تفسير سورة الانفال ايه 65 الىاخر السوره الشيع سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الانفال ايه 65 الىاخر السوره الشيع سيد قطب
من الاية 65 الى الاية 66
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر ? ولكنها صلة حقيقية , وصلة قوية . . إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها , وتفقه منهجها , وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها . . إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ; فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي , وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك . وتفقه أنها هي - الأمة المسلمة - المهتدية بهدى الله , المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ; وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض ; الممكنة فيها لا لتستعلي هي تستمع ; ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ; ولتعمر الأرض بالحق ; وتحكم بين الناس بالقسط ; وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس . . وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ; ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة . بينما أعداؤها (قوم لا يفقهون). قلوبهم مغلقة , وبصائرهم مطموسة ; وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة . إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير !
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . . هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . . وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي:واحد لاثنين:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة , وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ; وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم , وتثبت أقدامهم ; وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
الدرس الثالث:67 - 71 العتاب في أسرى بدر
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة , والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم).
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم , والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة -:" فلما وضع القوم أيديهم يأسرون , ورسول الله [ ص ] في العريش , وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو , ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي , في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ,
من الاية 67 الى الاية 68
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
فقال له رسول الله [ ص ]:" والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال:أجل والله يا رسول الله , كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك , فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال:لما كان يومئذ التقوا , فهزم الله المشركين , فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً , واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر:يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ; وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية , فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار , وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ]:" ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت:والله ما أرى رأي أبي بكر , ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه , وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه , وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه , حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين , هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت , وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت:ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت , وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ]:" للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)إلى قوله: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً)فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن هاشم , عن حميد , عن أنس - رضي الله عنه - قال:استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر , فقال:" إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال:يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال:" يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال:يا رسول الله , اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال:يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال:فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم , فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال:وأنزل الله عز وجللولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
وقال الأعمش , عن عمر بن مرة , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال:لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ]:" ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر:يا رسول الله , قومك وأهلك , استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر:يا رسول الله , كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة:يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس:يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس:يأخذ بقول عمر . وقال ناس:يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال:" إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن , وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة , وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيمعليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قالإن تعذبهم فإنهم عبادك , وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود:قلت:يا رسول الله , إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم , حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . .)إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به , والحاكم في مستدركه وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود:التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين , وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب . . ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول:" وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " . .
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). .
"ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
(تريدون عرض الدنيا). .
أي:فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ; وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
(والله يريد الآخرة). .
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله , فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
(والله عزيز حكيم). .
قدر لكم النصر , وأقدركم عليه , لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
من الاية 69 الى الاية 70
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)
ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون ; فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم !
ثم زادهم الله فضلاً ومنة ; فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم - ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها - وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل - مذكراً إياهم بتقوى الله , وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته , لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم , فلا تغرهم المغفرة والرحمة , ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة:
(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم). .
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء , وتطلق فيها الأمل , وتشيع فيها النور , وتعلقها بمستقبل خير من الماضي , وبحياة أكرم مما كانوا فيه , وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار . وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله:
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). .
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان ; فيعلم الله أن فيها خيراً . . والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص . الخير محض الخير , والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه .
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه , ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح , وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى . لا ليستذلهم انتقاماً , ولا ليسخرهم استغلالاً ; كما كانت تتجه فتوحات الرومان ; وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام !
عن الزهري عن جماعة سماهم قال:بعثت قريش في فداء أسراهم , ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس:يا رسول الله قد كنت مسلماً ! فقال رسول الله [ ص ]:" الله أعلم بإسلامك , فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك , وأما ظاهرك فقد كان علينا , فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب , وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر ":قال ":ما ذاك عندي يا رسول الله" ! قال:" فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل , قلت لها:إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم ? " . قال:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله . إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل . فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني - عشرين أوقية من مال كان معي" ! - فقال رسول الله [ ص ]:" لا . ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك " . ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه . فأنزل الله عز وجليا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). . قال العباس:فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به , مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم , يحذرهم خيانة الرسول [ ص ] كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير:
(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
من الاية 71 الى الاية 71
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره , ولم يفردوه سبحانه بالربوبية , وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده . فإن أرادوا خيانة رسوله [ ص ] وهم أسرى في يديه , فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر , ومكنت منهم رسول الله وأولياءه . . والله(عليم)بسرائرهم(حكيم)في إيقاع العقاب بهم:
(والله عليم حكيم). .
قال القرطبي في التفسير , قال ابن العربي:لما أسر من أسر من المشركين , تكلم قوم منهم بالإسلام , ولم يمضوا فيه عزيمة , ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين - قال علماؤنا:إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً . إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها , فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله [ ص ] الحقيقة فقال: (وإن يريدوا خيانتك). أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً (فقد خانوا الله من قبل)بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيراً , ويعلمه الله , فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً مما خرج عنهم:ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
الدرس الرابع:72 - 75 قواعد في علاقة المجتمع الإسلامي مع المجتمعات الأخرى
وأخيراً يختم هذا الدرس , وتختم السورة معه , ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم , وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى ; وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ; ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته ; والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك . . إنها ليست علاقات الدم , ولا علاقات الأرض , ولا علاقات الجنس , ولا علاقات التاريخ , ولا علاقات اللغة , ولا علاقات الاقتصاد . . ليست هي القرابة , وليست هي الوطنية , وليست هي القومية , وليست هي المصالح الاقتصادية . . إنما هي علاقة العقيدة , وعلاقة القيادة , وعلاقة التنظيم الحركي . . فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام , متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ; والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد , أولئك بعضهم أولياء بعض . . والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ; لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة , ولم يدينوا بعد للقيادة ; ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد . . وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره . . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك . . هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات , كما تصورها هذه النصوص الحاسمة:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم . . في الدين . . فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض:إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله , إن الله بكل شيء عليم . .
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر , كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة , ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم , داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا , استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين , فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية , كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات , وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد , لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي , وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ; والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ; ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله [ ص ] - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام). . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد [ ص ] , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله [ ص ] بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله [ ص ] ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا
من الاية 72 الى الاية 73
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ; ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ; ويحقق فيها وجوده الكامل ; بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا , بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي , مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة , أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة , ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ; ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ; ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع , لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:
(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر , إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق). .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ; ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . . ولكن هناك رابطة العقيدة ; وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ; اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ; فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا , كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم ! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً , حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا , ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
والتعقيب على هذا الحكم:
(والله بما تعملون بصير). .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه , ومقدماته ونتائجه , وبواعثه وآثاره .
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد , فكذلك المجتمع الجاهلي:
(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض). .
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ; إنما يتحرك ككائن عضوي , تندفع أعضاؤه , بطبيعة وجوده وتكوينه , للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . . ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص , ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض , فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ; وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ; ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد:
من الاية 74 الى الاية 74
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير . . والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة , يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض , وتبعة هذا الفساد الكبير .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة:
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم). .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . . إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ; ولا بمجرد اعتناقها ; ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . . إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي , إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي , لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
وهؤلاء المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . . والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين , كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم). .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ; حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته , وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله [ ص ] غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ; لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام , وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . . فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ; وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض , وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها , ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية , حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ; ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ; كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة , وتكاليفها الخاصة . . قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم , في كل صوره وأشكاله , وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية , اللازمة لعملية البناء الأولى , المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . .
من الاية 75 الى آخر السورة
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام , من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية , ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . . إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ; ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ; فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة , التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام , التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . . وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ; وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
إن الله بكل شيء عليم . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر , وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
خاتمة الدرس
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ; ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ; ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان" وتقويتها وتمكينها , وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه . .
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ; ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده ; وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا , فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق ; فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي , التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة , إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص" . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب , ولا اللغة , ولا الأرض , ولا الجنس , ولا اللون , ولا المصالح , ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع , وإلى اهتمامات القطيع , وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع ! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده , ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ; كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله , ومصيره ومصير الكون من حوله ; وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى , فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق , والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ; والذي يقرر "إنسانيته" في أعلى مراتبها ; حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ; يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً , لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ; ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ; ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد , لم يكن له فيها اختيار , ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها , ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد , وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ; ومجال "الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج , فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني , ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ; وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ; فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه , أو الأرض التي ولد فيها , أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ; وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ; وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ; وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما "عربية " إنما كانت دائماً "إسلامية " . ولم تكن يوماً ما "قومية " إنما كانت دائماً "عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب , وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ; وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ; وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ; وتبرز فيها "إنسانيتهم" وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ; ولغات متعددة , وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة "إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية , وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ; يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . . وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" ; وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في ا
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر ? ولكنها صلة حقيقية , وصلة قوية . . إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها , وتفقه منهجها , وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها . . إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ; فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي , وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك . وتفقه أنها هي - الأمة المسلمة - المهتدية بهدى الله , المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ; وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض ; الممكنة فيها لا لتستعلي هي تستمع ; ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ; ولتعمر الأرض بالحق ; وتحكم بين الناس بالقسط ; وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس . . وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ; ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة . بينما أعداؤها (قوم لا يفقهون). قلوبهم مغلقة , وبصائرهم مطموسة ; وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة . إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير !
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . . هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . . وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي:واحد لاثنين:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة , وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ; وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم , وتثبت أقدامهم ; وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
الدرس الثالث:67 - 71 العتاب في أسرى بدر
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة , والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم).
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم , والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة -:" فلما وضع القوم أيديهم يأسرون , ورسول الله [ ص ] في العريش , وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو , ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي , في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ,
من الاية 67 الى الاية 68
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
فقال له رسول الله [ ص ]:" والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال:أجل والله يا رسول الله , كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك , فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال:لما كان يومئذ التقوا , فهزم الله المشركين , فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً , واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر:يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ; وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية , فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار , وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ]:" ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت:والله ما أرى رأي أبي بكر , ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه , وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه , وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه , حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين , هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت , وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت:ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت , وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ]:" للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)إلى قوله: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً)فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن هاشم , عن حميد , عن أنس - رضي الله عنه - قال:استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر , فقال:" إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال:يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال:" يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال:يا رسول الله , اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال:يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال:فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم , فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال:وأنزل الله عز وجللولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
وقال الأعمش , عن عمر بن مرة , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال:لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ]:" ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر:يا رسول الله , قومك وأهلك , استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر:يا رسول الله , كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة:يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس:يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس:يأخذ بقول عمر . وقال ناس:يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال:" إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن , وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة , وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيمعليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قالإن تعذبهم فإنهم عبادك , وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود:قلت:يا رسول الله , إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم , حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . .)إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به , والحاكم في مستدركه وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود:التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين , وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب . . ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول:" وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " . .
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). .
"ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
(تريدون عرض الدنيا). .
أي:فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ; وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
(والله يريد الآخرة). .
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله , فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
(والله عزيز حكيم). .
قدر لكم النصر , وأقدركم عليه , لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
من الاية 69 الى الاية 70
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)
ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون ; فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم !
ثم زادهم الله فضلاً ومنة ; فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم - ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها - وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل - مذكراً إياهم بتقوى الله , وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته , لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم , فلا تغرهم المغفرة والرحمة , ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة:
(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم). .
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء , وتطلق فيها الأمل , وتشيع فيها النور , وتعلقها بمستقبل خير من الماضي , وبحياة أكرم مما كانوا فيه , وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار . وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله:
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). .
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان ; فيعلم الله أن فيها خيراً . . والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص . الخير محض الخير , والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه .
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه , ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح , وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى . لا ليستذلهم انتقاماً , ولا ليسخرهم استغلالاً ; كما كانت تتجه فتوحات الرومان ; وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام !
عن الزهري عن جماعة سماهم قال:بعثت قريش في فداء أسراهم , ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس:يا رسول الله قد كنت مسلماً ! فقال رسول الله [ ص ]:" الله أعلم بإسلامك , فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك , وأما ظاهرك فقد كان علينا , فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب , وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر ":قال ":ما ذاك عندي يا رسول الله" ! قال:" فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل , قلت لها:إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم ? " . قال:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله . إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل . فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني - عشرين أوقية من مال كان معي" ! - فقال رسول الله [ ص ]:" لا . ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك " . ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه . فأنزل الله عز وجليا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). . قال العباس:فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به , مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم , يحذرهم خيانة الرسول [ ص ] كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير:
(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
من الاية 71 الى الاية 71
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره , ولم يفردوه سبحانه بالربوبية , وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده . فإن أرادوا خيانة رسوله [ ص ] وهم أسرى في يديه , فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر , ومكنت منهم رسول الله وأولياءه . . والله(عليم)بسرائرهم(حكيم)في إيقاع العقاب بهم:
(والله عليم حكيم). .
قال القرطبي في التفسير , قال ابن العربي:لما أسر من أسر من المشركين , تكلم قوم منهم بالإسلام , ولم يمضوا فيه عزيمة , ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين - قال علماؤنا:إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً . إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها , فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله [ ص ] الحقيقة فقال: (وإن يريدوا خيانتك). أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً (فقد خانوا الله من قبل)بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيراً , ويعلمه الله , فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً مما خرج عنهم:ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
الدرس الرابع:72 - 75 قواعد في علاقة المجتمع الإسلامي مع المجتمعات الأخرى
وأخيراً يختم هذا الدرس , وتختم السورة معه , ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم , وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى ; وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ; ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته ; والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك . . إنها ليست علاقات الدم , ولا علاقات الأرض , ولا علاقات الجنس , ولا علاقات التاريخ , ولا علاقات اللغة , ولا علاقات الاقتصاد . . ليست هي القرابة , وليست هي الوطنية , وليست هي القومية , وليست هي المصالح الاقتصادية . . إنما هي علاقة العقيدة , وعلاقة القيادة , وعلاقة التنظيم الحركي . . فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام , متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ; والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد , أولئك بعضهم أولياء بعض . . والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ; لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة , ولم يدينوا بعد للقيادة ; ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد . . وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره . . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك . . هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات , كما تصورها هذه النصوص الحاسمة:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم . . في الدين . . فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض:إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله , إن الله بكل شيء عليم . .
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر , كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة , ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم , داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا , استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين , فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية , كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات , وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد , لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي , وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ; والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ; ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله [ ص ] - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام). . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد [ ص ] , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله [ ص ] بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله [ ص ] ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا
من الاية 72 الى الاية 73
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ; ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ; ويحقق فيها وجوده الكامل ; بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا , بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي , مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة , أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة , ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ; ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ; ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع , لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:
(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر , إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق). .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ; ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . . ولكن هناك رابطة العقيدة ; وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ; اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ; فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا , كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم ! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً , حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا , ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
والتعقيب على هذا الحكم:
(والله بما تعملون بصير). .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه , ومقدماته ونتائجه , وبواعثه وآثاره .
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد , فكذلك المجتمع الجاهلي:
(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض). .
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ; إنما يتحرك ككائن عضوي , تندفع أعضاؤه , بطبيعة وجوده وتكوينه , للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . . ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص , ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض , فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ; وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ; ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد:
من الاية 74 الى الاية 74
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير . . والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة , يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض , وتبعة هذا الفساد الكبير .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة:
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم). .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . . إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ; ولا بمجرد اعتناقها ; ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . . إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي , إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي , لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
وهؤلاء المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . . والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين , كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم). .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ; حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته , وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله [ ص ] غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ; لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام , وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . . فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ; وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض , وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها , ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية , حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ; ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ; كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة , وتكاليفها الخاصة . . قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم , في كل صوره وأشكاله , وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية , اللازمة لعملية البناء الأولى , المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . .
من الاية 75 الى آخر السورة
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام , من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية , ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . . إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ; ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ; فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة , التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام , التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . . وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ; وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
إن الله بكل شيء عليم . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر , وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
خاتمة الدرس
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ; ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ; ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان" وتقويتها وتمكينها , وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه . .
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ; ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده ; وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا , فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق ; فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي , التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة , إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص" . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب , ولا اللغة , ولا الأرض , ولا الجنس , ولا اللون , ولا المصالح , ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع , وإلى اهتمامات القطيع , وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع ! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده , ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ; كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله , ومصيره ومصير الكون من حوله ; وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى , فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق , والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ; والذي يقرر "إنسانيته" في أعلى مراتبها ; حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ; يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً , لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ; ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ; ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد , لم يكن له فيها اختيار , ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها , ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد , وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ; ومجال "الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج , فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني , ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ; وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ; فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه , أو الأرض التي ولد فيها , أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ; وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ; وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ; وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما "عربية " إنما كانت دائماً "إسلامية " . ولم تكن يوماً ما "قومية " إنما كانت دائماً "عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب , وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ; وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ; وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ; وتبرز فيها "إنسانيتهم" وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ; ولغات متعددة , وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة "إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية , وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ; يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . . وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" ; وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في ا
مواضيع مماثلة
» تفسير سوره الاعراف ايه 106 الىاخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانفال ايه 9\\\\ 17
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الطلاق ايه 6==اخر السوره
» تفسير سورة غافر ايه 78----اخر السوره
» تفسير سورة الانفال ايه 9\\\\ 17
» تفسير سورة الانفال ايه44 الى 54 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الطلاق ايه 6==اخر السوره
» تفسير سورة غافر ايه 78----اخر السوره
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى