوات ونظم أمرها . وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين . . وأنتم . . أنتم بعض سكان هذه الأرض تتأبون وتستكبرون !
ولكن النسق القرآني يعرض هذه الحقائق بطريقة القرآن التي تبلغ أعماق القلوب وتهزها هزاً . فلنحاول أن نسير مع هذا النسق بالترتيب والتفصيل:
قل:أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين , وتجعلون له أنداداً . ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها , وبارك فيها , وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . .
إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين . ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض . يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض . (ذلك رب العالمين). . وأنتم تكفرون به وتجعلون له أنداداً . وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها . فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح ?!
وما هذه الأيام:الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض . والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات , وأحل فيهما البركة . فتمت بهما الأيام الأربعة ?
إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها . وليست من أيام هذه الأرض . فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض . وكما للأرض أيام , هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس , فللكواكب الأخرى أيام , وللنجوم ايام . وهي غير أيام الأرض . بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول .
والأيام التي خلقت فيها الأرض اولاً , ثم تكونت فيها الجبال , وقدرت فيها الأقوات , هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر , لا نعلمه , ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة .
وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طوراً بعد طور , حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها . وهذه قد استغرقت - فيما تقول النظريات التي بين أيدينا - نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا !
وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها . ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية . فهي في أصلها ليست كذلك . وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل . فنحن لا نحمل القرآن عليها ; إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقارباً , ووجدنا أنها تصلح تفسيراً للنص القرآني بغير تمحل . فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني .
والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن - والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره - وأنها استغرقت أزماناً طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت . وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور .
ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت . وكانت في أول الأمر صخرية صلبة . طبقات من الصخر بعضها فوق بعض .
وفي وقت مبكر جداً تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة 2 والأكسجين بنسبة 1 ومن اتحادهما ينشأ الماء .
والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته , وحمله وترسيبه , حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع . وتعاونا على نحر الجبال والنجاد , وملء الوهاد , فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء .
" إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة , وفي تغير دائم , يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها , ويتبخر ماء البحر . تبخره الشمس , فيصعد إلى السماء فيكون سحباً تمطر الماء عذباً , فينزل على الأرض متدفقاً , فتكون السيول , وتكون الأنهار , تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها . تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخراً . [ أي تحوله إلى نوع آخر من الصخور ] وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله . ويتبدل وجه الأرض على القرون , ومئات القرون وآلافها . وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل . وتفعل الرياح بوحه الأرض ما يفعل الماء . وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح , بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور . والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك . ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين .
" وتسأل عالم الأرض - العالم الجيولوجي - عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشيء الكثير , ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى .
" يحدثك عن الصخور النارية . تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخراً منصهراً . ثم برد . ويضرب لك منها مثلاً بالجرانيت والبازلت . ويأتيك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات , بيضاء وحمراء أو سوداء , ويقول لك:إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي , له كيان بذاته . فهذه الصخور أخلاط . ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عندما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان . ثم قام يفعل فيها الماء , هابطاً من السماء أو جارياً في الأرض , أو جامداً في الثلج , وقام يفعل الهواء ويفعل الريح . . وقامت تفعل الشمس . قامت جميعها تغير من هذه الصخور . من طبيعتها ومن كيميائها . فولدت منها صخوراً غير تلك الصخور حتى ما يكاد يجمعها في منظر أو مخبر شيء .
; وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور . إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة , وهي تلك الصخور التي اشتقت , بفعل الماء والريح والشمس , أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد . وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى . إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى , أو وهي في سبيل اشتقاق . حملها الماء أو حملتها الريح , ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض .
; ويضرب لك الجيولوجي مثلا للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم , ومن حجره تبني القاهرة بيوتها . ويقول لك:إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم , وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء . ويضرب لك مثلا , بالرمل , ويقول لك:إن أكثره أكسيد السيلسيوم , وإنه مشتق كذلك , ومثلاً آخر بالطفل والصلصال , وكلها من أصول سابقة .
وتسأل عن هذه الأصول السابقة التى منها اشتقت تلك الصخور الراسبة , على اختلافها , فتعلم أنها الصخور النارية . بدأت الأرض عندما انجمد سطحها من بعد انصهار , في قديم الأزل , ولا شيء على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري . ثم جاء الماء , وجاءت البحار , وتفاعل الصخر الناري والماء . وشركهما الهواء . شركهما غازات متفاعلة , وشركهما رياحاً عاصفة , وشركتهما الشمس ناراً ونورا . وتفاعلت كل هذه العوامل جميعاً . وفقا لما أودع فيها من طبائع . فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع , إلى صخر نافع . صخر ينفع في بناء المساكن , وصخر ينفع في استخراج المعادن . وأهم من هذا , وأخطر من هذا , أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد , الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه , استخرجت تربة , رسبت على سطح الأرض , مهدت لقدوم الأحياء والخلائق .
إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا , ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه ومن أشباه له . وبظهور هذه التربة ظهر النبات , وبظهور النبات ظهر الحيوان . وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض . ذلك الإنسان . . . "
هذه الرحلة الطويلة كما يقدرها العلم الحديث , قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها , والمباركة فيها , وتقدير أقواتها في أربعة ايام . . من أيام الله . . التي لا نعرف ما هي ? ما طولها ? ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتماً . .
ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء !
(وجعل فيها رواسي من فوقها). . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال(رواسي)وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي (أن تميد بكم)أي إنها هي راسية , وهي ترسي الأرض , وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن:إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق , لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء ! فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز !
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها(رواسي)وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها - كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال - تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
وهذا عالم يقول:
" إن كل حدث يحدث في الأرض , في سطحها أو فيما دون سطحها , يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها . فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . [ أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ] حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار , أو بروز في سطح الأرض
من الاية 10 الى الاية 10
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10)
هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . و لو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام "
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد , لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة: (أن تميد بكم)كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
(وبارك فيها وقدر فيها أقواتها). . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة , فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك هواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . . .
" إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر , لها أعماق . ونحن - بني الإنسان , والحيوان , والنبات , نعيش في هذه الأعماق , هانئين بالذي فيها .
" فمن الهواء نستمد أنفاسنا , من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه , من كربونه , بل من أكسيد كربونه , ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين , أي الأزوت , فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى , توجد فيه بمقادير قليلة هي - في غير ترتيب - الأرجون , والهيليوم , والنيون , وغيرها . ثم الإدروجين , وهذه تخلفت - على الأكثر - في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى ; .
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا - والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون - كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو فى جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو ? إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله , التي لا يعلم مقدارها إلا الله .
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان . فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم).
من الاية 11 الى الاية 12
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
والاستواء هنا القصد . والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة . و(ثم)قد لا تكون للترتيب الزمني , ولكن للارتقاء المعنوي . والسماء في الحس أرفع وأرقى .
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان). . إن هناك اعتقاداً أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم . وهذا السديم غاز . . دخان
" والسدم - من نيرة ومعتمة - ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم . إن نظرية الخلق تقول:إن المجرة كانت من غاز وغبار . ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم . وبقيت لها بقية . ومن هذه البقية كانت السدم . ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار , يساوي ما تكونت منه النجوم . ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها . فهي تكنس السماء منه كنساً . ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولاً "
وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان). . وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل . في يومين من أيام الله .
ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة:
(فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا:أتينا طائعين). .
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس , وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته . فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرهاً في أغلب الأحيان . إنه خاضع حتماً لهذا الناموس , لا يملك أن يخرج عنه , وهو ترس صغير جداً في عجلة الكون الهائلة ; والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره . ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعاً طاعة الأرض والسماء . إنما يحاول أن يتفلت , وينحرف عن المجرى الهين اللين ; فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه - وقد تحطمه وتسحقه - فيستسلم خاضعاً غير طائع . إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم . . تصطلح كلها مع النواميس الكلية , فتأتي طائعة , وتسير هينة لينة , مع عجلة الكون الهائلة , متجهة إلى ربها مع الموكب , متصلة بكل ما فيه من قوى , . وحينئذ تصنع الأعاجيب , وتأتي بالخوارق , لأنها مصطلحة مع الناموس , مستمدة من قوته الهائلة , وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله(طائعين). .
إننا نخضع كرهاً . فليتنا نخضع طوعاً . ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء . في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين .
إننا نأتي أحياناً حركات مضحكة . . عجلة القدر تدور بطريقتها . وبسرعتها . ولوجهتها . وتدير الكون كله معها . وفق سنن ثابتة . . ونأتي نحن فنريد أن نسرع . أو أن نبطىء . نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل . نحن بما يطرؤ على نفوسنا - حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير - من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة . . ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض . ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم . ونصطدم هنا وهناك ونتحطم . والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها . وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى . فأما حين تؤمن قلوبنا حقاً , وتستسلم لله حقاً , وتتصل بروح الوجود حقاً . فإننا - حينئذ - نعرف دورنا على حقيقته ; وننسق بينخطانا وخطوات القدر ; ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة , في المدى المناسب . نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود . ونصنع أعمالاً عظيمة فعلاً , دون أن يدركنا الغرور . لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة . ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية , إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى .
ويا للرضى . ويا للسعادة . ويا للراحة . ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة , على هذا الكوكب الطائع الملبي , السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف . .
ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق . كله مستسلم لربه , ونحن معه مستسلمون . لا تشذ خطانا عن خطاه , ولا يعادينا ولا نعاديه . لأننا منه . ولأننا معه في الاتجاه:
(قالتا:أتينا طائعين). . (فقضاهن سبع سماوات في يومين). . (وأوحى في كل سماء أمرها). .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها , على هدى من الله وتوجيه ; أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير .
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً). .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية ! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
(وحفظاً). . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارت السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
(ذلك تقدير العزيز العليم). .
وهل يقدر هذا كله ? ويمسك الوجود كله , ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر ? وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر ?
الدرس الثالث:13 - 18 لقطات من قصة عاد وثمود
فكيف - بعد هذه الجولة الكونية الهائلة - يكون موقف الذين يكفرون بالله ويجعلون له أنداداً ? كيف . والسماء والأرض تقولان لربهما: (أتينا طائعين)وهذا النمل الصغير العاجز من البشر الذي يدب على الأرض يكفر بالله في تبجح واستهتار ?
وما يكون جزاء هذا التبجح وهذا الاستهتار ?
فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله . قالوا:لو شاء ربنا لأنزل ملائكة , فإنا بما أرسلتم به كافرون . فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق , وقالوا:من أشد منا قوة ? أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ? وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى , فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
من الاية 13 الى الاية 15
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
وهذا الإنذار المرهوب المخيف: (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب , وتبجح المشركين الذي حُكي في مطلع السورة , وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عُرض قبل هذا الإنذار .
وقد روى ابن اسحاق قصة عن هذا الإنذار قال:حدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة , وكان سيداً , قال يوماً وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله [ ص ] جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? - وذلك حين اسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله [ ص ] يزيدون ويكثرون - فقالوا:بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله [ ص ] فقال:يابن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله [ ص ]:" قل يا ابا الوليد أسمع " . قال:يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ; وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ; وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ; وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء , وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله [ ص ] يستمع منه قال:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون , بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله [ ص ] فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره , معتمداً عليهما , يستمع منه حتى انتهى رسول الله [ ص ] إلى السجدة منها فسجد , ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه , فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر , ولا بالشعر , ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ , فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال:هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .
وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح - وهو ابن عبدالله الكندي الكوفي [ قال ابن كثير:وقد ضُعف بعض الشيء ] عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - إلى قولهفإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)فأمسك عتبه على فيه . وناشده الرحم , ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش , واحتبس عنهم . . . الخ . .
ثم لما حدثوه في هذا قال:" فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب . فخشيت أن ينزل بكم العذاب " . .
فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله [ ص ] على قلب رجل لم يؤمن ! ولانترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله [ ص ] وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن . وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه , وقلبه مشغول بما هو اعظم , حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز:ولكن الرسول [ ص ] يتلقاها حليماً , ويستمع كريماً , وهو مطمئن هادىء ودود . لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة . حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة:" أفرغت يا أبا الوليد ? " . فيقول:نعم . فيقول:[ ص ] ; " فاستمع مني " ولا يفاجئه بالقول حتى يقول:أفعل . وعندئذ يتلو [ ص ] في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . . . . .
إنها صورة تلقي في القلب المهابة . والثقة . والمودة . والاطمئنان . . ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه . . الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين !
[ ص ] . . وصدق الله العظيم: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). .
ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم:
(فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . .). .
إنها جولة في مصارع الغابرين , بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين:
(إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله). .
الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .
(قالوا:لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون). .
وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية , ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم , لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود . وهو واحد . إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة . ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل:
(فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق . وقالوا:من أشد منا قوة ?). .
إن الحق أن يخضع العباد لله , وألا يستكبروا في الأرض , وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله . فكل استكبار في الأرض فهو بغير الحق . استكبروا واغتروا (وقالوا:من أشد منا قوة ?). .
وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة . الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم . وينسون:
أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ? . .
إنها بديهة أولية . . إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة . لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة . ولكن الطغاة لا يذكرون:
وكانوا بآياتنا يجحدون . .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول:
حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
تعريف سورة فصلت
قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة . . الألوهية الواحدة . والحياة الآخرة . والوحي بالرسالة . يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية .
وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق , واستدلال عليها . وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق , وتحذير من التكذيب بها , وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة , وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة . وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ; بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة . . . كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون .
فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد , فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . وقل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين). . ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها: ألا تعبدوا إلا الله . . وفي وسطها يرد: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر , واسجدوا لله الذي خلقهن). . وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها: (ويوم يناديهم أين شركائي ? قالوا:آذناك ما منا من شهيد). .
وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون). . وتختم بقولهألا إنهم في مرية من لقاء ربهم , ألا إنه بكل شيء محيط). . كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعاً . بل إن هذا الطريق أشد توكيداً لهذه القضية وتشخيصاً .
وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي . فهي تفتتح به في تفصيل: (حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب , فاعمل إننا عاملون . قل:إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . .). . . وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآنوقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). . ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيهإن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم , وإنه لكتاب عزيز , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك:إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا:لولا فصلت آياته ? أأعجمي وعربي ? قل:هو للذين آمنوا هدى وشفاء , والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر , وهو عليهم عمى . أولئك ينادون من مكان بعيد . . .). .
وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قولهومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً , وقال:إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة . ادفع بالتي هي أحسن , فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا , وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله , إنه هو السميع العليم). .
هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة . تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام . وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين . وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين . وأخيراً تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق ; وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد .
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير: قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . . ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ; فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى , إنه على كل شيء قدير). . أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة , وتعرض على أصحابها عارية من كل ستارلا يسأم الإنسان من دعاء الخير , وإن مسه الشر فيؤوس قنوط , ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن:هذا لي , وما أظن الساعة قائمة , ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى , فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه , وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض). .
ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق , وقالوا:من أشد منا قوة ? أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة , وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى , فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة: يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم:لم شهدتم علينا ? قالوا:أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وهو خلقكم أول مرة , وإليه ترجعون . . ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعينوقال الذين كفروا:ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس , نجعلهما تحت أقدامنا , ليكونا من الأسفلين !). .
وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة . ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة , ويصور طابعها , ويرسم ظلالها . . والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض , وفي أغوار النفس , وفي مصارع البشر , وفي عالم القيامة , وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق . .
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين , متماسكي الحلقات . .
الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه . وتليها قصة خلق السماء والأرض . فقصة عاد وثمود . فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود . ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال , فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس . يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . ومن آثار هذا قولهم:لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس ! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا:ربنا الله ثم استقاموا . وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة . ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية . . وبذلك ينتهي هذا الشوط .
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة , والأرض الخاشعة , والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات . ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه , وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب . ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه . ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب . وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها . وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات , وما تكنه الأرحام من أنسال . ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء . يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها . ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر , غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب .
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير . .
والآن نبدأ في التفصيل . . .
الدرس الأول:1 انزال القرآن وإنكار موقف الكفار منه ودعوتهم إلى الإيمان
(حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب . فاعمل إننا عاملون . قل إنما أنا بشر مثلكم , يوحى إليّ أنماَ إلهكم إله واحد , فاستقيموا إليه واستغفروه ; وويل للمشركين , الذين لا يؤتون الزكاة , وهم بالآخرة هم كافرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون). .
سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى . وتكرار هذا الافتتاح: ا . ميم . . يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري , لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه ; فهو ينسى إذا طال عليه الأمد ; وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه . والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات , وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء .
(تنزيل من الرحمن الرحيم). . وكأن (حا . ميم)اسم للسورة . أو لجنس القرآن . إذ أنها من جنس الأحرف التي صيغ منها لفظ هذا القرآن . وهي تقع مبتدأ . . و(تنزيل من الرحمن الرحيم)خبر المبتدأ .
وذكر الرحمن الرحيم عند ذكر تنزيل الكتاب ; يشير إلى الصفة الغالبة في هذا التنزيل . صفة الرحمة .
من الاية 3 الى الاية 5
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
وما من شك أن تنزيل هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين . رحمة لمن آمنوا به واتبعوه ورحمة كذلك لغيرهم . لا من الناس وحدهم , ولكن للأحياء جميعاً . فقد سن منهجاً ورسم خطة تقوم على الخير للجميع . وأثر في حياة البشرية , وتصوراتها , ومدركاتها , وخط سيرها ; ولم يقتصر في هذا على المؤمنين به إنما كان تأثيره عالمياً ومطرداً منذ أن جاء إلى العالمين . والذين يتتبعون التاريخ البشري بإنصاف ودقة ; ويتتبعونه في معناه الإنساني العام , الشامل لجميع أوجه النشاط الإنساني , يدركون هذه الحقيقة , ويطمئنون إليها . وكثيرون منهم قد سجلوا هذا واعترفوا به في وضوح .
(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون). .
والتفصيل المحكم , وفق الأغراض والأهداف , ووفق أنواع الطبائع والعقول , ووفق البيئات والعصور , ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة . . التفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب . وقد فصلت هذه الآيات وفق تلك الاعتبارات . فصلت قرآناً عربياً (لقوم يعلمون). . لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز .
وقام هذا القرآن يؤدي وظيفته:
(بشيراً ونذيراً). .
يبشر المؤمنين العاملين , وينذر المكذبين المسيئين , ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار , بأسلوبه العربي المبين . لقوم لغتهم العربية . ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب:
(فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلاً , ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر . وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون). .
وأحياناً كانوا يسمعون , وكأنهم لا يسمعون , لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم ; فكأنهم صم لا يسمعون !
(وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب , فاعمل إننا عاملون). .
قالوا هذا إمعاناً في العناد , وتيئيساً للرسول [ ص ] ليكف عن دعوتهم , لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته , على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين !
قالوا:قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك . وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك . ومن بيننا وبينك حجاب , فلا اتصال بيننا وبينك . فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا . أو إنهم قالوا غير مبالين:نحن لا نبالي قولك وفعلك , وإنذارك ووعيدك . فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا . لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل . وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين .
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول [ ص ] ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو , لا يكف عن الدعوة , ولا ييأس من التيئيس , ولا يستبطىء وعد الله ولا وعيده للمكذبين . كان يمضي مأموراً أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده ; فما هو إلا بشر يتلقى الوحي , فيبلغ به , ويدعو الناس إلى الله الواحد . وإلى الاستقامة على الطريق , وينذر المشركين كما أمر أن يفعل . والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئاً , فهو ليس إلا بشراً مأموراً:
من الاية 6 الى الاية 8
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (
(قل:إنما أنا بشر مثلكم , يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ; فاستقيموا إليه واستغفروه , وويل للمشركين). .
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم ! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال , والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف , واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار , دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة , ومن عظمة في احتمال هذه المشقة , إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق !
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة , ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول !
إن أقصى ما كان الرسول [ ص ] يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول:
(وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون). .
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة , لم نقف عليها , فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة . وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال , وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون , غير محدود , وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك . وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف .
الدرس الثاني:9 - 12 خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم يمضي الداعية يكشف لهم عن شناعة الجرم الذي يرتكبونه بالشرك والكفر . يمضي بهم في المجال الكوني العريض . مجال السماوات والأرض , والكون الذي هم بالقياس إليه شيء ضئيل هزيل . يمضي بهم في هذا المجال ليكشف لهم عن سلطان الله الذي يكفرون به في فطرة هذا الكون الذي هم جزء منه . ثم ليخرجهم من الزاوية الضيقة الصغيرة التي ينظرون منها إلى هذه الدعوة , حيث يرون أنفسهم وذواتهم كبيرة كبيرة ; ويشغلهم النظر إليها وإلى اختيار محمد [ ص ] من دونهم . والحرص على مكانتهم ومصالحهم . . إلى آخر هذه الاعتبارات الصغيرة . . يشغلهم هذا عن النظر إلى الحقيقة الضخمة التي جاءهم بها محمد , وفصلها هذا القرآن . الحقيقة التي تتصل بالسماوات والأرض ; وتتصل بالبشرية كلها في جميع أعصارها ; وتتصل بالحق الكبير الذي يتجاوز زمانهم ومكانهم وشخوصهم ; وتتصل بالكون كله في الصميم:
قل:أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين , وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها , وبارك فيها , وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان , فقال لها وللأرض:ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا:أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها , وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . .
قل لهم:إنكم إذ تكفرون . إذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار . إنما تأتون أمراً عظيماً , مستنكراً قبيحاً , إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها . وبارك فيها . وقدر فيها أقواتها .
من الاية 9 الى الاية 9
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
والذي خلق السماوات ونظم أمرها . وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين . . وأنتم . . أنتم بعض سكان هذه الأرض تتأبون وتستكبرون !
ولكن النسق القرآني يعرض هذه الحقائق بطريقة القرآن التي تبلغ أعماق القلوب وتهزها هزاً . فلنحاول أن نسير مع هذا النسق بالترتيب والتفصيل:
قل:أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين , وتجعلون له أنداداً . ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها , وبارك فيها , وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . .
إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين . ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض . يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض . (ذلك رب العالمين). . وأنتم تكفرون به وتجعلون له أنداداً . وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها . فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح ?!
وما هذه الأيام:الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض . والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات , وأحل فيهما البركة . فتمت بهما الأيام الأربعة ?
إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها . وليست من أيام هذه الأرض . فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض . وكما للأرض أيام , هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس , فللكواكب الأخرى أيام , وللنجوم ايام . وهي غير أيام الأرض . بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول .
والأيام التي خلقت فيها الأرض اولاً , ثم تكونت فيها الجبال , وقدرت فيها الأقوات , هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر , لا نعلمه , ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة .
وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طوراً بعد طور , حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها . وهذه قد استغرقت - فيما تقول النظريات التي بين أيدينا - نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا !
وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها . ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية . فهي في أصلها ليست كذلك . وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل . فنحن لا نحمل القرآن عليها ; إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقارباً , ووجدنا أنها تصلح تفسيراً للنص القرآني بغير تمحل . فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني .
والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن - والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره - وأنها استغرقت أزماناً طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت . وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور .
ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت . وكانت في أول الأمر صخرية صلبة . طبقات من الصخر بعضها فوق بعض .
وفي وقت مبكر جداً تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة 2 والأكسجين بنسبة 1 ومن اتحادهما ينشأ الماء .
والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته , وحمله وترسيبه , حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع . وتعاونا على نحر الجبال والنجاد , وملء الوهاد , فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء .
" إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة , وفي تغير دائم , يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها , ويتبخر ماء البحر . تبخره الشمس , فيصعد إلى السماء فيكون سحباً تمطر الماء عذباً , فينزل على الأرض متدفقاً , فتكون السيول , وتكون الأنهار , تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها . تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخراً . [ أي تحوله إلى نوع آخر من الصخور ] وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله . ويتبدل وجه الأرض على القرون , ومئات القرون وآلافها . وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل . وتفعل الرياح بوحه الأرض ما يفعل الماء . وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح , بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور . والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك . ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين .
" وتسأل عالم الأرض - العالم الجيولوجي - عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشيء الكثير , ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى .
" يحدثك عن الصخور النارية . تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخراً منصهراً . ثم برد . ويضرب لك منها مثلاً بالجرانيت والبازلت . ويأتيك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات , بيضاء وحمراء أو سوداء , ويقول لك:إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي , له كيان بذاته . فهذه الصخور أخلاط . ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عندما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان . ثم قام يفعل فيها الماء , هابطاً من السماء أو جارياً في الأرض , أو جامداً في الثلج , وقام يفعل الهواء ويفعل الريح . . وقامت تفعل الشمس . قامت جميعها تغير من هذه الصخور . من طبيعتها ومن كيميائها . فولدت منها صخوراً غير تلك الصخور حتى ما يكاد يجمعها في منظر أو مخبر شيء .
; وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور . إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة , وهي تلك الصخور التي اشتقت , بفعل الماء والريح والشمس , أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد . وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى . إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى , أو وهي في سبيل اشتقاق . حملها الماء أو حملتها الريح , ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض .
; ويضرب لك الجيولوجي مثلا للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم , ومن حجره تبني القاهرة بيوتها . ويقول لك:إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم , وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء . ويضرب لك مثلا , بالرمل , ويقول لك:إن أكثره أكسيد السيلسيوم , وإنه مشتق كذلك , ومثلاً آخر بالطفل والصلصال , وكلها من أصول سابقة .
وتسأل عن هذه الأصول السابقة التى منها اشتقت تلك الصخور الراسبة , على اختلافها , فتعلم أنها الصخور النارية . بدأت الأرض عندما انجمد سطحها من بعد انصهار , في قديم الأزل , ولا شيء على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري . ثم جاء الماء , وجاءت البحار , وتفاعل الصخر الناري والماء . وشركهما الهواء . شركهما غازات متفاعلة , وشركهما رياحاً عاصفة , وشركتهما الشمس ناراً ونورا . وتفاعلت كل هذه العوامل جميعاً . وفقا لما أودع فيها من طبائع . فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع , إلى صخر نافع . صخر ينفع في بناء المساكن , وصخر ينفع في استخراج المعادن . وأهم من هذا , وأخطر من هذا , أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد , الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه , استخرجت تربة , رسبت على سطح الأرض , مهدت لقدوم الأحياء والخلائق .
إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا , ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه ومن أشباه له . وبظهور هذه التربة ظهر النبات , وبظهور النبات ظهر الحيوان . وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض . ذلك الإنسان . . . "
هذه الرحلة الطويلة كما يقدرها العلم الحديث , قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها , والمباركة فيها , وتقدير أقواتها في أربعة ايام . . من أيام الله . . التي لا نعرف ما هي ? ما طولها ? ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتماً . .
ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء !
(وجعل فيها رواسي من فوقها). . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال(رواسي)وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي (أن تميد بكم)أي إنها هي راسية , وهي ترسي الأرض , وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن:إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق , لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء ! فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز !
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها(رواسي)وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها - كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال - تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
وهذا عالم يقول:
" إن كل حدث يحدث في الأرض , في سطحها أو فيما دون سطحها , يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها . فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . [ أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ] حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار , أو بروز في سطح الأرض
من الاية 10 الى الاية 10
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10)
هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . و لو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام "
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد , لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة: (أن تميد بكم)كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
(وبارك فيها وقدر فيها أقواتها). . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة , فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك هواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . . .
" إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر , لها أعماق . ونحن - بني الإنسان , والحيوان , والنبات , نعيش في هذه الأعماق , هانئين بالذي فيها .
" فمن الهواء نستمد أنفاسنا , من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه , من كربونه , بل من أكسيد كربونه , ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين , أي الأزوت , فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى , توجد فيه بمقادير قليلة هي - في غير ترتيب - الأرجون , والهيليوم , والنيون , وغيرها . ثم الإدروجين , وهذه تخلفت - على الأكثر - في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى ; .
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا - والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون - كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو فى جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو ? إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله , التي لا يعلم مقدارها إلا الله .
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان . فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين , وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم).
من الاية 11 الى الاية 12
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
والاستواء هنا القصد . والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة . و(ثم)قد لا تكون للترتيب الزمني , ولكن للارتقاء المعنوي . والسماء في الحس أرفع وأرقى .
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان). . إن هناك اعتقاداً أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم . وهذا السديم غاز . . دخان
" والسدم - من نيرة ومعتمة - ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم . إن نظرية الخلق تقول:إن المجرة كانت من غاز وغبار . ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم . وبقيت لها بقية . ومن هذه البقية كانت السدم . ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار , يساوي ما تكونت منه النجوم . ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها . فهي تكنس السماء منه كنساً . ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولاً "
وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان). . وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل . في يومين من أيام الله .
ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة:
(فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا:أتينا طائعين). .
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس , وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته . فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرهاً في أغلب الأحيان . إنه خاضع حتماً لهذا الناموس , لا يملك أن يخرج عنه , وهو ترس صغير جداً في عجلة الكون الهائلة ; والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره . ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعاً طاعة الأرض والسماء . إنما يحاول أن يتفلت , وينحرف عن المجرى الهين اللين ; فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه - وقد تحطمه وتسحقه - فيستسلم خاضعاً غير طائع . إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم . . تصطلح كلها مع النواميس الكلية , فتأتي طائعة , وتسير هينة لينة , مع عجلة الكون الهائلة , متجهة إلى ربها مع الموكب , متصلة بكل ما فيه من قوى , . وحينئذ تصنع الأعاجيب , وتأتي بالخوارق , لأنها مصطلحة مع الناموس , مستمدة من قوته الهائلة , وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله(طائعين). .
إننا نخضع كرهاً . فليتنا نخضع طوعاً . ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء . في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين .
إننا نأتي أحياناً حركات مضحكة . . عجلة القدر تدور بطريقتها . وبسرعتها . ولوجهتها . وتدير الكون كله معها . وفق سنن ثابتة . . ونأتي نحن فنريد أن نسرع . أو أن نبطىء . نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل . نحن بما يطرؤ على نفوسنا - حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير - من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة . . ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض . ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم . ونصطدم هنا وهناك ونتحطم . والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها . وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى . فأما حين تؤمن قلوبنا حقاً , وتستسلم لله حقاً , وتتصل بروح الوجود حقاً . فإننا - حينئذ - نعرف دورنا على حقيقته ; وننسق بينخطانا وخطوات القدر ; ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة , في المدى المناسب . نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود . ونصنع أعمالاً عظيمة فعلاً , دون أن يدركنا الغرور . لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة . ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية , إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى .
ويا للرضى . ويا للسعادة . ويا للراحة . ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة , على هذا الكوكب الطائع الملبي , السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف . .
ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق . كله مستسلم لربه , ونحن معه مستسلمون . لا تشذ خطانا عن خطاه , ولا يعادينا ولا نعاديه . لأننا منه . ولأننا معه في الاتجاه:
(قالتا:أتينا طائعين). . (فقضاهن سبع سماوات في يومين). . (وأوحى في كل سماء أمرها). .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها , على هدى من الله وتوجيه ; أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير .
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً). .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية ! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
(وحفظاً). . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارت السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
(ذلك تقدير العزيز العليم). .
وهل يقدر هذا كله ? ويمسك الوجود كله , ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر ? وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر ?
الدرس الثالث:13 - 18 لقطات من قصة عاد وثمود
فكيف - بعد هذه الجولة الكونية الهائلة - يكون موقف الذين يكفرون بالله ويجعلون له أنداداً ? كيف . والسماء والأرض تقولان لربهما: (أتينا طائعين)وهذا النمل الصغير العاجز من البشر الذي يدب على الأرض يكفر بالله في تبجح واستهتار ?
وما يكون جزاء هذا التبجح وهذا الاستهتار ?
فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله . قالوا:لو شاء ربنا لأنزل ملائكة , فإنا بما أرسلتم به كافرون . فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق , وقالوا:من أشد منا قوة ? أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ? وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى , فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
من الاية 13 الى الاية 15
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
وهذا الإنذار المرهوب المخيف: (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب , وتبجح المشركين الذي حُكي في مطلع السورة , وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عُرض قبل هذا الإنذار .
وقد روى ابن اسحاق قصة عن هذا الإنذار قال:حدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة , وكان سيداً , قال يوماً وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله [ ص ] جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? - وذلك حين اسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله [ ص ] يزيدون ويكثرون - فقالوا:بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله [ ص ] فقال:يابن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله [ ص ]:" قل يا ابا الوليد أسمع " . قال:يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ; وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ; وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ; وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء , وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله [ ص ] يستمع منه قال:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون , بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله [ ص ] فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره , معتمداً عليهما , يستمع منه حتى انتهى رسول الله [ ص ] إلى السجدة منها فسجد , ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه , فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر , ولا بالشعر , ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ , فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال:هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .
وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح - وهو ابن عبدالله الكندي الكوفي [ قال ابن كثير:وقد ضُعف بعض الشيء ] عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - إلى قولهفإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)فأمسك عتبه على فيه . وناشده الرحم , ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش , واحتبس عنهم . . . الخ . .
ثم لما حدثوه في هذا قال:" فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب . فخشيت أن ينزل بكم العذاب " . .
فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله [ ص ] على قلب رجل لم يؤمن ! ولانترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله [ ص ] وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن . وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه , وقلبه مشغول بما هو اعظم , حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز:ولكن الرسول [ ص ] يتلقاها حليماً , ويستمع كريماً , وهو مطمئن هادىء ودود . لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة . حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة:" أفرغت يا أبا الوليد ? " . فيقول:نعم . فيقول:[ ص ] ; " فاستمع مني " ولا يفاجئه بالقول حتى يقول:أفعل . وعندئذ يتلو [ ص ] في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . . . . .
إنها صورة تلقي في القلب المهابة . والثقة . والمودة . والاطمئنان . . ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه . . الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين !
[ ص ] . . وصدق الله العظيم: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). .
ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم:
(فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . .). .
إنها جولة في مصارع الغابرين , بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين:
(إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله). .
الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .
(قالوا:لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون). .
وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية , ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم , لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود . وهو واحد . إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة . ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل:
(فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق . وقالوا:من أشد منا قوة ?). .
إن الحق أن يخضع العباد لله , وألا يستكبروا في الأرض , وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله . فكل استكبار في الأرض فهو بغير الحق . استكبروا واغتروا (وقالوا:من أشد منا قوة ?). .
وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة . الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم . وينسون:
أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ? . .
إنها بديهة أولية . . إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة . لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة . ولكن الطغاة لا يذكرون:
وكانوا بآياتنا يجحدون . .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول:
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة فصلت ايه 16 الى ايه 46 الشيخ سيد قطب
» تفسير فصلت ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة فصلت ايه 12----21
» تفسير سورة فصلت ايه 21---30
» تفسير سورة فصلت ايه 30-----39
» تفسير فصلت ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة فصلت ايه 12----21
» تفسير سورة فصلت ايه 21---30
» تفسير سورة فصلت ايه 30-----39
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى