تفسير سورة الشعراء ايه40\\\\61
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الشعراء ايه40\\61
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) .
وقال قائلهم: ( لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ] ) ، ولم يقولوا: نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم. ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ) أي: إلى مجلس فرعون وقد ضرب له وطاقا، وجمع حشمه وخدمه [وأمراءه] ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا، أي: هذا الذي جمعتنا من أجله، فقالوا: ( أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي: وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي. فعادوا إلى مقام المناظرة قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا [طه: 65 ، 66]، وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى: ( أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ) ، وهذا كما يقوله " < 6-141 > " الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا: هذا بثواب فلان. وقد ذكر الله في سورة الأعراف: أنهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] ، وقال في "سورة طه": فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66 ، 69] .
وقال هاهنا: ( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) أي: تختطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا.
قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:118-122] وكان هذا أمرا عظيما جدًا، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم، ويقول: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] ، وقال: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123] .
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) .
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؟ أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) . وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: ( لا ضَيْرَ ) أي: لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) أي: المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا ) أي: ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر ، ( أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) .
" < 6-142 > "
لما طال مُقام موسى، عليه السلام، ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى، عليه السلام، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى، عليه السلام، ما أمره به ربه عز وجل. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم، فيما ذكر غير واحد من المفسرين، وقت طلوع القمر. وذكر مجاهد، رحمه الله، أنه كُسِف القمر تلك الليلة، فالله أعلم، وأن موسى، عليه السلام، سأل عن قبر يوسف، عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه، عليهما السلام، وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال:
حدَّثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال: نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعاهدنا. فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك؟" قال ناقة برحلها وأعنـز يحتلبها أهلي، فقال: "أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟" فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال: "إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف. فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي. قال لها: وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها. قال: فانطلقت معهم إلى بحيرة -مستنقع ماء -فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوه قالت: احتفروا، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار اضغط هنا ".
" < 6-143 > "
هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم.
فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي: مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم: ( إِنَّ هَؤُلاءِ ) -يعني: بني إسرائيل - ( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) أي: لطائفة قليلة.
( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) أي: كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.
( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.
قال الله تعالى: ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا.
( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137] ، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5 ، 6] .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
ذكر غير واحد من المفسرين: أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير ، وهو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات، من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خيل دُهْم، وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم ، ففي ذلك نظر. والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل، والله، سبحانه وتعالى، أعلم. والذي أخبر به هو النافع، ولم يعين عدتهم؛ إذ لا فائدة تحته، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.
( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.
وقال قائلهم: ( لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ] ) ، ولم يقولوا: نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم. ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ) أي: إلى مجلس فرعون وقد ضرب له وطاقا، وجمع حشمه وخدمه [وأمراءه] ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا، أي: هذا الذي جمعتنا من أجله، فقالوا: ( أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي: وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي. فعادوا إلى مقام المناظرة قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا [طه: 65 ، 66]، وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى: ( أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ) ، وهذا كما يقوله " < 6-141 > " الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا: هذا بثواب فلان. وقد ذكر الله في سورة الأعراف: أنهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] ، وقال في "سورة طه": فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66 ، 69] .
وقال هاهنا: ( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) أي: تختطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا.
قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:118-122] وكان هذا أمرا عظيما جدًا، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم، ويقول: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] ، وقال: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123] .
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) .
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؟ أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) . وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: ( لا ضَيْرَ ) أي: لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) أي: المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا ) أي: ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر ، ( أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) .
" < 6-142 > "
لما طال مُقام موسى، عليه السلام، ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى، عليه السلام، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى، عليه السلام، ما أمره به ربه عز وجل. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم، فيما ذكر غير واحد من المفسرين، وقت طلوع القمر. وذكر مجاهد، رحمه الله، أنه كُسِف القمر تلك الليلة، فالله أعلم، وأن موسى، عليه السلام، سأل عن قبر يوسف، عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه، عليهما السلام، وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال:
حدَّثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال: نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعاهدنا. فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك؟" قال ناقة برحلها وأعنـز يحتلبها أهلي، فقال: "أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟" فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال: "إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف. فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي. قال لها: وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها. قال: فانطلقت معهم إلى بحيرة -مستنقع ماء -فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوه قالت: احتفروا، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار اضغط هنا ".
" < 6-143 > "
هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم.
فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي: مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم: ( إِنَّ هَؤُلاءِ ) -يعني: بني إسرائيل - ( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) أي: لطائفة قليلة.
( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) أي: كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.
( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.
قال الله تعالى: ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا.
( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137] ، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5 ، 6] .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
ذكر غير واحد من المفسرين: أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير ، وهو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات، من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خيل دُهْم، وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم ، ففي ذلك نظر. والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل، والله، سبحانه وتعالى، أعلم. والذي أخبر به هو النافع، ولم يعين عدتهم؛ إذ لا فائدة تحته، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.
( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المعارج ايه40==الى ايه11 من سورة نوح
» تفسير سورة سبا ايه40\\\49
» تفسير سورة الشعراء ايه 137\\\\160
» تفسير سورة الشعراء ايه112\\\137
» تفسير سورة الشعراء ايه160\\\\184
» تفسير سورة سبا ايه40\\\49
» تفسير سورة الشعراء ايه 137\\\\160
» تفسير سورة الشعراء ايه112\\\137
» تفسير سورة الشعراء ايه160\\\\184
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى